رسم من عام 1920 يظهر مجموعة من النياندرثال، وأحدهم يحمل رمحا موسترية Mousterian
تحدثت في الأجزاء السابقة من هذا الموضوع عن الأجيال البشرية الأولى. من الممكن أن نلخص هذه الأجيال كما يلي:
الجيل الأول (الباكر) هو جيل الإنسان الماهر Homo habilis وإنسان رودولف Homo rudolfensis. هذا الجيل عاش تقريبا من 2,5 مليون سنة قبل الوقت الحالي إلى 1,5 مليون سنة قبل الوقت الحالي. هذا الجيل عاصر القرود الجنوبية النحيلة gracile australopithecines حتى 2 مليون سنة قبل الوقت الحالي، وبعد ذلك عاصر القرود الجنوبية الغليظة robust australopithecines (المسماة أيضا Paranthropus) والإنسان العامل Homo ergaster في الفترة الممتدة بين 2 مليون و1,5 مليون عام قبل الوقت الحالي. هذا الجيل كان صغير الدماغ لا يزيد حجم دماغه في أحسن الأحوال عن 600-700 سم مكعب، وهو كان يعتاش أساسا من صناعة الأدوات الألدوية Oldowan التي كان يستخدمها في نهش الجيف ونبش الفطور والجذور من باطن الأرض، وربما كان يمارس الصيد أيضا بشكل محدود. هذا الجيل لم يخرج من أفريقيا.
الجيل الثاني (المتوسط) يشمل الإنسان الجورجي Homo georgicus والإنسان العامل Homo ergaster والإنسان المنتصب Homo erectus والإنسان الموريتاني Homo mauritanicus والإنسان الطليعي Homo antecessor . هذا الجيل ظهر تقريبا قبل مليوني عام في أفريقيا، وبعد ذلك انتشر نحو غرب آسيا ومن هناك نحو شرق آسيا وأوروبا. هذا الجيل انقرض من أفريقيا في الفترة الممتدة بين 800,000-500,000 عام قبل الوقت الحالي. بالنسبة لشرق آسيا فالإنسان المنتصب ربما ظل موجودا هناك حتى 50,000-30,000 عام قبل الوقت الحالي (أو حتى 550,000-143,000 عام قبل الوقت الحالي وفقا لرأي آخر). في أوروبا الصناعة المسماة Clactonian ظلت موجودة حتى 100,000 عام قبل الوقت الحالي. هذه الصناعة قبل-الأشولية تنسب عادة للإنسان المنتصب، ولكنها في رأيي ربما تعود للإنسان الطليعي (الذي هو نفسه الإنسان المنتصب على أي حال).
حجم أدمغة الجيل البشري الثاني اقترب من 1000 سم مكعب. هذا الجيل استخدم كلا من الأدوات الألدوية والأدوات الأشولية Acheulian (وأيضا الأدوات الألدوية الشبيهة بالأشولية التي استخدمت في شرق آسيا وسورية وأوروبا). هذا الجيل تخلى تدريجيا عن حياة النهش والنبش وصار يركز على الصيد وجمع الثمار hunting and gathering.
الجيل الثالث (المتأخر) يشمل إنسان روديسيا Homo rhodesiensis وإنسان هايدلبرغ Homo heidelbergensis وإنسان نياندرثال Homo neanderthalensis والإنسان الحكيم الحديث Homo sapiens sapiens. هذا الجيل ظهر تقريبا قبل 800,000-600,000 عام، ويعتقد أن أصوله تعود إلى أفريقيا وأنه انتشر من هناك نحو جميع أنحاء العالم على عدة دفعات. أولى هجرات هذا الجيل من أفريقيا هي ربما الهجرة التي أوصلت إنسان هايدلبرغ إلى أوروبا قبل حوالي 600,000 عام، وآخر الهجرات هي هجرة الإنسان الحكيم الحديث قبل حوالي 100,000 عام.
حجم أدمغة الجيل الثالث هو نفس حجم أدمغة البشر المعاصرين (أكثر من 1000 سم مكعب). هذا الجيل استخدم الأدوات الأشولية منذ البداية ولم يستخدم الأدوات الألدوية، وهو كان يعتاش من الصيد وجمع الثمار. هذا الجيل بدأ باستخدام الصناعة الأشولية الموروثة من الجيل السابق ولكنه طور هذه الصناعة قبل حوالي 600,000 عام إلى صناعة أكثر إتقانا تسمى أحيانا “الأشولية المتأخرة” Later Acheulian. الفؤوس الأشولية المتأخرة تتميز بأنها أرق وأكثر تناظرا وتشذيبا من الفؤوس الأشولية الأقدم.
الفترة الأشولية المتأخرة (بين 600,000-300,000 عام قبل الوقت الحالي) شهدت انتقالا تدريجيا نحو الصناعة الموسترية Mousterian (نسبة إلى موقع Le Moustier في فرنسا). الصناعة الموسترية بدأت تقريبا قبل 300,000 عام وانتهت قبل 30,000 عام. فترة الصناعة الموسترية تسمى الحقبة الباليوليثية الوسطى Middle Paleolithic.
الصناعة الموسترية تعتمد على تقنية تسمى التحضير المسبق للقلب prepared-core technique. المقصود بهذه التقنية هو تحضير الحجر الخام (الذي يسمى “القلب” core) قبل طرقه.
صناعة الأدوات الحجرية عموما تعتمد على طرق حجر صوان خام بحجر آخر (الحجر المطروق يسمى “قلب” core، والحجر الطارق يسمى “حجر مطرقة” hammerstone، وعملية الطرق تسمى knapping). طرق القلب يؤدي إلى تشظيه. الشظايا تكون ذات أطراف حادة وتسمى رقائق flakes. الرقائق كانت تستخدم كأدوات للتقطيع ونحو ذلك، وأيضا القلب المطروق كان يستخدم أحيانا كأداة تقطيع.
هذا المقطع يبين شخصا يطرق قلبا من الصوان بحجر مطرقة بهدف الحصول على رقائق:
الصناعة الأشولية كانت تستخدم رقائق كبيرة (أو القلب بعد طرقه) كفؤوس حجرية عبر تركيبها على عصي خشبية (العصي الخشبية التي تحمل فؤوسا أو أنصالا تسمى hafts). ما يلي صورة تبين كيفية صناعة فأس أشولية:
البشر في الزمن الألدوي والأشولي كانوا يأخذون الحجر الخام (القلب) من الأرض ويطرقونه كما هو. النتيجة هي أن الرقائق الناتجة كانت ذات أشكال متغيرة وغير معروفة سلفا (وغير متناسقة). مبدأ الصناعة الموسترية هو تهذيب القلب وتشكيله بشكل معين قبل طرقه لاستخلاص الرقائق منه. النتيجة هي أن الرقائق الناتجة عن طرقه كانت ذات أشكال متناسقة ومعلومة سلفا.
أشيع أشكال تقنية التحضير المسبق للقلب هي التقنية المسماة Levallois. القلب المحضّر بهذه التقنية يسمى “قلب السلحفاة” tortoise core لأن شكله يشبه صدفة السلحفاة.
هذا المقطع يبين شخصا يقوم بتحضير قلب وفق تقنية Levallois:
الصورة التالية تبين قلبين محضرين وفق تقنية Levallois. القلب الذي بالأعلى طرق للحصول على رقاقة flake، والقلب الذي بالأسفل طرق للحصول على نصل مقذوف projectile point:
القلوب المحضرة بتقنية Levallois كانت كثيرا ما تستخدم لإنتاج أنصال المقذوفات projectile points (أنصال الرماح والسهام). إنتاج أنصال المقذوفات شاع خلال العصر الباليوليثي الأوسط وأصبح بديلا للفؤوس الحجرية الأشولية. الباحثون يرون أن أنصال المقذوفات التي أنتجت خلال العصر الباليوليثي الأوسط كانت تركب على عصي خشبية طويلة لإنتاج رماح كانت تستخدم في الصيد. الرماح هي أنفع في الصيد من الفؤوس. بالنسبة للسهام أو النبال فغالبية الباحثين يرون أنها شاعت خلال العصر الباليوليثي الأعلى Upper Paleolithic (الذي هو العصر التالي للعصر الباليوليثي الأوسط وبدأ قبل حوالي 50,000-40,000 عام).
نصل سهم من الحجر
الباحثون تقليديا يربطون الصناعة الموسترية (والعصر الباليوليثي الأوسط) بإنسان نياندرثال، ويربطون العصر الباليوليثي الأعلى بالإنسان الحكيم الحديث. عندما كانوا يجدون أدوات موسترية في موقع ما كانوا يفترضون أنها من مخلفات إنسان نياندرثال، وعندما كانوا يجدون أدوات من العصر الباليوليثي الأعلى في موقع ما كانوا يفترضون أنها من مخلفات الإنسان الحكيم الحديث. كان هناك أيضا اعتقاد بأن الإنسان الحكيم الحديث تطور من إنسان نياندرثال (أو على الأقل بعض البشر المعاصرين تطوروا من إنسان نياندرثال). لهذا السبب إنسان نياندرثال كان يصنف ضمن فئة “الإنسان الحكيم العتيق” Homo sapiens archaicus.
هذه المقاربة لم تعد مقبولة حاليا. غالبية الباحثين حاليا يرون أن الإنسان الحكيم وإنسان نياندرثال عاشا معا خلال العصر الباليوليثي الأوسط. إنسان نياندرثال هو كائن أوروبي الأصل تمدد إلى آسيا بسبب تقلبات المناخ في أوروبا، والإنسان الحكيم هو كائن أفريقي الأصل. إنسان نياندرثال والإنسان الحكيم كلاهما متحدران من أصل مشترك هو إنسان هايدلبرغ/روديسيا الذي هاجر من أفريقيا إلى أوروبا قبل حوالي 600,000 عام. بالإضافة إلى ذلك الباحثون حاليا يرون أن الإنسان الحكيم استخدم الأدوات الموسترية خلال العصر الباليوليثي الأوسط، وبالتالي هذه الأدوات لم تكن حكرا على إنسان نياندرثال. أيضا هناك باحثون يرون أن إنسان نياندرثال قبيل انقراضه استخدم أدوات العصر الباليوليثي الأعلى.
تصنيف الأجيال البشرية
كما قلنا في الأعلى فإن الجيل البشري الثالث (إنسان هايدلبرغ/روديسيا وأولاده) يتميز بحجم دماغ كبير يفوق 1000 سم مكعب. حجم أدمغة البشر المعاصرين يتراوح بين 1000-1900 سم مكعب. حجم أدمغة إنسان هايدلبرغ/روديسيا وإنسان نياندرثال يتراوح بين 1100-1400 سم مكعب، وكما ذكرنا في مقال سابق فإن بعض الباحثين الآن يقولون أن حجم دماغ إنسان نياندرثال (والإنسان الحكيم الباكر) كان في المتوسط أكبر من حجم دماغ البشر المعاصرين.
الخلاصة هي أن أحجام أدمغة الجيل البشري الثالث لم تتغير بقدر مهم منذ 800,000 عام وحتى يومنا هذا.
الباحثون تقليديا كانوا يصنفون إنسان هايدلبرغ/روديسيا وإنسان نياندرثال تحت عنوان “الإنسان الحكيم العتيق” (Archaic Homo sapiens أو Homo sapiens archaicus)، وكانوا يسمون البشر المعاصرين “الإنسان الحكيم الحديث” (modern Homo sapiens أو Homo sapiens sapiens). هذه التسميات تعني أنهم لم يكونوا يعتبرون كائنات الجيل البشري الثالث أنواعا species مختلفة عن البشر المعاصرين.
وفق المنطق القديم جميع الكائنات البشرية يجب أن تصنف في أربع فئات:
- الإنسان الماهر Homo habilis
- الإنسان المنتصب Homo erectus
- الإنسان الحكيم العتيق Homo sapiens archaicus
- الإنسان الحكيم الحديث Homo sapiens sapiens
الإنسان الحكيم العتيق هو ليس نوعا منفصلا عن الإنسان الحكيم الحديث، وبالتالي جميع البشر هم مصنفون ضمن ثلاثة أنواع فقط. كل نوع يعبر عن جيل من الأجيال التي ذكرتها في الأعلى.
الإنسان المنتصب ظل يعيش حتى بعد ظهور الإنسان الحكيم العتيق، ولو قبلنا منطق نظرية الأصل المتعدد (التي تقول أن التزاوج بين الإنسان المنتصب وبين الإنسان الحكيم العتيق كان أمرا ممكنا) فهذا يوصلنا إلى أن الإنسان المنتصب هو أيضا صنف من أصناف الإنسان الحكيم العتيق.
هذا الأسلوب في التصنيف تعرض لهجمة إعلامية كبيرة في أواخر القرن العشرين، وبعد ذلك سادت النزعة التشطيرية التي أنتجت مصطلحات من قبيل Homo ergaster و Homo neanderthalensis إلخ.
في الآونة الأخيرة منطق التشطير بدأ يشهد تراجعا (بسبب اكتشاف مستحاثات جديدة وبسبب ظهور نتائج دراسات جينية لا تدعم طروحات المشطرين). أنا أظن أن الباحثين سوف يعودون في النهاية لنفس المنطق القديم في التصنيف.
وفق المنطق القديم اسم إنسان نياندرثال يجب أن يكتب هكذا Homo sapiens neanderthalensis. هذه الكتابة تعني أن إنسان نياندرثال هو مجرد “عرق” (subspecies) من أعراق الإنسان الحكيم. الإنسان الحكيم الحديث Homo sapiens sapiens هو في الأصل عرق أفريقي انتشر في جميع أنحاء العالم. إنسان نياندرثال هو عرق أوروبي الأصل.
بالنسبة لي فأنا غير مقتنع بأسلوب التشطير ولكنني أستخدمه بهدف تسهيل الكتابة وزيادة الوضوح. عندما أكتب مصطلحات من قبيل Homo mauritanicus أو Homo rhodesiensis فأنا لا أقصد أن هذه تصنيفات بيولوجية صحيحة.
في الأسفل سوف أستمر في استخدام المصطلحات التشطيرية بهدف زيادة الوضوح ليس أكثر.
ذكاء الجيل الثالث
الجيل البشري الثالث (إنسان هايدلبرغ/روديسيا وإنسان نياندرثال والإنسان الحكيم) يتميز بحجم دماغ متماثل. السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو هل كان إنسان هايدلبرغ/روديسيا وإنسان نياندرثال والإنسان الحكيم العتيق يملكون نفس مستوى ذكاء البشر المعاصرين؟
إجابة هذا السؤال هي غامضة ومحل جدل. الباحثون عموما يتفقون على أن سلوك البشر القدماء كان يختلف كثيرا عن سلوك البشر المعاصرين. البشر الذين عاشوا قبل العصر الباليوليثي الأعلى Upper Paleolithic (الذي بدأ قبل 50,000-40,000 عام) كانوا يستخدمون الرموز بشكل محدود جدا، وهذا يدل على أن ثقافتهم كانت بدائية ومتخلفة جدا عن ثقافة البشر المعاصرين.
الثقافة culture تنقسم إلى ثقافة مادية material culture وثقافة غير مادية. أنا ذكرت سابقا ما هو معنى الثقافة المادية وغير المادية. كل البشر القدماء (منذ زمن الإنسان الماهر) يملكون ثقافة مادية تتمثل في أدواتهم، وأما الثقافة غير المادية فهي كانت ضعيفة جدا وشبه غائبة قبل العصر الباليوليثي الأعلى، بدليل أن البشر قبل هذا العصر لم يكونوا يستخدمون الرموز إلا بشكل محدود، والثقافة غير المادية تقوم على الرموز (اللغة والطقوس والفنون إلخ هي كلها عبارة عن تعابير رمزية).
الباحثون يتفقون على أن الثقافة الرمزية (الثقافة غير المادية) لم تظهر لدى البشر بشكلها المعاصر إلا قبل حوالي 50,000 عام عندما بدأ العصر الباليوليثي الأعلى. الخلاف بين الباحثين هو حول سبب هذه الطفرة الثقافية التي حصلت قبل 50,000 عام. بعض الباحثين يرون أن ما حدث هو طفرة بالمعنى البيولوجي، بمعنى أنهم يرون أن القدرات العقلية للبشر تطورت في ذلك الوقت وظهر عرق بشري جديد يمتلك قدرات عقلية شبيهة بقدرات البشر المعاصرين. هذا يعني أن البشر الذين كانوا يعيشون قبل العصر الباليوليثي الأعلى كانوا أغبياء أو متخلفين عقليا مقارنة بالبشر المعاصرين. هناك مدرسة أخرى ترفض هذا الطرح وترى أن ذكاء البشر لم يتغير “بيولوجيا” عندما بدأ العصر الباليوليثي الأعلى ولكن ما حصل هو مجرد طفرة ثقافية-اجتماعية شبيهة مثلا بالثورة الصناعية في أوروبا قبل 200 عام، أو ببداية عصر الزراعة في الشرق الأوسط قبل حوالي 10,000 عام.
إذن هناك اختلاف في النظرة لذكاء البشر القدماء الذين عاشوا قبل العصر الباليوليثي الأعلى.
هاني..
لا أدري إن كنت ستشاهد هذا التعليق.. اليوم قرأت معلومة جديدة عن إنسان النياندرثال، من صحيفة الثورة، قد يفدك هذا الكلام بأبحاثك:
http://thawra.alwehda.gov.sy/_View_news2.asp?FileName=22218638620140106182509