“ربيع حمد” دمر بلادا عربية ولكنه غير مسار التاريخ العربي نحو الأفضل

ما يسمى بالربيع العربي هو حدثان تاريخيان مختلفان.

ما حصل في تونس هو شيء منفصل ومختلف عما حصل لاحقا في بلاد عربية أخرى. ما حصل في تونس كان ثورة عفوية أوصلت البلاد إلى الديمقراطية دون تدخل من حمد بن خليفة. هذا كان ربيعا حقيقيا يمكن أن يسمى “الربيع التونسي”. وأما ما حصل في البلاد الأخرى فكان كارثة تاريخية صنعتها يدا حمد بن خليفة، ولذلك هو يستحق أن يسمى “ربيع حمد” أو “ربيع الحمدين”.

حتى لو فرضنا جدلا أن بعض الناس في البلاد الأخرى كانوا لا يتابعون إعلام حمد وأنهم ثاروا من تلقاء أنفسهم فإن هذا لا يقلل من حجم الدور الذي لعبه حمد في ذلك الربيع. حمد كان محرك الربيع ووقوده.

ربيع حمد (أو بالأحرى “جحيم حمد”) كان شيئا كبيرا ضاهى في حجمه وتبعاته كارثة الغزو المغولي في القرن 13. هذا الربيع دمر بلادا عربية كبيرة مثل سورية واليمن، ولكنني رغم ذلك أظن أن هذا الربيع غير مسار التاريخ في المشرق العربي نحو الأفضل وليس الأسوأ.

ربيع حمد دمر بعض البلاد العربية وليس كلها. الدول التي دمرها الربيع كانت دولا فقيرة متخلفة حتى بمعايير العالم العربي، وتخلفها هو أصلا السبب الذي مكّن حمد من تدميرها. صحيح أن دمار تلك الدول كان كارثة إنسانية رهيبة (نحن نتحدث عن دمار أصاب عشرات الملايين من الناس وعن مسح للتاريخ والثقافة كما فعل بشار في حلب وكما فعلت داعش في غير موقع)، ولكن تلك الدول ككيانات سياسية لم تكن مهمة. هي أصلا لم تكن كيانات مستقرة وإنما مجرد كيانات وهمية آيلة للسقوط في أية لحظة. في الماضي وضحنا طبيعة الدويلة المسماة سورية وكيف أنها مجرد دويلة وهمية بلا أساس سياسي أو تاريخي. ليبيا أيضا لم تكن دولة مستقرة وكان فيها مشكلة داخلية بين الشرق والغرب. هذه المشكلة ظهرت واضحة الآن. اليمن كان فيه عدة مشاكل وكان يوصف في التقارير الدولية بأنه دولة فاشلة (سورية أيضا كانت دولة فاشلة بدليل أنها عانت من مجاعات أدت إلى هجرات داخلية كبيرة وإلى تدخل دولي لإغاثة الناس).

الدول التي نجت من ربيع حمد تصرفت بطريقتين مختلفتين. بعضها (مثل الكويت والأردن) قررت أن ترضخ لحمد وأن تتذلل له لعل ذلك يقيها شره. البعض الآخر (السعودية والإمارات ومصر) انتفض على حمد وحاول أن يضع حدا له. هذه الانتفاضة ضد حمد هي أيضا حدث تاريخي كبير تطلب جرأة ممن قاموا به. حمد لم يكن يتخيل أن السعودية يمكن أن تنتفض ضده لأنه كان يتصور أن آل سعود يخافون منه بسبب قدرته على تثوير شعبهم ضدهم. هو عمل لمدة عقدين من الزمان على اختراق مملكة آل سعود، وهو اعتقد أنه نجح في اختراق المملكة وأن حالها باتت كحال الكويت والأردن إلخ (بمعنى أنها باتت في قبضته وأن حكامها لن يجرؤوا على مخالفته). أيضا هو عمل لمدة عقدين من الزمان على نسج علاقات غير شريفة مع الإسرائيليين والأميركان لظنه بأن تلك العلاقات سوف تخدمه ضد آل سعود. ولكن عندما حانت ساعة الحقيقة خابت رهاناته. هو فشل في إشعال ثورة في المملكة السعودية وفشل في دفع الإسرائيليين والأميركان للتحرك ضد آل سعود على النحو الذي توقعه منهم (لهذا السبب ترون في إعلامه الآن أنه يصب جام غضبه على الإسرائيليين والأميركان. هو يعتقد أنهم خذلوه).

حمد يحاول أن يسخّف الثورة التي حصلت ضده. هو يصورها على أنها مجرد مكيدة لأسباب شخصية، وهو يزعم أنها لم تؤثر فيه ولم تغير شيئا. ولكن الحقيقة هي أن هذه الثورة غيرت مسارا تاريخيا بدأ منذ عام 1995. قبل هذه الثورة كان العالم العربي يسقط تدريجيا في قبضة حمد ومن يقفون وراءه. حمد كان يريد أن يدمر الدول العربية واحدة تلو الأخرى وأن يسلم أشلاءها لتركيا وإسرائيل وإيران. الثورة ضد حمد حصّنت بعض الدول العربية المهمة ضد هذا المخطط الشيطاني. حمد الآن لم يعد قادرا على تدمير المملكة السعودية ولا الإمارات ولا مصر. هذه البلاد هي أهم البلاد في المشرق العربي حاليا واكتسابها الحصانة ضد مخطط حمد هو شيء مهم. ولكن يجب الإقرار بأن خطر حمد ما يزال قائما. الاستهتار بحمد والزعم بأنه بات مجرد جزيرة معزولة هو كلام غير صحيح وغير مسؤول. حمد ما زال يخترق عدة دول عربية (بعضها يجاور السعودية مثل الكويت والأردن) وهو ما زال قادرا على تدمير تلك الدول إذا لاحت له الفرصة المناسبة. هو ما زال ناشطا حتى في البلاد التي دمرها كاليمن وما زال له أتباع فيها. هو يمكن أن يعود مجددا إلى اختراق الدول التي انتفضت ضده. هو ما زال ناشطا على الصعيد الدولي وما زال يتآمر ويحيك المكائد. هناك أمور خطيرة جدا يمكن أن يتسبب بها حمد في المستقبل. التهوين من شأن حمد والزعم بأنه بات من الماضي هو كلام غير مسؤول إذا كان من يقولونه يصدقونه فعلا.

إذن ربيع حمد دمر بعض الدول العربية التي كانت أصلا دولا آيلة للسقوط، ولكن هذا الربيع في المقابل أنتج ثورة ضد حمد في بلاد عربية مهمة هي السعودية والإمارات ومصر. الثورة ضد حمد هي في رأيي حدث تاريخي مهم وضع حدا لحالة من الانحلال والدمار التدريجي في العالم العربي. إلى جانب هذه الثورة نحن نلاحظ أيضا أن حكام السعودية والإمارات ومصر باتوا ينتهجون أسلوبا جديدا في التنمية والتعاون والاتحاد لم نعهده سابقا في العالم العربي. الكلام عن الإصلاح الاقتصادي في مصر بدأ منذ سبعينات القرن الماضي ولكن التطبيق الجدي لهذا الإصلاح لم يبدأ إلا مؤخرا بعد ربيع حمد. الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها السعودية مؤخرا في عهد محمد بن سلمان هي غير مسبوقة في تاريخ المنطقة من حيث حجمها وعمقها وأهميتها، وهي تترك آثارا إيجابية على المنطقة عموما. أضف إلى ذلك ما حصل مؤخرا بين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد عندما عقدا اجتماعا أعلنا فيه عن تأسيس “مجلس التنسيق السعودي-الإماراتي.” التفاصيل التي أعلنوها حول أهداف ذلك المجلس تدل على أنه يهدف لتوحيد المملكة السعودية مع الإمارات. هذه الأمور هي تغيرات ثورية تحصل في المشرق العربي، وسببها المباشر هو ربيع حمد.

ما حصل هو أن بعض حكام الدول العربية التي نجت من ربيع حمد أصيبوا بصدمة إيجابية من ذلك الربيع الكارثي. الصدمة دفعتهم أولا لكسر حاجز الخوف والانتفاض ضد حمد، وثانيا هي دفعتهم نحو الاهتمام بتنمية بلادهم وتطويرها، وثالثا هي دفعتهم نحو التكامل والاتحاد كما نرى في حالة السعودية والإمارات.

الكلام عن التنمية والوحدة هو كلام قديم في العالم العربي، والناس عموما لا تأخذ هذا الكلام بجدية، ولكنني أظن أننا نعيش في مرحلة تاريخية جديدة تختلف عن المرحلة التي سبقت ربيع حمد. أنا أرى أن هناك تنمية حقيقية تحصل الآن في الدول التي انتفضت ضد حمد. بالنسبة للوحدة السعودية-الإماراتية فأنا أرى أن الاتفاق المكتوب كرس حالة من الوحدة السياسية والعسكرية بين البلدين التي توجد فعلا في الواقع.

تاريخيا العلاقات السعودية-الإماراتية لم تكن جيدة بل سيئة. كان هناك نزاع حدودي بين البلدين، والإمارات انسحبت من الاتحاد النقدي الخليجي. أيضا سياسة الإمارات الخارجية كانت مختلفة عن سياسة السعودية. ولكن ربيع حمد أوجد واقعا جديدا بين هذين البلدين العربيين المهمين.

هناك في التاريخ حالات مشابهة. الوحدة الألمانية بدأت بسبب شعور الألمان بالتهديد من فرنسا. الحروب النابوليونية أظهرت للألمان أنهم ضعيفون في مواجهة فرنسا بسبب تفرقهم، وهذا الشعور دفعهم للتكتل والتقارب إلى أن تحققت الوحدة الألمانية في عام 1871. ربيع حمد وما نتج عنه من حروب (خاصة حرب اليمن التي ما زالت تستنزف السعودية والإمارات) ولد على ما يبدو شعورا بالتهديد لدى حكام السعودية والإمارات، وهذا الشعور يدفعهم للتضامن والاتحاد.

طبعا حمد حاول أن يقلل من شأن الوحدة السعودية-الإماراتية عبر القول بأنها لا تضم البحرين والكويت. أنا تحدثت في الماضي عن هذه القضية وذكرت أن الوحدة الجدية في العالم العربي لن تحصل إلا عبر اتفاقات ثنائية على غرار الاتفاق الذي عقد مؤخرا بين السعودية والإمارات. العرب جربوا المنظمات الوحدوية الكبيرة التي تضم 10 دول أو 20 دولة والنتيجة كانت الفشل. من يعارضون الاتحادات الثنائية والثلاثية بحجة أن تلك الاتحادات هي ليست شاملة هم في الغالب أناس لا يرغبون بالوحدة العربية من الأساس. أبرز مثال على ذلك تاريخيا هم القوميون الدمشقيون. في أربعينات القرن العشرين رفض شكري القوتلي توحيد سورية مع العراق والأردن متذرعا بموقف لبنان! هو اتخذ من لبنان شماعة للتهرب من الوحدة العربية، إلى جانب حجج أخرى عديدة تذرع بها لتقسيم المشرق العربي.

لا يوجد تعارض بين الاتحادات الثنائية وبين الاتحادات الأكبر. توحيد بلدين عربيين لا يعيق الوحدة الشاملة بل على العكس هو يسهل الوحدة الشاملة. وجود تجربة وحدوية ناجحة يشجع الدول الأخرى على الانضمام إليها. هذا هو ما حصل في أوروبا. الاتحاد الأوروبي بدأ بست دول أهمها هي فرنسا وألمانيا الغربية. عندما نجح الاتحاد الاقتصادي بين هذه الدول الست انضمت دول أخرى إلى الاتحاد.

نجاح الاتحاد السعودي-الإماراتي سوف يسهل توحيد الجزيرة العربية بأكملها، لأن النموذج الناجح سوف يشجع الدول الأخرى على الانضمام.

يجب أيضا أن نقول صراحة أن انضمام دولة مثل الكويت أو عدم انضمامها للاتحاد لا يكاد يؤثر شيئا. من هو جاد في توحيد الدول العربية يجب أن يركز على توحيد الدول الكبيرة. انضمام الدول الميكروسكوبية أو عدم انضمامها هو ليس أمرا مهما.

بعد نجاح الاتحاد السعودي-الإماراتي فإن الهدف التالي في رأيي يجب أن يكون ضم اليمن إلى الاتحاد. اليمن هو دولة كبيرة ذات ثروات كامنة وموقع استراتيجي مهم. ضم اليمن إلى الاتحاد يجب أن يكون أولوية لدى السعوديين والإماراتيين لو كانت لديهم رؤية استراتيجية.

الأسلوب الجيد على ما أعتقد هو أن يقوم الاتحاد بوضع معايير للدول الراغبة في الانضمام على غرار المعايير التي يضعها الاتحاد الأوروبي. السعودية والإمارات يجب أن تساعدا اليمن على تحقيق تلك المعايير.

السعودية والإمارات هما على كل حال متورطتان في اليمن، وهذا التورط سيستمر لفترة طويلة وسيكلف البلدين الكثير من الأموال. طالما أنكم متورطون في هذا البلد لأمد طويل وطالما أنكم ستنفقون فيه الكثير من المال فيجب عليكم أن تعملوا على توحيده مع بلادكم.

من الأمور التي تدعو المرء للتفاؤل في الاتحاد السعودي-الإماراتي أنه تضمن اتفاقات تفصيلية تتعلق بتوحيد الاقتصاد والاستثمار المشترك ونحو ذلك من الأمور العملية التي تدل على جدية القائمين عليه. محمد بن سلمان أثبت أنه إنسان جاد عندما طبق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي كان قد وعد بها. بالنسبة للإماراتيين فما نعرفه عنهم هو أنهم أناس جديون في مسائل التنمية، وهم أيضا أصحاب تاريخ ناجح في مجال الوحدة. دولة الإمارات نفسها هي نموذج لاتحاد ناجح.

الجدية هي شيء مهم، وأنا أظن أن حكام السعودية والإمارات هم أناس جديون. هم الآن باتوا يفهمون أهمية الاتحاد وأنه يخدم مصالحهم جميعا. هم يجب أن يتخذوا من الاتحاد الأوروبي نموذجا. الاتحاد الأوروبي قام على مبدأ مهم هو تنازل الدول الكبيرة لمصلحة الدول الأصغر. ابن سلمان يجب أن يفهم أهمية ذلك وأن يكون مستعدا للتنازل للإمارات ولغيرها من الدول التي قد تنضم مستقبلا.

الخلاصة هي أن ربيع حمد دمر دولا عربية ولكنه أيضا تسبب في حالة نهضة في دول أخرى أهم من الدول التي دمرت. بالتالي هذا الربيع قد يكون ارتد على أصحابه وخلق واقعا يختلف عما أرادوه.

رأيان حول ““ربيع حمد” دمر بلادا عربية ولكنه غير مسار التاريخ العربي نحو الأفضل

  1. مرحبا هاني,,كيفك
    حابب أكتب مقالة مدح ببلد وبالملك تبعو
    شو عمتكلف هيك مقالات هليومين؟
    بعت السعر عالخاص بمعيتك وراعينا شوي
    تحياتي لك

    • أسالله
      من كم سنة كان بيحب الثوار والربيع…
      وكان يعمل مقالات طويلة عريضة عن عمق فهمهم للواقع السوري.. كان يضرب المثل بعزمي ويتشبه به…
      كان مثله الأعلى السلطان، وكان يبشرنا بالاقتصاد التركي..

أضف تعليق