تطور الإنسان (1)

كنت أريد أن أكمل الحديث في موضوع هجرة البشر من أفريقيا إلى آسيا، ولكن لكي أكمل الموضوع لا بد أن أتطرق لفكرة “الأصل المتعدد” للأعراق. لو تطرقت لهذه الفكرة فسأضطر لاستخدام مفاهيم ومصطلحات من التي يتداولها باحثو الآثار والأنثروبولوجيا والمتعلقة بتطور الإنسان Human evolution.

تطور الإنسان

بداية فكرة “تطور الإنسان” تعود إلى القرن 19. تشارلز داروين لم يتحدث عنها في كتابه الأول الشهير ولكنه تحدث عنها في كتابه الثاني الذي حمل اسم The Descent of Man (في عام 1871). في هذا الكتاب هو اعتبر أن أفريقيا هي المرشح الأول لأن تكون مهدا للبشر:

In each great region of the world the living mammals are closely related to the extinct species of the same region. It is, therefore, probable that Africa was formerly inhabited by extinct apes closely allied to the gorilla and chimpanzee; and as these two species are now man’s nearest allies, it is somewhat more probable that our early progenitors lived on the African continent than elsewhere. But it is useless to speculate on this subject, for an ape nearly as large as a man, namely the Dryopithecus of Lartet, which was closely allied to the anthropomorphous Hylobates, existed in Europe during the Upper Miocene period; and since so remote a period the earth has certainly undergone many great revolutions, and there has been ample time for migration on the largest scale.

Charles Darwin, The Descent of Man

أقرب الكائنات إلى الإنسان هي “القرود الكبيرة” great apes (التي تسمى في التصنيف البيولوجي Hominidae، وهو تصنيف يضم الإنسان أيضا). بما أن معظم القرود الكبيرة تعيش في أفريقيا فهذا يدل على أن أفريقيا هي مهد هذه العائلة، وبالتالي لا بد أن أجداد الإنسان الأوائل عاشوا في أفريقيا. هذا هو المنطق الذي استند إليه داروين، ولكنه رغم ذلك لم يقطع بصحة هذا الكلام بل على العكس هو اعتبر البحث في هذا الموضوع أمرا بلا فائدة، لأن مستحاثة “قرد الشجر” Dryopithecus التي عثر عليها في فرنسا في 1856 تنتمي لعائلة القرود الكبيرة وعمرها يعود إلى أكثر من ستة ملايين عام. بالتالي وجود القرود الكبيرة في الماضي لم يكن محصورا في أفريقيا.

معاصرو داروين عموما رفضوا فكرة الأصل الأفريقي للبشر. باحثو القرن 19 كانوا يعتقدون أن المهد الأصلي للبشر هو قارة آسيا، وخاصة النصف الشرقي منها. هذه القناعة كانت راسخة لديهم إلى درجة أنهم سيروا العديد من الرحلات الاستكشافية نحو آسيا بهدف البحث عن المستحاثات والآثار البشرية القديمة.

البحث في آسيا أثمر عددا من المستحاثات. أولى وأشهر المستحاثات fossils التي عثر عليها في آسيا هي على ما أظن “إنسان جاوة” Java Man الذي اكتشفه في عام 1891 الهولندي Eugène Dubois. بعد ذلك اُكتُشِف أيضا “إنسان بكين” Peking Man في عشرينات القرن العشرين. هذه الاكتشافات رسخت أكثر قناعة الباحثين الغربيين بأن آسيا هي مهد البشرية.

الغربيون في تلك الحقبة كان لديهم هوس بآسيا. هم كانوا يعتقدون أن أصل كل شيء يعود إلى آسيا. لا أدري ما هو سبب هذا الهوس، ولكنني أظن أن السبب مركب وأن هناك أكثر من عامل وراء هذا الموضوع.

الكاتب الفرنسي Voltaire (القرن 18) كان يعتقد أن أصل الحكمة والحضارة هو من الهند:

N’est-il pas vraisemblable que les brachmanes sont les premiers législateurs de la terre, les premiers philosophes, les premiers théologiens?

Le peu de monuments qui nous restent de l’ancienne histoire ne forment-ils pas une grande présomption en leur faveur, puisque les premiers philosophes grecs allèrent apprendre chez eux les mathématiques, et que les curiosités les plus antiques, recueillies par les empereurs de la Chine, sont toutes indiennes, ainsi que les relations l’attestent dans la collection de Duhalde?

[…]

Les Hébreux, qui furent connus si tard, ne nomment jamais les brachmanes; ils ne connurent l’Inde qu’après les conquêtes d’Alexandre, et leurs établissements dans l’Égypte, de laquelle ils avaient dit tant de mal. On ne trouve le nom de l’Inde que dans le livre d’Esther, et dans celui de Job, qui n’était pas Hébreu. On voit un singulier contraste entre les livres sacrés des Hébreux et ceux des Indiens. Les livres indiens n’annoncent que la paix et la douceur; ils défendent de tuer les animaux: les livres hébreux ne parlent que de tuer, de massacrer hommes et bêtes; on y égorge tout au nom du Seigneur; c’est tout un autre ordre de choses.

كلمة brachmanes تعني فلاسفة الهنود وكبارهم. هو يقول أن الفلاسفة اليونانيين كانوا يسافرون إلى الهند لتعلم الرياضيات. في مكان آخر هو قال أنه “مقتنع بأن كل شيء نزل إلينا من ضفاف [نهر] الغانج: الفلك، التنجيم، تناسخ الأرواح، إلخ”.

من الواضح أنه كان معجبا بحضارة الهنود وكان يعتبرها أساس الحضارة الغربية والصينية. هو سخر من الكتاب اليهودي واعتبره كتابا للقتل والمجازر، بخلاف كتب الهنود التي تدعو للسلم واللطف وتمنع قتل الحيوانات.

هذا الإعجاب بضفاف الغانج أثر في مفكرين آخرين من معاصري Voltaire. حتى الفيلسوف الألماني المعروف Immanuel Kant تأثر بهذا الكلام وقال أن “كل البشرية وكل العلوم نشأت على سقف العالم” (أي جبال الهيمالايا التي تشكل معظم الحد الشمالي للهند وينبع منها نهر الغانج).

العامل الأول الذي جعل الأوروبيين ينبهرون بآسيا هو إعجابهم بالحضارة الهندية القديمة. في القرن 18 وبدايات القرن 19 لم يكن أحد يعرف شيئا يذكر عن حضارة ما بين النهرين القديمة. السومريون لم يُعرفوا إلا في نهاية القرن 19، وبالنسبة للآشوريين والبابليين فألواحهم لم تقرأ قبل أواسط القرن 19. أيضا الحضارة المصرية القديمة لم تكن معروفة جيدا قبل أواسط القرن 19.

بالإضافة إلى هذا العامل هناك أيضا العامل اللغوي. الأوروبيون في نهاية القرن 18 بدؤوا يلاحظون الشبه بين اللغة اليونانية القديمة واللغة السنسكريتية. اللغتان متشابهتان جدا، ولكن اللغة السنسكريتية هي محافظة أكثر من اللغة اليونانية القديمة (بمعنى أنها أقل تبدلا). هذا الاكتشاف خلب ألباب الأوروبيين وعزز قناعتهم بأن جذور الحضارة والبشرية تعود إلى آسيا.

الباحثون الألمان في بدايات القرن 19 صاروا يستخدمون كلمة Aryan كتسمية لمتحدثي اللغة الهندو-أوروبية البدائية Proto-Indo-European. كلمة Aryan هي كلمة هندو-إيرانية الأصل (Indo-Iranian). هذه الكلمة هي مصدر كلمة Iranian التي يسمي به الإيرانيون أنفسهم، وعلى ما يبدو فإن هذه الكلمة كانت مستخدمة لدى الهنود أيضا في عصور سحيقة. إذن كلمة Aryan ربما كانت التسمية التي يطلقها الهندو-إيرانيون-البدائيون Proto-Indo-Iranians على أنفسهم. الباحثون الألمان في بداية القرن 19 كانوا يعتبرون أن الهندو-إيرانيين هم أقرب الشعوب إلى الهندو-أوروبيين البدائيين من حيث اللغة والموقع الجغرافي، ولهذا السبب هم صاروا يطلقون تسمية Aryan على الهندو-أوروبيين البدائيين.

مهد الهندو-إيرانيين هو آسيا الوسطى، وهذا في رأي الكثيرين آنذاك هو مهد الهندو-أوروبيين أيضا. حتى لو فرضنا أن مهد الهندو-أوروبيين هو في سهل البحر الأسود فهذه المنطقة هي ليست بعيدة عن آسيا الوسطى، بل هي في الحقيقة مجرد امتداد لها.

الباحث الألماني Max Müller (الضليع في الدراسات السنسكريتية) أعاد التأكيد مجددا على الفرق الثقافي بين “الآريين” وبين “الساميين” (وهو نفس الفرق الذي أشار إليه Voltaire ولكن بصياغة أخرى). هذا التمييز الثقافي بين الآريين والساميين تحول إلى تمييز عرقي لدى الكاتب الفرنسي Arthur de Gobineau الذي كتب في خمسينات القرن 19 مقالا سماه “مقال حول عدم التساوي بين الأعراق البشرية” Essai sur l’inégalité des races humaines. في هذا المقال هو أعاد التأكيد على الفكرة التقليدية التي تقسم البشر إلى ثلاثة أعراق (أبيض وأصفر وأسود) ولكنه بين أن هذه الأعراق هي ليست متساوية مع بعضها —العرق الأبيض هو أفضل من بقية الأعراق. هو ميز أيضا عدة طبقات داخل العرق الأبيض؛ بالنسبة له هناك عرق أبيض نقي (هو العرق الآري) وهناك أعراق بيضاء مهجنة مع أعراق أخرى (وبالتالي هي أعراق منحطة أو متفسخة degenerate). الأعراق المتفسخة تشمل العرق المتوسطي (هجين أبيض-أسود) والعرق الطوراني (هجين أبيض-أصفر).

هذه النزعة الآريانية المتعاظمة ربما كان لها دور في صنع نظرية الأصل الآسيوي للبشر. أول من طرح نظرية الأصل الآسيوي للبشر هو الباحث البيولوجي الألماني Ernst Haeckel. هذا الرجل كان باحثا مهما وهو كان معاصرا لداروين ومتأثرا به، ولكنه رغم ذلك رفض فكرة الأصل الأفريقي للبشر التي طرحها داروين واقترح أن أصل البشر هو من الهند.

فكرة الأصل الهندي للبشر كانت فكرة جدية جدا في بدايات القرن العشرين. بعض الباحثين حاولوا أن يربطوا نشوء البشر بالمناخ. تحديدا هم أشاروا إلى جبال الهيمالايا وهضبة التيبت كأماكن محتملة لنشوء البشرية، وبعضهم أشار إلى شرق آسيا الوسطى وحوض تاريم. هذه المناطق الباردة ذات الطبيعة القاسية هي في رأيهم الأماكن التي نشأ فيها البشر (وهي أيضا الأماكن التي نشأ فيها العرق الآري). الربط بين التفوق العرقي والحضاري وبين المناخ البارد هي فكرة قديمة وهي قد تكون مرتبطة بالمعنى الذي أشار إليه Immanuel Kant عندما قال أن كل شيء نشأ على سقف العالم.

طبعا هذا النقاش كان مرتبطا آنذاك بقضية أخرى لا تقل أهمية هي قضية أصل الأعراق origin of races. في القرن 19 (وما قبله) كان هناك جدل بين الباحثين الأوروبيين حول أصل الأعراق البشرية المختلفة. الكتاب اليهودي يقول أن كل البشر هم متحدرون من آدم، وبالتالي ظاهريا كل الأعراق البشرية لها أصل واحد، ولكن هذه الفكرة بدأت تثير الخلاف في القرنين 18 و19.

الباحث السويدي المعروف Carl Linnaeus (مخترع التنصيف البيولوجي) صنف الإنسان ضمن جنس (genus) سماه Homo (من اللاتينية homō = “رجل” أو “إنسان”) وضمن نوع (species) سماه sapiens (“الحكيم”)، وبالتالي اسم الإنسان وفق تصنيف Linnaeus هو Homo sapiens.

بالإضافة إلى ذلك Linnaeus قسم النوع البشري إلى عدة أنواع فرعية (subspecies) على النحو التالي:

Homo sapiens Eoropeus
Homo sapiens Africanus
Homo sapiens Asiaticus
Homo sapiens Americanus
Homo sapiens Monstrosus

هذه التقسيمات تعبر عن الأعراق. المقصود بالعرق الأخير Monstrosus هو بعض الكائنات الخرافية التي كان يعتقد آنذاك بوجودها.

خلال القرن 18 بدأ كثير من الأوروبيين يشككون في وجود أصل مشترك لجميع الأعراق البشرية. Voltaire اعتبر أن العرق الأسود Negro هو نوع species منفصل عن العرق الأبيض (بمعنى أن العرق الأسود هو ليس من البشر). الباحث البيولوجي الفرنسي Georges Cuvier (في بدايات القرن 19) اعتبر أن بني آدم المذكورين في الكتاب اليهودي هم فقط العرق الأبيض (القوقازي Caucasian)، وأما العرقان الآخران (المنغولي والأثيوبي) فهما ليسا من نسل آدم ولكنهما من أصل آخر. الباحث السويدي Anders Retzius (المشهور في القرن 19) أيضا شكك في الأصل المشترك لجميع البشر.

هؤلاء الذين ينفون الأصل الواحد للبشر كانوا يسمون polygenists (أنصار الأصل المتعدد)، أما الذين يؤمنون بالأصل الواحد للبشر فكانوا يسمون monogenists (أنصار الأصل الواحد). الفريق الأول كان هو الغالب في القرن 19 لأن فكرة الأصل المتعدد كانت فكرة جديدة وجريئة بخلاف فكرة الأصل الواحد التي هي نفس الفكرة التقليدية المذكورة في الكتاب اليهودي (الناس في ذلك الوقت كانوا ينظرون بسلبية لمعلومات الكتاب اليهودي).

المفارقة هي أن داروين لم يكن من أنصار الأصل المتعدد، بل على العكس هو رفض هذه الفكرة في كتاب Descent of Man واعتبر أن كل البشر هم نوع واحد ولهم أصل واحد حديث نسبيا. هو اعتبر أن الفروقات العرقية بين البشر هي سطحية وطفيفة. هذا الكلام هو الرأي السائد في وقتنا الحالي، ولكنه في زمن داروين كان كلاما غريبا ورجعيا.

آراء داروين لم تعجب غالبية معاصريه. غالبية معاصري داروين اقتنعوا بنظرية تطور الأنواع evolution of species التي شرحها في كتابه الأول (المسمى On the Origin of Species)، ولكن بالنسبة لكتابه الثاني الذي تطرق فيه لتطور الإنسان فهذا الكتاب لم يلق قبولا واسعا، بل على العكس يبدو أن غالبية معاصريه انتقدوا ما ورد في هذا الكتاب.

داروين استفز الكثيرين في أوروبا عندما طرح نظرية التطور الثقافي أو الاجتماعي. هو اعتبر أن حياة القبائل البدائية (الهمجية savage) تعبر عن حياة جميع البشر القدماء، وأن الحضارة والمدنية هي مرحلة تالية لمرحلة الهمجية. هذا التصور هو عكس الفكرة التقليدية السائدة في أوروبا آنذاك والتي كانت تقول أن البشر هم في الأصل متحضرون وأوادم ولكن القبائل الهمجية هي شذوذ عن القاعدة (إما بسبب انحرافها وضلالها أو بسبب كونها ليست من البشر أصلا ولكنها من أصل غير بشري).

داروين اعتبر أن جميع البشر على وجه الأرض ينبعون من أصل واحد بدائي. بعض المجتمعات البشرية تطورت وأصبحت متحضرة، وهناك مجتمعات أخرى تأخرت في التطور. الفروقات العرقية بالنسبة لداروين هي ليست أمرا مهما ولكنها مجرد فروقات سطحية.

Ernst Haeckel وغيره رفضوا أفكار داروين وأصروا على مبدأ الأصل المتعدد. هم قاموا بتكييف فكرة الأصل المتعدد مع نظرية التطور. مثلا Haeckel رأى أن الأعراق البشرية المختلفة تطورت من كائنات بدائية مختلفة (ولكنها جميعا تنتمي إلى عائلة القردة الكبيرة). Haeckel ربط أيضا بين الأعراق واللغات. مثلا العرق القوقازي = الآري تطور في الهند من كائنات بدائية تنتمي إلى عائلة القردة الكبيرة، والعرق الأسود تطور في أفريقيا من كائنات قردية أخرى بشكل مستقل. العرق الأسود حسب رأي Haeckel هو أشبه بالقرود لأنه أقل تطورا من العرق الآري.

في بدايات القرن العشرين بدأت فكرة الأصل الهندي أو الآسيوي للعرق الآري تفقد شعبيتها في الأوساط الأوروبية. كثيرون في أوروبا صاروا ينظرون للهنود على أنهم عرق هجين، وأما العرق الآري النقي فهو موجود في شمال أوروبا. هذه النظرية هي التي استند إليها الفكر النازي في ألمانيا.

الحلقة المفقودة

المشكلة الكبيرة التي واجهت Haeckel وغيره من أنصار فكرة الأصل الآسيوي للبشر هي أنهم عجزوا عن إيجاد مستحاثات انتقالية تثبت تطور الكائنات القردية إلى بشر في آسيا. المستحاثات البشرية التي عثر عليها في آسيا هي كلها متطورة نسبيا. هذه المستحاثات تصنف حاليا تحت عنوان “الإنسان المنتصب” Homo erectus. هذا المخلوق هو شبيه نوعا ما بالإنسان المعروف حاليا وهو لا يكفي لإثبات سلسلة التطور من كائن شبيه بالقرد إلى إنسان.

مكتشف “إنسان جاوة” في عام 1891 أطلق عليه مسمى “الإنسان القرد” Pithecanthropus (كلمة píthēkos πίθηκος باليونانية تعني “قرد”، وكلمة ánthrōpos άνθρωπος تعني “رجل” أو “إنسان”). هو كان يريد من هذه التسمية أن يقنع الناس أن هذا الكائن هو صلة الوصل بين القرد والإنسان، ولكن هذا الكائن (الذي يصنف حاليا على أنه Homo = إنسان) لم يكن كافيا لإثبات الصلة.

لم يعثر في قارة آسيا (ولا في أي مكان خارج أفريقيا) على مستحاثات بشرية أكثر بدائية من الكائن المسمى بالإنسان المنتصب. الباحثون يعتقدون الآن أن الإنسان المنتصب هو أول كائن بشري خرج من أفريقيا.

Haeckel حاول أن يحل معضلة غياب المستحاثات عبر اللجوء لنظرية خرافية. هو اقترح أن البشر نشؤوا على قارة Lemuria، التي هي قارة خرافية كان بعض باحثي القرن 19 يفترضون أنها كانت موجودة في عصور قديمة إلى الجنوب من الهند في المحيط الهندي. حسب Haeckel فإن “الحلقة المفقودة” (أي المستحاثات التي تثبت نظرية الأصل الآسيوي) هي مطمورة تحت المحيط الهندي في قارة Lemuria الغارقة.

اكتشاف الحلقة المفقودة

الضربة القاضية لنظرية الأصل الآسيوي للبشر كانت اكتشاف جنس من الكائنات المنقرضة يسمى “القرود الجنوبية” australopithecines (كلمة australis باللاتينية تعني “جنوبي”، وكلمة píthēkos πίθηκος باليونانية تعني “قرد”).

سبب التسمية يعود إلى أن أول مستحاثة لهذا الكائن اكتشفت في جنوب أفريقيا في عام 1924 (تسمى “طفل Taung“). لاحقا تم اكتشاف مستحاثات أخرى عديدة لهذا الكائن ولغيره في شرق أفريقيا. أحد الاكتشافات الشهيرة إعلاميا هو المستحاثة المسماة لوسي Lucy التي اكتشفت في أثيوبيا في عام 1974. هذه المستحاثة تنتمي أيضا للقرود الجنوبية.

طفل Taung (القرد الجنوبي الأفريقي Australopithecus africanus)

باحثو الأنثروبولوجيا يعتبرون أن القرود الجنوبية هي “الحلقة المفقودة”، وطالما أن مستحاثات الحلقة المفقودة وجدت في أفريقيا دون غيرها فهذا يدل على أن البشر نشؤوا في أفريقيا.

الفرق بين الإنسان والقرد

الحد الفاصل الذي يميز على أساسه الأنثروبولوجيون بين مستحاثات الإنسان Homo ومستحاثات القرود الجنوبية australopithecines (أو أي نوع آخر من القرود) هو حجم جوف الجمجمة (الذي يعبر عن حجم الدماغ).

أقدم كائن يعتبره الأنثروبولوجيون إنسانا هو الكائن المسمى “الإنسان الماهر” Homo habilis، وذلك بناء على حجم دماغه الذي يبلغ 600 سم مكعب. هذا الحجم هو أكبر من الحجم المعتاد عند القرود (رغم أن بعض الغوريلات الموجودة حاليا يمكن أن يصل حجم دماغها إلى 700 سم مكعب، والشمبانزي إلى 500 سم مكعب).

إعادة بناء للإنسان الماهر

القرود الجنوبية تشبه الإنسان شكليا ولكن حجم أدمغتها لا يزيد عن حجم أدمغة القرود. حجم أدمغة القرود الجنوبية يتراوح بين 400-500 سم مكعب، وهو حجم لا يزيد كثيرا عن حجم أدمغة بعض القرود الكبيرة الموجودة الآن كالشمبانزي والغوريلات، ولذلك هي لا تصنف مع جنس الإنسان. هناك ميزتان “إنسانيتان” مهمتان تميزان القرود الجنوبية عن بقية القرود الكبيرة great apes، الميزة الأولى هي أن القرود الجنوبية كانت تمشي على رجلين كالإنسان (bipedal)، والميزة الثانية هي أنها كانت تملك أنيابا صغيرة بخلاف الأنياب الضخمة الموجودة عند بقية القرود الكبيرة.

إعادة بناء لــ “لوسي” (القرد الجنوبي العفري Australopithecus afarensis)

الباحثون يصنفون القرود الجنوبية مع الإنسان ضمن قبيلة (tribe) واحدة تسمى Hominini (بالإنكليزية: hominins)، وهذه القبيلة هي فرع من عائلة Hominidae (بالإنكليزية: hominids) التي تضم كل القرود الكبيرة (الإنسان وفق التصنيف البيولوجي الرسمي يعتبر من القرود الكبيرة، ولكن رغم ذلك فإن كلمة القرود الكبيرة عندما تستخدم في سياق عام لا تشمل عادة الإنسان). في السابق كان الباحثون يظنون أن القرود الجنوبية لم تكن قادرة على صنع الأدوات، وكانوا يعتبرون أن الإنسان الماهر هو أول من صنع الأدوات (ومن هنا جاءت تسميته). لهذا السبب كان ظهور الإنسان الماهر يعتبر بداية العصر الحجري القديم الذي بدأ قبل 2,5 مليون سنة (العصر الحجري القديم Paleolithic هو أول العصور الأثرية وهو بدأ مع ظهور كائنات قادرة على صنع الأدوات).

لاحقا تبين أن القرود الجنوبية كانت تصنع الأدوات، وعموما من المعروف حاليا أنه حتى الشمبانزي قادر على صنع الأدوات.

الإنسان الماهر ظهر بعد فترة قصيرة من بداية العصر الجليدي الأخير (Pleistocene). الباحثون يربطون بين الأمرين ويعتبرون أن التغيرات المناخية الكبيرة هي التي حفزت تطور الإنسان الماهر من أحد أنواع القرود الجنوبية. بالنسبة للتفاصيل فهناك عدة نظريات. إحدى النظريات الشهيرة هي نظرية الأدوات التي تربط بين نمو دماغ الإنسان الماهر وبين مهارته في صنع الأدوات (هذه النظرية لمح إليها داروين). حسب هذه النظرية فإن تغير المناخ في العصر الجليدي نحو الجفاف وهلاك النباتات في أفريقيا هو الذي أجبر أجداد الإنسان الماهر (الذين هم نوع من القرود الجنوبية، وهناك خلاف حول أي نوع بالضبط) على الاعتماد بشكل كبير على الأدوات. حاليا هناك أدلة على أن القرود الجنوبية كانت تصنع الأدوات قبل ظهور الإنسان الماهر (خاصة النوع المسمى Australopithecus garhi)، ولكن عندما تغير المناخ في بداية العصر الجليدي صارت الأدوات مهمة جدا لأن القرود الجنوبية صارت تستخدمها للحصول على أنواع أخرى من الغذاء إلى جانب ثمار النباتات التي أهلكها الجفاف. تحديدا القرود الجنوبية صارت تستخدم الأدوات لاقتلاع الفطور وجذور النباتات من باطن الأرض، وتمزيق جيف الحيوانات النافقة واستخراج اللحم منها، وأيضا فتح عظام الحيوانات النافقة واستخراج النَّقْي (النخاع) منها.

هذه المصادر الغذائية أصبحت مهمة للقرود الجنوبية في بداية العصر الجليدي، بمعنى أن هذه المخلوقات انتقلت من الاعتماد على ثمار النباتات إلى الاعتياش من القمامة (scavenging). كلمة scavenger في اللغة الإنكليزية تطلق على المشردين الذين يبحثون عن الرزق في القمامة، وأيضا تطلق على الحيوانات التي تقتات على الجيف النافقة. هذه الكلمة هي الوصف الذي يطلقه كثير من الباحثين الأنثروبولوجيين على البشر الأوائل. هم يعتبرون أن ظهور البشر (Homo) كان بسبب تغير نمط حياة بعض القرود الجنوبية إلى نمط جديد يعتمد على استخراج الغذاء من جيف الحيوانات والنباتات. هذا النمط من الحياة يناسبه صنع الأدوات، ولذلك تطور بعض القرود الجنوبية حتى أصبحوا “الإنسان الماهر” الذي يتميز بدماغ كبير يعطيه المزيد من المهارة في صنع الأدوات. أيضا الدماغ الكبير مناسب لنوعية الغذاء في تلك المرحلة والذي كان غذاء بروتينيا في الأساس.

early Homo

رسم تخيلي لمجموعة من البشر الباكرين

الباحثون وجدوا مستحاثات لكائنات أخرى شبيهة بالقرود الجنوبية ظهرت في نفس فترة ظهور الإنسان الماهر، أي في بداية العصر الجليدي. هناك خلاف حول تصنيف هذه الكائنات. بعض الباحثين يعتبرونها من القرود الجنوبية ويطلقون عليها مسمى “القرود الجنوبية الجَسِيمة (الضخمة)” robust australopiths تمييزا لها عن القرود الجنوبية الأخرى التي يطلقون عليها مسمى “القرود الجنوبية الرشيقة” gracile australopiths، ولكن هناك باحثين آخرين يرون أن هذه الكائنات الجديدة هي جنس شبيه بالبشر ظهر بالتوازي مع ظهور Homo، وهم يطلقون عليها مسمى “الإنسان الرديف” أو “الإنسان الموازي” Paranthropus (كلمة para παρα) باليونانية هي ظرف مكان يعني “بجانب”). هذه الكائنات الموازية تطورت مثل Homo من القرود الجنوبية ولكن بأسلوب مختلف:

By 2.7 million years ago the later, robust australopiths had evolved. These species had what scientists refer to as megadont cheek teeth—wide molars and premolars coated with thick enamel. Their incisors, by contrast, were small. The robusts also had an expanded, flattened, and more vertical face than did gracile australopiths. This face shape helped to absorb the stresses of strong chewing. On the top of the head, robust australopiths had a sagittal crest (ridge of bone along the top of the skull from front to back) to which thick jaw muscles attached. The zygomatic arches (which extend back from the cheek bones to the ears), curved out wide from the side of the face and cranium, forming very large openings for the massive chewing muscles to pass through near their attachment to the lower jaw. Altogether, these traits indicate that the robust australopiths chewed their food powerfully and for long periods.

Other ancient animal species that specialized in eating plants, such as some types of wild pigs, had similar adaptations in their facial, dental, and cranial anatomy. Thus, scientists think that the robust australopiths had a diet consisting partly of tough, fibrous plant foods, such as seed pods and underground tubers. Analyses of microscopic wear on the teeth of some robust australopith specimens appear to support the idea of a vegetarian diet, although chemical studies of fossils suggest that the southern robust species may also have eaten meat.

[…]

Many scientists believe that robust australopiths represent a distinct evolutionary group of early humans because these species share features associated with heavy chewing… Paleoanthropologists who strongly support this view think that the robusts should be classified in the genus Paranthropus, the original name given to the southern species.

[…]

The last robust australopiths died out about 1.4 million years ago. At about this time, climate patterns around the world entered a period of fluctuation, and these changes may have reduced the food supply on which robusts depended. Interaction with larger-brained members of the genus Homo, such as Homo erectus, may also have contributed to the decline of late australopiths, although no compelling evidence exists of such direct contact. Competition with several other species of plant-eating monkeys and pigs, which thrived in Africa at the time, may have been an even more important factor. But the reasons why the robust australopiths became extinct after flourishing for such a long time are not yet known for sure.

Microsoft Encarta 2009

القرود الجنوبية الجَسِيمة تأقلمت مع تغير المناخ بأن تطورت جماجمها بحيث صارت قادرة على مضغ المواد القاسية بما في ذلك الفطور والجذور التي تنمو تحت الأرض وربما أيضا جيف الحيوانات. هذه المقاربة تختلف عن مقاربة الإنسان الماهر الذي اعتمد على الأدوات بدلا من الاعتماد على أسنانه. في النهاية هذه الكائنات انقرضت ولم تستمر، رغم أنها عاشت لفترة طويلة من الزمن إلى جانب الإنسان الماهر وإلى جانب أحفاد الإنسان الماهر كالإنسان المنتصب.

إذن بناء على هذا الكلام فإن القرود الجنوبية الرشيقة انقسمت إلى قسمين في مواجهة محنة العصر الجليدي، قسم صار يعتمد على الأدوات لاستخلاص الغذاء، وهذا القسم نما دماغه وتحول إلى Homo، وقسم آخر ظل يعتمد على أسنانه لاستخلاص الغذاء، وهذا القسم نما فكاه ونمت عظام جمجمته للتكيف مع قساوة المواد التي يأكلها وتحول إلى القرود الجنوبية الجسيمة، ولكنه في النهاية انقرض.

إلى جانب هذين الكائنين هناك كائن ثالث شبيه بهما يعتقد عدد من الباحثين أنه كان موجودا في تلك الفترة. هذا الكائن لم يعثر منه سوى على بقايا محطمة، ولكن الباحثين درسوا هذه البقايا وهم يرون أنها ليست للرجل الماهر ولا للقرود الجنوبية الجسيمة. هم يرون أنها لكائن شبيه بالإنسان الماهر ولكنه “أرشق” منه ودماغه أكبر قليلا ويصل إلى 750 سم مكعب. هذا الكائن سمي بـ “إنسان رودولف” Homo rudolfensis نسبة إلى بحيرة تُركانا Turkana في كينيا التي كانت تسمى سابقا ببحيرة رودولف. ولكن كالعادة هناك باحثون رفضوا هذا التصنيف وهم يرون أن هذه المستحاثات يمكن أن تكون لقرود جنوبية رشيقة ظلت تعيش في العصر الجليدي.

النظرية الأشيع لدى الباحثين على ما أعتقد هي أن جنس Homo تطور من أحد أنواع القرود الجنوبية الرشيقة (هناك على الأقل ثلاثة أنواع من القرود الجنوبية الرشيقة يقال أن Homo نشأ من أحدها هي Australopithecus afarensis و Australopithecus africanus و Australopithecus garhi). بعد ذلك تمايز Homo إلى عدد من الأنواع أو الأعراق منها الإنسان الماهر وإنسان رودولف وربما أنواع أخرى غير معروفة الآن. الإنسان الماهر وإنسان رودولف يطلق عليهما مسمى “الإنسان الباكر” Early Homo. بعد هذين الكائنين هناك مجموعة من المستحاثات يطلق عليها مسمى “الإنسان المتوسط”Middle Homo . في المقال القادم سأتحدث بإيجاز عن هذه الأنواع وعن الأنواع التالية لها.

الجزء التالي

 

5 آراء حول “تطور الإنسان (1)

  1. ما تنفك مقالاتك عن ابهاري بقدرتك على تجميع المعلومات والأفكار وتحليلها شقيقي هاني..
    بأنتظار القادم..
    دمتم بود
    🙂

  2. شكرا جدا جزيلا هاني … تركت هذه الصفحة بالبوكمارك لحتى ارجع اقراها شي يوم وهلئ قريت و رح كمل عباقي الاجزاء … يعطيك العافية ..
    هاني في موقع للباحثين السوريين ليش ما بتشارك معون بافاكارك المميزة و بتساعد ببناء الانسان في سوريا ؟؟؟

اترك رداً على ali إلغاء الرد