هل يمكن لمحمد بن سلمان أن يرمم علاقته مع العالم الغربي؟ وهل سوف ينفعه الانضمام لنادي الدول المارقة؟

حجم الهجمة الأميركية على السعودية فاق التوقعات.

هذه الهجمة لم تستهدف محمد بن سلمان فحسب وإنما كانت هجمة عدائية شاملة ضد السعودية. المخابرات الأميركية أرادت إرغام السعودية على الاستسلام للحوثي في اليمن ولحمد بن خليفة في قطر، وأرادت أيضا إحداث انقسام وصراع في داخل أسرة آل سعود. هذه المواقف تبين أن المخابرات الأميركية أصيبت بحالة من الغضب الجنوني.

ولكن ما هو سبب هذا الغضب الجنوني؟

إحدى الأفكار التي طرحناها هي أن المخابرات الأميركية لم تكن جادة وأنها كانت تدرك أن ترمب لن ينفذ تلك الأمور. هم أرادوا فقط إحراج ترمب داخل أميركا عبر تصويره كشخص خاضع للسعوديين.

المخابرات الأميركية هي منزعجة من العلاقة القائمة بين ابن سلمان وعائلة ترمب. هم لا يعتقدون أنها علاقة سوية. هذا على ما يظهر هو السبب الذي جعلهم يشنون حملة ضد ترمب تتهمه بالتخاذل في الرد على جريمة قتل خاشقجي. ترمب في الحقيقة لم يتخاذل وإنما فعل كل الأمور التي يمكنه فعلها عمليا. الأمور الأخرى التي طالبوه بفعلها هي أمور مجنونة غير ممكنة التحقيق. ترمب لا يستطيع أن يرغم السعوديين على الاستسلام للحوثي في اليمن أو لحمد بن خليفة في قطر. لو أن ترمب حاول أن يرغم السعوديين على ذلك فإن السعوديين قد يلتجؤون للروس، أي أن السعودية قد تطلب من روسيا التدخل معها في حرب اليمن بدلا من أميركا (وطبعا هذه ستكون فرصة القرن بالنسبة لروسيا). البديل الآخر هو أن السعوديين قد يقررون التنازل لإيران وتركيا في سبيل عقد صفقة تسمح للسعودية بنيل رأس الحوثي ورأس حمد بن خليفة.

الـ CIA قالت في تسريباتها (أو تهويلاتها) أن هناك العشرات من أفراد أسرة آل سعود الذين سيدعمون الإطاحة بمحمد بن سلمان، وأن الأجهزة الأمنية السعودية هي ليست موالية بالمطلق لمحمد بن سلمان وأبيه. هذه التسريبات لا تعني فعلا أن الـ CIA تستطيع خلع محمد بن سلمان ولكن ما تعنيه هو أن الـ CIA تستطيع إحداث صراع وربما قتال داخل أسرة آل سعود، ولكن هل المخابرات الأميركية ترغب فعلا في حصول هذا الأمر؟ هذا السيناريو هو مخاطرة كبيرة بالنسبة لأميركا. إذا حصل صراع داخلي في السعودية فلا أحد يدري من هي الجهات التي قد تستفيد من ذلك لإيجاد موطئ قدم لها داخل السعودية. نحن لا نتحدث فقط عن الجهاديين ولكن الروس والإيرانيين وغيرهم سيسعون على الأغلب للتدخل ولن يضيعوا هذه الفرصة الذهبية.

رأينا الشخصي هو أن المخابرات الأميركية لم تكن جادة في الأمور التي دعت إليها ولكنها أرادت فقط تدمير العلاقة بين ترمب وبين محمد بن سلمان.

نحن لا نعلم طبيعة العلاقة بين ترمب وابن سلمان. حمد والأتراك أشاعوا الكثير حول هذه العلاقة، ولكننا لا نستطيع أن نصدق تلك الإشاعات لأن مصدرها هو جهات فاقدة للمصداقية. ما نعلمه (بناء على ما يظهر لنا) هو أن المخابرات الأميركية ترى أن هناك أمورا غير سليمة في علاقة ابن سلمان مع ترمب.

أنا أعتقد أن السبب العميق لكل هذه الأزمة هو أن محمد بن سلمان اقتحم عالم السياسة الأميركية بأسلوب غير مقبول في السياسة الأميركية. ابن سلمان نسج علاقة شخصية سرية مع ترمب وعائلته قائمة على الصفقات. هو منح ترمب أمورا معينة وأخذ في مقابلها أمورا أخرى. بالنسبة لترمب ولابن سلمان فإن مثل هذه الصفقات هي مجرد “بزنس” مشروع، ولكن الرأي العام الأميركي لم يتقبل هذه الصفقات، خاصة لأنها صفقات مجهولة ولا أحد يعلم حقيقتها. الخطأ المميت الذي ارتكبه ابن سلمان هو أنه لم يوضح للرأي العام الأميركي حقيقة ما كان يجري بينه وبين ترمب. الجهة الوحيدة التي كانت تخبر الأميركيين عما يجري هي حمد والأتراك. هؤلاء نشروا شائعات كثيرة وأقنعوا الرأي العام الأميركي بأن ابن سلمان يشتري ترمب بالمال ويأخذ منه ضوءا أخضر للقيام بجرائم وانتهاكات.

العمل في السياسة الأميركية يتطلب الشفافية. الصفقات السرية التي لا يعلم عنها الناس شيئا تصلح في السعودية ولكنها لا تصلح في أميركا، خاصة وأننا نتحدث هنا عن صفقات تجري بين شخصين مشبوهين. ترمب هو شخص مشبوه وغير موثوق يخضع لتحقيق بتهمة التواطؤ غير المشروع مع روسيا، وابن سلمان يواجه اتهامات بارتكاب جرائم وانتهاكات.

التحول في الرأي العام الأميركي ضد ابن سلمان لم يحصل فجأة وإنما على نحو متدرج. بداية التحول كانت عند حادثة اعتقال الناشطات النسويات. أنا لاحظت التحول الذي ظهر آنذاك في الرأي العام الأميركي وكتبت مقالا حذرت فيه ابن سلمان من مثل تلك الأعمال التي يظن أنها تخدمه ولكنها في الحقيقة تدمر صورته أمام الرأي العام الدولي وتلحق به أضرارا تفوق بكثير أية مصلحة يتخيلها.

هل كان ابن سلمان مضطرا فعلا لاعتقال أولئك النسوة؟ ما الذي كان سيحصل له لو أنه لم يعتقلهن؟ هل كان سيخسر السلطة بسبب ذلك؟ هو طبعا ما كان سيخسر السلطة لو أنه لم يعتقلهن. اعتقالهن هو الذي قربه من خسارة السلطة وليس العكس. لا أدري إن كان قد فهم ذلك أم أنه ما زال يكابر.

المشكلة الأكبر هي أن ابن سلمان لم يتوقف بعد تلك الحادثة السيئة وإنما كرر نفس الأفعال مجددا ووصل الأمر به في النهاية إلى قتل جمال خاشقجي بأسلوب استفزازي أراد به أن يتحدى العالم.

محمد بن سلمان هو الذي دمر صورته بنفسه. ليس صحيحا أن حمد التافه وأسياده الأتراك هم من دمروا صورة محمد بن سلمان. هو نفسه دمر صورته عندما ارتكب أفعالا غبية لم يكن مضطرا فعلا لارتكابها. الناشطات والخاشقجي ما كانوا سيخرجونه من السلطة وما كانوا سيلحقون به معشار الضرر الذي ألحقه بنفسه عندما اعتدى عليهم.

إذا تحدث شخص ضدك أو خرج في مظاهرة ضدك فهذه ليست نهاية الدنيا. يجب أن تتعلم كيف تضبط نفسك. إذا كنت لا تستطيع أن تضبط نفسك فالأفضل لك هو أن تترك السلطة.

هل ابن سلمان يستطيع أن يرمم صورته ووضعه مجددا؟ هذا الأمر هو ممكن نظريا إذا فرضنا أن ابن سلمان سيتغير وأنه لن يكرر مجددا نفس الأعمال الاستفزازية التي تثير حفيظة المجتمع الأميركي وبقية المجتمعات المتقدمة، ولكننا لم نر إلى الآن ما يثبت أنه سيتغير. ما نراه حاليا هو أنه مستمر في تطبيق تكتيكات بشار. هو الآن يتقرب إلى المسيحيين ظنا منه أن ذلك سيساعده في تحسين صورته. هذا التكتيك هو طبعا تكتيك بشار المفضل، ولكن هل هذا التكتيك نفع بشار حتى ينفع ابن سلمان؟ أنا أستغرب الاقتداء ببشار. من يتخذ من بشار قدوة فإنه سوف ينتهي مثل بشار.

أميركا والعالم الغربي خرجوا من العصور الوسطى قبل مئات السنين. في العصور الوسطى كانت المجتمعات الغربية تتقبل انتهاك الحقوق تحت مبررات الدين، ولكن هذا غير مقبول اليوم. لا أحد سيقبل منك اليوم أن تفتتح كنيسة إذا كان ثمن ذلك هو الاستمرار في احتجاز الناشطات وانتهاك حقوق الناس.

لو كان ابن سلمان يريد فعلا أن يرمم صورته لكان ابتدأ بإطلاق سراح الناشطات اللائي كان اعتقالهن نقطة البداية في كل هذا المسار الكارثي، ولكنه لا ينوي أن يفعل ذلك على ما يبدو. لهذا السبب نحن لسنا متفائلين بمستقبله ونخشى أن نهايته ستكون مثل نهاية بشار.

الثقافة الديمقراطية الليبرالية هي ثقافة كل الدول المتقدمة. الدول التي تعارض هذه الثقافة هي دول مارقة. هذا ينطبق على روسيا التي يظنها بعض العرب دولة متقدمة ولكنها في الحقيقة دولة مارقة فاشلة. روسيا هي ليست دولة متقدمة وليست قريبة من أن تكون دولة متقدمة. الصين أيضا هي ليست دولة متقدمة. الاستقرار السياسي الذي نراه الآن في الصين لا يمكن أن يكون سوى أمر مؤقت. الصين تاريخيا كانت دولة تعاني من عدم استقرار شديد وشهدت حروبا أهلية. سبب الاستقرار الموجود الآن في الصين هو النمو الاقتصادي السريع خلال العقود الماضية. هذا النمو لن يدوم إلى الأبد. سوف يأتي يوم يتوقف فيه هذا النمو، وآنذاك سوف تعود القلاقل مجددا إلى الصين وسوف تكون الحكومة الصينية مخيرة بين الاتجاه نحو الديمقراطية الليبرالية أو العودة مجددا إلى الحروب الأهلية.

العالم المتقدم ينتهج كله الثقافة الديمقراطية الليبرالية. من يرفض هذه الثقافة لن يستطيع أن ينضم إلى العالم المتقدم، وهو سوف يكون مستهدفا بشكل دائم من الدول المتقدمة كما حصل مؤخرا مع السعودية في قصة خاشقجي. الاحتماء بروسيا وأشباهها من الدول المارقة لن يجعلك دولة متقدمة ولكنه سيجعلك عضوا جديدا في نادي الدول المارقة الفاشلة.

أحد الأسباب التي تجعل الحكومات العربية تقاوم الديمقراطية الليبرالية هو على ما أعتقد سوء فهم لمعناها. العرب عموما لا يفهمون معنى الديمقراطية ويتخيلون أن المقصود بها هو الفوضى والحروب التي يريدها حمد بن خليفة. مفهوم الديمقراطية عند العرب هو مرتبط بصراع الهويات والإديولوجيات. هم يظنون أن الديمقراطية تعني تسلط وهيمنة هوية معينة أو إديولوجيا معينة عبر صناديق الانتخاب. هذا المفهوم هو ليس الديمقراطية وإنما نقيض الديمقراطية. الديمقراطية بمفهومها الصحيح هي نقيض الاستبداد والتفرد. في أميركا لا يوجد استبداد أو تفرد لأية هوية أو إديولوجيا. حقوق الناس هي دائما مصانة بغض النظر عن الحزب الحاكم. السياسات تصنع بالتوافق، وإذا تعذر التوافق وفرض حزب معين رأيه فإن ذلك لا يعتبر أمرا جيدا. السياسات التي يفرضها حزب واحد لا تدوم طويلا. ما يدوم طويلا هو السياسات التي تصنع بالتوافق.

الديمقراطية هي أسلوب حضاري للتفاهم والتوافق ومنع الاستبداد. المؤسف هو أن العرب يفهمون الديمقراطية بالعكس. هم يظنونها أسلوبا يتيح لجهة معينة أن تصل إلى التفرد والاستبداد عبر صناديق الانتخاب. والأسوأ من ذلك هو أنهم لا يفهمون ذلك في الغالب إلا في إطار صراع الهويات والإديولوجيات، بحيث أن السياسة لديهم تدور حول هذه الصراعات القبائلية البدائية بدلا من أن تدور حول قضايا التنمية وتحسين حياة الناس.

نقول لمحمد بن سلمان أن مقاومة الديمقراطية الليبرالية هي أمر عبثي. أنت لن تصل إلى أي مكان إذا ظللت تقاوم الإصلاح السياسي والتوجه نحو الديمقراطية الليبرالية. الدول المتقدمة ستكون لك بالمرصاد ولن تدعك ترتاح، والدول المارقة لن تحميك ولن تنفعك (لو كان المروق ينفع لكان نفع بشار). ضع خطة طويلة الأمد للإصلاح السياسي واستخدم هذه الخطة لكي تروج لنفسك وتحسن صورتك. هذا هو الطريق الوحيد الذي سيسمح لك فعلا بتحسين صورتك.

ننصح السعوديين (سواء محمد بن سلمان أم أي حاكم بديل) بأن يركزوا في الإصلاح السياسي على قضايا الحكم المحلي والانتخابات المحلية. هذا هو الطريق نحو الديمقراطية الحقيقية في السعودية وغيرها من الدول العربية التي تفتقر لثقافة الديمقراطية. الانتخابات ذات الطابع المحلي تتعلق بالقضايا المعيشية التي تهم الناس في حياتهم اليومية، ولهذا هي تكون أقل ارتباطا بالهويات والإديولوجيات من الانتخابات ذات الطابع “الوطني”. في رأينا أن بداية الإصلاح السياسي في دولة مثل السعودية يجب أن تكون بتأسيس حكومات محلية وبرلمانات محلية. من الممكن مثلا تأسيس خمس حكومات وبرلمانات محلية في السعودية (في الشرق والغرب والشمال والجنوب والوسط). النموذج الأميركي هو نموذج جيد، ولكن الوصول إلى ذلك النموذج يجب أن يحصل بالتدرج، أي أن صلاحيات الحكومات المحلية يجب أن تزاد تدريجيا. عندما يتعلم الناس كيف يصوتون ويمارسون الديمقراطية في مناطقهم سوف يكونون مؤهلين للمشاركة في انتخابات وطنية لاختيار مجلس نيابي وطني يشكل حكومة عامة للبلاد.

الانتخابات سوف تحصل في النهاية في السعودية. السؤال هو متى ستحصل وكيف. مصلحة السعوديين هي أن يجروا عملية الإصلاح السياسي بأنفسهم وعلى نحو متدرج بدلا من أن تأتي دول أخرى وتفرض عليهم إصلاحا فوريا يتسبب في حصول فوضى وخراب، كما حصل في العراق مثلا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s