مجددا عن الهيمنة الذكورية وأصل الزواج الأحادي

في مقال سابق تحدثت عن موضوع البطريركية (حكم الذكور) وذكرت النظرية التي تربط ظهور البطريركية بظهور مفهوم الأبوة قبل بضعة آلاف من السنين.

هيمنة الذكور على الإناث هي موجودة لدى الكثير من الحيوانات، بما في ذلك الرئيسيات (هي موجودة لدى كل القرود الكبيرة great apes).

هل ظهور الهيمنة الذكورية لدى القرود هو مرتبط باكتشاف الأبوة؟

لا أظن ذلك. هذا الكلام ليس له معنى.

على ما يبدو فإن الهيمنة الذكورية في عالم الحيوان هي فرع من ظاهرة أعم هي ظاهرة الطبقية dominance hierarchy.

المجتمعات الحيوانية عموما لا تقوم على مبدأ المساواة بين الأفراد egalitarianism، ولكنها تقوم على الطبقية.

إذا كانت هناك عدة طبقات في المجتمع فهذا يسمى linear dominance hierarchy، وإذا كان هناك فرد واحد يتحكم بكل المجتمع فهذا يسمى despotism.

القرود لا تعرف شيئا اسمه المساواة. هناك دائما تفاوت طبقي في مجتمعات القرود.

ما يحدد طبقة القرد هو خصائصه الجسمانية (حجمه وقوته إلخ). القرد الأقوى يتحكم بالقرد الأضعف.

القرد الأقوى يحصل على حصة أكبر من الغذاء، ويحصل على فرص أكبر للتزاوج مع الإناث.

هيمنة الذكور على الإناث في مجتمع القرود هي مرتبطة ربما بثنائية الشكل الجنسية sexual dimorphism. القرود الذكور هم أقوى بدنيا من الإناث، وهذا ربما هو سبب هيمنتهم على الإناث.

الباحثون يرون أن ثنائية الشكل الجنسية تنشأ في مجتمع لا يطبق الزواج الأحادي monogamy.

معنى الزواج الأحادي هو أن يتزوج الذكر من أنثى واحدة فقط. في حال عدم تطبيق الزواج الأحادي فإن الذكر يسعى للتواصل جنسيا مع عدد كبير من الإناث.

الإناث في أغلب أنواع الحيوانات هن أكثر انتقائية من الذكور في موضوع التزاوج، بمعنى أن الأنثى تضع معايير عالية نسبيا للذكر الذي يمكن أن تقبل بالتزاوج الجنسي معه. هذه الظاهرة تسمى mate choice.

السؤال هو لماذا تضع الإناث معايير أعلى من معايير الذكور للتزاوج الجنسي؟

الجواب هو نظرية تسمى parental investment. هذه النظرية تقول أن الإناث ينفقن من الوقت والجهد في موضوع التكاثر أكثر مما ينفقه الذكر، وبالتالي الأنثى يجب أن تكون أكثر حذرا من الذكر في اختيار شريكها الجنسي لأن هناك كما أكبر من المخاطرة في عملية التكاثر بالنسبة لها.

تشارلز داروين ميز بين ظاهرتين تتحكمان في عملية التطور:

  • الانتخاب الطبيعي natural selection
  • الانتخاب الجنسي sexual selection

معنى الانتخاب الطبيعي هو أن التطور evolution يفضل الخصائص التي تناسب بقاء النوع survival of species. مثلا التطور يفضل زيادة الذكاء عند البشر لأن الذكاء يناسب بقاء البشر. أيضا التطور يفضل البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية لأن البكتيريا التي لا تقاوم المضادات الحيوية هي عرضة للفناء. التطور يفضل الحشرات المقاومة للمبيدات الحشرية لأن الحشرات التي لا تقاوم المبيدات الحشرية ستفنى، وهكذا.

الانتخاب الجنسي يتعلق بمعدل تكاثر الفرد reproductive success. التطور يفضل الأفراد القادرين على التكاثر بشكل أكبر من غيرهم.

الفرد الذي ينجب أكثر من غيره هو “أنسب” في منظور الانتخاب الجنسي. مفهوم المناسبة fitness هو جوهري في نظرية التطور (شعار نظرية التطور هو “البقاء للأنسب” survival of the fittest). أي شيء إيجابي من منظور الانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الجنسي يجعل الفرد أنسب من غيره.

الذكر الأنسب في منظور الانتخاب الجنسي هو الذكر الأقدر على إنجاب الأبناء. لهذا السبب ذكور الحيوانات يسعون للتزاوج مع أكبر عدد ممكن من الإناث، لأن هذا يزيد من تكاثرهم وبالتالي “مناسبتهم”.

الأمور التي تجعل الذكر أنسب يمكن أن تجعل الأنثى أقل مناسبة. مثلا التزاوج المكثف يجعل الذكر أنسب لأنه يزيد من احتمالات تكاثره، ولكن التزاوج المكثف يمكن أن يضر بالأنثى، وبالتالي لدينا هنا تضارب في المناسبة بين الذكر والأنثى. مثل هذه الحالة تسمى sexual conflict أو sexual antagonism.

التزاوج المكثف هو من حيث المبدأ يفيد الأنثى كما الذكر، لأن مصلحة الأنثى هي إنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء، ولكن الإنجاب بالنسبة للأنثى هو مسألة عالية المخاطرة لأنه يتضمن عدة مراحل طويلة (حمل وولادة وإرضاع). لو فرضنا أن الأنثى خسرت طفلها أثناء الولادة فهذا يعني أنها أضاعت شهور الحمل التسعة دون أن تستفيد منها شيئا (ناهيك عن الأضرار البدنية والصحية). الذكر خلال تسعة شهور يمكنه نظريا أن يتزاوج مع آلاف الإناث (وبالتالي ينجب آلاف الأبناء) دون أن يخسر شيئا يذكر من الناحية البدنية والصحية، أما الأنثى فهي تعطل نفسها لمدة تسعة شهور على أمل إنجاب طفل واحد فقط، أي أن هناك فرقا كبيرا في نسبة المخاطرة.

هذا هو معنى نظرية الاستثمار الوالدي parental investment. فرص التكاثر بالنسبة للأنثى هي محدودة مقارنة مع الذكر، وبالتالي الأنثى يجب أن تكون أكثر حرصا في استثمار الفرص. لو تزاوجت الأنثى مع ذكر مريض أو ضعيف فهذا يزيد من احتمالات موت الطفل أو فشله تكاثريا، وبذلك تكون الأنثى قد خسرت مناسبتها (فشل الأنثى في التكاثر يعني أنها غير مناسبة).

بما أن الإناث هن أكثر انتقائية من الذكور فهذا يؤدي إلى ظهور التنافس بين الذكور على الإناث. التنافس بين الذكور هو محفز تطوري من شأنه تغيير أشكال الذكور نحو أشكال تساعد على كسب الإناث، وهذا هو سبب ظهور ثنائية الشكل الجنسية.

ما يلي من ويكيبيديا:

The sexual selection concept arises from the observation that many animals evolve features whose function is not to help individuals survive, but help them to maximize their reproductive success. This can be realized in two different ways:

  • by making themselves attractive to the opposite sex (intersexual selection, between the sexes); or
  • by intimidating, deterring or defeating same-sex rivals (intrasexual selection, within a given sex).

Thus, sexual selection takes two major forms: intersexual selection (also known as ‘mate choice’ or ‘female choice’) in which males compete with each other to be chosen by females; and intrasexual selection (also known as ‘male–male competition’) in which members of the less limited sex (typically males) compete aggressively among themselves for access to the limiting sex. The limiting sex is the sex which has the higher parental investment, which therefore faces the most pressure to make a good mate decision.

الصراع بين الذكور للوصول إلى الإناث يتجسد بشكلين، شكل سلمي يقوم على مبدأ السعي لكسب إعجاب الإناث (هذا الشكل يسمى intersexual selection)، وشكل آخر غير سلمي يقوم على مبدأ إقصاء المنافسين بالقوة (هذا الشكل يسمى intrasexual selection).

طاووس ذكر يستعرض جماله أمام أنثى بهدف إغرائها جنسيا. مثال الطاووس هو من الأمثلة التي طرحها داروين في كتابه The Descent of Man and Selection in Relation to Sex الذي شرح فيه مفهوم الانتخاب الجنسي. ريش الطاووس المزركش ليست له فائدة في موضوع بقاء النوع بل على العكس هو يعيق بقاء النوع بسبب حجمه الكبير وصعوبة التصرف به، بالتالي داروين رأى أن هذا الريش لا يمكن تفسيره وفق مبدأ الانتخاب الطبيعي. داروين رأى أن هذا الريش هو مثال على الانتخاب الجنسي لأن وظيفته في الأصل هي إغراء الإناث بهدف إقناعهن بالتزاوج مع هذا الذكر دون غيره.
الذكر على اليمين والأنثى على الشمال. هذه الصورة تبين ثنائية الشكل الجنسية لدى الطائر المسمى Common Pheasant

الصراع السلمي لكسب إعجاب الإناث يؤدي في المحصلة إلى “تحلية” الذكور وجعلهم أكثر جاذبية للإناث، أما الصراع غير السلمي فيؤدي إلى تنمية القوة البدنية للذكور وجعلهم أكثر قدرة على القتال والعراك. النوع الثاني تحديدا هو الذي أدى إلى هيمنة الذكور على الإناث، لأن الصراع البدني المستمر بين الذكور جعلهم أقوى بدنيا من الإناث، وفي عالم الحيوان الأقوى بدنيا يتحكم بالأضعف.

ما سبق هو نظرية تقليدية تفسر ظهور الهيمنة الذكورية على الإناث. هناك نظريات أخرى غير هذه النظرية، ولكن الآن أنا لن أتطرق سوى لهذه النظرية.

الزواج الأحادي

الزواج الأحادي monogamy هو ظاهرة نادرة نسبيا في عالم الحيوان. من مميزات الكائنات التي تمارس الزواج الأحادي أنها لا تبدي قدرا كبيرا من ثنائية الشكل الجنسية. بعض الباحثين يقولون أن ثنائية الشكل الجنسية قلت تدريجيا في مستحاثات الجنس البشري منذ زمن القرود الجنوبية وحتى يومنا هذا، ما يدل على أن الزواج الأحادي ليس ميزة أصلية في عائلة القرود الكبيرة ولكنه بدعة ظهرت لدى الجنس البشري.

أنا في السابق ورطت نفسي وذكرت نظرية تتعلق بسبب ظهور الزواج الأحادي لدى البشر. هذا الموضوع ما كان يجب أن أخوض فيه لأنه موضوع جدلي وفيه كلام كثير.

النظرية التي ذكرتها سابقا حول سبب ظهور الزواج الأحادي هي نظرية تقليدية شائعة، ولكنها ليست محل إجماع. هناك باحثون يرفضون هذه النظرية ويطرحون نظريات أخرى.

بعض الباحثين يرون أن هناك علاقة بين نمط ترحال الإناث female ranging patterns وبين ظهور الزواج الأحادي. في رأي هؤلاء أن الزواج الأحادي يظهر عندما يعجز الذكر عن مجاراة ترحال الإناث وتنقلاتهن، خاصة وأن هناك ذكورا آخرين ينافسونه عليهن. عندما يكون انتشار الإناث واسعا فإن المحافظة عليهن تصبح صعبة والأسهل هو الاكتفاء بأنثى واحدة (وفقا لمنطق هذه النظرية).

هناك باحثون يرون أن السبب الرئيسي لظهور الزواج الأحادي هو حماية الأطفال الرضع من القتل:

http://www.pnas.org/content/early/2013/07/24/1307903110

Although common in birds, social monogamy, or pair-living, is rare among mammals because internal gestation and lactation in mammals makes it advantageous for males to seek additional mating opportunities. A number of hypotheses have been proposed to explain the evolution of social monogamy among mammals: as a male mate-guarding strategy, because of the benefits of biparental care, or as a defense against infanticidal males. However, comparative analyses have been unable to resolve the root causes of monogamy. Primates are unusual among mammals because monogamy has evolved independently in all of the major clades. Here we combine trait data across 230 primate species with a Bayesian likelihood framework to test for correlated evolution between monogamy and a range of traits to evaluate the competing hypotheses. We find evidence of correlated evolution between social monogamy and both female ranging patterns and biparental care, but the most compelling explanation for the appearance of monogamy is male infanticide. It is only the presence of infanticide that reliably increases the probability of a shift to social monogamy, whereas monogamy allows the secondary adoption of paternal care and is associated with a shift to discrete ranges. The origin of social monogamy in primates is best explained by long lactation periods caused by altriciality, making primate infants particularly vulnerable to infanticidal males. We show that biparental care shortens relative lactation length, thereby reducing infanticide risk and increasing reproductive rates. These phylogenetic analyses support a key role for infanticide in the social evolution of primates, and potentially, humans.

ظاهرة قتل الأطفال الرضع infanticide هي شائعة في عالم الحيوان (راجع مقالات ويكيبيديا). هذه الظاهرة كانت شائعة أيضا لدى البشر إلى وقت قريب. الباحثون يرون أن هناك أكثر من سبب وراء هذه الظاهرة. أحد الأسباب هو الخوف من الإملاق (الفقر).

في كثير من المجتمعات البشرية كان يتم تقديم الأطفال كقرابين وأضاحي للآلهة. هذه الممارسة كانت شائعة لدى الكنعانيين في سورية الكبرى والمغرب العربي. اليونانيون والرومان كان يرفضون التضحية بالأطفال ويعتبرون هذا عملا بربريا، ولكن رغم ذلك فإن ظاهرة رمي الأطفال الرضع على قارعة الطريق كانت شائعة نسبيا في اليونان وإيطاليا. السبب وراء هذه الظاهرة هو في الأساس سبب اقتصادي. إذا كان الإنسان لا يحتمل كلفة تربية طفل فإنه كان يلقيه على قارعة الطريق (إذا كان الطفل محظوظا فإن الآلهة تنقذه وتهيء له شخصا يربيه كما ورد كثيرا في القصص اليونانية القديمة).

المصريون القدماء كانوا لا يقبلون قتل الأطفال الرضع وكانوا يلتقطون الأطفال المرميين في الشوارع والمزابل ويربونهم. الكاتب اليوناني إسطرابون قال أن من خصائص المصريين أنهم يربون جميع الأطفال بلا استثناء. حسب معلوماتي فإن مصر القديمة كانت ربما أغنى بلد في العالم بالغذاء، وهذا ربما يكون السبب الذي جعل المصريين يهتمون بحياة الأطفال.

قتل الأطفال الرضع كان موجودا لدى عرب الجاهلية، بدليل الآية القرآنية التي تقول {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. من المعروف أيضا أن العرب كانوا يئدون البنات الرضع لسبب مركب اقتصادي-اجتماعي. بما أن عرب الجاهلية كانوا في الغالب فقراء فمن المتوقع أنهم كانوا يمارسون قتل الأطفال بكثرة نسبية.

قتل الأطفال لسبب اقتصادي هو موجود أيضا في عالم الحيوان. إناث القرود من الممكن أن يقتلن أطفالهن عندما لا يكون هناك غذاء كاف (ومن الممكن حتى للأم أن تأكل طفلها)، ولكن هذا نادر.

قتل الأطفال الرضع في عالم الحيوان يحدث في الغالب لسبب جنسي. الذكور في الغالب هم الذين يقتلون أطفال الإناث، لأن الأنثى في فترة الإرضاع لا تكون قادرة على التزاوج.

إناث غالبية الثدييات لا تمتلك الرغبة الجنسية سوى في فترة محددة من الدورة الشهرية هي الفترة يبلغ فيها إفراز الإستروجين ذروته قبيل الإباضة ovulation. هذه الفترة تسمى فترة النزو أو الشبق estrus. خلال هذه الفترة الأنثى تكون خصبة (مهيئة للحمل والإنجاب).

طبعا الدورة الشهرية لدى إناث غالبية الثدييات لا تأتي في كل شهر. بعض الثدييات تأتيها الدورة مرة واحدة في العام، وهناك ثدييات تأتيها الدورة مرتين أو بضعة مرات في العام. هذه الدورات لا تنتهي بالضرورة بالنزف الطمثي الذي يحوي بطانة الرحم الساقطة (كما هو الحال لدى البشر) ولكنها في الغالب تنتهي دون نزف طمثي. النزف لو حصل فهو يكون خلال فترة الشبق وهو لا يحوي بطانة الرحم (سقوط بطانة الرحم يحصل عند الرئيسيات وبعض أنواع الوطاويط والفيلة). الدورات التي تنتهي بسقوط بطانة الرحم تسمى دورات شهرية menstrual cycles، والدورات التي لا تنتهي بسقوط بطانة الرحم تسمى دورات شبقية estrus cycles. غالبية الثدييات تملك دورات شبقية وليس دورات شهرية. (المعلومة التقليدية التي يعرفها جميع الناس هي أن إناث البشر لا يمتلكن فترات شبق، ولكن في الآونة الأخيرة ظهرت عدة دراسات تقول أن الرغبة الجنسية لدى إناث البشر تزداد قبيل الإباضة، ما يعني أن فترة الشبق هي موجودة لدى البشر ولو بشكل أثري vestigial).

خلاصة ما سبق هي أن الرغبة الجنسية لدى إناث غالبية الثدييات لا تظهر سوى في فترات محدودة من العام. طبعا الشبق لا يمكن أن يحصل لدى الإناث المرضعات. لهذا السبب الذكور كثيرا ما يقتلون الأطفال الرضع بهدف تسريع ظهور الشبق لدى أمهاتهم.

حسب الدراسة التي أشرت إليها في الأعلى فإن طول فترة الرضاعة لدى الرئيسيات أدى إلى زيادة ظاهرة قتل الأطفال الرضع، وهذا بدوره أدى إلى ظهور الزواج الأحادي بهدف التقليل من ظاهرة قتل الأطفال الرضع.

هذه الفكرة لا تتعارض مع النظرية التي طرحتها سابقا. أنا قلت أن هدف الزواج الأحادي هو توفير المساعدة للمرأة خلال الحمل والولادة والإرضاع. حماية طفل المرأة من القتل هو شكل من أشكال المساعدة (هو في الحقيقة أهم أشكال المساعدة لأن المرأة احتاجت للمساعدة أصلا بسبب هذا الطفل).

إنجاب الطفل البشري هو مسألة صعبة من عدة نواح. المرأة لكي تنجب الطفل تحتاج للغذاء والراحة لمدة طويلة، وهي تحتاج لحمايتها وحماية طفلها. ظاهرة قتل الأطفال (سواء لسبب جنسي أم بسبب الإملاق) هي ظاهرة شائعة في تاريخ البشر كما تدل على ذلك الآثار والكتابات التاريخية (بما في ذلك الكتاب اليهودي والقرآن). هذا يدل أكثر على أن إنجاب الأطفال البشريين وتربيتهم لم يكن مسألة سهلة. بالتالي الزواج الأحادي كان ضرورة لحفظ النوع البشري.

البشر عندما انتقلوا إلى الزواج الأحادي خسروا ثنائية الشكل الجنسية، والمتوقع هو أن هيمنة الذكور على الإناث خفت أيضا. المجتمعات البشرية القديمة كانت قريبة من مبدأ المساواة egalitarianism، ولكن التمييز والطبقية وهيمنة الذكور على الإناث هي أمور عادت من جديد بعد ظهور المجتمعات الزراعية قبل بضعة آلاف من السنين. ما هو سبب عودة هذه الأمور؟ أظن أن السبب هو اقتصادي. اكتشاف الزراعة وقيام المجتمعات الإقطاعية أدى إلى زيادة الثروة لدى بعض الأشخاص. هؤلاء الأشخاص صاروا يسعون للتحكم في غيرهم، ومن هنا نشأت الطبقية.

الطبقية تنشئ عندما يكون بعض الناس أقوى من غيرهم. من يمتلك الأراضي الزراعية هو أقوى من الذين لا يملكون شيئا.

بالنسبة للأبوية أو هيمنة الذكور على النساء فهي ظهرت بعد ظهور الإقطاع كما يقول بعض الباحثين. من الممكن أن سبب ظهورها هو اكتشاف فكرة الأبوة. هناك دلائل على أن البشر قديما لم يكونوا يفهمون أن كل طفل له أب وحيد. هم كانوا يظنون أن الطفل الواحد يمكن أن يكون له أكثر من أب (أو ليس له أب مطلقا). عندما فهموا أن الطفل الواحد له أب وحيد تغيرت مقاربتهم لقضايا النساء والزواج.

والله أعلم،

الجينات والهجرات البشرية… معنى haplogroups

في الموضوع الأخير عن التصنيف المورفولوجي لللغات أشرت إلى موضوع العلامات الجينية التي تستخدم لتتبع الهجرات البشرية.

بما أنني أنوي الحديث مستقبلا عن مواضيع تتعلق بالهجرات البشرية فسوف أكتب الآن تعريفا سريعا بماهية العلامات الجينية التي أشرت إليها.

طبعا الإنسان ينشأ في الأساس من خلية cell تسمى البويضة المخصبة fertilized egg (تسمى أيضا zygote). هذه البويضة تحوي 23 زوجا من الكروموسومات chromosomes. الكروموسومات هي مكونة من DNA وRNA وبروتين. الـ DNA هو مكون من نيوكليوتيدات nucleotides. خريطة النيوكليوتيدات المكونة للـ DNA تختلف من إنسان لآخر ومن كائن حي لآخر، أي أنها تشبه بصمة الإصبع مميزة لكل إنسان ولكل كائن حي. خريطة النيوكليوتيدات تسمى الجينوم genome. كل كائن حي له جينوم يختلف عن الكائنات الأخرى، وهذا هو سر الاختلاف بين الكائنات الحية.

الجينوم يحوي أقساما تسمى جينات genes وأقساما أخرى تسمى noncoding DNA. الجينات تمثل 2% فقط من الجينوم البشري. عدد الجينات البشرية هو تقريبا 20 ألف. الجينات هي التي تصنع الاختلافات الظاهرة بين البشر.

الجينوم كما قلنا هو عبارة عن تسلسل أو خريطة للنيوكليوتيدات. الجينوم يختلف من إنسان لآخر بسبب اختلاف النيوكليوتيدات الموجودة في مواقع معينة من الجينوم. عندما يكون هناك اختلاف بين شخصين في النيوكليوتيد أو النيوكليوتيدات الموجودة في موقع معين من الجينوم يقال أن هذين الشخصين يمتلكان أليلين alleles مختلفين عند ذلك الموقع. الأليل إذن هو تسلسل من النيوكليوتيدات قابل للاختلاف بين شخص وآخر.

recombination

كما قلنا فإن الإنسان ينشأ من البيضة المخصبة التي تحوي 23 زوجا من الكروموسومات (أي 46 كروموسوم). نصف هذه الكروموسومات مصدره الأم، والنصف الآخر مصدره الأب.

لكي يتكون الإنسان لا بد للبيضة المخصبة أن تنقسم وتتكاثر، وبعد ذلك يجب على الخلايا الناتجة أن تنقسم وتتكاثر باستمرار لكي يستمر الإنسان في الحياة. الانقسام الخلوي يؤدي إلى ظاهرة تسمى recombination. معنى هذه الظاهرة باختصار هو ان الكروموسومات الأبوية (الكروموسومات الموروثة من الأب) تمتزج مع الكروموسومات الأموية (الكروموسومات الموروثة من الأم).

هذا الرسم من ويكيبيديا يوضح باختصار بعض الآليات التي يحصل بها الامتزاج:

على الرسم يظهر كروموسومان، واحد أموي باللون الأحمر وآخر أبوي باللون الأزرق. بعد الانقسام أصبح هناك أربعة كروموسومات، ولكن الألوان تدل على أن هناك اختلاطا قد حصل بين مكونات الكروموسومات الأبوية والأموية.

هذه الظاهرة تعني أن الكروموسومات الموروثة من الأم والأب لا تبقى على حالها. كل انقسام خلوي يؤدي إلى اختلاط وامتزاج في الجينات. لهذا السبب أشكال وخصائص البشر هي متنوعة جدا. لولا هذه الظاهرة لما كان هناك تنوع كبير في مظاهر البشر وخصائصهم.

ظاهرة الـ recombination تحصل في كل أزواج الكرموسومات ما عدا زوج واحد هو الزوج الذي يسمى “كروموسومات الجنس” (الذي يتألف من الكروموسوم الأموي X والكروموسوم الأبوي Y). هذا الزوج هو الذي يحدد الفرق بين الذكر والأنثى. لو كان هناك امتزاج في هذا الزوج لكان جميع البشر من المخنثين (الجنس المخنث هو خليط من الذكر والأنثى). لو كان جميع البشر مخنثين لما كان هناك تزاوج بين الذكور والإناث ولانهار كل نظام التناسل القائم على مبدأ الجنسين (الذي يسمى “التكاثر الجنسي” sexual reproduction تمييزا له عن التكاثر اللاجنسي asexual reproduction الذي يوجد عند بعض الكائنات التي لا يوجد فيها تمييز بين الذكور والإناث).

طبعا الجينات المسؤولة عن تحديد الفرق بين الذكر والأنثى هي قليلة وليست كثيرة (بضعة جينات)، وكل كروموسوم من كروموسومات الجنس يتسع لأكثر من ألف جين، بالتالي من الممكن نظريا أن يحدث الـ recombination في مناطق بعيدة عن المناطق التي توجد عليها الجينات المهمة. لماذا لا يحدث ذلك؟ الجواب هو أن “الانتخاب الطبيعي” قام بتجميع الجينات المفيدة للذكور على الكروموسوم Y حتى لو لم تكن هذه الجينات مرتبطة بالفرق الأساسي بين الذكر والأنثى (الذي يتعلق بالأعضاء الجنسية والهرمونات). بعض الجينات ربما لا تحول الأنثى إلى ذكر ولكنها رغم ذلك تفيد الذكر ولا تفيد الأنثى، والعكس صحيح.

الذكر يملك في كل خلية من خلاياه كروموسوما من النوع Y وآخر من النوع X. الكروموسوم Y هو دائما موروث من الأب (لأن الأم لا تملكه)، وبالتالي الكروموسوم X هو دائما موروث من الأم. طالما أن الامتزاج بين هذين الكروموسومين ممنوع فهذا يعني أن التسلسل النيوكليوتيدي الموجود على الكروموسوم Y لدى الابن هو نفس التسلسل الموجود لدى أبيه دونما تغيير.

الأنثى تملك كروموسومين اثنين من النوع X، واحد موروث من الأم وآخر من الأب. لا يوجد طريقة يمكن من خلالها التمييز بين الكروموسوم X الموروث من الأم و الكروموسوم X الموروث من الأب (إلا طبعا لو أجرينا تحليلا لكروموسومات الأب والأم وقارنا الكروموسومات الجنسية لديهما بكروموسومات الابنة).

الطفرات mutations

كل الكائنات الحية الموجودة حاليا هي متحدرة من أصل واحد. الباحثون يعتقدون أن هذا الأصل المشترك “عاش” قبل 3.5 مليار عام تقريبا.

طالما أن كل الكائنات الحية لها أصل واحد فكيف إذن ظهرت الاختلافات بين الكائنات؟

الجواب هو الطفرات mutations. الطفرات هي عبارة عن تغيرات عشوائية تصيب النيوكليوتيدات أثناء عملية الانقسام الخلوي. تراكم الطفرات عبر الزمن (عبر ملايين السنين) أدى إلى الاختلافات الهائلة المشاهدة بين الكائنات الحية.

إحدى الأمور الهامة التي تحسب لتشارلز داروين (الذي عاش في القرن 19) هي أنه تنبأ بأن عملية التطور evolution تتم وفق تغيرات عشوائية تصيب الكائنات الحية، وبعد حوالي 100 سنة تبين بالفعل أن الطفرات هي عشوائية.

الطبيعة وظروف النوع الحي هي التي تقرر ما إذا كان الطفرات التي أصابته هي مفيدة أم غير مفيدة (وهذا هو ما يسمى بالانتخاب الطبيعي natural selection). داروين أخطأ في نقطة وهي أنه ركز كثيرا على فكرة “صراع البقاء” واعتبر أن هذه القضية هي العامل الأساسي الذي يقرر ما إذا كانت الطفرات مفيدة أم غير مفيدة، ولكن لاحقا تبين للباحثين أن المناخ وظروف البيئة هي أهم بكثير من صراع البقاء. التطور يهدف في الأساس لجعل الكائنات الحية تتلائم مع المناخ والبيئة، وليس لجعلها أقوى من غيرها.

الطفرات هي متنوعة من حيث التأثير. بعض الطفرات تصيب الجينات، وهذه قد تؤدي إلى تغيرات مهمة في وظائف الجسم (في كثير من الأحيان تؤدي إلى الأمراض الوراثية والوفاة). هناك طفرات أخرى تصيب المناطق التي لا تحوي جينات (التي تسمى noncoding DNA). هذه الطفرات لا تترك في الأغلب أي تأثير ملحوظ على عمل الجسم.

الطفرات بدأت منذ بدأ تكاثر الكائنات الحية، أي أنها بدأت قبل مليارات السنين، ولكنها طبعا لم تظهر جميعها في نفس الوقت. هناك في الجينوم البشري طفرات قديمة جدا تعود إلى ما قبل ظهور الجنس البشري، وهناك طفرات أخرى أحدث.

الباحثون يستفيدون الآن من الطفرات الحديثة لدراسة أصول البشر وهجراتهم.

إحدى فوائد الطفرات الحديثة هي أنها تساعد في تحديد الأبوة والنسب.

لو فرضنا أن شخصا ظهرت لديه طفرة ما فهناك احتمالان، إما أن هذه الطفرة ستقضي عليه وتقطع نسله (إن كانت مؤذية)، أو أنها ستنتقل إلى أبنائه (إن كانت غير مؤذية). لو تتبعنا هذه الطفرة فيمكننا أن نعرف من هم أبناؤه.

الطفرات التي تستخدم في تحديد الأبوة هي عادة الطفرات التي توجد في أماكن غير مؤثرة من الجينوم (في noncoding DNA). الباحثون يبحثون عن مناطق في الجينوم تسمى short tandem repeats (اختصارا STRs). هذه المناطق هي عبارة عن تسلسل من النيوكليوتيدات (أليل allele) قد يصل طوله إلى مئات النيوكليوتيدات. اختصاصيو الجينات يدرسون عددا من هذه المناطق ويقارنونها بين شخصين أو عدة أشخاص. لو كانت نفس الألائل (جمع أليل) موجودة لدى جميع هؤلاء الأشخاص فهذا يعني أنهم أقرباء (يتحدرون من أصل واحد).

الطفرات التي توجد في STRs تصلح لتحديد الأبوة لأنها تظهر بسرعة نسبية مقارنة بأنواع أخرى من الطفرات، ولكن لو أردنا دراسة تاريخ البشر منذ عشرات آلاف السنين فاستخدام مثل هذا النوع من العلامات هو أمر غير عملي.

الباحثون يدرسون أنواعا أخرى من الطفرات لدراسة الأصول القديمة للبشر. هم في الغالب يدرسون طفرات من نوع يسمى singlenucleotide polymorphism (اختصارا SNP). هذا النوع من الطفرات هو عبارة عن تغير في نيوكليوتيد واحد فقط (ضمن منطقة من الجينوم لا تضم أي جين). هذا النوع من الطفرات هو أبطأ حدوثا من النوع السابق. الباحثون لا يدرسون طفرة واحدة فقط ولكنهم يدرسون مجموعة من الطفرات. إذا كانت نفس الألائل موجودة لدى عدد من الأشخاص فهذا يعني أنهم يتحدرون من أصل واحد.

الدراسات الجينية

أول من استخدم الدراسات الجينية لتحديد أصول البشر هو ربما الباحث الشهير CavalliSforza الذي اعتمد على دراسة زمر الدم. زمر الدم تحددها جينات موجودة على الكروموسومات الجسمية autosomal DNA (الكروموسومات الجسمية هي كل الكروموسومات ما عدا الكروموسومات الجنسية). مشكلة الكروموسومات الجسمية هي أنها تتعرض لـ recombination، أي أنها قابلة للامتزاج.

لاحقا ظهرت دراسات أفضل تعتمد على دراسة الكروموسوم الميتوكوندري mitochondrial DNA. هذا الكروموسوم يوجد داخل الميتوكوندريا التي هي إحدى مكونات الخلية. هذا الكروموسوم يورث من الأم حصرا، وهو لا يمتزج مع كروموسومات الأب. بالتالي دراسة الطفرات الموجودة على هذا الكروموسوم تساعد في تحديد النسب الأموي maternal lineage.

في ثمانينات القرن العشرين تمكن الباحثون من تحديد مجموعة من الطفرات على الكروموسوم الميتوكوندري يتشارك فيها جميع البشر الموجودين في العالم حاليا. هذا يعني أن هذه الطفرات هي موروثة من امرأة واحدة هي أم لجميع البشر الحاليين. الباحثون قدروا عمر هذه المجموعة من الطفرات بحوالي 170,000 عام، أي أن الأم المشتركة لجميع البشر عاشت قبل 170,000 عام تقريبا (هذا الرقم تقريبي جدا لأنه مبني على افتراضات نظرية حول معدل حدوث الطفرات).

لاحقا (ربما في تسعينات القرن العشرين) بدأت دراسة الطفرات على الكروموسوم Y. هذا الكروموسوم يورث من الأب فقط وهو لا يتعرض للامتزاج. الباحثون تمكنوا من تحديد مجموعة من الطفرات على هذا الكروموسوم يشترك فيها جميع الذكور الموجودين في العالم حاليا، ما يعني أنها موروثة من أب مشترك لجميع البشر. في السنوات الماضية كان يقال أن هذا الأب عاش قبل 140,000 عام تقريبا، ولكن مؤخرا تم الإعلان عن اكتشاف طفرات جديدة تدل على أن هذا الأب عاش في زمن أقدم من ذلك.

الأرقام التي يعلن عنها في الدراسات الجينية هي ليست بذات قيمة كبيرة لأن الطريقة التي تُحتسَب بها هذه الأرقام هي تخمينية وتقريبية جدا. من يريد أن يعرف تاريخ ظهور البشر فالأفضل له أن يقرأ في علم الآثار والمستحاثات (أقدم مستحاثة fossil يعتبر كثير من الباحثين أنها تعود للإنسان الحديث عثر عليها قرب نهر أومو في جنوب غرب أثيوبيا، وهي تعود إلى ما قبل 195,00 ألف سنة من الآن).

بعض الباحثين يطلقون مسمى “آدم الكروموسوم YYchromosomal Adam على الأب المشترك لجميع البشر المعاصرين، ومسمى “حواء الميتوكوندرية” Mitochondrial Eve على الأم المشتركة لجميع البشر المعاصرين. في القرن العشرين كان هناك صراع كبير في علم الأنثروبولوجيا بين من يعتقدون بوجود أصل أفريقي حديث لجميع البشر المعاصرين recent African origin of modern humans وبين من يعتقدون بنظرية الأصل المتعدد للبشر المعاصرين multiregional hypothesis. عندما قالت الدراسات الجينية أن “آدم” عاش قبل 140,000 عام احتفل الإعلام بذلك لأنه يدعم وجهة نظر الفريق الأول (وجهة نظر الفريق الثاني هي مكروهة إعلاميا لأنها تعتبر عنصرية).

معنى haplogroup

كلمة haplotype تعني “نوع فردي” (بمعنى “نوع فريد”). المقصود بـ haplotype هو مجموعة من الألائل (أي الطفرات) التي توجد على قطعة من الـ DNA لا تتعرض لـ recombination، أي أن هذه الألائل تنتقل سوية من الأب إلى الابن ولا تتعرض للامتزاج مع ألائل مصدرها الأم. بما أن الكروموسوم Y لا يتعرض لـ recombination من الأساس (إلا جزءا صغيرا منه لا يزيد عن 5%) فهذا يعني أن أية مجموعة من الألائل على هذا الكروموسوم هي haplotype.

كلمة haplogroup تعني “مجموعة فردية” (بمعنى “مجموعة فريدة”). المقصود بكلمة haplogroup هو مجموعة من الـ haplotypes التي تتشابه فيما بينها بسبب رجوعها إلى أصل مشترك. كلمة haplogroup هي مفهوم ذو طابع تصنيفي. لنفرض أن شخصا كان لديه haplotype معين وأنه قام بتوريث هذا الـ haplotype لأبنائه، وأبناؤه ورثوه لأبنائهم، وهكذا. مع مرور الزمن سوف تنشأ بعض التغيرات الطفيفة في هذا الـ haplotype. مثلا من الممكن إن فحصنا أحد أحفاد هذا الرجل أن نجد أن أحد الألائل المكونة للـ haplotype قد تغير لديه. طالما أن التغير طفيف فهو لن يمنعنا من معرفة علاقة النسب التي تربط بين هذا الرجل وبين بقية أقاربه. مفهوم الـ haplogroup يغطي التغيرات الطفيفة التي قد تنشأ في haplotype معين. الباحثون يقومون بتصنيف الـ haplotypes المتشابهة (ذات الأصل المشترك) ضمن مجموعات كبيرة ويطلقون على هذه المجموعات مسمى haplogroups. الهدف من ذلك هو تسهيل دراسة تاريخ البشر.

مفهوم الـ haplogroup يشبه مفهوم العائلة اللغوية language family في علم اللغويات. باحثو اللغات يصنفون اللغات المتشابهة ضمن “عائلات”، والهدف هو تسهيل دراسة لغات العالم. نفس الأمر يقوم به باحثو الجينات حيث أنهم يصنفون الـ haplotypes المتشابهة ضمن مجموعات كبيرة يطلقون عليها مسمى haplogroups، والهدف هو تسهيل دراسة أصول البشر.

ما يقوم به الباحثون هو أنهم يأخذون عينة من خلايا شخص (مثلا من بطانة الفم) ويستخلصون منها DNA، ثم يقومون بتكثير الـ DNA بطريقة تسمى polymerase chain reaction (اختصارا PCR). بعد ذلك يقومون بإجراء مجموعة من التحاليل أو الاختبارات للبحث عن الطفرات في مواقع محددة على الكروموسوم Y (أو الكروموسوم الميتوكوندري). بناء على الطفرات التي يجدونها فإنهم يقومون بتحديد الـ haplotype الذي يحمله الشخص، وبعد ذلك يقومون بتصنيف الـ haplotype ضمن haplogroup معين (وفي حال لم يتمكنوا من تصنيفه فإنهم ربما يعلنون عن haplogroup جديد، وهذا كثيرا ما يحصل في مثل هذه الدراسات).

تسمية المجموعات الجينية

الباحثون يسمون الـ haplogroups بأحرف الهجاء. مثلا Haplogroup A و Haplogroup B إلخ.

مثلما أن العائلات اللغوية تتفرع فإن الـ haplogroups تتفرع أيضا. الرابط التالي من ويكيبيديا يبين شجرة المجموعات الجينية:

http://en.wikipedia.org/wiki/Template:YDNA

هذه الشجرة بحاجة لتحديث. وفقا لهذه الشجرة فإن آدم أنجب عائلتين من العلامات الجينية، العائلة الأولى تسمى Haplogroup A1 (هذه العائلة هي التي يتحدر منها كل البشر المعاصرين تقريبا)، والعائلة الثانية تسمى Haplogroup A0 (هذه العائلة ينتمي لها بعض الأشخاص في غرب أفريقيا). في الآونة الأخيرة أُعلِن عن عائلتين جديدتين أقدم من هاتين العائلتين، الأولى سميت Haplogroup A0T (هذه العائلة تضم العائلتين سابقتي الذكر) والثانية سميت Haplogroup A00 (تضم بعض الأشخاص في غرب أفريقيا).

معظم الفروع الباكرة للشجرة الجينية تنحصر في أفريقيا. هذا ليس مفاجئا لأن علماء الأنثروبولوجيا كانوا يقولون منذ زمن بعيد أن البشر ظهروا في أفريقيا، ولكن العجيب هو أن الفروع التي يعلن عنها توجد في غرب أفريقيا وليس في شرقها. منطقة غرب أفريقيا هي منطقة غير مدروسة جيدا من الناحية الأثرية ولكن الباحثين تقليديا كانوا يقولون أن البشر المعاصرين وصلوا إلى هذه المنطقة في زمن متأخر (بعضهم قالوا أن البشر المعاصرين وصلوا إلى الصين قبل أن يصلوا إلى غرب أفريقيا). نتائج الدراسات الجينية توحي بأن آدم عاش في غرب أفريقيا وليس في شرقها. هذا يتعارض تماما مع المفاهيم التقليدية. في الحقيقة هناك أمور عديدة غامضة في نتائج الدراسات الجينية. أحد الأسباب هو أن هذه الدراسات ما تزال حديثة العهد، وهي في الغالب تتم على أعداد قليلة من البشر. لهذا السبب النتائج تكون في بعض الأحيان غير دقيقة أو مضللة. كثير من الأمور التي أعلنت عنها الدراسات في السابق تبين لاحقا أنها خاطئة.

مثلا العائلة التي تسمى Haplogroup R1b (والتي هي إحدى أهم العائلات في العالم) قيل في البداية أنها تعبر عن سكان غرب أوروبا في العصر الجليدي. حاليا الدراسات صارت تقول أن أصل هذه العائلة يعود إلى وسط آسيا أو غربها وأنها دخلت إلى غرب أوروبا في عصر البرونز، أي أن الكلام انقلب رأسا على عقب.

مثل هذه الأمور تحدث كثيرا، وما يفاقم المشاكل أكثر هو أن بعض الناس يسيئون فهم موضوع العلامات الجينية ويحاولون أن يربطوا العلامات بلغات أو أعراق أو شعوب معينة. موضوع العلامات الجينية تحول لدى بعض الناس إلى مجال جديد للتخريف والشعوذة.

تسميات العائلات الجينية تتغير باستمرار مع ظهور اكتشافات جديدة. مثلا العائلة المسماة Haplogroup T كانت تسمى قبل بضعة سنوات باسم Haplogroup K2. لهذا السبب المفروض هو أن يتم ذكر اسم طفرة مميزة للعائلة لتفادي اللبس. مثلا اسم العائلة Haplogroup T يجب أن يكتب هكذا Haplogroup TM184 (بإضافة اسم الطفرة M184).

الباحثون يسمون فروع العائلات بأرقام. مثلا العائلة Haplogroup R لها فرعان، الأول هو Haplogroup R1 والثاني هو Haplogroup R2. إذا كان اسم العائلة ينتهي برقم فإن أسماء الفروع تكون بأحرف صغيرة، مثلا العائلة Haplogroup R1 لها فرعان، الأول هو Haplogroup R1a والثاني هو Haplogroup R1b. العائلة Haplogroup R1a تتفرع إلى Haplogroup R1a1 و Haplogroup R1a2 إلخ.

أحدث التسميات والطفرات هي موجودة على هذا الموقع:

http://www.isogg.org/tree/index.html