الدول الغربية لم تكتف بما فعلته ضد السعودية في قضية خاشقجي ولكنها الآن تضغط لإرغام السعودية على القبول بسيناريو سوري في اليمن.
الدول الغربية تريد من السعودية أن تقبل ببقاء الحوثي في صنعاء وأن تتوقف عن محاربته، أي أنهم يريدون تحويل الحوثي إلى بشار أسد آخر.
هم يريدون تحويل صنعاء إلى دويلة مارقة جديدة على غرار دويلة بشار المارقة في دمشق، ويزعمون أن ذلك سوف يحل الأزمة الإنسانية في اليمن.
هم يضغطون لأجل هذا الهدف بجدية كبيرة ويهددون بأنهم سيفرضون عقوبات على محمد بن سلمان إذا لم يستجب، بحجة أنه أصدر الأمر بقتل جمال خاشقجي.
نحن لا نؤيد أسلوب الحرب الذي اتبعه ابن سلمان في اليمن لأنه أسلوب غير أخلاقي يقوم أساسا على فكرة الحصار وتجنب القتال المباشر، ولكن هذا لا يعني أن نقبل بتكرار النموذج السوري في اليمن. النموذج السوري لن ينهي العنف ولن يحل الأزمة الاقتصادية. هو سيمد عمر الكارثة فحسب.
البعض سوف يظنون أن السعودية أخطأت في التنازلات التي قدمتها في قضية خاشقجي، لأن تلك التنازلات فتحت شهية ذوي الرؤوس الحامية في أميركا وأوروبا وشجعتهم على المضي أبعد والمطالبة بأمور سوف تؤدي على المدى القريب لتحجيم دور السعودية الإقليمي وجعلها تحت وصاية الأتراك والإيرانيين، وعلى المدى البعيد ربما ستهدد وجود السعودية من أساسه.
لا شك أن السياسة السعودية المرنة شجعت الأميركان والأوروبيين على التمادي، ولكن هذا لا يعني أن تلك السياسة كانت خطأ. السعودية ما كانت تملك خيارا آخر. التصلب والمكابرة والممانعة ما كانت ستجعل الأمور أفضل.
الهجمة على السعودية هي ليست شيئا بسيطا ولكنها قضية مركبة ذات أبعاد كثيرة.
بعض الناس في أميركا حقدوا على السعودية بسبب البيان الذي أصدره محمد بن سلمان وتحدث فيه بلغة تفوق حجمه بكثير. في ذلك البيان هو هدد أميركا بطريقة لم تجرؤ عليها أية دولة أخرى في السابق. البيان والمقال الصحفي الذي فسره صورا السعودية وكأنها دولة تستطيع أن تحطم أميركا وتنهي دورها كقوة عظمى. هذا الكلام سبب الجنون لدى بعض الأوساط في الكونغرس وأجهزة الأمن والمخابرات.
هناك مسألة أخرى مهمة وهي أن الدعاية التركية-القطرية (بالإضافة إلى السياسات الخاطئة من السعوديين أنفسهم) نجحت في إقناع بعض الأميركيين بأن السعودية هي طرف في النزاع السياسي الداخلي في أميركا. على ما يبدو فإن بعض أوساط الديمقراطيين وداعميهم في أميركا يحقدون على السعودية لاعتقادهم بأنها دعمت دونالد ترمب.
القصة التي تقول بأن السعودية وترمب هما صديقان حميمان هي مجرد قصة خرافية كما وضحنا في السابق، ولكن السعودية فشلت في توضيح ذلك، بل الحقيقة هي أن بعض الدعائيين والكتاب الصحفيين السعوديين ساهموا في ترويج هذه الخرافة لظنهم بأنها شيء يدعو للافتخار.
بعض الكتاب السعوديين يظنون على ما يبدو أن التزلف لإسرائيل والتهجم على الفلسطينيين من شأنه أن يدعم موقف السعودية في أميركا. من الممكن أن هذا كان صحيحا قبل خمسين سنة ولكننا لا نظن أنه صحيح اليوم. هناك اليوم قصة متداولة بكثرة في أميركا وغيرها تقول أن محمد بن سلمان ونتنياهو وجارد كوشنر هم أصدقاء حميمون ينسقون مع ترمب ويدعمونه. هذه القصة على ما أعتقد هي من اختراع المخابرات التركية في أنقرة، ولكن السعوديين لم ينفوها وإنما ربما أكدوها.
بعيدا عن أميركا، الأوروبيون هم ناقمون على السعودية لأنهم يعتقدون أنها سببت لهم خسائر اقتصادية، خاصة بسبب الدور المفترض للسعودية في إلغاء الاتفاق النووي مع إيران. في السابق وضحنا أن السعودية لا علاقة لها بقرار ترمب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وأن هذا القرار كان بسبب تعهد ترمب العلني خلال الحملة الانتخابية وبسبب تعهد قطعه ترمب لشخصيات داعمة لإسرائيل مولت حملته الانتخابية. الإسرائيليون هم السبب الرئيسي وراء إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ولكن الدعاية الإسرائيلية روجت في الإعلام الدولي أن السعودية هي التي وقفت وراء ذلك. هذا نفس ما فعله الإسرائيليون عندما روجوا أن السعودية كانت وراء قرار ترمب بنقل السفارة الأميركية للقدس. الإسرائيليون نسبوا إلى السعودية هذه الأفعال المكروهة لكي يخلوا مسؤوليتهم ويدفعوا الضرر عن أنفسهم، والسعودية فشلت في أن توضح الحقيقة للرأي العام الدولي. بعض الدعائيين والكتاب السعوديين قد يكونون ساعدوا إسرائيل في ترويج تلك الأباطيل، وهذا شيء لا يمكن وصفه سوى بالغباء.
الدول الأوروبية هي أيضا ناقمة على السعودية بسبب التأثير التركي الكبير على حكوماتها، سواء بشكل مباشر أم بواسطة حمد بن خليفة. حجم التجارة والاستثمارات بين تركيا وأوروبا هو أكبر بكثير من حجم التجارة والاستثمارات بين السعودية وأوروبا، وتركيا تحمي حدود أوروبا من تدفق اللاجئين. هذه أمور تجعل من تركيا ذات تأثير كبير على السياسات الأوروبية مقارنة بالسعودية، وهذا التأثير التركي هو سبب العدائية الأوروبية تجاه السعودية.
محمد بن سلمان انحاز كثيرا في سياساته الاقتصادية لمصلحة أميركا. هذا الانحياز أغضب الأوروبيين وفي النهاية لم ينفعه عند الأميركيين.
في عهد محمد بن سلمان حصل تضخيم إعلامي لدور السعودية الدولي. السعودية حُمّلت ما لا تحتمله. هي صارت مسؤولة عن سياسات ترمب الخارجية الرعناء، وصارت طرفا في النزاعات الداخلية الأميركية، وفي النهاية صارت قوة عظمى تستطيع أن تدمر أميركا وتزيحها عن موقع الصدارة بين القوى الدولية (كما ورد في مقال تركي الدخيل). هذا التضخيم الإعلامي هو في اعتقادنا السبب العميق للمصائب التي تعيشها السعودية الآن. محمد بن سلمان وحاشيته يتحملون المسؤولية عن هذا التضخيم الإعلامي غير المسؤول. إذا افترضنا أنهم لم يصنعوه فإنهم فشلوا في الرد عليه ووضع حد له.
السعودية الآن هي في مأزق ولا ندري ما الذي سيحصل لها، ولكن الدول العربية يجب أن تدرك أن سقوط السعودية يعني سقوط المشرق العربي بقبضة الأتراك والإيرانيين. ما يريد الأميركان والأوروبيون فرضه في اليمن سوف ينهي دور السعودية الإقليمي. السعودية ستصير تحت رحمة الأتراك والإيرانيين على غرار بقية دول المشرق العربي.
عائلة آل سعود يجب أن تفهم أن الخطر لا يتهدد ابن سلمان فحسب وإنما السعودية بأكملها. أي شخص من عائلة آل سعود يقبل بالاستسلام للحوثي في اليمن ولحمد بن خليفة في قطر فإنه عمليا يقبل بوضع السعودية تحت وصاية تركيا وإيران. السعودية ستصير دولة غير ذات سيادة ولن تستطيع أن تفعل أي شيء دون أخذ الإذن من حمد بن خليفة في الدوحة، الذي سيكون ناطورا لتركيا وإيران على دول الجزيرة العربية (كما حلم دائما أن يكون).