أصل الأتراك (10)

في الأجزاء الماضية استعرضت بشكل وجيز ماضي سهل البحر الأسود-قزوين وآسيا الوسطى وحوض تاريم وذكرت خلاصة مفادها أن الهندو-أوروبيين سكنوا هذه المناطق منذ بداية عصر البرونز (هم في الحقيقة الذين أدخلوا عصر البرونز إلى هذه المناطق).

إقرأ المزيد

أنساب التوراة (5) (ملحق)

في مقال أنساب التوراة (5) تحدثت عن اسم “نوفل” وطرحت فكرة أن هذا الاسم مشتق من الجذر “نوف” وأنه اسم مركب. هذا الطرح كان متسرعا.

الجذر “نفل” في اللغة العربية يعني “العطاء”، وكلمة “نوفل” تعني “المعطاء”، وهذا هو نفس معنى كلمة “منعم” التي كان التدمريون يطلقونها على الإله “رضا”، أي أن كلمة “نوفل” هي على ما يبدو مجرد مرادف لـ”منعم”، والمقصود باسم “نوفل زفر” هو الإله رضا. أي أن الخلاصة هي ما يلي:

نَوْفَل زُفَر = رُضْوان زُفَر = مُنْعِم = رُضا

هذه الأسماء هي كلها لإله واحد هو الإله المعروف في أوجاريت باسم “سلم” أو Šalim، وفي ما بين النهرين Šalim/Salim، وفي التوراة שָׁלֵם Šālēm. اسم هذا الإله يظهر في اسم مدينة “أورشليم” الذي ورد في ألواح العمارنة هكذا Urušalim (uru = مدينة، Šalim = سَلِم).

أما كلمة “نفيلين” التوراتية فهي مشتقة من الجذر “نفل” وهي اسم مفعول على وزن فعيل وتعني “المسقَطين” إلى العالم السفلي، وهذا هو نفس معنى كلمة “رفئين” التي تعني في الأصل سكان العالم السفلي.

رغم تشابه الجذر في كلمتي “نفيلين” و”نوفل” إلا أنه لا توجد علاقة في المعنى بينهما، والاحتمال الذي طرحته في المرة السابقة كان طرحا متسرعا ولا أساس له.

أنساب التوراة (5)

هذا المقال كان في الأصل جزءا من مقال أنساب التوراة (4) ولكنني فصلته وجعلته مقالا مستقلا بسبب طول المقال السابق. لرؤية الرموز الأجنبية المستخدمة في هذا المقال وبقية المقالات حمل ونصب هذا الخط. لمعرفة أصوات الرموز انظر هذا المقال.

عنق

كلمة “عَنَق” التي تطلقها التوراة على الشعوب الضخمة القديمة أصلها مجهول. بعض الباحثين رؤوا أنها مشتقة من اسم الإله السومري Enki، وآخرون رؤوا أنها مأخوذة من Anax وهو اسم لأحد العمالقة في الأساطير اليونانية. في اللغة العربية الجذر “عنق” موجود في اسم “العَنْقاء المُغْرِب”، وهي النسخة العربية من طائر الفينيق الذي روى هيرودوت أنه يطير كل 500 سنة من عربية إلى مصر. ما يلي من لسان العرب:

والأَعناق: الرؤساء. والعُنُق: الجماعة الكثيرة من الناس، مذكَّر، والجمع أَعْناق. وفي التنزيل: فظلَّت أَعناقهم لها خاضعين؛ أَي جماعاتهم، على ما ذهب إليه أكثر المفسرين… قال الأَخطل:

وإذا المِئُونَ تواكَلَتْ أَعْناقُها :: فاحْمِدْ هُناكَ على فَتىً حَمّالِ

قال ابن الأَعرابي: أَعْناقُها جماعاتها، وقال غيره: سادَاتها…. وقوله: المؤذِّنون أَطول الناس أَعْناقاً يوم القيامة… قال ابن الأَثير: وقيل أَراد أَنهم يكونون يومئذ رؤساء سادةً، والعرب تصف السادة بطول الأَعناق… والعَناقُ: شيءٌ من دوابِّ الأَرض كالفَهْد، وقيل: عَناق الأَرض دُوَيْبَّة أَصفر من الفَهْد طويلة الظهر تصيد كل شيء حتى الطير؛ قال الأَزهري: عَناقُ الأَرض دابة فوق الكلب الصيني يصيد كما يصيد الفَهْدُ، ويأكل اللحم وهو من السباع… والعَنَاقُ: الداهية والخيبة… والعَنْقاء: طائر ضخم ليس بالعُقاب، وقيل: العَنْقاءُ المُغْرِبُ كلمة لا أَصل لها، يقال: إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عَنْقاء مُغْرِباً ومُغْرِبةً… وقال كراع: العَنْقاء فيما يزعمون طائر يكون عند مغرب الشمس، وقال الزجاج: العَنْقاءُ المُغْرِبُ طائر لم يره أَحد، وقيل في قوله تعالى “طيراً أَبابِيلَ” هي عَنْقاءُ مُغْرِبَة. قال أَبو عبيد: من أَمثال العرب طارت بهم العَنْقاءُ المُغْرِبُ، ولم يفسره. قال ابن الكلبي: كان لأهل الرّس نبيٌّ يقال له حنظلة بن صَفْوان، وكان بأَرضهم جبل يقال له دَمْخ، مصعده في السماء مِيلٌ، فكان يَنْتابُهُ طائرة كأَعظم ما يكون، لها عنق طويل من أَحسن الطير، فيها من كل لون، وكانت تقع مُنْقَضَّةً فكانت تنقضُّ على الطير فتأْكلها، فجاعت وانْقَضَّت على صبيِّ فذهبت به، فسميت عَنْقاءَ مُغْرباً، لأَنها تَغْرُب بكل ما أَخذته، ثم انْقَضَّت على جارية تَرعْرَعَت وضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى جناحيها الكبيرين، ثم طارت بها، فشكوا ذلك إلى نبيهم، فدعا عليها فسلط الله عليها آفةً فهلكت، فضربتها العرب مثلاً في أَشْعارها، ويقال: أَلْوَتْ به العَنْقاءُ المُغْرِبُ، وطارت به العَنْقاء. والعَنْقاء: العُقاب، وقيل: طائرلم يبق في أَيدي الناس من صفتها غير اسمها.

هذا الكلام يوحي بأن الجذر عنق في اللغة العربية له معنى قديم مرتبط بالضخامة وبالحيوانات وبكائن خرافي هو “العَنْقاء المُغْرِب”. بالنسبة لكلمة “مغرب” في اسم العنقاء فهي ربما مرتبطة بما قاله هيرودوت عن أن طائر الفينيق يطير كل 500 سنة من عربية إلى مصر (أي نحو الغرب). العرب القدماء كانوا على ما يبدو ملمين بقصة الفينيق التي ذكرها هيرودوت، ولكن الكتاب المسلمين لا يعرفون شيئا عن العنقاء سوى اسمها، وهو أمر معتاد حيث أن الكتاب المسلمين لا يعرفون عموما إلا القليل جدا عن معتقدات العرب قبل الإسلام.

نوفل

بالنسبة لكلمة “نفيلين” التوراتية التي يرى كثيرون أنها مشتقة من الجذر “نفل” بمعنى “النزول” فهي غائبة عن اللغة العربية على ما يبدو لي. الجذر “نفل” في اللغة العربية يعني “الغنيمة” أو “العطاء” وهو غير مرتبط بأي كائنات خرافية أو إلهية وغير مرتبط بالضخامة أو بالأصوات. في المقابل هناك جذر قريب يحمل كثيرا من هذه المعاني هو الجذر “نوف”:

نافَ الشيءُ نوْفاً: ارتفع وأَشْرف… وأَنافت الدراهم على كذا: زادت. وأَنافَ الجبل وأَناف البِناء، فهو جبل مُنِيف وبناء مُنيف أَي طويل… وامرأَة مُنِيفة ونياف: تامّة الطول والحُسن… قال ابن جني: ياء كل ذلك منقلبة عن واو لأَنه من النوف الذي هو العُلُوُّ والارْتفاع،… قال الجوهري: وناقة نِياف وجمل نِياف أَي طويل في ارتفاع… يقال: ناف ينوف أَي طال… وروي عن المؤرّج قال: النوْفُ المَصُّ من الثَّدْي، والنَّوْفُ الصوت. يقال: نافَت الضَّبُعة تَنُوف نَوْفاً. ونَوْف: اسم رجل.

الجذر “نوف” شائع جدا في الأسماء العربية (نوف ونايف ونواف ومناف ومنيف إلخ) بما في ذلك أسماء الآلهة (مثلا مَنَاف هو اسم لإله عند كثير من العرب الشماليين بمن فيهم أهل مكة، وأيضا في اليمن وردت كلمة “نوفن” *nawfān كلقب للإله “عثتر”). الجذر “نوف” يحمل معاني الضخامة والألوهية وأيضا له معاني الصوت والرضاعة، وهي معاني تشبه معاني الجذور التي استعرضتها سابقا في هذا الموضوع. أما الجذر “نفل” فهو نادر جدا في أسماء الأعلام العربية ولم أجده إلا في اسمي نَوْفَل ونُفَيْل، ولم أجد اسما لإله أو كائن خرافي مشتق من هذا الجذر.

هل يمكن الربط بين كلمة “نفيلين” العبرية وبين الجذر “نوف”؟ الاسم العربي نَوْفَل ربما يكون مركبا من نَوْف واللام كلاحقة اشتقاقية تدل على الكائنات الطيبة أو الجيدة. بعض الباحثين لاحظوا أن اللام أو الراء في اللغات السامية تكثر في نهاية أسماء الكائنات الأليفة أو غير الضارة (حمل، عجل، بقر، حمار، جمل، نمل، إلخ) وذلك بنقيض الباء التي تكثر في نهاية أسماء الكائنات الضارة (عنكب، عقرب، كلب، ذئب، ضب، إلخ) مما يوحي بوجود وظيفة نحوية قديمة للام/الراء والباء في هذه الكلمات هي التفريق بين الكائنات الخبيثة وغير الخبيثة. اسم نوفل ربما يكون مركبا من نوف ومن اللام التي تدل على عدم الخبث، وهذا ربما يكون أصل كلمة “نفيلين” العبرية أيضا. الربط بين “نفيلين” و”نافلين” بمعنى “ساقطين” هو ربط قام به باحثون غربيون معاصرون ولكن هذا الربط لا يتوافق مع المعنى الأصلي للكلمة عند اليهود الذي يعني كائنات شبيهة ببني عملق. الجذر “نوف” يعطي معنى العملقة، أما الجذر “نفل” فهو لا يعطي هذا المعنى. هذا الكلام هو مجرد احتمال وليس بالضرورة صحيحا. ربما كان هناك معنى قديم للجذر “نفل” يشبه معنى “نوف” ولكن هذا المعنى ضاع مع الزمن.

هناك طريقة أخرى لتفسير اسم نوفل العربي وهي أنه ربما كان في الأصل “نَوْفَ إِل” *Nawfaʔil، أي اسم مركب مبني على فتح الجزئين بمعنى “نوف السيد” أو “نوف الإله”. أنا أذكر أن الاسم “نوف” عثر عليه مضافا بهذا الشكل في النصوص الشمالية القديمة ولكنني للأسف لم أتمكن من العثور على المكان الذي قرأت فيه هذه المعلومة ولذلك أنا لست متأكدا منها. الأسماء المركبة التي تحوي كلمة “إل” بمعنى “إله” هي أسماء شائعة جدا عند العرب القدماء كما يظهر من النقوش والكتابات القديمة بدءا من عصر الآشوريين وحتى عصر الكتابات الشمالية القديمة (من هذه الأسماء التي عثر عليها في النقوش الشمالية القديمة “سعد إل”، “ود إل”، “حن إل”، “جد إل”، “عزر إل”، “نصر إل”، “كبر إل”، “متع إل”، “ذرح إل”، “صلم إل”، “وسق إل”، “شيم إل”، “إل بر”، “إل عم”، “إل أب”، إلخ). في عصر الإسلام هذه الأسماء كانت منقرضة على يبدو. ربما كانت بعض الأسماء العربية التي تنتهي بحرف لام هي في الأصل أسماء مركبة تنتهي بـ”إل”.

معنى “نوفل” في لسان العرب هو كما يلي:

والنَّوْفَلُ: العطية. والنَّوْفَل: السيِّدُ المِعْطاءُ… والنَّوْفَلُ: البحر…

هذه المعاني مقتضبة والملفت في المعنى الثاني هو أنه يبدو وكأنه ترجمة حرفية لاسم “نَوْفَ إِل” المركب من كلمتين الأولى (نوف) تعني “العلو والزيادة” والثانية (إل) تعني حرفيا “السيد”.

هناك كلمة لها معنى مطابق لنوفل هي كلمة زفر (من تاج العروس):

والزُّفَر: اسم النَّهْر الكَثِير الماءِ فأشْبَه البَحْر… والزُّفَر: الذي يَحْمِلُ الأثقالَ أَي القَوِىُّ على حَمْلِ القِرَبِ. وقال شَمِرٌ: الزُّفَر من الرِّجال: القَوِىُّ على الحَمَالاتِ. قال الكُمَيْت:

لرِئَابُ الصُّدُوعِ غِيَاثُ المَضُوع :: لأَمْتُكَ الزُّفَرُ النَّوْفَلُ

وقيل الزُّفَر: السَّيِّد: قال أعشَى باهِلَةَ:

أخُو رَغَائِبَ يُعْطِيها ويُسْأَلُها :: يَأْبَى الظُّلاَمَة منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ

لأنه يَزْدَفِر بالأموالِ في الحَمَالَات مُطِيقاً له. وفي الأساس: ومن المَجَاز: هو نَوْفَلٌ زُفَرٌ: للجَوَادِ شُبِّه بالبَحْر الذي يَزْفِر بتَمَوُّجِه… والزُّفَر: الجَمَلُ الضَّخْمُ لتَحَمِلُّه الأثقالَ نقله الصاغاني. والزُّفَر: الكَتِيبَةُ كالزّافِرَةِ وهي الجَمَاعَة من النَّاس وقد تقدمّ. وزُفَر بلا لامٍ: اسمُ جَماعَةٍ منهم زُفَرُ بن الهُذَيلِ الفَقِيهُ تِلْمِيذُ إمامنا الأَعظمِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى. وزُفَرُ بن الحارث العامِريّ أبو مُزَاحِم وزُفَرُ بن عَقِيل وزُفَرُ بن صَعْصَعَة بن مالك وزُفَر بن يَزِيد بن عبد الرحمن بن أرْدَك وزُفَر بن أبي كَثِير وزُفَر العِجْلِيّ وزُفَر بن عاصم… والزَّافِرة من الرَّجِل: أنْصارهُ وعَشِيرتُه. قال الفَرّاءُ: جاءَنا ومعه زَافِرَتُه يَعِني رَهْطَه وقَوْمَه… وهو زَافِرُ قَوْمِه وزَافِرَتُهم عند السلطان: سَنَدُهم وحامِلُ أَعبائهِم وهو مَجَاز… والزَّافِرَةُ: الضَّخْمُ لأنَّه حامِلُ الأثقالِ… والزَّافِرَة: السَّيِّدُ الكَبِيرُ لأنه يَحِمل الحَمَالاتِ وهو الجَوَادُ كزُفَر… والزَّفِير كأَمير: الدَّاهية كالزَّبِير بالباء… والزَّفْر: أَن يَملأَ الرَّجلُ صَدْرَه غَمّاً ثمّ هو يَزْفِرُ به. وقيلَ: هو إخراجُ النَّفَسِ مع صوتٍ مَمْدُود. وقال الرَّاغب: أصْلُ الزَّفِير تَردِيدُ النَّفْسِ حتَّى تَنْتَفِخ منه الضُّلوعُ. ويُستعمَلُ غالِباً في أوَّلِ صَوْتِ الحِمَار وهو النَّهِيق والشَّهِيقُ آخِرُهُ أَي رَدّ الصَّوْت في آخِرِه غالباً… والمَزْفُورُ من الدَّوَابِّ: الشَّدِيدُ تَلاَحُمِ المَفَاصِلِ. يقال: بَعِيرٌ مُزْفُورٌ. وما أَشَدَّ زُفْرَتَه أَي هو مَزْفُورُ الخَلْقِ… والأزْفَرُ: الفَرسُ العَظِيمُ أضلاعِ الجَنْبَيْن أو العَظِيمُ الجَوْفِ أو الوَسَطِ… وزَوْفَرٌ كجَوْهَر: اسْم… ووَقَعَ في صَحِيحِ البُخَارِيّ. تزَفَّر: تَخَبَّط… وزُفَرُ: اسمُ خازِنِ الجَنَّةِ ولقبه رِضْوانُ وقيل بالعَكْسِ.

من يدقق في هذا الكلام يكتشف عدة أمور هامة. أولا “زفر” لها معان مطابقة لمعاني “زمزم” (الصوت، الضخامة، الجماعة). ثانيا الكلمة تستخدم بالصيغة الروحية فُعَل (وهي الصيغة التي بينت سابقا أنها تكثر في أسماء الكائنات الروحية). ثالثا الكلمة تستخدم في عبارة مركبة مع كلمة نوفل (نَوْفَل زُفَر) وهذا الأسلوب في التركيب يستخدم عادة في أسماء الآلهة والكائنات الروحية. رابعا الكاتب يقول صراحة أن زفر هو اسم أو لقب للملاك الذي يحرس الجنة، وهذا دليل مباشر وواضح على أن هذه الكلمة كانت قبل الإسلام لقبا لكائن روحي.

رضوان

بالنسبة لخازن الجنة رضوان فاسمه على ما يبدو مرتبط باسم الإله العربي القديم رُضا *Ruḍaw أو رُضاء *Ruḍāw. هذا الإله قديم جدا وورد اسمه على النصب الأشوري المسمى Heidel Prism (في نينوى) والذي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد إلى عهد الملك الأشوري Aššuraḫḫeiddina (“أسُّور أخَّي يندن” = “أسور إخوةً أعطى”، بالإنكليزية: Esarhaddon). في هذا النقش وردت أسماء ستة من آلهة KUR aribi (“أرض Aribi“) وأحد هذه الآلهة هو ruuldaaaú أي “رُضا” أو “رُضاء” (كتابة الضاد العربية على شكل لام ودال هو أمر معتاد لدى الأشوريين وغيرهم والسبب هو النطق القديم لحرف الضاد العربي الذي كان يشبه اللام lateral consonant).

الإله رضا عثر على اسمه أيضا في الكتابات العربية الشمالية القديمة (الثمودية والصفوية) مكتوبا على شكل “رضو” أو “رضي”، وعثر على اسمه في تدمر مكتوبا “أرصو” (الضاد تتحول إلى صاد في الآرامية، واللغة المستخدمة في نقوش تدمر هي آرامية). أيضا كثير من المستشرقين يرون أن رضا هو نفسه (Orotált) Ὀροτάλτ الذي ذكره هيرودوت وقال أنه الاسم الذي يطلقه العرب على ديونوس Diónysos.

الإمبراطور الروماني يوليان الفيلسوف Julian the Philosopher كتب في القرن الرابع الميلادي أن الإله الرئيسي في تدمر والرها (أورفة) هو “الشمس التي لا تقهر” (Hēlios aníkētos = Sol invictus)، وأن هناك إلهين مرافقين لها هما Azizos (نظيره اليوناني Ares) الذي يطلع قبل الشمس و Monimos (نظيره اليوناني Hermes) الذي يطلع بعد الشمس. المستشرقون يرون أن Azizos (عزيز) هو “عزز” الذي عثر على اسمه في النقوش التدمرية، وأما Monimos (منعم) فهو “أرصو” أي “الرضا”. الجذر نعم له معنى قريب من معنى الجذر رضو ولذلك المستشرقون يرون أن “منعم” هو مجرد اسم آخر لـ”رضا”. المقصود بالإله عزيز هو على الأغلب نجمة الصباح (morning star) التي تظهر في السماء فجرا في جهة الشرق (وهي في الغالب كوكب الزهرة)، وأما الإله منعم/رضا فاختلف فيه، حيث يرى بعضهم أنه القمر ويرى آخرون أنه نجمة المساء (evening star) التي تظهر مساء في جهة الغرب (هي في الغالب كوكب الزهرة وأحيانا عطارد)، ومن الوارد أن هذا الإله كان في الأصل إلها للأجرام الليلية عموما ولكنه خصص فيما بعد بنجمة المساء.

المستشرقون يستندون إلى الرواية السابقة وغيرها من الروايات التاريخية لتفسير ديانة العرب القديمة ووظائف الآلهة فيها. هم يرون أن العرب كانوا يعتقدون بفكرة ولادة نجمة الصباح من إلهة أم، وهذه الفكرة هي من الأفكار الدينية الشائعة في الشرق الأوسط قديما (وبعضهم يربطون بينها وبين قصة ولادة المسيح الواردة في الأناجيل). ما يلي من كتاب جواد علي:

وقد ذهب بعض الباحثين الى ان الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز “عثتر”، أي “رضي/رضو”، و “عزيز”. وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين… ولعل تصور الجاهليين الإله “رضو” على هيئة طفل هو الذي يحل لنا المشكلة الواردة في أخبار “نيلوس” Nilus عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالاً لكوكب الصباح. ذكر “نيلوس” أن العرب سرقوا ابنه الجميل الصغير “ثيودولس” Theodulus وقرروا تقديمه قرباناً لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب وحان وقت تقريب الطفل قرباناً له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك. وقد تفسر جملة “إننا نقدم لك قربًا يشبهك” الواردة في دعاء عثر على نصه في حرّان قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين الى هذا الإله.

وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللأحجار.

وأما “مونيموس” Monimos فإنه “منعم”. و”منعم” من صفات الله في الإسلام. فالله هو “المنعم” المتفضل على عباده العزيز المقتدر.

وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم “ذو الخلصة” المذكور في كتب أهل الأخبار والذي كان له بيت يدعى “الكعبة اليمانية”، ويقال له “الكعبة الشامية” أيضاً، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم “عثتر”، أي الإلَه المكون مع القمر والشمس للثالوث.

العرب كانوا يعتقدون بوجود إلهة سماوية أم اسمها “اللات” (مؤنث “إله”)، والمستشرقون اختلفوا في تحديد ماهية اللات. بعضهم رأى أنها الشمس، وآخرون رفضوا ذلك ورأوا أن اللات هي عَثْتَر (عشتار) أي كوكب الزهرة، وهذا يتوافق مع كون اللات هي الإلهة الأم لأن كوكب الزهرة هو رمز الخصوبة (ويتوافق أيضا مع ما ورد في النصوص الأشورية التي ذكرت “عثتر السماء” على أنه/أنها الإله الرئيسي لدى العرب الأوائل). ولكن كلمة “عثتر” في اللغات العربية واليمنية هي مذكر وليست مؤنث، وهذا يتناقض مع كون اللات هي عثتر.

الكلام التالي ورد في لسان العرب عن الشمس:

وذُكاءُ، بالضم: اسمُ الشمس، معرفة لا يَنْصَرِف ولا تدْخُلها الأَلِفُ واللام، تقول: هذه ذُكاءُ طالِعةً، وهي مُشْتَقَّة من ذَكَتِ النارُ تَذْكُو، ويقال للصُّبْح ابنُ ذكاء لأَنه من ضَوْئها؛ وأَنشد:

فَوَرَدَتْ قبل انبِلاج الفجرِ :: وابنُ ذُكاءَ كامِنٌ في كَفْرِ

هذا الكلام يعزز في رأيي فكرة أن الإلهة الأم عند العرب هي الشمس. أنا لا أظن أن “ابن ذكاء” المقصود هنا هو الصبح وإنما هو نجم الصباح.

نجم الصباح سمي في تدمر باسم “عزيز” ولكن هذه الكلمة هي مجرد لقب أو اسم من الأسماء الحسنى. العرب والساميون من طبيعتهم التأدب مع الآلهة ولذلك هم نادرا ما يشيرون للآلهة باسمها الحقيقي والأغلب لديهم هو استخدام الألقاب أو الأسماء الحسنى، ولذلك نجد أن الآلهة العربية لها أسماء كثيرة جدا ولكن الحقيقة هي أن عدد الآلهة محدود وليس بنفس كثرة أسمائها. لهذا السبب فإن تحديد المقصود بأسماء الآلهة التي وردت في النقوش والكتابات هو أمر صعب وفيه خلافات كثيرة بين المستشرقين والباحثين.

بعض المستشرقين يرون أن “العُزَّى” في بلاد النبط والحجاز هي نفسها الإله “عزيز” في تدمر، وهم يرون أن كلمة “عُزَّى” كانت في الأصل مذكرة وليست مؤنثة، وأن “عزيز”/”عزّى” هو “عَثْتَر”. أما منعم/رضا فهو الإله الليلي الذي يعتقد كثير من المستشرقين أنه نفسه هُبَل إله مكة، وبعض المستشرقين يرون أن رضا هو أيضا “ذو الشرى” الإله الرئيسي عند النبط.

الإله رضا كان معروفا في زمن الإسلام وقد ذكره ابن الكلبي في كتاب الأصنام. ما يلي من كتاب جواد علي:

ورضى، ويكتب رضاء في بعض الأحيان، هو صنم آخر. وذكر ابن الكلبي انه كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهدمه المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. هدمه في الإسلام. وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم. وقد ورد اسم “عبد رضى” بين أسماء الجاهليين. ويظهر أن قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك…. ويظهر من بيت شعر ينسب الى المستوغر في كسره رضى في الإسلام، هو:

ولقد شددت على رضاء شدة :: فتركتها تلا تنازع أسحمـا

أن الصنم “رضى/رضاء” هو أنثى، بدليل استعمال ضمير التأنيث في لفظة ” فتركتها”. فهو إلهة. ويرى بعض الباحثين، انه إلهةّ أيضاً عند العرب الصفويين.

اسم “عبد الرضا” ما زال موجودا حتى الآن ولا أدري ما هو معناه. للوهلة الأولى هذا الاسم يبدو وكأنه متعلق بالإمام الشيعي “علي الرضا”، ولكن أليس من الغريب أن يتسمى بعض الناس باسم “عبد الرضا” رغم أن علي الرضا هو الإمام الثامن عند الشيعة من أصل 12 وهو ليس إماما مهما؟ أنا أجريت بحثا في غوغل عن اسم “عبد الكاظم” (نسبة إلى “موسى الكاظم” والد علي الرضا) فحصلت على 260,000 نتيجة، وأجريت بحثا عن “عبد الصادق” (نسبة إلى “جعفر الصادق” الإمام الشهير) فحصلت على 301,000 نتيجة، أما البحث عن “عبد الرضا” فأظهر 1,310,000 نتيجة. لماذا يحظى الإمام علي الرضا بهذه الشعبية الغريبة؟ يبدو لي أن اسم “عبد الرضا” لا علاقة له بعلي الرضا بل هو اسم عربي قديم يعود أصله إلى أكثر من 28 قرنا من الزمان. هو متعلق بالإله القديم رضا.

مما سبق أردت أن أوجد علاقة بين اسم الإله “رضا” وبين اسم “رضوان” خازن الجنة. طبعا التشابه في الحروف لا يدل لوحده على وجود علاقة، ولكن الغريب هو وجود لقب لرضوان هو زُفَر، أي أن الاسم الكامل لرضوان هو “رضوان زُفَر”، والأغرب هو التشابه بين هذا الاسم وبين اسم “نَوْفَل زُفَر” الذي يطلق على الرجل القوي أو الجمل الضخم.

لا أظن أن “رضوان زُفَر” هي اختراع إسلامي بل أظن أن هذه عبارة قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. الإسلام ليس من عادته تركيب هكذا ألقاب. هذه الألقاب هي من عادة القدماء في وصف الآلهة والكائنات الروحية، وأنا ذكرت حتى الآن عددا من الأمثلة على هكذا أسماء لكائنات روحية قديمة (قوس قزح، قيس عيلان، عنقاء مغرب،…). كلمة زُفَر هي على وزن فُعَل الذي يستخدم عادة في وصف الآلهة والكائنات الروحية. كلمة “الرضا/الرضاء” كانت أصلا على نفس الوزن (*Ruḍaw/*Ruḍāw) ولكن العرب المتأخرين غيروا الضمة إلى كسرة. ما يلي من لسان العرب:

وقد رَضِيَ يَرْضى رِضاً ورُضاً ورِضْواناً ورُضْواناً، الأَخيرة عن سيبويه ونَظَّرهَ بشُكْران ورُجْحانٍ، ومَرْضاةً، فهو راضٍ من قوم رُضاةٍ، ورَضِيٌّ من قوم أَرْضياءَ ورُضاةٍ؛ الأَخيرة عن اللحياني، قال ابن سيده: وهي نادرة، أَعني تكسير رَضِيٍّ على رُضاةٍ، قال: وعندي أنه جمع راضٍ لا غير… الصحاح: الرِّضْوانُ الرِّضا، وكذلك الرُّضْوانُ، بالضم، والمَرْضاةُ مثلهُ. غَيره: المَرْضاةُ والرِّضْوان مصدران، والقُرّاء كلهم قَرَؤُوا الرِّضْوانَ، بكسر الراء، إلاَّ ما رُوِي عن عاصم أَنه قرأَ رُضْوان…

من هذا الكلام يتبين أن لفظ رضوان بالضم هو لفظ وارد ولكنه نادر، وهذا يتفق مع كونه لفظا قديما.

اسم “رضوان زُفَر” خازن الجنة هو على ما أعتقد مستوحى من اسم لكائن روحي قديم هو ربما الإله رضا. الفرق بين رُضا (*Ruḍaw) ورُضْوان (Ruḍwān) هو فقط وجود اللاحقة -ān في الكلمة الثانية.

ما يلي من اللسان:

ورَضْوى: جَبَل بالمَدينة، والنِّسْبة إليه رَضَوي قال ابن سيده: ورَضْوى اسم جبل بعينه… ورَضْوى: فَرَس سعد بن شجاع.

كلمة رَضْوى تطلق على جبل، وتسمية الجبال بأسماء الآلهة أو الكائنات الروحية هو أمر معتاد. أيضا كلمة رضوى تطلق على الخيول، وهذا شبيه بنوفل وزمزم والجذور الأخرى التي ذكرتها.

من المقارنة بين “رضوان زُفَر” و “نَوْفَل زُفَر” أريد أن أصل إلى احتمال كون “نوفل” اسما لكائن روحي شبيها ربما بالإله رضا. في حال كان الجذر الأصلي لنوفل هو نوف فهذا يشير إلى الإله مناف. ما يلي من كتاب جواد علي:

و”مناف”: صنم من أصنام الجاهلية، قال عنه ابن الكلبي: “وكان لهم مناف، فيه كانت تسمى قريش “عبد مناف”. ولا أدري أين كان، ولا من نصبه ؟”. وسمي به أيضاً رجال من هذيل. و “به سمي عبد مناف. وكانت أمه اخدمته هذا الصنم”.

وفيه يقول بلعاء بن قيس:

وقرن وقد تركت الطير منه :: كمعتبر العوارك من مناف

ويتبين من ورود اسم “مناف” بين عرب الشام أنه كان إلهاً معبوداً عندهم كذلك. وقد عثر على اسمه في كتابة دوَّنها شخص اسمه: “أبو معن” على حجر توجه بها إلى الإله مناف، ليمن عليه بالسعد والبركة، وحفرت على الحجر صورة الإلَه “مناف” على هيأة “رجل لا لحية له” يتحدر على عارضيه شعر رأسه الصناعي المرموز به إلى الإلهة الشمس، وحول جفنيه وحدقتيه خطّان ناعمان: ويزين جيده قلادة، كما ترى غالباً في تصاوير الآلهة السوريين، وعلى صدره طيات ردائه، ويرى طرف طيلسانه الإلهي الذي ينعطف من كتفه الأيسر فيتصل إلى الأيمن ويعقد به. وقد ذهب المتخصصون الذين فحصوا هذه الكتابة إلى أنها من حوران.

وقد عثر على كتابة وجدت في حوران ورد فيها اسم “مناف” مع إلَه آخر، ورد اسم مناف فيها على هذا الشكل “MN, PHA“. وقد عثر على كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصورة Manaphius مما يدل على أن المراد بالإسمين شيء واحد، هو الإلَه مناف.

كلمة نوفل حسب القواميس لها معنيان: السيد المعطاء والبحر، ولا أدري ما هي العلاقة بين هذين المعنيين. ربما كان للكائن الروحي المقصود باسم نوفل علاقة بالبحر. ربما يكون المقصود هنا ليس البحر بالمعنى الحرفي وإنما المقصود هو أن الإله نوفل كان يخرج الماء من الأرض أو ينزل المطر على الناس.

إذا كان نوفل اسما لإله (كما أرجح بناء على القرائن السابقة) فهذا يقوي فكرة أنه مركب من “نَوْف” و “إِل”، أي أن الاسم ربما كان أصلا *Nawfaʔil بمعنى “نوف السيد” أو “نوف الإله”، ومثل هذه التراكيب شائعة في اللغات السامية. مثلا في تدمر هناك إلهان باسم “عجل بل” (ʕaglibōl) و”يرح بل” (Yarḥibōl). الأول هو القمر والثاني هو الشمس. هذان الاسمان يحويان كلمة بل bōl التي تعني “سيد” أو “رب”، وهي تحريف لكلمة بعل baʕl السامية. في الكتابات اللحيانية من شمال الحجاز عثر على اسمين من هذه الأسماء هما “يرح بل” و”عجل بن”. الاسم الثاني ملفت لأنه يدل على أن اللحيانيين كانوا يلفظونه “عجل بون” بدلا “عجل بول”، وهذا يذكرني بكلمات عربية من قبيل “حَيْزَبون”. ما يلي من تاج العروس:

العُطْبُلُ والعُطْبولُ والعُطْبولَةُ بضَمِّهِنَّ والعَيطَبولُ كحَيْزَبونٍ: المرأَةُ الفَتِيَّةُ الجميلَةُ المُمتلئةُ الطَّويلَةُ العُنُقِ. وقيل: هي الحَسَنَةُ التّامَّةُ من النِّساءِ. ومن الظِّباءِ: الطَّويلَةُ العنُقِ… وقد ذَكَرَ ابنُ الأَثيرِ في غريب الحديث له: وردَ في صفته صلّى الله تعالى عليه وسلَّم أَنَّه لم يَكُن بعُطبولٍ ولا بقَصيرٍ. وفَسَّرَه فقال: العُطْبُولُ: المُمْتَدُّ القامَةِ الطَّويلُ العُنُقِ وقيل: هو الطَّويل الأَملس الصُّلْبُ قال: ويوصَفُ به الرَّجُلُ والمرأَةُ…

هذه الكلمات تحوي في نهايتها “بول” و”بون” وهي ربما تكون صيغت بالقياس على أسماء الآلهة والكائنات التي تحوي bōl بمعنى “سيد”. كلمة “سيد” لا تعني بالضرورة الآلهة بل هي ربما تشير إلى جني أو مارد، وبالتالي استخدامها هنا هو كناية عن أن الشخص ضخم كالمارد أو الآلهة.

هناك اسم آخر شبيه ربما بنوفل هو “خَزْعَل”. هذا الاسم هو ربما في الأصل “خَزْعَ إِل”. الجذر “خزع” يوجد في اسم قبيلة “خُزاعة” وأسماء القبائل كثيرا ما تكون مرتبطة بالآلهة. في نصوص آشورية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد (من عهد “أسُّور أخَّي يندن” Esarhaddon وابنه “أسُّور باني أفل” Ashurbanipal) ورد ذكر ملك عربي في دومة الجندل باسم ḫazailu šar KUR aribi (“Ḫazailu ملك أرض Aribi“). اسم Ḫazailu حسب الباحثين هو نفس اسم الملك الآرامي حَزائِل חֲזָהאֵל‎ الذي حكم دمشق في القرن التاسع قبل الميلاد وورد ذكره في التوراة والنصوص الآشورية. المشكلة هي أن حَزائِل هو اسم آرامي غير معروف عند العرب، وبالتالي ربما يكون اسم الملك العربي هو “خزع إل” وليس “حزا إل”، مع العلم أن كلا الاسمين يكتبان بنفس الطريقة في الكتابة الأكدية. في اللغة العربية هناك كلمة “خُزَعْبِل” أو “خُزَعْبِيل” التي تعني “الباطل”، وهذه الكلمة على ما أعتقد مركبة من “خزع” و”بل/بيل”. كلمة “بل” bēl هي اللفظ الأكّدي لكلمة “بَعْل”. في اللغة الأكّدية حرف العين يسقط دائما والفتحة المجاورة له ترفع إلى e (مثلا كلمة بعل baʕlu تحولت أولا إلى beʕlu وبعد ذلك سقطت منها العين فصارت bēlu). هذه الكلمة bēl كانت منتشرة في سورية في العصور القديمة بسبب التأثير الثقافي والديني لبلاد ما بين النهرين (وهي وردت أيضا في التوراة בֵּל bēl)، وهي كانت مستخدمة في تدمر وكانت تطلق على كبير آلهة تدمر “بل” Bēl (أما bōl فهي توجد فقط في الأسماء المركبة). كلمة bēl كانت تستخدم أيضا في الأسماء المركبة في تدمر كما في اسم الإله “ملك بل” (Malakbēl) وهو إله للشمس. كلمة bēl وجدت أيضا في أسماء مركبة ثمودية (مثلا “بل عزيني”). من هنا يمكننا ربما أن نفهم أصل كلمة خُزَعْبِل/خُزَعْبِيل العربية. ما يلي من لسان العرب:

الخُزَعْبِل والخُزَعْبِيل: الباطل، وفي الصحاح: الأَباطيل. قال الجرمي الخُزَعْبِيلة ما أَضْحَكْتَ به القوم؛ يقال: هات بعض خُزَعْبيلاتك؛ خُزَعْبيلاتُ الكلام: هَزْله ومِزَاحه. والخُزَعْبِلة: الفُكاهة والمُِزاح… وقال ابن دريد: خَزَعْبَل وخُزَعْبِيل هي الأَحاديث المستَظْرَفة.

سبب تهكم العرب على كلمة خُزَعْبِل/خُزَعْبِيل ربما يكون أنها نابعة من لفظ أكدي أعجمي. لو فرضنا أن هناك اسما عربيا شائعا هو “خَزْعَ إِل” فعندها كلمة خُزَعْبِل/خُزَعْبِيل (Ḫuzaʕbēl) سوف تبدو وكأنها تحريف أعجمي للاسم العربي، وبالتالي هي سوف تكون “مضحكة” أو “باطلة”. طبعا هذا الكلام هو مجرد تكهن وليس بالضرورة صحيحا. ربما كان هناك كائن روحي اسمه Ḫuzaʕbēl له علاقة بالضحك.

هناك اسم آخر في اللغة العربية مرتبط بخزعل هو خَزْعال، والذي أظن أن له نفس الأصل.

هناك أسماء أخرى شبيهة بالأسماء السابقة كاسم شُرَحْبيل مثلا، والذي أظن أنه مركب من “شرح” و”بيل” (Ṧuraḥbēl). الملفت في هذا الاسم وفي كلمة خُزَعْبِيل هو كون القسم الأول منهما على وزن فُعَل الروحي. أما نظير شُرَحْبيل الذي يحوي كلمة “إل” فهو ربما شَرَاحِيل = “شرح إل”. ما يلي من التاج:

شَرَاحِيلُ اسْمُ رَجُلٍ لا يَنْصَرِفُ عندَ سِيبَوَيْهِ في مَعْرِفَةٍ ولا نَكِرَةٍ ويَنْصَرِفُ عِنْدَ الأَخْفَشِ في النَّكِرَةِ فإِنْ حَقّرْتَهُ انْصَرَفَ عندَهما لأَنَّهُ عَرَبِيٌّ

الدارسون المسلمون يرون أن شَرَاحِيل اسم عربي، وأنا أظن أن هذا صحيح.

هناك أيضا أسماء أخرى ربما تكون مرتبطة بهذه الأسماء كاسم جَهْبل الذي هو ربما “جهب إل”، وأيضا هناك اسم جَبْرال على وزن خَزْعال والذي أظن أن أصله “جبر إل” (*Gabraʔil)، وهذا ربما يكون نظيرا عربيا لاسم “جبرائيل” الأعجمي. أيضا هناك اسم ثَرثال، وقَصْدالٌ اسم موضع. هذه الأسماء وأشباهها هي على ما أعتقد بقايا الأسماء القديمة التي كانت تحوي كلمة “إل”. الأسماء الحاوية لكلمة “إل” كانت شائعة جدا في العصور القديمة ومن الغريب أن تختفي وتتبخر من اللغة العربية دون أن تترك أثرا.

بالنسبة لاسم نوفل فأنا قرأت أن هذا الاسم عثر عليه في بعض الكتابات العربية الشمالية القديمة (في الكتابات الصفوية على ما أعتقد) مكتوبا هكذا “نفل”. الكتابة العربية الشمالية القديمة لا توضح أصوات العلة مطلقا (لا القصيرة ولا الطويلة) ولا توضح الديفثونغات diphthongs (أي الأصوات كـ ay و aw)، وبالتالي القول بأن “نفل” هو “نوفل” هو مجرد تخمين على ما أعتقد. هذا الاسم قد يكون مثلا “نَفَل” (Nafal) وهو اسم شائع في سورية قديما وكان موجودا عند الأنباط، ومن الممكن أن الاسم مثلا هو “نُفَيْل” (Nufayl) أو “نافِل” (Nāfil). لا يوجد حسب علمي دليل على أن الاسم هو “نَوْفَل” (Nawfal).

مما سبق أردت أن أصل إلى احتمال كون كلمة “نفيلين” العبرية على علاقة بكلمة “نوفل” العربية التي هي ربما مشتقة من نفس الجذر الذي اشتق منه اسم الإله “مناف” (أي “نوف”)، وكلمة نوفل ربما كانت اسما لكائن روحي اسمه “نَوْفَل زُفَر”، وهذا الكائن ربما كان مرتبطا بـ”رضوان زُفَر” خازن الجنة. أما “مالك” خازن النار فلن أخوض فيه ولكنني سوف أقول فقط أن الجذر ملك هو من أشيع الجذور في أسماء الآلهة السامية. في إبلا هناك إله اسمه Malik، وفي ماري هناك Malik/Muluk، وفي بابل هناك Maliku (مالك) و Malku (ملك)، وفي أوغاريت هناك “ملك”، وفي كنعان كان هناك “ملك” المعروف أيضا باسم “ملقرت” (ملك القرية)، وهو أهم آلهة الكنعانيين والباحثون يرون أنه “بعل” المقصود في التوراة، ولقد عثر على نصب آرامي مكرس له قرب حلب مما يدل على ذيوع صيته في عموم سورية.

بالنسبة للعرب فما يلي من كتاب جواد علي:

وذهب “دتلف نلسن” إلى أن من بين آلهة ثمود إله اسمه “ملك”، وهو يرى أن الإسم المركب “عبد ملكن”، أي “عبد الملك”، لا تعني كلمة “ملك” الواردة فيه بالمعنى السياسي الذي نفهمه منها، وإنما المراد بها اسم إله. وذهب أيضاً إلى أن لفظة “ملكن” الواردة في النص القتباني الموسوم بـ Glaser 1600 لم يقصد بها ملكاً من ملوك قتبان، بل أريد بها إله اسمه “ملكن” أي “الملك”. وذكر أيضاً ان اسم “عبد الملك” من الأسماء المعروفة في الجاهلية وورد في نصوص الثموديين والصفويين.

الإله “ملك” أو “مالك” في بلاد ما بين النهرين هو مساو للإله Nergal إله العالم السفلي، ونفس الأمر ينطبق على ملك/مالك السوري. بعض الباحثين يرون أن المقصود بلقب “ملك القرية” الذي يطلق على هذا الإله في كنعان وسورية هو “ملك العالم السفلي”، لأن كلمة “القرية الكبيرة” في اللغة الأكدية (Irkallu) تعني “العالم السفلي”، وهي كلمة سومرية الأصل (iri.gal). الكتاب اليونانيون (وعلى رأسهم هيرودوت) أطلقوا على الإله ملك/مالك اسم Heracles، وهذا هو الاسم اليوناني لـ Hercules البطل نصف الإلهي الذي نزل إلى العالم السفلي وحارب الوحوش.

في الكتاب اليهودي هناك كلمة غامضة لطالما حيرت الباحثين هي mōleḵ מֹלֶךְ. هذه الكلمة وردت في الكتاب اليهودي ثمان مرات في سياق متشابه هو تقريبا العبارة التالية:

להַעֲבִיר אֶתבְּנוֺ וְאֶתבִּתּוֺ בָּאֵשׁ לַמֹּלֶךְ

lәhaʕăbīr ʔeṯbәnō wәʔeṯbittō bāʔēš lammōleḵ

لإمرار أبنائه وبناته بالنار إلى الـ mōleḵ

كثير من الباحثين يرون أن Mōleḵ هو إله في العالم السفلي كانت تقدم له قرابين من الأطفال، ومذبحه كان يقع في “وادي هِنُّم” גֵי הִנֹּם (بالطبرية: Hinnōm). تقديم القرابين من الأطفال هي ممارسة اشتهر بها الكنعانيون في العصور القديمة (وكانت سببا لتلطيخ سمعتهم لدى الشعوب الأخرى)، والقصة التوراتية التي تتحدث عن محاولة إبراهيم ذبح ابنه إسحاق هي على ما أعتقد مرتبطة بهذا الطقس الكنعاني الشنيع. وادي هِنُّم الذي كان الأطفال يقتلون فيه قربانا لـ Mōleḵ يقع قرب مدينة القدس واسمه العبري ( Hinnōm) هو مصدر كلمة “جهنّم” العربية التي تطلق على الجحيم.

في مقابل هذا التفسير هناك باحث هو O. Eissfeldt طرح فكرة أن كلمة mōleḵ ليست اسما لإله وإنما هي كلمة تقنية تطلق على عملية تقديم الأطفال كقربان، وأصل الكلمة في رأيه هو *mulk، وهذه الكلمة موجودة بالفعل في اللغة الفينيقية بهذا المعنى. من الناحية الصوتية تفسيره صحيح لأن أصل كلمة mōleḵ الطبرية هو على الأغلب *mulk، ولكن حتى لو كانت كلمة mōleḵ اسما لعملية قتل الأطفال فهي لا بد مشتقة من اسم الإله ملك/مالك، لأن الجذر ملك ليست له علاقة بالقربان والأطفال. هذه الكلمة هي مجرد اشتقاق من اسم الإله ملك/مالك.

هذه باختصار هي خلفية مالك خازن النار، وهي خلفية واضحة لأن وظيفة الإله ملك/مالك واضحة، أما خلفية رضوان زفر خازن الجنة فهي ليست بنفس الوضوح لأن وظيفة الإله رضا غير واضحة. لدي بعض المعلومات والنظريات عن الإله رضا من الممكن أن تساعد على فهم شخصية رضوان زفر ولكنني لم أسردها تجنبا لمزيد من الإطالة. الإله رضا حسب بعض النظريات يجسد الانتقال من حال إلى حال وهو المسؤول عن إدخال الناس في عبادة الآلهة (initiation) وهو المسؤول عن ولادة نجمة الصباح. هذه الوظائف للإله رضا قد تفسر الربط بين رضوان زفر وبين الجنة، لأن الجنة هي عبارة عن حياة جديدة وولادة جديدة للإنسان وعبارة عن دخول في رضا الله.

التبديل بين ملك ومالك هو أمر عادي وموجود حتى في القرآن (في بعض قراءات القرآن الله هو “ملك يوم الدين” وفي قراءات أخرى هو “مالك يوم الدين”)، أي أن الفرق بين ملك ومالك غير مهم والكلمتان هما على الأغلب لنفس الشخص. اسم “مالك” شائع عند العرب وهناك قبائل عديدة كانت تسمى “بني مالك”.

ما يلي من لسان العرب:

قال ابن سيده: ورأَيت في بعض الأَشعار مالَكَ الموتِ في مَلَكِ الموت وهو قوله:

غدا مالَكٌ يبغي نِسائي كأَنما :: نسائي، لسَهْمَيْ مالَكٍ، غرَضانِ

قال: وهذا عندي خطأ وقد يجوز أَن يكون من جفاء الأَعراب وجهلهم لأَن مَلَك الموت مخفف عن مَلأَك… ومالِكٌ الحَزينُ: اسم طائر من طير الماء. والمالِكان: مالك بن زيد ومالك بن حنظلة. قال ابن الأَعرابي: أَبو مالك كنية الكِبَر والسِّنّ كُنِيَ به لأَنه مَلَكه وغلبه؛ قال الشاعر:

أَبا مالِكٍ إِنَّ الغَواني هَجَرْنَني :: أَبا مالِك إِني أَظُنُّكَ دائبا

ويقال للهَرَمِ أَبو مالك؛ وقال آخر:

بئسَ قرينُ اليَفَنِ الهالِكِ :: أُمُّ عُبَيْدٍ وأَبو مالِكِ

وأَبو مالك: كنية الجُوعِ؛ قال الشاعر:

أَبو مالكٍ يَعْتادُنا في الظهائرِ :: يَجيءُ فيُلْقِي رَحْلَه عند عامِرِ

ومِلْكانُ: جبل بالطائف… ومالك: اسم رمل

ابن سيده يقول أنه رأى في الأشعار “مالَك الموت” بدلا من “ملَك الموت”، وهو اعتبر ذلك من جفاء الأعراب وجهلهم، ولكن الصحيح هو أن الكلمة هي “مالِك الموت” بكسر اللام وليست كما ضبطها بالفتح. هذه الكلمة لا علاقة لها بالملائكة بل هي اسم الإله مالك إله الجحيم، وهذا يفسر إطلاق العرب كنية “أبي مالك” على المسن الهرم. بالنسبة للطائر المسمى “مالك الحزين” فلا أعلم ما هو أصل تسميته ولكنني أرجح أن لاسمه علاقة بالإله مالك.

ما سبق كان استعراضا لطائفة من الكائنات الروحية عند اليهود والعرب.

إضافة: يرجى الاطلاع على هذا الملحق لأجل توضيح مهم حول معنى كلمة “نوفل”.

مصادر

  • David Noel Freedman, The Anchor Bible Dictionary
  • Gary M. Burge, Andrew E. Hill, Baker Illustrated Bible Commentary
  • John Phillips, Exploring Genesis: An Expository Commentary
  • Geoffrey W. Bromiley, The International Standard Bible Encyclopedia
  • John Barton, The Oxford Bible Commentary
  • James D. G. Dunn, John William Rogerson, Eerdmans Commentary on the Bible
  • K. A. Mathews, The New American Commentary
  • Karel van der Toom, Bob Becking, Pieter W. van der Horst, The Dictionary of Deities and Demons in the Bible
  • Joseph Blenkinsopp, Creation, Un-Creation, Re-Creation: A Discursive Commentary on Genesis
  • Richard James Fischer, Historical Genesis: From Adam to Abraham
  • David L. Jeffrey, A Dictionary of Biblical Tradition in English Literature
  • Kelley Coblentz Bautch, A Study of the Geography of 1 Enoch 17-19: “no One Has Seen what I Have Seen”
  • David Toshio Tsumura, The Earth and the Waters in Genesis 1 and 2: A Linguistic Investigation
  • David Toshio Tsumura, Creation And Destruction: A Reappraisal of the Chaoskampf Theory in the Old Testament
  • Charles N. Pope, Living In Truth: Archaeology and the Patriarchs
  • Allen Austin, The Middle of the Earth
  • Gerald Massey, Ancient Egypt – The Light of the World: A Work of Reclamation and Restitution in Twelve Books
  • Israel Finkelstein, Amihay Mazar, Brian B. Schmidt, International Institute for Secular Humanistic Judaism. Colloquium, The Quest for the Historical Israel: Debating Archaeology and the History of Early Israel
  • Frank Anthony Spina, Israelites as Gerim, ‘Sojourners’, in Historical Context
  • Jan Retsö, The Arabs in Antiquity: Their History from the Assyrians to the Umayyads
  • Irfan Shahîd, Byzantium and the Arabs in the Fifth Century
  • Encyclopaedia of Islam
  • The Cambridge Encyclopedia of the World’s Ancient Languages
  • Gesenius’ Hebrew grammar
  • Arthur Ungnad, Akkadian grammar
  • Rebecca Hasselbach, Sargonic Akkadian: A Historical and Comparative Study of the Syllabic Texts
  • Daniel A. Foxvog, Introduction to Sumerian Grammar
  • Theodor Nöldeke, Compendious Syriac Grammar
  • Edward Lipiński, Semitic Languages: Outline of a Comparative Grammar
  • Wikipedia, the free encyclopedia
  • Encyclopædia Britannica
  • Microsoft Encarta
  • جواد علي، المفصل في تاريخ العرب
  • ربحي كمال، اللغة العبرية
  • Claudii Ptolemaei Geographia
  • مصدر نص الكتاب المقدس العربي: The Bible Society in Lebanon (مع تصرف شديد)
  • مصدر نص الكتاب المقدس العبري: Biblia Hebraica Stuttgartensia
  • مصدر نص الكتاب المقدس الإنكليزي: King James Version of the Holy Bible

أنساب التوراة (4)

هذا المقال هو استكمال لسلسلة سابقة من المقالات. لرؤية الرموز الأجنبية المستخدمة في هذا المقال وبقية المقالات حمل ونصب هذا الخط. لمعرفة أصوات الرموز انظر هذا المقال.

بعد الفصل الخامس من سفر التكوين يأتي الفصل السادس الذي يروي قصة الطوفان، وهذا الفصل يبدأ بكلام غامض لطالما حير المفسرين:

(التكوين:6 )
1. ولما بدأَ النَّاسُ (الأَدَم הָאָדָם) يَكثُرونَ على وجهِ الأرضِ ووُلِدَ لهُم بَناتٌ،
2. رأى بَنو اللهِ (بَنُو الإلاهيم בְנֵיהָאֱלֹהִים) أنَّ بَناتِ النَّاسِ (بنات الأَدَم בְנוֹת הָאָדָם) حِسانٌ، فتَزَوَّجوا مِنْهُنَّ كُلَّ مَن اخْتاروا.
3. فقالَ يهوه: “لا تدُومُ روحي في الإنسانِ (الأَدَم הָאָדָם) إلى الأبدِ، فهوَ لَحْمٌ (بَشَر בָשָׂר) وتكونُ أيّامُه مئةً وعِشْرينَ سنَةٍ”.
4. وكانَ النَّفِيلُونَ (הַנְּפִלִים) في الأرضِ في تِلكَ الأيَّامِ وأيضاً بَعدَها حينَ عاشرَ بَنو اللهِ بَنات النَّاسِ ووَلَدْنَ لهُم أولاداً، هُمُ الجَبَّارُونَ (הַגִּבֹּרִים) الذينَ ذاعَ اسمُهُم مِنْ قديمِ الزَّمانِ.

هذا الكلام غامض المعنى عند المفسرين. في التراث اليهودي هناك تفسيران، التفسير الأول هو أن المقصود ببني الله هم بنو ست بن آدم، وأما بنات الناس فهم بنات قين بن آدم، والتفسير الثاني هو أن المقصود ببني الله هم فئة من الملائكة الذين تمردوا على الله.

المشكلة في سفر التكوين هي أن كلمة “أدم” أو “الأدم” غامضة المعنى. الكلمة تعني الإنسان عموما، ولكن المترجمين يترجمونها أحيانا إلى “إنسان” وأحيانا إلى اسم علم “آدم” حسب فهمهم للنص، وهم لا يتفقون على ذلك. الترجمة العربية التي لدي تذكر اسم آدم لأول مرة في 2:7 وقبل ذلك هي لا تذكر سوى كلمة “إنسان” كترجمة “لأدم”، أما الترجمة الإنكليزية فهي تذكر اسم آدم لأول مرة في 2:19. أي أن المسألة شخصانية وتعتمد على وجهات النظر.

لو أخذنا الرواية التي تقول أن بني الله هم بنو ست وأنهم تمردوا على الله وتزاوجوا مع بنات قين كما تقول الروايات اليهودية، فالسؤال هو من هم إذن “النفيلون” الذين تقول التوراة أنهم كانوا في الأرض في ذلك الزمن؟

كلمة نَفِيلُون (الكتابة الطبرية: nəp̄īlîm) هي كلمة غامضة المعنى. اليهود يفسرونها بأنها تعني “عمالقة”، وهي هكذا مترجمة في الترجمات اليونانية واللاتينية (gigantes γιγαντες ، في النسخة الإنكليزية: giants)، ولكن هذا المعنى لا يتوافق مع معنى الجذر نفل الذي يعني في العبرية “السقوط”. لهذا السبب بعض الباحثين المعاصرين يميلون لتفسير “نفيلين” بأنها تعني “الساقطين” بمعنى “القتلى” أو “البائدين”، وهم يستدلون بكلمة مشابهة وردت في سفر حزقيال:

(حزقيال: 32)
17. وفي الخامسَ عشَرَ مِن الشَّهرِ الثَّاني عشَرَ مِنَ السَّنةِ الثَّانيةَ عشْرةَ بَعدَ السَّبْيِ قالَ ليَ يهوه:
18. “يا ابنَ الإنسانِ (بِن أَدَم בֶןאָדָם)، وَلوِلْ على جَمْعِ مِصْرَ وأَنزِلْهُم (أَوْرِدُهُم הוֹרִדֵהוּ)، أَنزِلها وبَناتِ الأُمَمِ العَظِيمَةِ إلى الأرضِ السُّفلى معَ نازلي (وارِدِي יוֹרְדֵי) الهاويةِ.
19. من تفوق في الحُسنِ [يا جمع مصر]؟ انزِلْ (رِدْ רְדָה) وارقُدْ معَ الغُرْلِ [غير المختونين].
20. بَينَ قَتلى السَّيفِ يسقطونَ (يَنفُلُون יִפֹּלוּ)، السَّيفَ تُعطَى، خُذوها وكلَّ جُموعها.
21. سادةُ الجَبَّارين (אֵלֵי גִבּוֹרִים) من وسطِ الجحيمِ (سُؤال שְׁאוֹל) يقولون له ولأعوانه: الغُرْلُ المقتولون بالسيفِ نَزَلوا (وَرَدُوا יָרְדוּ) ورَقَدُوا.
22. هُناكَ أسُّورُ وكُلُّ شُرَكَائِها، قُبورُها مِنْ حَولِها كُلُّهُم قتلى ساقِطونَ (نافِلون נֹּפְלִים) بالسَّيفِ،
23. التي قبرُها بجانبَي الهاويةِ، وشُرَكَاؤُها حولَ قبرِها، كُلُّهُم قتلى ساقِطونَ (نافِلون נֹּפְלִים) بالسَّيفِ، الذينَ أَلقوا الرُّعبَ في أرضِ الأحياءِ.
24. هُناكَ عَيْلَمُ (عيلام) وكُلُّ جُمُوعِها حَولَ قبرِها. كُلُّهُم قتلى ساقِطونَ (نافِلون נֹּפְלִים) بالسَّيفِ، الذين نزلوا (وَرَدُوا יָרְדוּ) غُرْلا إلى الأرضِ السُّفلى. الذينَ أَلقوا الرُّعبَ في أرضِ الأحياءِ، وحمَلوا عارَهُم إلى نازلي الهاويةِ.
25. وسَطَ القتلى أعطوها مَرقَدًا بِكُلِّ جُمُوعِها، جُموعُها حَولها كلهم غُرْلٌ قَتلى بالسيفِ، أَلقَوا الرُّعبَ في أرضِ الأحياءِ، وحمَلوا عارَهُم إلى نازلي (وارِدِي יוֹרְדֵי) الهاويةِ، وسطَ القتلى جُعِلَتْ.
26. هُناكَ مَسْكُ (Meshech) وتُوبَلُ (Tubal) وَكُلُّ جُموعِها، حَولها قُبورُها كلهم غُرْلٌ قَتلى بالسيفِ، لأنهم أَلقَوا رُعبَهم في أرضِ الأحياءِ.
27. لا يَرقُدُونَ معَ الجَبَّارينَ السَاقِطينَ (النافِلين נֹּפְלִים) من الغُرْلِ، الذينَ نزلوا (وَرَدُوا יָרְדוּ) إلى الجحيمِ بأسلحتِهِم ويجعلون سُيوفَهُم تَحتَ رؤوسِهِم ويكونُ ظُلمهم على عِظامِهِم، بِسَببِ رُعبَ الجَبَّارينَ في أرضِ الأحياءِ.
28. وأنتِ وسطَ الغُرْلِ ستُكَسَّرِينَ وستَرقُدِينَ مع قَتلى السيفِ.
29. هُناكَ إِدامُ، مُلوكُها وكُلُّ أمرائِها الذينَ بجَبَرُوتِهم جُعِلوا معَ قتلى السَّيفِ، سيرقدون مع الغُرلِ ومع نازلي (وارِدِي יוֹרְדֵי) الهاوية.
30. هُناكَ أُمراءُ الشَّمالِ كُلُّهُم وكُلِّ الصِّيدانيِّينَ، الذينَ نَزلوا (وَرَدُوا יָרְדוּ) معَ القتلى، من رعبهم بجبَروتِهم خَجِلونَ، ويرقدون غُرْلا مع قتلى السيفِ ويحملون عارَهم مع نازلي (وارِدِي יוֹרְדֵי) الهاوية.
31. يقول سيدُنا يهوه: “فَرْعَا (فرعون) يَراهُم جميعاً، ويَرتاحُ لكُلِّ جُمُوعِه، فَرْعَا وكُلُّ جيشِه قَتلى بالسيف،
32. لأنني ألقيت رُعبيَ في أرضِ الأحياءِ، وسيَرقُدُ فَرْعَا وكُلُّ جُموعِه وسط الغُرْلِ وقَتلَى السيفِ”.

الفقرة 27 تتحدث عن “الجبارين النافلين” (gibbôrîm nōp̄əlîm) بمعنى “الجبارين الساقطين”، وهؤلاء ربما يكونون نفسهم الجبارين “النفيلين” (nəp̄īlîm) الذين تحدث عنهم الفصل السادس من سفر التكوين. كلمة “نافلين” هنا يقصد بها السقوط في هاوية الجحيم (المسماة في الكتاب اليهودي “سُؤال” Sheol šəʔôl، وهي نفسها الأرض السفلى ʔereṣ taḥtiyyôṯ).

النفيلون ذكروا أيضا في سفر الأعداد على أنهم يسكنون كنعان:

(الأعداد: 13)
28. غَيرَ أنَّ الشَّعبَ السَّاكنينَ فيها أقوياءُ والمُدُنَ حصينةٌ عظيمةٌ جِدَّا، ورَأينا هُناكَ أيضًا أَولادَ العَنَقَ (יְלִדֵי הָעֲנָק).
29. عَمَلِقُ (עֲמָלֵק ʕămālēq) تُقِيمُ بأرضِ الجنوبِ، والحِتِّيونَ واليَبُوسِيُّونَ والأَمُورِيُّونَ مُقيمونَ بِالجبَلِ، والكنعانيُّونَ مُقيمونَ عِندَ البحرِ وعلى ضَفَّةِ الأُردُنِّ.


32. وأخرَجوا لبَني إِسرائيلَ تقريرا سيِّئا عن الأرضِ الّتي تَجَسَّسوها وقالوا: “الأرضُ الّتي مَرَرْنا فيها لِنَتَجَسَّسَها هيَ أرضٌ تأكُلُ أهلَها، وجميعُ الشَّعبِ الّذينَ رَأيناهُم فيها أُناسٌ عِظَامُ القاماتِ.
33. ورَأينا هُناكَ النَّفِيلِينَ بَني عَنَقَ (הַנְּפִילִים בְּנֵי עֲנָק)، فَصِرْنا في نظَرِنا صِغارا كالجَرادِ، وكذلِكَ في نظَرِهِم.

هنا وصف النفيلون بأنهم “بنو عَنَق” وبأنهم ضخام القامة.

هناك كلمة أخرى في الكتاب اليهودي تترجم إلى “عمالقة” هي “الرَفَؤُون” הָרְפָאִים (الكتابة الطبرية: rəp̄āʔîm، بالإنكليزية: Rephaim). مثلا في سفر التثنية:

(التثنية: 3)
10. أخذْنا جميعَ مُدُنِ السَّهلِ وكُلَّ الجِلْعَدِ (הַגִּלְעָד Gilead) وكُلَّ البَسَنِ (הַבָּשָׁן Bashan) إلى سَلْكَةَ (סַלְכָה Salcah) وأَدْرَعِي (אֶדְרֶעִי Edrei)، مَدِينتَي مَملكَةِ عَاجَ (עוֹג Og) في البَسَنِ.
11. لأنَّ عَاجَ ملكَ البَسَنِ هوَ وَحدَه آخِرُ مَنْ بقيَ مِنَ الرَفَئِين. إنَّ عرشَهُ مِنْ حديدٍ، ألَيسَ هو في رَبَّةِ بَني عَمَّانَ؟ تِسْعَةُ أذرعٍ طُولُه، وأربعَةُ أذرعٍ عَرضُه، بِذِراعِ رَجُلٍ.

الجذر “رفأ” في العبرية يعني “عالج” أو “شفى”، وكما كلمة نفيلين فإن كلمة رَفَئِين وردت في التوراة (مثلا في التكوين 50:2) بصيغة رافِئِين רֹפְאִים (rōp̄əʔîm)، والمعنى هنا “أطباء”. وأيضا كما كلمة نفيلين فإن كلمة رفئين وردت في التوراة (في أسفار إشعيا والمزامير والأمثال) بمعنى سكان الجحيم أو العالم السفلي، والمعنى الأصلي لهذه الكلمة كما يرى الباحثون هو “الأسلاف الموتى” أو “الأجداد الموتى”، ولقد عثر عليها في أجاريت (*rapaʔūma) rpʔum وكانت تستخدم هناك في الإشارة إلى الملوك الذين توفوا منذ زمن بعيد بهدف التبرك بهم وطلب مساعدتهم، أي أن كلمة “رافئين” بمعنى “أطباء” كانت في الأصل تعني المعالِجين باستحضار أرواح الموتى.

في اللغة العربية الجذر رفأ له معان قريبة (من اللسان):

والرَّفاءُ بالمدّ: الالتِئامُ والاتِّفاقُ. وَرَفأَ الرجلَ يَرْفَؤُه رَفْأً: سكنَّه. وفي الدعاءِ لِلمُمْلِكِ بالرَّفاءِ والبَنِينَ أَي بالالتئام والاتِّفاقِ وحُسْنِ الاجْتماع… قال ابن هانئٍ: رَفَّأَ أَي تزوَّج، وأَصل الرَّفْءِ: الاجتماع والتَّلاؤُم.

عملق

بالإضافة إلى النفيلين والرفئين هناك في التوراة أيضا العَمَلِق עֲמָלֵק (الكتابة الطبرية:  ʕămālēq ، بالإنكليزية: Amalek)، وهؤلاء هم العمالقة أو العماليق المعروفون عند العرب. العملق في الكتاب اليهودي هم ربما أكثر الشعوب العملاقة ذكرا وهم يظهرون في الكثير من المعارك والحروب ضد بني إسرائيل، وفي الحقيقة هم أول شعب حارب بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وذلك في رَفِيدِيم Rephidim في التيه.

الكتاب اليهودي يصور العملق وكأنهم شعب حقيقي كان يسكن القسم الشرقي من صحراء التيه، وتحديدا بالقرب من إدام ومن المناطق التي كان بنو إسرائيل يسكنونها قبل رحيلهم إلى كنعان. سفر المواليد في سفر التكوين يجعل عملق حفيدا لعِشَو (إدام) عبر ابنه إِلِيفَز Eliphaz الذي أنجبه من الجارية الحورية تِمْنَع Timna. الحوريون Horites حسب الكتاب اليهودي هم سكان إدام قبل بني عشو، وبالتالي نسب العملق يظهر أن لهم جذورا قديمة في منطقة إدام أو جبل الشراة.

العماليق مشهورون جدا عند الكتاب المسلمين وهم يعدونهم من شعوب العرب البائدة ويروون عنهم العديد من القصص. هم ينسبونهم إلى “عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح” الذي يزعم بعضهم أنه “أول من تكلم العربية حين ظعن من بابل”، ويروون “أن العماليق لحقت بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها عَبِيلاً، وسكنوا في ديارهم، وذهبت عَبِيلُ إلى موضع الجُحْفَة، فأقبل السيل فاجتحفهم، فذهب بهم، فسميت الجحفة.” و”عَبِيل” عند الكتاب المسلمين هي قبيلة الرجل الذي “اختط” (أنشأ) يثرب، وهو “يثرب بن باثلة بن مهلهل بن عَبيل”.

العماليق لم يسكنوا صنعاء ويثرب فقط وإنما روي أيضا أنهم كانوا يسكنون مكة قبل أن تسكنها قبيلة جُرْهُم البائدة وأنهم بنوا الكعبة، وروي أنهم كانوا يسكنون وادي القرى قبل مجيء اليهود.

العماليق عند المسلمين كانوا فعليا يسكنون كل البلاد في العصور القديمة (اليمن والحجاز ونجد واليمامة وعمان والشام ومصر إلخ)، ومن ملوك العماليق المشهورين “الأرقم” ملك تيماء الذي أرسل موسى جيشا لمحاربته ولكن الأرقم مع أهل الحجاز فتكوا به، وأيضا هناك الملك “عَملوق” ملك قبيلة طَسْم البائدة في اليمامة “الذي استذلَّ قبيلة جَدِيس وأهانها، فثارت جديس وقتلته ومن كان معه من حاشيته، واستعانت طسم بـ”حسّان بن تبع” من تبابعة اليمن، فوقعت حرب أهلكت طسمًا وجديسًا، و بقيت اليمامة خالية، فحل بها بنو حنيفة الذين كانوا بها عند ظهور الإسلام.”

كل هذه القصص التي يرويها الكتاب المسلمون عن العماليق أنكرها المستشرق نولدكه الذي رأى أن كلمة “عماليق” أخذها العرب من كلمة ʕămālēq العبرية بعد أن فسروا الكلمة العبرية على أنها جمع تكسير وأوجدوا لها مفردا من عندهم هو “عمليق”.

بالنسبة لمعنى كلمة “عملق” فهو مجهول. هناك فرضيات كثيرة طرحت لتفسير هذا الاسم منها أنه مشتق من الجذر “عمق” الذي يعني في العبرية “وادي” أو “غور”، وبالتالي معنى عملق هو “سكان الوادي” أو “سكان الكهوف”، وقيل أيضا أن عملق تعني “الشراسة” أو “القتال”، وقيل غير ذلك.

المناطق التي كان يعيش فيها بنو عملق حسب الكتاب اليهودي هي نفس مناطق بني إسماعيل:

(1 صموئيل : 15)
1. وقالَ سَمُوئِلُ (صموئيل) لِسَؤُولَ (شاؤول): “أنا الّذي أرسَلَني يهوه لأمسَحَكَ لتكونَ مَلِكاً على شعبِهِ على إِسرائيلَ، فاسمَعِ الآنَ لصوتِ كلماتِ يهوه.
2. هذا ما يقولُ يهوه القديرُ: تَذكَّرتُ ما فعَلَتْ عَمَلِقَ بِبَني إِسرائيلَ حينَ خرَجوا مِن مِصْرَ، وكيفَ هاجَمَتهُم في الطَّريقِ،
3. فاذهَبِ الآنَ واضرِبْ عَمَلِقَ، وأهلِكْ جميعَ ما لها ولا تَعفُ عَنها، بلِ اقتُلِ الرِّجالَ والنِّساءَ والأطفالَ والرُّضَّعَ والبقَرَ والغنَمَ والجِمالَ والحميرَ”.
4. فنادى سَؤولُ رِجالَهُ وأحصاهُم في طَلَئِيمَ (Telaim) فكانوا مئَتي ألفِ رَجُلٍ [مِنْ إِسرائيلَ] وعشَرَةَ آلافٍ مِنْ يَهُودة (يهوذا).
5. وجاءَ سَؤولُ إلى مدينةِ عَمَلِقَ وكَمَن في الوادي.
6. وقالَ سَؤولُ لِلقَينِيِّينَ: “قوموا اخرُجوا مِنْ بَينِ العَمَلِقِيِّينَ لئلا أدمِّرَكِ معَهُم وأنتِ أحسَنتِ إلى كلِّ بَني إسرائيلَ حينَ خرَجوا مِنْ مِصْرَ. فخرَجَ القينيُّونَ مِنْ بَينِ عَمَلِقَ.”
7. وضرَبَ سَؤولُ عَمَلِقَ مِنْ حَوِيلَةَ إلى سُوْرَ التي قُبالَةَ مِصْرَ،
8. وأسرَ أَجَجَ (Agag) مَلِكَ عَمَلِقَ حيًّا وأبادَ شعبَهُ جميعاً بِـحَدِّ السَّيفِ.
9. وعَفا سَؤولُ والشعبُ عَن أَجَجَ ولم يُهلِكوا خيرَةَ الغنَمِ والبقَرِ والخِرافِ وكلَّ ما كانَ جيِّداً، وإنَّما أهلَكوا كُلَّ ما كانَ حقيراً هزيلاً.

سَؤول (شاؤول Saul) هو أول ملوك مملكة إسرائيل، وبالتالي هذه القصة قديمة وتعود إلى بدايات تاريخ بني إسرائيل. من هذه القصة يتبين أن بني عملق كانت تسكن في نفس مناطق القينيين (المدينيين) في شمال الحجاز (والتي هي على الأغلب المناطق التي نشأ فيها العرب)، وتعريف بلاد عملق المعطى هنا (“مِنْ حَوِيلَةَ إلى سُوْرَ التي قُبالَةَ مِصْرَ”) يطابق تعريف بلاد إسماعيل المعطى في سفر التكوين. كل ما سبق يعني أن بني عملق التوراتيين هم شعب من شعوب العرب البائدة كالمدينيين وغيرهم، وهو ما يقوله الكتاب المسلمون.

ولكن هناك عدة مشكلات في بني عملق منها أن كلمة “عملق” لم ترد في أي مصدر قديم ما عدا الكتاب اليهودي حصرا (والمصادر الإسلامية التي أخذت الكلمة من اليهود حسب زعم نولدكه)، ولم يعثر على أية آثار أو دلائل على وجود هكذا شعب في العصور القديمة.

بعض الباحثين درسوا بني عملق في الكتاب اليهودي وتوصلوا إلى نتيجة هي أن العملقيين هم في الأصل كائنات خرافية كانت على ما يبدو تعيش عند مواطن المياه في الصحاري، ويدل على ذلك وصف المعارك التي دارت بينهم وبين بني إسرائيل والتي تبدو أشبه بالطقوس الروحية منها إلى المعارك الحقيقية. هذا الموضوع واسع وأنا لن أخوض فيه ولكنني سوف أنقل فقط وصف المعركة الأولى التي دارت بين بني إسرائيل والعملق في رَفِيدِيمَ في صحراء التيه:

(الخروج: 17)
1. وارتحلَ جميعُ بَني إِسرائيلَ مِنْ برِّيةِ سينَ على مراحلَ، كما أمرَ يهوه، ونزلوا في رَفِيدِيمَ حيثُ لا ماءَ يشربونَه،
2. فخاصموا موسى وقالوا: “أعطونا ماءً نشربُهُ”. فقالَ لهم موسى: “لماذا تُخاصمونَني؟ ولماذا تَختبرونَ يهوه؟”
3. وعطِشَ هُناكَ بَنو إِسرائيلَ إلى الماءِ وألَقوا اللَّومَ على موسى وقالوا: “لماذا أصعدْتَنا مِنْ مِصْرَ لتميتَنا نحنُ وبَنينا ومَواشينا بالعَطشِ؟”
4. فصرخَ موسى إلى يهوه: “ماذا أفعَلُ ﺑﻬؤلاءِ الشَّعبِ؟ بعدَ قليلٍ يرجُمونَني”.
5. فقالَ له يهوه: “اُعبُرْ أمامَ الشَّعبِ ومعَكَ بعضُ شُيوخِ إِسرائيلَ. وخُذْ بيدِكَ عصاكَ التي ضربْتَ ﺑﻬا النَّهرَ واذهبْ،
6. فتجدَني واقفًا أمامَكَ هُناكَ على الصَّخرةِ في حارِبَ، فتضرب الصَّخرَة فيخرُج منها ماءٌ يشربُ مِنه الشَّعبُ”. ففعلَ موسى كذلِكَ، أمامَ عيونِ شُيوخِ إِسرائيلَ.
7. وسمَّى موسى ذلِكَ المكانَ مَنْسَةَ (מַסָּה Massah) ومَرِيبَةَ (מְרִיבָה Meribah)، بسبب رِيبةِ (رِيب רִיב) بَني إِسرائيلَ واختبارِهم (نَسَّاتِهِم נַסּוֹתָם) ليهوه بقولهم: “أمَعَنا يهوه أم لا؟”
8. وجاءَتْ عَمَلِقُ وتحاربَتْ مع إسرائيلَ في رَفِيدِيمَ.
9. فقالَ موسى ليَهوسُوْعَ (يوشع): “اِختَرْ لنا رِجالاً واخرُجْ لمحاربةِ عَمَلِقَ، وغدًا أقِفُ على رأسِ التلَّةِ وعصا اللهِ في يَديَ”.
10. ففعلَ يَهوسُوْعُ كما قالَ له موسى وحاربَ عَمَلِقَ، وموسى وهارونُ وحُوْرُ صَعِدوا إلى رأسِ التلَّةِ.
11. فكانَ إذا رفعَ موسى يدَهُ تنتصِرُ بَنو إِسرائيلَ، وإذا حَطَّ يدَهُ تنتصِرُ عَمَلِقُ.
12. ولمَّا تعِبتْ يَدا موسى، أقعدَهُ هارونُ وحُوْرُ على حجَرٍ وسَنَدا يديهِ، أحدُهُما مِنْ هُنا والآخرُ من هُناكَ، فكانت يَدا موسى ثابتتَينِ إلى غُروبِ الشَّمسِ.
13. فهزمَ يَهوسُوْعُ عَمَلِقَ وشعبَها بحدِّ السَّيفِ.
14. وقالَ يهوه لموسى أكتبْ خبَرَ هذا النَّصرِ ذِكْرًا في الكتابِ وُقلْ ليَهوسُوْعَ: “سأمحو ذِكْرَ عَمَلِقَ مِنْ تحتِ السَّماءِ”.
15. وبَنى موسى مذبحًا وسمَّاهُ “يهوه نِسِّيْ” (יְהוָה נִסִּי).
16. وقالَ: “طالما يدٌ على عرشِ يهوه، ليهوه حربٌ مع عَمَلِقَ من جيلٍ إلى جيلٍ”.

حُور (חוּר Hur) المذكور هنا مع هارون مرتبط على الأغلب بحور الذي ذكر في مواضع أخرى من الكتاب اليهودي على أنه أحد ملوك مدين (مثلا في سفر الأعداد 31:8)، وهذا ليس غريبا لأن هذه القصة تدور أحداثها في فترة التيه قبل دخول بني إسرائيل إلى كنعان، وفي فترة التيه بنو إسرائيل كانوا يسكنون بجوار مدين. يوجد في شمال الحجاز (قرب مدين) مرفأ قديم اسمه “الحَوْراء”، وبعض الباحثين يربطون بين هذا الاسم وبين اسم حور المديني الذي ورد ذكره في الكتاب اليهودي وبين اسم موضع حور الذي ورد ذكره في مصدر فارسي قديم على أنه يقع في شمال الحجاز، وهو على الأغلب نفسه بلدة Auara النبطية التي ذكرها كتاب يونانيون والتي كانت حسب بطليموس تقع بين أيلة وبطرا. من المحتمل أيضا أن الحوريين الذين تقول التوراة أنهم كانوا يسكنون إدام قبل بني عشو لهم علاقة بهذه الكلمة. بعض الباحثين يرون أن الحوريين كانوا يسكنون في جنوب جبل الشراة إلى الجنوب من الإداميين، أي أنهم كانوا يسكنون منطقة “عاد” الذين ذكرهم الكتاب المسلمون. التوراة تقول أن عملق جد بني عملق هو من نسل عشو من جهة الأب وأن أمه هي جارية حورية اسمها تِمنَع، أي أنه ينتمي إلى نفس تلك المنطقة.

حور هذا ذكر لاحقا في سفر الخروج على أنه كان شريكا لهارون في القضاء:

(الخروج: 24)
13. فقامَ موسى ومعَهُ يَهوسُوْعُ خادِمُهُ وصَعِدَ إلى جبَلِ اللهِ.
14. وقالَ لِشُيوخِ بَني إِسرائيلَ إنتَظِرونا هُنا حتّى نرجِـعَ إليكُم. وها هارونُ وحُورُ معَكُم، فمَنْ كانَت لَه دعوى فليَذهَبْ إليهِما.
15. وصَعدَ موسى الجبَلَ، فغطَّى السَّحابُ الجبَلَ.

هارون في الكتاب اليهودي هو كناية عن طبقة الكهان اليهود الذين كانوا في زمن كتابة التوراة ينتسبون إلى جد اسمه هارون، وبالتالي إشراك حور مع هارون في الكهانة هو أمر ذو دلالة ويذكرنا بالكاهن المديني يَتْرا الذي آوى موسى وزوجه. هذا دليل آخر على دور المدينيين وسكان شمال الحجاز عموما في نشوء الديانة اليهودية. بالنسبة لاسم الكاهن يَتْرا فبعض الباحثين ربطوه باسم مدينة يثرب، وهذا أمر سأتحدث عنه لاحقا.

بالنسبة لمعركة رفيديم بين بني إسرائيل وبني عملق فبعض الباحثين فسروا هذه المعركة الغريبة على أنها ليست معركة حقيقية وإنما هي وصف لطقس روحي أو سحري قديم كان سكان الصحراء يمارسونه لاستصلاح مياه الآبار. هناك في الكتاب اليهودي عدة دلائل تدل على هذا الأمر إلى جانب هذه القصة. هذا الطقس على ما يبدو كان يتضمن تمثيلا لمعركة ضد كائنات خرافية هي العملق.

العملق وفق هذا المنظور ليسوا شعبا قديما وإنما هم مثل الغول والعفريت والعنقاء والنسناس إلخ، أي أنهم كائنات ميثولوجية أو خرافية.

من الأمور التي تدعم هذا التفسير معنى كلمة “عملق” في اللغة العربية (من تاج العروس):

العَمالِيقُ والعَمالِقَة: قومٌ من عاد تفرّقوا في البِلادِ وانْقَرَض أكثرهُم وهم من ولَدِ عِمْلِيق كقِنْديل أو عِمْلاق مثل قِرْطاس الأخيرُ عن اللّيْثِ ابن لاوَذَ بنِ إرَم بنِ سام بنِ نوحٍ عليه السلام كما في الصّحاح. وفي المقدِّمة الفاضِلِية أنّ لاوَذَ أخو إرَم وأرفَخْشذ بني نُوح عليه السلام. وقال اللّيْثُ: وهم الجَبابِرَةُ الذين كانوا بالشّام على عهْدِ موسَى عليه السلامُ وقال ابنُ الأثير: هم الجَبابِرَة الذين كانوا بالشّام من بقيّة قوْم عاد. وقال ابنُ الجَوّانيّ: عِمْليق: أبو العَمالِقَة والفَراعِنَة والجَبابِرة بمِصْر والشّام وكانوا فبانُوا مُنْقَرِضين. وقال السُّهَيْليُّ: من العَماليقِ مُلوكُ مصر الفَراعِنةُ منهم الوَليدُ بنُ مُصْعَب بن اشمير بن لهو بن عِمْليق وهو صاحِبُ موسى عليه السلام والرّيّانُ بنُ الوَليد صاحبُ يوسُفَ عليه السلام. والعَمْلَقَةُ: البوْلُ والسّلْح أو الرّميُ بهِما عن ابنِ عبّاد… العَمْلق: الجَوْر والظُلْم. والعَمْلَقَة: اخْتِلاطُ الماءِ في الحوْض وخُثورَتُه. وحكى ابنُ بَرّي عن ابنِ خالَوَيْه: العَمْلَقُ: الاخْتِلاط والخُثورة ولم يُقيِّدْه بماءٍ ولا غيْرِه. وعمْلَقَ ماؤُهم: إذا قَلّ. والعِمْلاقُ: الطّويل والجَمْع عَماليق وعَمالِقَة وعَمالِقُ بغيْر ياءٍ الأخيرةُ نادِرةٌ. وقد سمَّوْا عَمْلَقاً كجَعْفَر وزِبْرِج وقِرْطاس.

كلمة “عملق” في اللغة العربية تعني “قلة الماء” أو “تلوث الماء” وتعني أيضا “الجور والظلم”، وهذا المعنى يناسب تماما التفسير الذي نقلته في الأعلى. العملق هم في الأصل صنف من الجن الذين كانوا يمنعون الماء عن الناس أو يلوثونه، ولمباركة الماء كان سكان الصحراء يقومون بطقس يتضمن تمثيل معركة ضد العملق.

بالنسبة لكلمة עֲמָלֵק ʕămālēq العبرية فهي تبدو لي غريبة من حيث الوزن الصرفي. أنا بحثت عن هذا الوزن في أكثر من كتاب للنحو العبري ولم أجده. أقرب وزن لهذا الوزن هو وزن كلمة עֲטַלֵּף ʕăṭallēp̄ التي تعني “وطواط”. إن كان أصل ʕămālēq عبريا فهو ربما كان *ʕamalliq. من المحتمل في هذه الحالة أن العين هي بادئة اشتقاقية (preformative) تدل على الكائنات الخبيثة (كما في “عكنب”، و”عقرب”، إلخ) وأن الجذع الأصلي هو *malliq. الجذر ملق له في اللغة العربية المعاني التالية:

والإمْلاق: الافْتِقار. قال الله تعالى: ولا تقتلوا أَولادكم من إمْلاق… وقال ابن شميل: إنه لمُمْلِق أي مفسد. والإملاق: الإفساد… ومَلَقَ الثوبَ والإناء يَمْلُقه مَلْقاً: غسله. والمَلْقُ: الرضع. ومَلَقَ الجَدْي أُمه يَمْلُقُها مَلْقاً: رضعها، وكذلك الفَصِيل والصبيّ، وقرئ على المنذري: مَلَقَ الجدي أُمه يَمْلِقُها، قال: وأَحسب مَلَقَ الجدي أُمه يَمْلُقها إذا رضعها لغة… ومَلَقَ عينه يَمْلُقُها مَلْقاً: ضربها. ومَلَقهُ بالسوط والعصا يَمْلُقه مَلْقاً: ضربه. ويقال: مَلَقهُ مَلَقاتٍ إذا ضربه. والمَلْقُ: ضرب الحمار بحوافره الأرض… ومَلْقُ الأَدِيم: غسله… والمالَقُ: الخشبة العريضة التي تشدّ بالحبال إلى الثَّوْرين فيقوم عليها الرجل ويجرها الثوران فيُعَفِّي آثار اللُّؤَمَةِ والسِّنّ؛ وقد مَلَّقُوا أَرضهم يُمَلِّقُونها تَمْلِيقاً إذا فعلوا ذلك بها؛ قال الأزهري: مَلَّقوا ومَلَّسوا واحد وهي تملِّسُ الأرض، فكأنه جعل المالَقَ عربيّاً؛ وقيل: المالَقُ الذي يقبض عليه الحارث. وقال أَبو حنيفة: المِمْلَقة خشبة عريضة يجرها الثيران. الليث: المالَقُ الذي يملّس الحارث به الأرض المُثارة.

الجذر ملق له معان تتعلق بالفقر والغسل والرضاعة وضرب الأرض وحراثتها، أي أن معناه الأصلي ربما يكون متعلقا باستخراج الماء من الأرض.

إذن كلمة عملق العبرية يمكن تحليلها على أنها مشتقة من الجذر ملق، ولكن هل الكلمة عبرية الأصل بالفعل؟ هناك باحثون غربيون رأوا أن الكلمة ليست عبرية الأصل، وهذا الرأي وارد في رأيي.

نولدكه اعتبر كل القصص العربية عن العماليق مجرد خزعبلات ألفها العرب بعد أن أخذوا كلمة عماليق من اليهود، ولكنني بصراحة أستغرب هذا الكلام لأن كلمة عماليق شائعة جدا عند العرب ولا يعقل أن كلمة بهذه الأهمية هي من مصدر خارجي. نولدكه لم ينكر وجود العماليق فقط بل أنكر وجود قبائل كقبيلة ثمود واعتبرها قبيلة خرافية، ولكن حاليا وجود قبيلة ثمود تاريخيا هو أمر لا شك فيه. على الأرجح في رأيي أن كلمة عماليق هي كلمة عربية أصيلة، وهذا أمر طبيعي لأن معنى الكلمة الأصلي هو معنى متعلق بالصحراء. وجود الكلمة عند اليهود لا يعني بالضرورة أن العرب أخذوها منهم.

القصص التي رواها الكتاب المسلمون عن العماليق ومغامراتهم ليست بالضرورة قصصا خرافية بالكامل ولا أصل لها. بالنسبة للعرب العماليق هم شعب قديم جدا ولذلك هم أقحموا العماليق في الكثير من رواياتهم التاريخية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل تلك الروايات لا أساس لها. الروايات ربما يكون لها أساس حتى لو لم يكن العماليق جزءا حقيقيا منها. نفس الظاهرة مشاهدة في الكتاب اليهودي الذي يقحم بني عملق في تاريخ بني إسرائيل القديم. الكتاب اليهودي وصف بني عملق صراحة بأنهم أقدم الشعوب:

(الأعداد: 24)
20. ورَأى [بِلْعَمُ] عَمَلِقَ فقالَ حِكْمَتَهُ: “أوَّلُ الشُّعوبِ عَمَلِقَ وأمَّا آخِرتُها فإلى الفَناءِ”.
21. ثُمَّ رَأى القَينيِّينَ فقالَ حِكْمَتَهُ: “مَنيعٌ مسكنُكِ، جعَلْتِ في الصَّخرِ عُشَّكِ.
23. لكنَّ قَيْنَ ستَصيرُ خراباً إلى أنْ تَسبِيكِ أسُّورُ.”

كون العماليق كائنات مختصة بالماء يفسر كثرة ذكر العماليق في تاريخ مناطق مثل اليمامة ويثرب ووادي القرى. اليمامة هي منطقة تكثر فيها الآبار والعيون، ولهذا لا بد أن العماليق كان لهم تواجد كبير في تلك المنطقة قديما (بالمعنى المجازي). نفس الأمر ينطبق على يثرب ووادي القرى وشمال الحجاز.

بالنسبة لتاريخ العماليق في مكة فالقصة التوراتية التالية تلقي الضوء ربما على هذا الموضوع:

(التثنية: 2)
8. فعَبرْنا بعيداً عَنْ أنسِبائِنا بَني عِشَو المُقيمينَ بشَعيرَ، بعيداً عنْ طريقِ العرَبةِ وأيلة وعِصْيان جَبْر، وتحوَّلْنا وعبَرْنا طريقَ برِّيَةِ مأبَ.
9. فقالَ ليَ يهوه: “[يا موسى] لا تُضايقْ مأبَ ولا تخُضْ معهم حربًا لأنِّي لن أُعطيَكَ أرضَهم، لأني وهَبْتُ عَرَّ (עָר Ar) لبني لوطَ مِيراثاً.”
10. الأَيْمِيُّونَ (הָאֵמִים Emims) أقاموا بها قَبلاً، وهُم شعبٌ عظيمٌ كثيرٌ طَويلُ القاماتِ كالعَنَقِيِّين.
11. وهُم يُحسَبونَ رَفَئِينَ كالعَنَقِيِّين، والمأبيُّونَ يُسمُّونَهُم أَيْمِيِّينَ.
12. وبِشَعِيرَ أقامَ الحُوريُّونَ قَبلاً فورِثَهم بَنو عِشَو وأزالوهُم مِنْ أمامِهِم وأقاموا مكانَهُم، كما فعَلَتْ إِسرائيلُ في أرضِ ميراثِها التي أعطاها يهوه لهُم.

16. فلمَّا انقرَضَ جميعُ المُحاربينَ مِنَ الشَّعبِ وماتوا،
17. كلَّمَني يهوه فقالَ:
18. أنتَ ستَعبُرُ اليومَ حدودَ أرضِ مأَبَ عَنْ طريقِ عَرَّ،
19. فإذا اقتربتَ مِنْ بَني عَمَّانَ فلا تُضايقْهُم ولا تواجِهُّم، لأنِّي لن أُعطيَكَ أرضَ بَني عَمَّانَ لأنني وهبتها لبني لوطَ مِيراثاً”.
20. وهيَ أيضاً تُحسَبُ مِنْ أرضِ الرَفَئِينَ، لأنَّ الرَفَئِينَ أقاموا بها قَبلاً، والعمَّانِيُّونَ يُسمُّونَهم زَمْزُمِينَ (זַמְזֻמִּים Zamzummims
21. وهُم شعبٌ عظيمٌ كثيرٌ طَويلُ القاماتِ كالعَنَقِين، أزالَهُمُ يهوه مِنْ أمامِ العمَّانِيِّينَ فوَرِثوهُم وأقاموا مكانَهُم،
22. كما فعَلَ لبَني عِشَو المُقيمينَ بشَعِيرَ، حينَ أزالَ الحوريِِّينَ مِنْ أمامِهِم فوَرِثوهُم وأقاموا مكانَهُم إلى هذا اليومِ.

هنا تتحدث التوراة عن أن سكان مأب وعَمَّان الأوائل كانوا من الرفئين العمالقة المعروفين في مأب باسم أَيْمِيِّينَ אֵמִים/אֵימִים (الكتابة الطبرية: ʔēmîm/ʔêmîm)، وفي عمّان باسم زَمْزُمِين أو زَمْزُومِين (الكتابة الطبرية: zamzummîm أو zamzūmmîm). هذه الأقوام مذكورة أيضا في سفر التكوين:

(التكوين:14)
5. وفي السَّنةِ الرَّابعةَ عشْرَةَ جاءَ [ملِكُ عَيْلَمَ] كُدُرْلَعَامَرُ (Chedorlaomer kəḏorlāʕōmer) والملوكُ حُلفاؤُهُ، فأخضَعوا الرَفَئِينَ في عَثْْتِراتَ قَرْنَيْنَ (Ashteroth Karnaim)، والزُّوزِينَ في هَم (Ham)، والأَيْمِيِّينَ في سَوَي قَرْيَتَيْنَ (Shaveh Kiriathaim
6. والحُوريِّينَ في جبَلِهم شَعيرَ حتى سَهلِ فَأْرَنَ الذي على البرِّيَةِ.

هنا استخدمت كلمة “زُوزِين” זּוּזִים (الكتابة الطبرية: zûzîm ، بالإنكليزية: Zuzims) بدلا من “زَمْزُمِين”.

كلمة أَيْمِيِّينَ حسب كثير من الباحثين مأخوذة من الجذر العبري أيم الذي يعني الرعب، وأما كلمة زَمْزُمِين فهي مأخوذة من الجذر المضعّف زمزم. معنى كلمة زمزم بالعربية يشمل ما يلي:

الزَّمْزَمَةُ: صوت خفي لا يكاد يُفهم… والزَّمْزَمَةُ: صوت الرعد… والزَّمْزَمَةُ: الصوت البعيد تسمع له دَوِيّاً… وزَمازِمُ النار: أَصوات لهبها؛ قال أَبو صَخْرٍ الهذلي: زَمازِمُ فَوَّار مِن النار شاصِب… والعرب تحكي عَزيف الجن بالليل في الفَلَواتِ بزيزِيم؛ قال رؤبة: تسمع للجن به زيزيم، وزَمْزَمَ الأَسد: صوَّت. وتَزَمْزَمَتِ الإبل: هَدَرَتْ. والزِّمْزِمة، بالكسر: الجماعة من الناس… والزِّمزِمةُ: القطعة من السباع أَو الجن. والزِّمْزِمُ والزِّمْزيمُ: الجماعة. والزِّمْزيمُ: الجماعة من الإبل إذا لم يكن فيها صِغار… ويقال: مائة من الإبل زُمْزُومٌ مثل الجُرْجُور؛ وقال الشاعر: زُمْزُومُها جِلَّتها الكِبارُ. وماء زَمْزَمٌ وزُمازِمٌ: كثير. وزَمْزَمُ، بالفتح: بئر بمكة. ابن الأَعرابي: هي زَمْزَمُ وزَمَّمُ وزُمَزِمٌ، وهي الشُّباعةُ وهَزْمَةُ المَلَكِ ورَكْضَة جبريل لبئر زَمْزَمَ التي عند الكعبة؛ قال ابن بري: لزَمْزَم اثنا عشر اسماً: زَمْزَمُ، مَكْتُومَةُ، مَضْنُونَةُ، شُباعَةُ، سُقْيا، الرَّواءُ، رَكْضَةُ جبريل، هَزْمَةُ جبريل، شِفاء سُقْمٍ، طَعامُ طُعْمٍ، حَفيرة عبد المطلب. ويقال: ماء زَمْزَمٌ وزَمْزامٌ وزُوازِمٌ وزُوَزِمٌ إِذا كان بين المِلْحِ والعَذْبِ، وزَمْزَمٌ وزُوَزِمٌ؛ عن ابن خالوَيْهِ، وزَمْزامٌ؛ عن القزّاز، وزاد: وزُمازِمٌ، … وزُمٌّ، بالضم: موضع؛ قال أَوْسُ بن حَجَرٍ:

كأَنَّ جيادَهُنَّ، برَعْنِ زُمّ:ٍ: جَرادٌ قد أَطاعَ له الوَراقُ

وقال الأَعشى:

ونَظْرَةَ عينٍ على غِرَّةٍ:: محلَّ الخَليطِ بصَحْراء زُمّ

ويقال: زُمٌّ بئر بحفائر سعد بن مالك.

هذا التعريف للجذر زمزم مثير للاهتمام لأنه يجمع بين معنيين لا علاقة مباشرة بينهما: المعنى الأول يتعلق بالأصوات البعيدة التي يصدرها الجن مثلا، والمعنى الثاني يتعلق بتدفق ووفرة الماء. ما هي العلاقة بين هذين المعنيين؟ من الصعب إيجاد علاقة لغوية مباشرة، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أن “الزمزمين” هو اسم قديم للعمالقة كما تقول التوراة يمكننا أن نفهم عندئذ العلاقة. الزَمْزَم هو ببساطة اسم آخر للعَمْلَق، أي كائنات من الجن التي تعيش قرب آبار الماء، ومن هنا ربما أخذت بئر زمزم في مكة اسمها. هذا يفسر الروايات التي تقول أن سكان مكة الأوائل كانوا من العماليق وبعدهم جاءت قبيلة جرهم.

الاسم الثاني للزمزمين في التوراة هو زُوزِين وهو الاسم الذي ورد في قصة الملك كُدُرْلَعَامَر في سفر التكوين، وهذا الاسم حير الباحثين بسبب اختلافه عن زمزمين وبسبب الكيفية التي ورد بها في الترجمة اليونانية، حيث أن معدي الترجمة اليونانية (المعروفة باسم Septuagint واختصارا LXX) ترجموا كلمة زوزين إلى εθνος ιοχυρος (ethnos iochyros) التي تعني “شعب عظيم”، ونفس هذه الترجمة وردت أيضا في الترجمات الآرامية والسريانية. بعض الباحثين رأوا أن كلمة زمزمين هي تصحيف لزوزين وأن الكلمة الثانية تعني “شعب عظيم”، بمعنى أنها مرادف لكلمة جبارين (gibbôrîm) التي تطلقها التوراة على العمالقة القدماء، وفي رأيهم أن كلمة زوزين هي تصحيف لـ”عزوزين” من الجذر عزز، ولكن في المقابل هناك باحثون بينوا أن كلمة “زمزوم” في اللغة العربية تعني “الجِلَّة الكِبار” (من الإبل أو الرجال)، وهذا المعنى يشبه εθνος ιοχυρος، وبالتالي فإن التفسير الأصح هو أن زوزين ربما تكون تصحيفا لزمزمين وليس العكس، رغم أن هذا التصحيف غير مثبت وهو مجرد فرض.

كلمة زمزم كانت على ما يبدو اسما آخر للعماليق، وأما المعاني الأخرى لهذه الكلمة التي تفيد الوفرة والكثرة وضخامة الحجم فهي معان ثانوية نشأت من كون هذه الكلمة كانت تطلق على العماليق. ما يلي من تاج العروس:

قيل: الزمزمة: قطعة من الجن أو من السباع، و أيضا جماعة الإبل ما فيها صغار كالزمزيم بالكسر أيضا… وزمزومها بالضم خيارها أو مائة منها مثل الجرجور، قال: زمزومها جلتها الكبارى، والزمزوم من القوم سرهم أي خلاصتهم وخيارهم وفي نسخه شَرُّهم…

بئر زمزم في مكة هي بئر مقدسة ويعتقد أن ماءها يشفي الأمراض إلخ، وهي تقع بجوار الركن الشرقي للكعبة الذي هو أقدس أركانها ويحوي الحجر الأسود. ما يلي بعض كلام ياقوت الحموي حول البئر:

زَمْزَم، وهي البئر المباركة المشهورة قيل: سميت زمزم لكثرة مائها يقال ماء زمزم وزمازم وقيل هو اسم لها وعلم مرتجل وقيل سميت بضم هاجر أم إسماعيل عليه السلام لمائها حين انفجرت وزمها إياه وهو قول ابن عباس حيث قال: لو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء وقيل: سميت بذلك لأن سابور الملك لما حج البيت أشرف عليها وزمزم فيها والزمزمة كلام المجوس وقراءتهم على صلاتهم وعلى طعامهم… وقيل بل سميت زمزم لزمزمة جبرائيل عليه السلام وكلامه عليها، وقال ابن هشام الزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع وأنشد:

وباشرت معطنها المدهثمـا :: ويممت زمزومها المزمزما

وقال المسعودي: والفرس تعتقد أنها من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام وقد كانت أسلافهم تقصد البيت الحرام وتطوف به تعظيما لجدها إبراهيم وتمسكا بهديه وحفظا لأنسابها وكان آخر من حج منهم ساسان بن بابك وكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على هذه البئر…

رواية المسعودي وأمثالها هي خرافات شعوبية من الخرافات التي كانت رائجة في العصر العباسي بهدف تحسين صورة الإيرانيين القدماء وإظهارهم بمظهر المسلمين الأتقياء (ومثلها الخرافات اليمنية التي تزعم أن ملوك اليمن القدماء كانوا يحجون إلى مكة)، ورواية هاجر أم إسماعيل هي رواية ذات طابع إسلامي تقليدي الهدف منها هو إظهار الجذور الإبراهيمية لمكة، أما الرواية التي ظللتها بالخط العريض فهي رواية ملفتة وليس لها تفسير واضح. لماذا الربط بين بئر زمزم وبين زمزمة الملاك جبرائيل فوقها؟ هل الملاك جبرائيل من عادته أن يزمزم؟ وفي حال كان يزمزم فهل من عادته أن يزمزم فوق هذه البئر؟ التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول ليس فيهما ما يفسر هذه الرواية الغريبة. أنا أظن أن هذه الرواية هي رواية ذات جذور قديمة وهي تبين السبب الحقيقي لتسمية بئر زمزم بهذا الاسم. سبب تسمية بئر زمزم بهذا الاسم هو وجود كائنات ذات طبيعة روحية كانت تزمزم عندها، ولا يستبعد أن أهل مكة قبل الإسلام كانت لديهم رواية من هذا النوع.

إقرأ المزيد

أنساب التوراة (3)

هذا الموضوع هو استكمال للحديث الذي بدأته عن الأنساب التوراتية، والذي هو حديث متفرع من موضوع بلاد العرب. سوف أكمل الحديث عن الأنساب التوراتية وبعد ذلك سأعود لإكمال الموضوع الأصلي.

هذا المقال فيه استدراك لبعض النقاط التي أهملت ذكرها في المقال الماضي.

لرؤية الرموز الأجنبية المستخدمة في هذا المقال وبقية المقالات حمل ونصب هذا الخط. لمعرفة أصوات الرموز انظر هذا المقال.


هبل

في المرة الماضية تحدثت عن قَيْن وهَبْل (قابيل وهابيل) وأظهرت الربط بين هاتين الشخصيتين وبعض القصص الدينية القديمة في الشرق الأوسط (Enkimdu وDumuzi السومريين، Set وOsiris المصريين، إلخ).

وذكرت في المرة الماضية أصل اسم قين (الحداد) وكيف عثر عليه في كتابات حجازية ويمنية قديمة. ما لم أتحدث عنه بما يكفي هو اسم أخيه هبل (الراعي). طبعا من المستحيل علي في هذا العرض الوجيز أن أغطي كل المعلومات الموجودة في الكتب وإلا فإنني سأضطر لتأليف موسوعة، ولكن ما أقوم به هو أنني أمر على بعض المعلومات المهمة بشكل سريع ووجيز.

بالنسبة لاسم هبل فأنا ذكرت النظرية الأقرب إلى الصحة في رأيي، ولكن هناك نظريات أخرى منها أن الاسم مأخوذ من كلمة aplu الأكدية التي تعني “وريث” (من ibila السومرية)، وهناك نظريات أخرى ولكنها كلها ضعيفة والتفسير الصحيح هو أن هبل مأخوذة من جذر سامي يعني “الرعي”.

اسم “هبل” عثر عليه في كتابات نبطية قديمة (“هبلو”) مقرونا مع اسم الإلهة مناة (“منوتو”)، وهذا يدل على أن “هبل” كان إلها عند النبطيين في جبل الشراة وشمال الحجاز. لا أدري إن كان هذا الاسم عثر عليه في مناطق أخرى ولكن من المعروف لدى المسلمين أن “هُبَل” كان اسم إله مكة الأكبر قبل الإسلام.

كلمة هُبَل Hubal عند اللغويين العرب هي وزن معدول، أي أنها مثل كلمة عُمَر المعدولة عن عامِر حسب قول سيبويه، وأنا لا أدري لماذا اعتبر اللغويون العرب أصل عُمَر هو من عامِر. لماذا لا يكون أصلها من عَمْرو مثلا؟ أنا أذكر أنني قرأت لأحد المستشرقين أن أصل عُمَر هو من عَمْرو:

ʕamr > ʕumar

الصفات التي على وزن فُعَل fuʕal أو فُعال fuʕāl يكون لها في العادة معان مرتبطة بعالم الجن والأرواح والآلهة. مثلا كلمة قُزَح Quzaḥ قال فيها ابن منظور ما يلي:

وقوسُ قُزَحَ: طرائق متقوسةٌ تَبْدو في السماءِ أَيام الربيع، زاد الأَزهري: غِبَّ المَطر بحمرة وصُفْرة وخُضْرة، وهو غير مصروف، ولا يُفْصَلُ قُزَحُ من قوس؛ لا يقال: تأَمَّلْ قُزَحَ فما أَبْيَنَ قوسه؛ وفي الحديث عن ابن عباس: لا تقولوا قوسُ قُزَحَ فإِن قُزَحَ اسم شيطان، وقولوا: قوس الله عز وجل؛ قيل: سمي به لتسويله للناس وتحسينه إِليهم المعاصي من

التقزيح، وهو التحسين؛ وقيل: من القُزَحِ، وهي الطرائق والأَلوان التي في القوس، الواحدة قُزْحة، أَو من قَزَحَ الشيءُ إِذا ارتفع، كأَنه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية وأَن يقال قوسُ الله فَيُرْفَعَ قدرُها، كما يقال بيت الله، وقالوا: قوسُ الله أَمانٌ من الغرق؛ والقُزْحة: الطريقة التي في تلك القَوس. الأَزهري: أَبو عمرو: القُسْطانُ قَوْسُ قُزَحَ. وسئل أَبو العباس عن صَرْفِ قُزَحَ، فقال: من جعله اسم شيطان أَلحقه بزُحَل؛ وقال المبرد: لا ينصرف زُحل لأَن فيه العلتين: المعرفة والعدل؛ قال ثعلب: ويقال إِن قُزَحاً جمع قُزْحة، وهي خطوط من صفة وحمرة وخضرة، فإِذا كان هذا، أَلحقته بزيد، قال: ويقال قُزَحُ اسم ملك مُوكَّل به، قال؛ فإِذا كان هكذا أَلحقته بعُمر…

نلاحظ في هذا التعريف أن قزح وصف مرة بأنه شيطان ومرة بأنه الله ومرة بأنه ملك.

المقصود بـ”قوس قزح” هو الإله السامي المعروف “قَوْس” الذي ورد ذكره في الكتابات الأكدية والذي كان الإله الرئيسي للإداميين في جبل الشراة. هذا الإله كان معروفا أيضا لدى النبطيين، وهو كان إلها للحرب وكان شعاره القوس.

هذا الإله كان معروفا لدى العرب باسم قَيْس وهو كان من أهم آلهتهم كما يظهر من كثرة تسميهم باسمه (عبد القيس، امرؤ القيس، إلخ). هناك قبائل كاملة من العرب كانت منسوبة لهذا الإله كبني عبد القيس سكان البحرين (المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية).

القبائل التي كانت تسكن غربي نجد (غَطَفان، سُلَيْم، هَوازن،…) تسمى عند النسابين المسلمين باسم قبائل “قَيْس عَيْلان”، وطبعا النسابون المسلمون لم يكونوا يعرفون ما هو معنى “قيس عيلان” ولذلك زعموا أن قيس عيلان هو جد لتلك القبائل وأنه كان شقيقا للياس بن مضر إلخ. بالنسبة لكلمة “عيلان” فهذا شرحها في لسان العرب:

والعَيْلان: الذَّكَر من الضِّباع. وعَيْلان: اسم أَبي قَيْس بن عَيْلان، وقيل: كان اسم فرس فأُضيف إِليه، قال الجوهري: ويقال للناس بن مُضَر بن نِزار قَيْسُ عَيْلان، وليس في العرب عَيْلانُ غيره، وهو في الأَصل اسم فرسه، ويقال: هو لقب مُضَر لأَنه يقال قَيْسُ بن عَيْلانَ

هناك قولان في عيلان: الأول هو أنه اسم أبي قيس بن عيلان (وهذا أسهل التفاسير عند العرب حيث أنهم كلما عجزوا عن تفسير كلمة جعلوها اسما لأب)، والقول الثاني هو أن عيلان هو اسم فرس قيس (وهذا ثاني أسهل تفسير).

كلمة “قيس” هي على ما أعتقد اسم الإله قيس/قوس، وأما كلمة “عيلان” فهي لقب مشتق من الجذر عيل الذي هو مرادف للجذر ربب (يعني الارتفاع والكثرة ويعني أيضا الرعاية)، أي أن معنى قيس عيلان هو “قيس العائل” أو “قيس المعيل” = “قيس الرب”.

بعض النسابين الذين يجعلون عيلان أبا لقيس يطلقون عليه مسمى “عيلان الناس”، وهم يزعمون أن “الناس” هو اسم عيلان وأن كلمة “عيلان” هي لقب يطلق عليه، وهناك نسابون آخرون يزعمون أن “الناس” هو اسم “قيس عيلان” وأن عبارة “قيس عيلان” هي كلها لقب له.

التفسير الصحيح لمصطلح “عيلان الناس” هو “عائل الناس” أو “رب الناس”، وهذه العبارة هي كلها لقب لقيس وليست اسما لأبيه المزعوم، وكلمة “الناس” هي جزء من اللقب وليست اسما (“قيس عيلان الناس” = “قيس عائل الناس” أو “قيس رب الناس”).

تحويل الاسم من “قوس” إلى “قيس” هو أمر معتاد في اللغات السامية. اللغات السامية الجنوبية (اليمنية والحبشية) هي أكثر اللغات السامية ميلا للياء في الجذور الجوفاء (التي تحوي ياء أو واوا في وسطها)، واللغات السامية الشرقية (الأكدية) هي أكثر اللغات السامية ميلا للواو في هذه الجذور. اللغات السامية الغربية (التي تضم العربية) تقع في موقع وسط بين الاثنتين. اللهجات العربية الشرقية (لهجات البحرين وتميم) تميل للواو، أما اللهجات الغربية (الحجاز وغرب نجد) فتميل للياء. مثلا تميم كانوا يقولون حَوث وأهل الحجاز يقولون حَيث، وتميم يقولون قُنْوَة وأهل الحجاز قِنْيَة، وتميم يقولون صوَّم ونوَّم وأهل الحجاز صيَّم ونيَّم، وتميم يقولون اللذون وأهل الحجاز اللذين، وهكذا.

في كتابات معين اليمنية عثر على اسم شخصي هو “قيس منوت” (قيس مناة)، وتركيبة هذا الاسم دفعت بعض المستشرقين للشك في كون اسم قيس العربي مرادفا لاسم الإله الشمالي قوس، وبعضهم رأى أن كلمة قيس هي في الأصل كلمة يمنية لم تكن اسما لإله ولكن بني كندة اليمنيين الذين كانوا يحكمون نجد في العصور القديمة استخدموا هذه الكلمة كترجمة لاسم الإله قوس الشمالي وبذلك انتشر اسم الإله قيس في نجد والبحرين. هذه النظرية في رأيي ليست ضرورية لأن كلمة قيس ربما كان لها استخدامان: اسم علم شخصي واسم إله. هناك لدى العرب أشخاص اسمهم “قيس” وهذا لا يعني أنهم آلهة ولكنهم ببساطة يتشاركون مع الإله في الاسم. لدى عرب حمص قديما كان هناك إله اسمه عَزيز، وعزيز أيضا هو اسم شخصي عادي. كلمة “قين” هي كانت اسما لإله على الأغلب ولكنها أيضا تستخدم بمعنى حداد أو صانع عادي.

اسم “قيس مناة” شبيه باسم “قين مناة” الذي عثر عليه في شمال الحجاز. الكلمة الأولى في كلا الاسمين يمكن أن تكون اسما لإله أو اسما لشخص عادي.

لو فرضنا أن اسم “قيس” يمني الأصل فربما تكون كلمة “عيلان” كذلك. كلمة عيلان هي كلمة غامضة المعنى عند الكتاب المسلمين كما يظهر من شرحها في لسان العرب. ربما تكون عيلان كلمة يمنية بمعنى العَيل (على أساس أن الألف الممدودة والنون هما أداة التعريف اليمنية). في هذه الحالة تكون عَيلان ʕaylān هي على وزن قيس qays ولكن الفرق هو أن الأولى معرّفة. طبعا هذا الكلام هو مجرد تخرص بحت، وأنا نظرت في قاموس بيستون السبئي ولم أجد هذا الجذر. كلمة عيلان ربما تكون مجرد كلمة عربية قديمة على وزن فَعْلان.

خلاصة ما سبق هي أن “قوس” هو في الأصل إله، وكلمة “قُزَح” هي لقب له مشتق من الجذر قزح الذي يعني التلون والتبدل. الإله قوس كان في الإصل إلها للحرب ولكن العرب ربطوا بينه وبين القوس الذي يظهر في السماء بعد المطر (لأن شعار الإله قوس هو قوس الرماية)، ومن هنا ربما جاء وصفه بـ”عيلان” على أساس أنه كان ينزل المطر على أتباعه. النظير اليوناني لقوس قزح العربي هو الإلهة Iris التي كانت من ملائكة السماء وزميلة للإله الملاك Hermes,

إذن كلمة قُزَح هي لقب للإله قوس، والرسول على ما يبدو وصف قوس قزح بأنه شيطان، ولكن الكتاب المسلمين (الذين ينتمي معظمهم للعصر العباسي) لم تصلهم الرواية واضحة فظنوا أن كلمة قزح لوحدها هي اسم لشيطان أو ملاك.

إلى جانب قُزَح هناك ألقاب لكائنات روحية كثيرة على وزن فُعَل منها ما يلي:

  • زُحَل Zuḥal الذي يطلق على أبعد الكواكب المعروفة قديما، والمعنى مأخوذ من البُعد.
  • الزُّهَرَةُ Zuharat الكوكب المعروف، نجمة الصباح أو نجمة المساء، والمعنى مأخوذ من الضياء.
  • العُزَّى الإلهة العربية الشهيرة (أصل اسمها *ʕuzazay من الجذر عزز) والمقصود بها كوكب الزهرة.

(علامة النجمة  قبل كلمة معينة تعني أن هذه الكلمة غير موجودة في اللغة بهذا الشكل وإنما هي إعادة إنتاج لكلمة قديمة مفترضة. مثلا كلمة *ʕuzazay هي غير موجودة في اللغة العربية بهذا الشكل ولكن الموجود هو ʕuzzā.)

أما على وزن فُعال فهناك مثلا كلمة ذُكاء *Ḏukāy التي تطلق على الشمس (إحدى أهم آلهة العرب). ما يلي من لسان العرب:

وذُكاءُ، بالضم: اسمُ الشمس، معرفة لا يَنْصَرِف ولا تدْخُلها الأَلِفُ واللام، تقول: هذه ذُكاءُ طالِعةً، وهي مُشْتَقَّة من ذَكَتِ النارُ تَذْكُو، ويقال للصُّبْح ابنُ ذكاء لأَنه من ضَوْئها؛ وأَنشد:

فَوَرَدَتْ قبل انبِلاج الفجرِ :: وابنُ ذُكاءَ كامِنٌ في كَفْرِ

وقال ثعلبة بن صُعَير المازنيّ يصف ظَلِيماً ونَعامة:

فتذَكَّرا ثَقَلاَ رَثِيداً بَعْدَما :: أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِرِ

هناك أيضا مصطلح الضُحَى *Ḍuḥay أو الضُّحاء *Ḍuḥāy الذي يطلق على طلوع الشمس. فترة الضحى كانت أقدس فترات اليوم عند العرب وكان يجلسون فيها ويستقبلون الشمس، وصلاة الضحى من عبادات قريش قبل الإسلام وهي موجودة أيضا في الإسلام.

هناك أيضا كلمة عُطارِد ʕuṭārid التي هي على وزن فُعالِل الملحق بوزن فُعال. ما يلي معنى عطارد من اللسان:

عطرد: ناقة عَطَرَّدَةٌ: مرتفعة. ورجل عَطَرَّد، بتشديد الراء: طويل. وسير عَطَرَّد: كعطوَّد. ويوم عطرَّدٌ وعطوَّدٌ: طويل. وطريق عطرَّد: ممتدّ طويل، وشأْوٌ عَطَرَّدٌ.

ويقال: عَطْرِدْ لنا عندك هذا يا فلان أَي صَيِّره لنا عندك كالعِدَة واجعله لنا عُطْروداً مِثْلُه؛ قال: ومنه اسم عُطارِدٍ. وعُطارِدٌ: كوكب لا يفارق الشمس. قال الأَزهري: وهو كوكبُ الكتاب. وقال الجوهري: هو نجم من الخُنَّسِ. وعُطارِدٌ: حَيٌّ من سَعْد، وقيل: عُطارِدٌ بطنٌ من تَميمٍ رَهْطُ أَبي رَجاءٍ العُطاردي.

إذن معنى عطارد هو من العلو والارتفاع، وطالما أنها كانت تطلق على بعض القبائل فهذا يعني أنها كانت من معبودات العرب كبقية الكواكب.

اللغات السامية الغربية (تحديدا العربية والكنعانية) تتميز عن بقية اللغات السامية بصيغة الفعل المبني للمجهول التي تبدأ بحرف مضموم:

عربي عبري
فُعِل fuʕil
فُعِّل fuʕʕil *puʕʕal
أُفْعِل ʔufʕil *hupʕal

 
اللغة العبرية فيها هاتان الصيغتان فقط (*puʕʕal و *hupʕal)، وبقية اللغات السامية ليس فيها أفعال مبنية للمجهول من هذا النمط (هناك في الآرامية آثار تدل على احتمال وجود هكذا أفعال قديما).

هذه الأفعال التي تبدأ بحرف مضموم تعود في رأيي إلى نفس الأصل الذي تعود له صيغتا فُعَل وفُعال. المعنى الأصلي هو البناء للمجهول (passive voice).

وزن فُعال يرد كثيرا في العربية في الكلمات الدالة على المرض (سعال، صداع، جذام، إلخ). تفسير هذا على ما أعتقد يعود إلى الرؤية العربية القديمة للمرض. المرض بالنسبة للعرب (وغيرهم) كان حالة مجهولة السبب، والقدماء كانوا يربطون المرض في الغالب بمس الجن أو الشياطين أو الآلهة أو غيرها من القوى الخفية.

هناك في اللغة العربية أيضا أسماء مثل عُمَر وسُعاد. هذه الأسماء تيمنية. المقصود باسم عُمَر هو تمني طول العمر، والمقصود بسعاد هو تمني السعد. الأسماء التيمنية المحتوية على أسماء آلهة أو أرواح هي أسماء شائعة جدا لدى الساميين (مثلا “يسمع إل” = “الله يسمع”، “يرحم إل” = “الله يرحم”، إلخ). المقصود باسمي عُمَر وسُعاد هو في رأيي نفس هذا المعنى ولكن بدون التصريح باسم القوة الروحية التي ستسبب طول العمر أو السعد.

الصيغ الاسمية مضمومة الحرف الأول كانت في الأصل تعني البناء للمجهول ولكن معناها تطور وصارت تقرن بالآلهة والكائنات الروحية، والسبب هو أن الكائنات الروحية هي بحد ذاتها كائنات مجهولة وخفية. طبعا هذا التطور لم يحدث إلا في اللغة العربية وربما في الكنعانية أيضا (الكنعانية هي أقرب اللغات السامية إلى العربية، واللغة العبرية هي لغة كنعانية).

بعد كل هذا الاستطراد الطويل أعود إلى الموضوع الأصلي وهو اسم الإله المكي هُبَل. كلمة هُبَل هي كلمة معدولة من هَبْل أو هابل، وكلا الكلمتين تعنيان الراعي، وأنا أرى أن هُبَل Hubal المكي هو ربما نفسه هَبْل *Habl التوراتي شقيق قين.

اسم قين عثر عليه في كتابات حجازية ويمنية كاسم لإله على الأغلب، واسم هبل عثر عليه في كتابات نبطية وربما كتابات أخرى لا أعلمها. الرواية الإسلامية تقول أن من أحضر هُبَل إلى مكة هو “عمرو بن لُحَي” مؤسس قبيلة خُزاعة. هذا الرجل حسب الكتاب المسلمين هو “أول من غير دين اسماعيل عليه السلام ونصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام”، بمعنى آخر هو من اخترع دين قريش بالكامل.

قال ابن تيمية:

هذا كما كانت العرب عليه قبل ان يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الاوثان فانهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون ابراهيم واسماعيل…

وفي مسند أحمد:

إن أول من سيب السوائب و عبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر و إني رأيته يجر أمعاءه في النار.

من أين أحضر عمرو بن لحي الأصنام؟ هناك روايتان، واحدة تقول أنه أحضرها من هِيت في العراق وأخرى تقول أنه أحضرها من مآب في الشام. ما يلي رواية ابن هشام:

حدثني بعض أهل العلم : أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره ، فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق – وهم ولد عملاق . ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح – رآهم يعبدون الأصنام ، فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنما ، فأسير به إلى أرض العرب ، فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له هبل ، فقدم به مكة ، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .

هذه الرواية أصح من رواية هيت لأن أصل هبل على الأغلب هو من هذه المنطقة، أي منطقة جبل الشراة وما حولها، واليهود أخذوا أسماء قين وهبل من هذه المنطقة (كما أخذوا الكثير من تراثهم ودينهم، والكتاب اليهودي يعترف أصلا بأن جذور بني إسرائيل تعود إلى هذه المنطقة).

قين وهبل على ما يبدو هما إلهان قديمان كان يعبدان في منطقة جبل الشراة وشمال الحجاز، ومن تلك المنطقة انتشرت عبادة هبل جنوبا حتى وصلت إلى مكة. اسم هُبَل المكي هو على ما يبدو معدول عن هَبْل.

بالنسبة لعمرو بن لحي فهو عند المستشرقين شخصية أسطورية وهم يرون أن القصة المنسوبة إليه مفبركة لأهداف ومرام معينة. الملفت في اسم عمرو بن لحي هو كلمة لٌحَيّ Luḥayy التي هي تصغير للَحْي laḥy. ما يلي من اللسان:

واللِّحْيانُ: خُدود في الأَرض مما خدَّها السيل، الواحدة لِحْيانةٌ. واللِّحيان: الوَشَل والصَّديعُ في الأَرض يَخِرّ فيه الماء، وبه سميت بنو لِحْيان، وليست تثنية اللَّحْي. ويقال: أَلْحى الرجلُ إِذا أَتى ما يُلْحَى عليه أَي يُلامُ، وأَلْحَت المرأَة؛ قال رؤبة: فابْتَكَرَتْ عاذلةً لا تُلْحي

وفي حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: أَن النبي، صلى الله عليه وسلم، احْتَجَمَ بلَحْيَيْ جَمَلٍ، وفي رواية: بلَحْي جَمَلٍ؛ هو بفتح اللام، وهو مكان بين مكة والمدينة، وقيل: عقبة، وقيل: ماء. وقد سمت لَحْياً ولُحَيّاً ولِحْيانَ، وهو أَبو بطن. وبنو لِحْيان: حَيٌّ من هذيل، وهو لِحْيان بن هذيل بن مُدْرِكة.

على ما يبدو فإن كلمة لٌحَيّ مرتبطة بمعنى اللوم والتقريع، والسبب طبعا هو أن عمرو بن لحي شخصية تستحق التقريع كونه هو من اخترع الديانة العربية القديمة. ومن الممكن أيضا أن تكون كلمة لٌحَيّ تعني “مجرى ماء” أو شيء من هذا القبيل، وهذا المعنى يذكرنا بالجُبّ الذي كان صنم هبل موضوعا فيه داخل الكعبة والذي زعم الكتاب المسلمون أن عمرو بن لحي هو من نصب هبل عليه. أيضا من الممكن أن يكون هناك رابط بين اسم لٌحَيّ وبين اللحيانيين الذين كانوا يسكنون شمال الحجاز في العصور القديمة. إذا كانت عبادة هبل وصلت إلى مكة من النبطيين فهذا يعني أنها مرت عبر اللحيانيين لأن اللحيانيين كانوا يسكون إلى الجنوب مباشرة من النبطيين (في ددن وما حولها)، وبالتالي ربما يكون اسم “عمرو بن لحي” مستوحى من بني لحيان القدماء.



سِت

في المقال الماضي تحدثت عن سِت (شيث) ابن آدم وربطت بين اسمه وبين الإله المصري Set، ولكنني قرأت لاحقا أن هناك من يربطون بين اسم سِت التوراتي وبين قبائل السُّت Sutû التي ورد اسمها في المصادر الأكدية وفي ألواح العمارنة الكنعانية. هذه قبائل نصف بدوية كانت تجوب الصحراء السورية في الألفية الثانية قبل الميلاد وفي بداية الألفية الأولى، وبعضها كان يعيش في منطقة عربية الصخرية ويعمل تحت إمرة المصريين. بعض الباحثين يرون أنها نفسها š3sw (“شأسيون”) المصرية وآخرون يربطونها بكلمة sṯtyw/sttyw (“ستشتيون” أو “ستتيون”) التي تشير إلى المشرقيين عموما. في كل الأحوال هذه الكلمة هي على ما يبدو مصدر اسم سِت التوراتي. هَبل كان راعيا وبعد وفاته حل محله سِت الذي هو اسم لقبائل نصف بدوية كانت تعيش قرب فلسطين في نفس منطقة قين وهبل. هذا الاشتقاق لا يمنع أن تكون قصة ست متأثرة بقصة ست المصري أو بقصة أخرى شبيهة بها.

متُوسَئِل/متُوسِلَح

Hades

 
في المرة الماضية أنا فسرت اسم متُوسِلَح على أنه مركب من “موت” و”سلح” وقلت أن الاسم الثاني هو على الأغلب اسم لإله سوري قديم له علاقة بالسلاح، ولكنني فسرت اسم متُوسَئِل (الذي هو نظير متُوسِلَح عند المصدر J ) على أنه يعني “الباحث عن الله”، وهذا التفسير ضعيف ولا يتوافق مع اسم متُوسِلَح.

المقطع الأول في هذه الأسماء هو كلمة mutu الأكدية التي تعني “رجل قريب” أو “زوج”، وهي تختلف عن كلمة “موت” mūtu (في الأكدية aw تتحول دائما إلى ū). كلمة mutu هي كلمة سامية يقابلها كلمة “مت” في أجاريت وكلمة mǝt في الحبشية الجعزية. كلمة mutu وردت في أسماء سورية كثيرة من الألفية الثانية قبل الميلاد، مثلا في ألواح العمارنة الكنعانية عثر على muutbaaḫl(u) (“مُت بَعْل” أي “رجل بعل” أو “امرؤ بعل”). الميم في مُتُوسَئِل/مُتُوسِلَح يجب أن تكون مضمومة وليست مفتوحة.

بالنسبة لاسم مُتُوسَئِل فهو مركب من mutu وكلمة أخرى لها على الأغلب نفس أصل كلمة “سُؤال” שְׁאוֹל (اللفظ الطبري: šəʔôl، بالإنكليزية: Sheol) التي يطلقها الكتاب اليهودي على عالم الأموات أو الأرض السفلى (ʔereṣ taḥtiyyôṯ). الكتاب اليهودي يتعامل مع كلمة “سؤال” أحيانا وكأنها اسم علم شخصي، وهو يتعامل مع كلمة “موت” أيضا بنفس الطريقة، وهذا ما دفع الباحثين للربط بين الكلمتين وبين الآلهة السامية القديمة كالإله مَوت مثلا الذي هو تجسيد للموت في ديانة أجاريت وغيرها. الترجمة اليونانية للكتاب اليهودي التي أعدها يهود في الإسكندرية في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد تستخدم كلمة Hadēs اليونانية كترجمة لكلمة سؤال العبرية، و Hadēs هو اسم الإله اليوناني المعروف المعبر عن عالم الأموات أو الأرض السفلى. هذا دليل واضح على أن مفهوم “سؤال” عند اليهود هو نفس مفهوم إله الموت أو إله الجحيم في الديانات القديمة.

إذن القسم الثاني من كلمة مُتُوسَئِل هو في رأي كثير من الباحثين مرتبط بـ”سؤال”، وهو على الأغلب اسم لإله سوري قديم له علاقة بالأرض السفلى أو الجحيم، وهذا الإله له علاقة بالإله “سلح” الوارد ذكره في متُوسِلَح والذي يرى كثير من الباحثين أنه اسم لإله سوري قديم هو عبارة عن نهر في الأرض السفلى أو الجحيم (“سلح” في أجاريت هو اسم لنهر الموت في الأرض السفلى، ولقد عثر على كلمة “سلح” في أسماء شخصية كنعانية مثل “سلح” و”أب سلح” و”مسلح” و”أسد سلح”). إذن اسم “متُوسَئِل” له معنى مشابه لمعنى “متُوسِلَح”.

مصادر

• David Noel Freedman, The Anchor Bible Dictionary
• Gary M. Burge, Andrew E. Hill, Baker Illustrated Bible Commentary
• John Phillips, Exploring Genesis: An Expository Commentary
• Geoffrey W. Bromiley, The International Standard Bible Encyclopedia
• John Barton, The Oxford Bible Commentary
• James D. G. Dunn, John William Rogerson, Eerdmans Commentary on the Bible
• K. A. Mathews, The New American Commentary
• Karel van der Toom, Bob Becking, Pieter W. van der Horst, The Dictionary of Deities and Demons in the Bible
• Joseph Blenkinsopp, Creation, Un-Creation, Re-Creation: A Discursive Commentary on Genesis
• Richard James Fischer, Historical Genesis: From Adam to Abraham
• David L. Jeffrey, A Dictionary of Biblical Tradition in English Literature
• Kelley Coblentz Bautch, A Study of the Geography of 1 Enoch 17-19: “no One Has Seen what I Have Seen”
• David Toshio Tsumura, The Earth and the Waters in Genesis 1 and 2: A Linguistic Investigation
• David Toshio Tsumura, Creation And Destruction: A Reappraisal of the Chaoskampf Theory in the Old Testament
• Charles N. Pope, Living In Truth: Archaeology and the Patriarchs
• Allen Austin, The Middle of the Earth
• Gerald Massey, Ancient Egypt – The Light of the World: A Work of Reclamation and Restitution in Twelve Books
• Israel Finkelstein, Amihay Mazar, Brian B. Schmidt, International Institute for Secular Humanistic Judaism. Colloquium, The Quest for the Historical Israel: Debating Archaeology and the History of Early Israel
• Frank Anthony Spina, Israelites as Gerim, ‘Sojourners’, in Historical Context
• Jan Retsö, The Arabs in Antiquity: Their History from the Assyrians to the Umayyads
• Irfan Shahîd, Byzantium and the Arabs in the Fifth Century
• Encyclopaedia of Islam
• The Cambridge Encyclopedia of the World’s Ancient Languages
• Gesenius’ Hebrew grammar
• Arthur Ungnad, Akkadian grammar
• Rebecca Hasselbach, Sargonic Akkadian A Historical and Comparative Study of the Syllabic Texts
• Daniel A. Foxvog, Introduction to Sumerian Grammar
• Theodor Nöldeke, Compendious Syriac Grammar
• Wikipedia, the free encyclopedia
• Encyclopædia Britannica
• Microsoft Encarta
• جواد علي، المفصل في تاريخ العرب
• ربحي كمال، اللغة العبرية
• Claudii Ptolemaei Geographia
• مصدر نص الكتاب المقدس العربي: The Bible Society in Lebanon (مع تصرف شديد)
• مصدر نص الكتاب المقدس العبري: Biblia Hebraica Stuttgartensia
• مصدر نص الكتاب المقدس الإنكليزي: King James Version of the Holy Bible

أنساب التوراة (1)

هذا الموضوع تم اقتطاعه من “بلاد العرب (4)” وتحويله إلى موضوع منفصل.

________________________________________________

تفسير الأنساب التوراتية هو أمر أتعب الباحثين طوال القرون الماضية. هناك أمور لا يختلف عليها اثنان، ومنها مثلا أن شجرة الأنساب لا تعكس أنسابا حقيقية وإنما هي مجرد وسيلة لوصف الأمم والشعوب المحيطة ببني إسرائيل، ولهذا السبب نجد أن الغربيين يسمون شجرة الأنساب باسم “جدول الأمم” Table of Nations.

اختراع الأنساب هو أمر معتاد منذ القدم عند الساميين، وهو مجرد أسلوب لغوي تعبيري لا يعبر عن حقيقة بيولوجية. مثلا التوراة تطلق على الحِتِّيين سكان الأناضول القدماء مسمى “بني حِتّ”. هذه اللفظة لا تعني أنه كان للحتيين جد اسمه حت وإنما هي مجرد تعبير لغوي. الحتيون أخذوا اسمهم من اسم المنطقة التي كانوا يعيشون فيها وليس من اسم جد.

نفس الأمر ينطبق مثلا على الكنعانيين الذين يسمون أنفسهم في النقوش أحيانا باسم “بني كنعان”. هذه اللفظة هي مجرد تعبير لغوي ولا تعني أن للكنعانيين جد اسمه كنعان.

أنساب الشعوب السامية كثيرا ما تكون مأخوذة من أسماء أمكنة، وهذا ما يظهر في الأمثلة السابقة. عند العرب هناك مثلا “آل غَسَّان” الذين كانوا يسكنون جنوب سورية قبل الإسلام والذين يقول الكتاب المسلمون أنهم أخذوا اسمهم من اسم ماء يقال له “غَسَّان” ببلاد عَكّ.

أيضا في كثير من الأحيان تكون الأنساب مأخوذة من أسماء آلهة، وهذا ما يشاهد مثلا عند اليمنيين القدماء. المعينيون سموا أنفسهم في النقوش باسم “أولاد ود” نسبة إلى إلههم وَدّ، والسبئيون سموا أنفسهم “ولد ألمقه” نسبة إلى إلههم ألمقه، والقتبانيون “ولد عم” نسبة إلى إلههم عم. أيضا الآشوريون القدماء هم منسوبون إلى إلههم آشور، وهناك أمثلة أخرى عديدة.

هناك أيضا أنساب نابعة من طوطمية قديمة. مثلا القبائل المنسوبة إلى حيوانات كبني أسد وبني كلب وبني ثعلب وبني ثور وبني بكر وبني ضب وبني غراب وبني فهد إلخ هي ربما تعبير عن طوطمية قديمة ولا تعني وجود أجداد كانوا يحملون هذه الأسماء.

أحيانا يكون النسب نابعا من أسس سياسية أو اجتماعية، وهذا ما كان يحدث كثيرا في الجزيرة العربية. يقول جواد علي:

وأقرب تفسير لأنساب العرب في نظري هو أن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، و إنما هو كناية عن “حلف” يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحا وحقوقها. قال البكري: “فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضاً على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم”.

ويرى “كولدتزيهر” أنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف فإنها أساس تكوّن أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكوّن القبائل والأنساب، كما إن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة ويرى أيضاً إن الدوافع التي تكوّن هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة. ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت “كعب” مثلاً إلى “بني مازن” وهم أقوى من “كعب”، وانضمت “خزاعة” إلى “بني مدلج”، كما تحالفت “بنو عامر” مع “اياد” وأمثلة أخرى عديدة.

إذن الأنساب عند الشعوب السامية نادرا ما يكون لها علاقة بالمعنى الحقيقي للنسب، بل هي في الغالب نابعة من أسباب جغرافية وسياسية واجتماعية وروحية إلخ. هذه النزعة ما زالت موجودة حتى يومنا هذا. مثلا أنا شاهدت بعض الناس على الإنترنت يطلقون على الوهابيين مسمى “بني وهاب”. هذه الكلمة لا تعني أن للوهابيين جد بيولوجي اسمه وهاب بل هي تسمية مبنية على أساس ديني.

أنساب التوراة اليهودية هي نابعة من هذا المنطق. هي لا تعبر عن أنساب بيولوجية حقيقية بل هي مجرد أسلوب تعبيري لوصف الشعوب المحيطة ببني إسرائيل في العصور القديمة وعلاقتها ببعضها. هذا أمر يتفق عليه كل الباحثين على ما أعتقد. ولكن الباحثين يختلفون في أمور أخرى أهمها تحديد معنى كل اسم من الأسماء الواردة في الأنساب التوراتية، وأيضا هناك خلاف حول ما إذا كانت شجرة الأنساب التوراتية تغطي شعوب العالم بأسره أم أنها تتحدث فقط عن الشعوب المحيطة ببني إسرائيل.

الرأي الشائع هو أن شجرة الأنساب التوراتية تغطي كل العالم المعروف لبني إسرائيل في ذلك الوقت، وهذا يعني أن هذه الشجرة هي إنجاز فريد يختلف عن الأنساب العربية التي تختص فقط بالقبائل العربية دون غيرها من الشعوب. صحيح أن العرب ينسبون نفسهم إلى سام بن نوح ويضمون أنساب قبائلهم إلى الأنساب التوراتية، ولكن هذا تطور لاحق قام به النسابون العرب بعد اطلاعهم على شجرة الأنساب التوراتية.

هل شجرة الأنساب التوراتية هي من اختراع بني إسرائيل؟ أم أنهم أخذوها من مصادر أخرى أقدم منهم وأضافوا أنسابهم إليها كما فعل العرب؟

من المستبعد أن يكون اليهود هم من أنشؤوا شجرة الأنساب التوراتية لأسباب عديدة، منها مثلا أن الشجرة تذكر أسماء شعوب بعيدة عن اليهود، واليهود لم يعرف عنهم في القدم أنهم أصحاب إمبرطوريات أو أصحاب تجارات عابرة للقارات، وبالتالي من أين أتوا بأسماء الشعوب والأمكنة التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات؟ مثل هذه المعلومات تكون موجودة عادة لدى الحضارات الكبيرة كحضارة ما بين النهرين والحضارة المصرية، أما اليهود فهم في أقصى عزهم لم يتمكنوا من السيطرة على فلسطين بكاملها ناهيك عن أن تكون لهم علاقات مع ليبيا والنوبة واليونان وغير ذلك من الأماكن المذكورة في شجرة الأنساب.

الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب اليهودي (التكوين، والخروج، واللاويين، والأعداد، والتثنية) يسميها اليهود باسم “التوراة” (القانون أو الشريعة) ويسمونها أيضا “أسفار موسى”. هذه الأسفار هي أقدم أسفار الكتاب اليهودي وهي تحكي قصة نشوء بني إسرائيل والديانة اليهودية حسب وجهة نظر من كتبها. اليهود تقليديا يعتقدون أن موسى هو من كتب هذه الأسفار (بسبب تسميتها بأسفار موسى ربما) ولكن هذا مستبعد لأن الأسفار أصلا تتحدث عن موسى على أنه عاش في زمن بعيد. حاليا الباحثون الغربيون يرون أن هذه الأسفار كتبها كهنة اليهود بدءا من القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد عودة اليهود مما يسمى السبي البابلي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.

الباحثون الغربيون بدءا من القرن 19 كانوا يرون أن التوراة (الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب اليهودي) لها أربعة مصادر مختلفة على الأقل:

  • المصدر الأول يسمونه “اليهوي” Jehovist (رمزه J) لأنه يشير إلى الله باسم “يهوه”.
  • المصدر الثاني يسمونه “الإلهي” Elohist (رمزه E) لأنه يشير إلى الله باسم “إلاهيم” أو “إل”.
  • المصدر الثالث يسمونه “التثنوي” Deuteronomist (رمزه D) لأنه مصدر سفر التثنية.
  • المصدر الرابع يسمونه “الكهنوتي” Priestly Source (رمزه P) لأنه من تأليف كاهن أو مجموعة من الكهان.

الباحثون الغربيون يرون أن كهان يهودا قاموا بعد السبي البابلي بتجميع هذه المصادر وأوجدوا منها التوراة. ولكن في العقود الأخيرة نشأ جدل حول صحة هذه النظرية، وحاليا هناك رأي يقول أن J وE هما في الحقيقة مصدر واحد وأنه لا يعود إلى أزمنة سحيقة كما كان يعتقد وإنما كتب قبل السبي البابلي مباشرة أو حتى خلاله، أي في القرن السادس قبل الميلاد. وأما المصدران D وP فهما يعودان للفترة التالية مباشرة للسبي البابلي (أواخر القرن السادس قبل الميلاد أو القرن الخامس قبل الميلاد)، وهناك الآن من يشككون في وجود مصادر اسمها J وE وD وP ويرون أن J وE لم تكن مصادر مجمعة وإنما كانت عبارة عن قصص وقصائد متفرقة، وأما D وP فهي إضافات قام بها الكهنة أثناء تناقلهم للتوراة بعد السبي البابلي.

خلاصة ما سبق هي أن التوراة جمعت لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد من مصادر متعددة ربما كان عددها أربعة أو أكثر أو أقل، وبعد جمع التوراة تناقلها كهان اليهود جيلا بعد جيل وكل جيل كان يضيف إلى الكتاب اليهودي حسب مستجدات عصره وحسب مدرسته الفكرية والدينية والسياسية. في نهاية القرن الأول الميلادي (بعد “خراب الهيكل”) قرر علماء اليهود وقف الإضافة إلى الكتاب اليهودي، وقرروا أيضا حذف ما أضيف إليه بعد عام 300 قبل الميلاد، وهكذا تم حذف مجموعة من الأسفار هي التي تسمى Apocrypha و Pseudepigrapha. منذ ذلك الوقت صار هناك تمييز بين الكتاب اليهودي (المعروف عند اليهود باسم التَّنَك HatTanakh) وبين ما يكتبه العلماء اليهود والذي لم يعد يضاف إلى الكتاب اليهودي (وتم تجميعه لاحقا في التلمود).

بالنسبة لسفر التكوين فهو حسب رأي الباحثين يعود إلى ثلاثة مصادر هي J وE وP (أو J وP في حال اعتبار J وE مصدرا واحدا). المصدران J وE كما قلنا هما الأقدم ويعودان إلى ما قبل السبي البابلي، وهذان المصدران هما من أورد قصة الخلق الواردة في بداية سفر التكوين والقصص الأخرى المذكورة في السفر (قصة آدم وحواء وقايين وهابيل ونوح وأبرام وإسماعيل ويعقوب ويوسف إلخ). أما المصدر P فهو الذي أورد شجرة الأنساب بشكلها الحالي.

طبعا الباحثون الغربيون تحدثوا منذ البداية عن التشابه بين قصة الخلق الواردة في سفر التكوين وبين قصص الخلق الموجودة لدى حضارات أخرى قديمة (خاصة حضارة ما بين النهرين والحضارة المصرية والحضارة الهندية). في البداية هم افترضوا أن المصدرين J وE استوحيا قصة الخلق من مصادر بابلية أو آشورية، ثم بعد ذلك ظهرت آراء تقول أنهم نقلوا من مصادر مصرية، وبعد اكتشاف حضارات شمال سورية (إبلا وأُجاريت) ظهرت آراء تقول بأن مصدر القصص التوراتية هو التراث السوري القديم (الذي هو بدوره مستوحى من تراث ما بين النهرين)، والرأي الأخير هو الأقوى من حيث الأدلة ومن حيث المنطق.

التوراة تجعل من “آدم” (اسمه الأصلي “أَدَم”) جدا لكل البشرية. كلمة أَدَم تعني “رجل” في اللغة الكنعانية، والجذر أدم يعني الحَمَار (كلمة ʔāḏōm تعني “أحمر” بالعبرية). المستشرق نولدكه زعم أن النظير العربي لكلمة “أدم” هو “أنام”. في القصة التوراتية هناك ربط مضمر بين اسم أَدَم אָדָמָ وبين كلمة أَدَمَة אֲדָמָה التي تعني “أرض” (المقابل العربي “أديم”؟)، لأن يهوه خلق آدم من الأرض:

(التكوين 3)

19. בְּזֵעַת אַפֶּיךׇ תֹּאכַל לֶחֶם עַד שׁוּבְךׇ אֶל-הָאֲדָמָה כִּי מִמֶּנָּה לֻקָּחְתָּ כִּי-עָפָר אַתָּה וְאֶל-עָפָר תָּשׁוּב:
19. بِعَرَقِ جبينِكَ تأكُلُ طَعَامَكَ حتّى رُجُوعِكَ إلى الأرضِ hā-ʔăḏāmah لأنَّكَ مِنها أُخِذْتَ. فأنتَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تَرجِعُ.

كثير من الكتاب القدماء فسروا اسم أدم على أنه مشتق من أدمة=أرض. ولكن في العصر الحديث بعض الباحثين الغربيين يرون أن الاسم هو من أصل أَكََّدِي (آشوري-بابلي) هو adamu (أي Adamu ، و u– في نهاية الاسم هي الضمة علامة الرفع). هذا الاسم في رأيهم هو مرادف لاسم adapa الذي ورد في الأساطير السومرية والذي له قصة شبيهة بقصة آدم التوراتي، وأما كلمة “أدمة” التي تعني أرض فهي في رأي بعضهم مأخوذة من اللغة السومرية. في اللغة السومرية adam قد تعني “ريف” أو “مَرْعى”، وهذا ربما يذكر بقول الأعشى (من لسان العرب):

يَوْماً تَراها كَشِبْه أَرْدِية العَصْب ويوماً أَدِيمُها نَغِلا

اسم آدم كان شائعا في سورية في العصور القديمة (عثر عليه في إبلا Adamu وفي أُجاريت أدم ʔadm)، وفي كل هذه الحضارات كان آدم يعتبر ابنا للآلهة أو للإله الأكبر (مثلا في أجاريت عثر على ʔil ʔab ʔadm = “الله أبو آدم”) والبعض ربط هذا المعتقد مع عبارة “آدم ابن الله” الواردة في إنجيل لوقا (3:38).

هناك أيضا باحثون يربطون آدم التوراتي بالإله المصري ỉtm) Atum) الذي له قصة شبيهة بقصة آدم التوراتي.

أما حواء زوجة آدم فسفر التكوين يفسر اسمها:

(التكوين: 3)
20. وسمَّى آدمُ امرأتَهُ حَوَّاءَ، لأنَّها أُمُّ كُلِّ حيٍّ.

هذا التفسير لم يرض الباحثين الغربيين الذين ربط بعضهم بين اسم حواء (Ḥawwȃ) وبين اسم الإلهة الحثية Kheba التي كانت تعبد في سورية وفلسطين قبل ظهور الديانة اليهودية، وهي kugbau السومرية. أيضا الباحثون كثيرا ما يربطون بين حواء التوراتية وبين الإلهة السومرية Ninti التي يعني اسمها “سيدة الحياة” ويعني أيضا “سيدة الضِّلع”. كلمة nin السومرية تعني “سيدة” أما كلمة ti فهي تعني كلا من “حياة” و”ضلع”، وهذا في رأي الباحثين يفسر القصة التوراتية التي تتحدث عن كون حواء خلقت من ضلع آدم. قصة حواء في رأيهم كانت متداولة في سورية وما بين النهرين قبل كتابة التوراة بزمن طويل، وبسبب كون اسم Ninti يحمل معنيين مختلفين (“سيدة الحياة” و”سيدة الضلع”) نشأ الربط بين حواء والحياة من جهة (وسمَّى آدمُ امرأتَهُ حَوَّاءَ لأنَّها أُمُّ كُلِّ حيٍّ) وبين حواء والضلع من جهة أخرى:

(التكوين: 2)
21. فأوقَعَ يهوه الله آدمَ في نَومٍ عميقٍ، وفيما هوَ نائِمٌ أخذَ إحدى أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها بِلَحْمٍ.
22. وبنى يهوه الله امْرأةً مِنَ الضِّلعِ التي أخذَها مِنْ آدمَ، فجاءَ بِها إلى آدمَ.

قصة خلق حواء من ضلع آدم في رأيهم لم تكن في الأصل تحمل أي معنى فلسفي أو ديني بل هي نبعت فقط من كون كلمة ti السومرية تحمل معنيين لغويين مختلفين، وربما يكون تفسير قصة خلق آدم من الأرض (“الأدمة”) مماثلا لأن كلمة adam في السومرية لها معنى “كائن حي” أو “رجل” ومعنى آخر هو “الأديم” أو “المرعى”، رغم أن هذا التفسير غير ضروري لأن الأساطير البابلية تتحدث صراحة عن أن إله الماء Ea (بالسومرية Enki) خلق Adapa من الطين (وعند المصريين أيضا فإن بداية الخلق كانت من Nu الذي هو عبارة عن ماء، وقبل خلق العالم لم يكن هناك شيء إلا الماء. أما حواء عند المصريين فقال بعضهم أنها Isis التي ورد أنها سممت AtumRa وأخرجته من قاربه لأنها أرادت أن تعرف اسم الله السري، وقال آخرون أن حواء عند المصريين هي Tefnut التي هي الإلهة الأولى التي خرجت من جوف Atum في بداية الخلق).

إذن آدم وحواء عند كثير من الباحثين الغربيين هي آسماء لآلهة أو شخصيات أسطورية قديمة تعود أصولها على الأغلب إلى حضارة سومر. بعد ذلك يتحدث سفر التكوين عن قصة جنة عدن (عِدْن):

(التكوين: 2)
4. هكذا كانَ مَنشأُ السَّماواتِ والأرضِ حِينَ خُلِقَت. يومَ صنَعَ يهوه اللهُ יְהוָה אֱלֹהִים الأرضَ والسَّماواتِ،
5. لا شجَرُ البرِّيَةِ كان بَعدُ في الأرضِ، ولا عُشْبُ البرِّيَةِ نَبَتَ بَعدُ. فلا كانَ يهوه اللهُ أمطرَ على الأرضِ، ولا كانَ إنسانٌ يَفلَحُ الأرضَ،
6. بل كانَ يصعَدُ مِنها ماءٌ يَسقي وجهَ التُرْبَةِ كُلَّه.
7. وجبَلَ يهوه اللهُ آدَمَ تُراباً مِنَ الأرضِ ونفَخَ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفْسًا حيَّةً.
8. وغرَسَ يهوه اللهُ جَنَّةً في عِدْنٍ شَرقاً، وأسكنَ هُناكَ آدمَ الذي جبَلَهُ.
9. وأنبتَ يهوه الله مِنَ الأرضِ كُلَّ شجَرَةٍ حسَنَةِ المَنظَرِ، طيِّبةِ المأكَلِ، وكانَت شجَرةُ الحياةِ وشجَرةُ معرِفَةِ الخيرِ والشَّرِّ في وسَطِ الجَنَّةِ.
10. وكانَ يخرُجُ مِنْ عِدْنٍ نهرٌ فيَسقي الجَنَّةَ، ويتَشَعَّبُ مِنْ هُناكَ فيصيرُ أربعةَ أنهارٍ،
11. أحَدُها اسْمُه فِيسان، ويُحيطُ بِجميعِ أرضِ الحَوِيلَةِ حَيثُ الذَّهَبُ،
12. وذهَبُ تِلكَ الأرضِ جَيِّدٌ. وهُناكَ اللؤلُؤُ وحجَرُ العقيقِ.
13. و اسمُ النَّهرِ الثَّاني جِيحان، ويُحيطُ بِجميعِ أرضِ كُوس،
14. و اسمُ النَّهرِ الثَّالثِ دِجلَةُ، ويجري في شَرقي أَسُّورَ. والنَّهرُ الرَّابعُ هوَ الفُراتُ.
15. وأخذَ يهوه الله آدمَ وأسكنَهُ في جَنَّةِ عِدْنٍ لِيَفلَحَها ويَحرُسَها.
16. وأوصى يهوه الله آدمَ قالَ: “مِنْ جميعِ شجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ،
17. وأمَّا شجَرَةُ معرِفَةِ الخيرِ والشَّرِّ فلا تأكُلْ مِنها. فيومَ تأكُلُ مِنها موتاً تموت”.

“جنة عدن” المقصودة هنا هي حسب كثير من الباحثين Eridu السومرية التي أوجدها إله الماء Ea) Enki) وسكنها Adapa و”أحضر لها الحضارة من دلمون” (وكانت فيها شجرة محرمة إلخ). لا يوجد منطقة أخرى ينطبق عليها وصف جنة عدن التوراتية سوى هذه المنطقة التي تقع في جنوب غرب العراق. النص التوراتي يقول أن جنة عدن يخرج منها أربعة أنهار (والصحيح أنها تصب فيها) وهي:

  • فِيسان Pison الذي يحيط بأرض الحويلة Havilah. كلمة حَوِيلة هي محل جدل لدى الباحثين حيث منهم من يرى أنها خَوَلان التي ورد اسمها في النقوش اليمنية قديما وكانت اسما لقبيلة يمنية معروفة (حرف الخاء يتحول دائما إلى حاء في العبرية)، وهناك من يرى أنها بادية العراق في شرق الصحراء السورية، وأصح الأقوال في رأيي هو أنها اسم قديم لصحراء النفود. هذا القول يتوافق مع معنى الكلمة التى قد تعني “الأرض الرملية” وهو يتوافق مع وصف حويلة في نصوص التوراة. المؤلف اليوناني الشهير إسطرابون Strabōn (القرن الميلادي الأول) نقل عن إراطوسثين القوريني Eratosthenes of Cyrene (القرن الثالث قبل الميلاد) اسم قوم من سكان الجزيرة العربية هم Khaulotaioi، وموقعهم هو بين Nabataioi (النبط) وبين قوم سماهم Agraioi. هو كان يصف طريقا تجارية تمتد من مصر إلى شرق الجزيرة العربية، وبالتالي Agraioi هم ربما سكان مدينة هَجَر (الهفوف) عاصمة البحرين القديمة. إذن Khaulotaioi يقعون بين النبط والبحرين. المؤلف الروماني الشهير إفلينيوس Plinius (القرن الميلادي الأول) وصف نفس الطريق وذكر مدينة باسم Gabba بين البحرين وفلسطين، وهذه المدينة هي على الأغلب موطن Agubēnoi الذين ذكرهم بطليموس (القرن الميلادي الثاني) وعين موقعهم قرب دومة. Gabba هي ربما الموضع المعروف باسم “الجُبّ” في جبل سلمى قرب حائل، وKhaulotaioi هم على الأغلب منسوبون إلى “حائل” التي يشبه اسمها اسم منطقة حويلة التوراتية. نهر فيسان هو ربما يكون وادي الرمة الذي يسير من الغرب إلى الشرق بمحاذاة حائل (حويلة) من جهة الجنوب باتجاه الكويت (أي باتجاه دلمون وسومر). هناك في الحجاز أكثر من منطقة تحمل أسماء لها علاقة بالذهب (مثلا “مهد الذهب”) وهذا يناسب الوصف التوراتي لنهر فيسان. وادي الرمة يتصل بأودية أخرى تسير من الجنوب إلى الشمال بمحاذاة الحجاز (وبمحاذاة مهد الذهب)، وهو يتصل بوادي بيشة في عسير الذي يشبه اسمه اسم فيسان (حرف الفاء في العربية كان يلفظ أصلا P). من المحتمل أن نهر فيسان التوراتي هو وادي الرمة مع امتداداته نحو وادي بيشة في عسير، وبما أن هذه الأسطورة قديمة جدا فلا يستغرب أنها تصف وادي الرمة بأنه نهر لأنه ربما كان نهرا بالفعل في ذلك الزمن.
  • جيحان Gihon الذي يحيط بأرض كوس. كلمة “كوس” Cush في الكتاب اليهودي تطلق عادة على بلاد النوبة إلى الجنوب من مصر، ولكنها أحيانا تطلق على مناطق أخرى لا علاقة لها بالنوبة. في هذه القصة كلمة كوس لا يمكن أن تكون النوبة لاستحالة التوفيق بين ذلك وبين ذكر نهري دجلة والفرات. المقصود بكوس هنا ربما هو مدينة Kish) Kis) السومرية التي تقع إلى الشرق من بابل. نهر جيحان المقصود هنا هو ربما نهر الكرخة الذي ينبع من جبال زاغروس في إيران ويسير عبر الأهواز ويتصل بنهر دجلة قبل التحامه مع الفرات.
  • دجلة والفرات هي الأنهار المعروفة.

هذه الأنهار الأربعة كلها تلتقي في سومر، ولذلك فإن كثيرا من الباحثين لا يشكون بأن المقصود بجنة عدن أصلا هو Eridu السومرية التي تقع في ذي قار جنوب غرب العراق. فلسطين أصلا ليس فيها أنهار وبالتالي لا يتوقع من سكانها الاهتمام بموضوع الأنهار وإدخاله في الأساطير. الاهتمام بالأنهار والطوفان هي أمور نابعة من البيئة السومرية (أو المصرية) وليس من البيئة الفلسطينية أو السورية.

بالنسبة لكلمة عِدْن فتفسيرها العبري هو أنها مأخوذة من الجذر “عدن” الذي يعني “اللذة” أو “السعادة”، ولكن الباحثين رفضوا هذا التفسير وفضلوا ربط الكلمة بكلمة edinu الأكّدية التي تعني “سهل”، والتي هي بدورها مأخوذة ربما من EDIN السومرية. ولكن في عام 1982 عُثر على نقش آرامي قديم في تل فخرية قرب رأس العين في الحسكة يحوي وصفا للإله هداد بأنه “جوجل نهر كلم… معدن مت كلن” (“المتحكم بالأنهار كلها… مغدق الماء على الأراضي كلها”). كلمة “معدن” في النقش هي اسم فاعل من الجذر “عدن”، والمهم في النقش هو أنه يحوي ترجمة إلى اللغة الآشورية حيث ترجمت كلمة “معدن” إلى muṭaḫḫidu التي تعني “مغدق الماء”، وهو معنى قريب من معنى الجذر العبري الذي رفضه الباحثون في البداية. أيضا في أجاريت عثر على نص يقول “ون أف عدن مطره بعل يعدن عدن” (“والآن إغداق مطره، بعل يغدق الماء إغداقا”؟).

كل هذه الأدلة تثبت أن كلمة “عدن” التوراتية هي كلمة سورية الأصل وليست أكدية أو سومرية كما تصور الباحثون، وهذا يؤكد مجددا أن قصص سفر التكوين هي مستوحاة من التراث السوري القديم ولم تؤخذ مباشرة من مصادر أكدية أو سومرية.

الجذر “عدن” هو في الأصل “غدن” ولكن في الكنعانية والآرامية الغين تقلب دائما إلى عين. الجذر موجود في العربية (من لسان العرب):

الغَدَنُ: سَعَةُ العيش والنَّعْمةُ… والغَدَنُ: النَّعْمة واللِّينُ. وإن في بني فلان لغَدَناً أَي نَعْمةً
ولِيناً، وكذلك الغُدُنَّة. وإنهم لفي عَيْشٍ غُدْنَةٍ وغُدُنَّةٍ أَي رَغْدٍ…

إذن جنة “عدن” العبرية هي في الأصل “غدن” بالغين، ومعناها مشتق من سعة العيش والنعمة.

سوف أنشر الجزء التالي من هذا الموضوع بعد أيام، وسوف أذكر فيه المصادر التي اعتمدت عليها.

أنساب التوراة (2)

هذا المقال كان يحمل سابقا عنوان “بلاد العرب (5)”

__________________________________________________________

هذا المقال هو استكمال للمقال السابق وهو يدور حول شجرة الأنساب الواردة في التوراة وبعض معانيها. لرؤية الرموز الأجنبية المستخدمة في هذا المقال وبقية المقالات حمل ونصب هذا الخط. لمعرفة أصوات الرموز انظر هذا المقال.

__________________________________________________________

بعد الحديث عن جنة عدن يروي سفر التكوين قصة قابيل (اسمه التوراتي قَيْن קַיִן، بالإنكليزية Cain) وهابيل (اسمه التوراتي هَبْل הֶבֶל، بالإنكليزية Abel):

(التكوين: 4)
1. وعَرَفَ ((=أتى)) آدمُ امرأتَه حَوَّاءَ فحَمَلت ووَلَدَت قَيْنَ. فقالت: “رَزَقَني يهوه ابناً”.
2. وعادَت فوَلَدَت أخاهُ هَبْلَ. وصارَ هَبْلُ راعيَ غنَمٍ وقينُ فلاَّحاً يفلَحُ الأرضَ.

بعض الباحثين اقترحوا أن الجذر هبل كان له قديما معنى “الرَعْي”، كما في لسان العرب:

وما له هابل ولا آبل، الهابل هنا: الكاسب، وقيل المحتال، والآبل: الذي يحسن القيام على الإبل والرعية لها.

كلمة هابل في هذا المثل هي على الأغلب مجرد مرادف قديم لآبل، أي راعي. الجمل لم يصل إلى الشرق الأوسط إلا في الألفية الأخيرة قبل الميلاد، وبالتالي الجذران “أبل” و”هبل” كانا في الأصل يعنيان الرعي عموما ولم يكونا مختصين بالجمال. كلمة “إِبِل” بمعنى “جِمال” هي كلمة اخترعها العرب أو الساميون في بداية الألفية الأخيرة قبل الميلاد بعد أن دجنوا الجمل.

أما كلمة “قَيْن” فهي تعني حرفيا “الحَدَّاد”. جاء في لسان العرب:

القَيْنُ: الحَدَّادُ، وقيل: كل صانع قَيْنٌ، والجمع أَقْيانٌ وقُيُونٌ. وفي حديث العباس: إِلا الإِذْخِرَ فإِنه لقُيُونِنا؛ القُيُونُ: جمع قَيْنٍ وهو الحَدَّاد والصَّانِعُ. التهذيب: كلُّ عامل الحديد عند العرب قَيْنٌ. ويقال للحَدَّاد: ما كان قَيْناً ولقد قانَ.

نفس هذا المعنى موجود أيضا في اللغات اليمنية القديمة.

لماذا أطلق سفر التكوين مسمى “قين” على ابن آدم الأول مع أنه مزارع؟

المقصود ربما بالمزارع في القصة التوراتية هو الحَضَر عموما، أي سكان القرى والمدن. قبل تدجين الجمل في منطقة الشرق الأوسط في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد لم يكن هناك في المنطقة بداوة بالمعنى المعروف حاليا. سكان المنطقة في تلك الأزمنة كانوا قسمين: قسم يسكن القرى والمدن ويعمل بالزراعة والمهن الحرفية (كالحدادة)، وقسم آخر يسكن ريف المدن ويعمل قسما من العام في الزراعة وقسما آخر في الرعي (يسميهم الباحثون الغربيون “نصف بدو” seminomads)، أما البداوة بمعنى التنقل والترحال عبر الصحاري والقفار فهي كانت مستحيلة في تلك الأزمنة لغياب الجمل. لهذا السبب قصة قين وهبل التوراتية تعبر عن المجتمع القديم في الشرق الأوسط الذي كان مكونا من فئتين متجاورتين: الحضر وسكان الريف (نصف البدو). هبل هو الريفي (الراعي) وقين هو الحضري (المزارع أو الحداد). طبعا القصة منحازة ضد الحضر وهي تظهرهم بمظهر الحاقدين على أهل الريف والحاسدين لهم على قربهم من الله، كما أنها تصورهم بمظهر القتلة والمجرمين. كل هذا يعكس أن القصة بشكلها الحالي هي من أصل ريفي، وعموما التوراة كلها منحازة لصالح الريفيين أو نصف البدو ضد الحضريين، وهي تصور بني إسرائيل على أنهم من أصل بدوي وأنهم كانوا مضطهدين في مصر ثم بعد ذلك خاضوا حروبا شرسة ضد سكان كنعان الذين يسكنون “الأرض التي تدر لبنا وعسلا”. هذا الصراع بين الحضريين والريفيين كان مهما للغاية في مجتمع الشرق الأوسط القديم وهو كان سببا لكثير من التحولات السياسية الهامة التي منها على الأغلب دخول بني إسرائيل إلى كنعان في القرن 12 قبل الميلاد.

بعيدا عن رمزية الصراع الحضري-الريفي هناك رمزيات أخرى عديدة ظاهرة في هذه القصة:

(التكوين: 4)
8. وقالَ قَيْنٌ لِهَبْلٍ أخيهِ: “لِنَخرُجْ إلى الحقلِ”. وبَينَما هُما في الحقلِ هجَمَ قَيْنٌ على هَبْلٍ أخيهِ فقَتَلَه.
9. فقالَ يهوه لقَيْنٍ: “أينَ هبلٌ أخوكَ؟” قالَ: “لا أعرِفُ. أحارِسٌ أنا لأخي؟”
10. فقالَ لهُ يهوه: “ماذا فَعَلْتَ؟ دَمُ أخيكَ يصرُخُ إليَّ مِنَ الأرضِ.
11. والآنَ مَلعونٌ أنتَ مِنَ الأرضِ الّتي فتَحت فَمَها لِتقبَلَ دَمَ أخيكَ مِنْ يَدِك.
12. فهِيَ لن تُعطيَكَ خِصْبَها إذا فلَحْتَها، طريداً شريداً تكونُ في الأرضِ”.
13. فقالَ قَيْنٌ ليهوه: “عِقابي أقسى مِنْ أن يُحتَمَل.
14. طرَدْتَني اليومَ عَنْ وجهِ الأرضِ وحجَبْتَ وجهَكَ عَنِّي، وطريداً شريداً صِرْتُ في الأرضِ، وكُلُّ مَنْ وجَدَني يقتُلُني!”.
15. فقالَ لَه يهوه: “إذن كُلُّ مَنْ قتَلَ قَيْنًا فسَبْعَةُ أضعافٍ يُنتَقَمُ مِنهُ”. وجعَلَ يهوه على قَيْنٍ عَلامةً لِئلاَّ يقتُلَهُ كلُّ مَنْ وجدَهُ.
16. وخرَجَ قَيْنٌ مِنْ أمامِ يهوه وأقامَ بأرضِ نَوْدٍ شَرقيَّ عِدْنَ.
17. وعَرَفَ قَيْنٌ امرأتَهُ فحَمَلتْ ووَلَدت حَناكَ. وبنَى مدينةً سَمَّاها بِاسْمِ ابنِه حَناكَ.

18. ووُلِدَ لحَناكَ عِيرَدُ، وعِيرَدُ ولَدَ مَحُوءَئِلَ، ومَحُوءَئِلَ ولَدَ مَتُوسَئِلَ، ومَتُوسَئِلَ ولَدَ لَمْكَ.
19. وتزوَّجَ لَمْكُ امرأتَيْنِ إحداهُما اسْمُها عَدَةُ والأُخرى صِلَّةُ.
20. فولَدَت عَدَةُ يَبَلَ وهوَ أوَّلُ مَنْ سكَنَ الخيامَ ورعَى المَواشيَ،
21. و اسمُ أخيهِ يُوبَلُ وهوَ أوَّلُ مَنْ عزَفَ بالعُودِ والمِزمارِ.
22. وولَدَت صِلَّةُ تُوبَلَ قَيْنَ، وهوَ أوَّلُ مَنِ اشتغلَ بِصناعَةِ النُّحاسِ والحدِيدِ، وأُختُه نَعْمَةُ.
23. وقالَ لَمْكُ لامْرأتَيهِ: “يا عَدَةُ وصِلَّةُ اسمعا صوتي، يا امْرأتَي لَمْكَ اصغيا لِكلامي. قتَلْتُ رَجُلاً لأنَّه جَرحَني وفتىً لأنَّه ضَرَبَني
24. لِقَيْنٍ يُنتَقَمُ سَبْعَةَ أضعافٍ وأمَّا لِلَمْكَ فَسَبْعَةً وسبعينَ”.

يهوه عاقب قين بأن نفاه إلى الصحراء، ولكنه رغم ذلك حماه من الموت وتكفل بالانتقام ممن يقتله (أو أحدا من بنيه). قين خرج بعد ذلك إلى “أرض نَوْد” (land of Nod) التي يعني اسمها في اللغة العبرية “الضياع” أو “التيه”. ما يلي من لسان العرب:

نادَ الرجلُ نُواداً: تَمايَلَ من النعاس. التهذيب: نادَ الإِنسانَ يَنُودُ نَوْداً ونَودَاناً مثل ناسَ يَنُوس وناع يَنوعُ. وقد تَنَوّد الغُصْن وتَنَوّع إِذا تَحرَّكَ؛ وَنَودَانُ اليهود في مدارسهم مأْخوذ من هذا. وفي الحديث: لا تكونوا مثل اليهود إِذا نَشَروا التَّوراة نادوا؛ يقال: ناد يَنُودُ إِذا حَرَّك رأْسه وكَتِفَيْهِ. وناد من النُّعاس يَنُودُ نَوْداً إِذا تمايل.

هذه الفكرة أو الثيمة هي نفس الثيمة التي تظهر لاحقا في سفر الخروج الذي يروي قصة هروب موسى من مصر. موسى قتل رجلا مصريا ثم هرب بسبب ذلك إلى صحراء التيه التي تقع شرق مصر (مثلما أن قين طرد إلى صحراء نود التي تقع شرق جنة عدن). أيضا موسى كقين هو محمي من الله رغم جريمته.

أسماء أولاد قين تعكس الانتقال من الحياة الحضرية إلى الحياة الريفية. كلمة “حناك” لها معان عديدة في اللغات السامية. كثير من الباحثين الغربيين يفسرونها بأنها مأخوذة من “التكريس”، بمعنى أن حناك ابن قين كرس أو أنشأ مدينة جديدة. ولكن هناك احتمالا آخر من لسان العرب:

والحَنَك: الجماعة من الناس يَنْتَجِعون بلداً يرعونه. يقال: ما تَرك الأَحْناكُ في أَرضنا شيئاً، يعني الجماعات المارة؛ قال أبو نخيلة:

إنا وكنا حَنَكاً نَجْدِيَّا
لما انْتَجَعْنا الوَرَقَ المَرْعِيّا
فلم نَجِدْ رَطْباً ولا لَويّا

هذا المعنى ينطبق تماما على حالة قين وبنيه، وهو ينطبق أيضا على حالة بني إسرائيل الذين طردوا من الحياة الحضرية في مصر وتحولوا إلى رعاة وبدو متنقلين حسب ما ورد في سفر الخروج.

وأما ابن حناك “عِيرَد” فيقال أن اسمه يعني “الهارب” أو “اللاجئ”، وابن عيرد “مَحُوءَئِل” يعني اسمه “المطرود من الله” أو “المضروب من الله”، و”مَتُوسَئِل” تعني “الباحث عن الله”.

أما “لَمْك” فاسمه ربما يعني “القوي” أو “الكاهن”، واسم ابنه “يَبَل” يعني “الراعي”، و “يُوبَل” تعني “العازف”، و”تُوبَل قَيْن” ربما تعني “الراعي الحداد” (“عَدَة” ربما تعني “زينة” في العبرية، وهي ربما تكون “غدة” كما في لسان العرب: “الغادَةُ الفتاة الناعمة اللينة”؛ أما “صِلَّة” فهي أصلا “ظِلَّة” بمعنى أنها ربما ظل للزوجة الأولى، أو “ضِلَّة” بمعنى أن زواج زوجها منها رغم كونه متزوجا هو ضلال أو شيء من هذا القبيل. في الكنعانية حرفا ظ و ض يتحولان دائما إلى ص).

من أسماء أبناء قين يظهر أن الأجيال الأولى كانت ريفية تائهة ثم بعد ذلك تحولت إلى شعب ذي شأن لا يعمل فقط في الرعي وإنما أيضا في الحدادة، وأيضا هو شعب لديه متع ولهو (العزف وتعدد الزوجات). هذا يفسر قول لمك (“القوي”) لامرأتيه “قتَلْتُ رَجُلاً لأنَّه جَرحَني وفتىً لأنَّه ضَرَبَني… لِقَيْنٍ يُنتَقَمُ سَبْعَةَ أضعافٍ وأمَّا لِلَمْكَ فَسَبْعَةً وسبعينَ”. هو يريد أن يقول أننا لم نعد ضعفاء كما كنا وإنما صرنا أقوياء وأعزاء.

هذه القصة هي تلخيص لتاريخ بني إسرائيل. بنو إسرائيل كانوا حقراء أذلاء تائهين في الصحاري والأرياف، ولكنهم بعد ذلك صاروا أمة عظيمة كما وصفتهم التوراة، وفي تلك المرحلة استشرى فيهم الانحراف والتجبر فغضب الله عليهم وتركهم.

الكتاب اليهودي فيه مجموعة من الأفكار الثابتة التي تتكرر دائما، ومن هذه الأفكار فكرة أن الإنسان المطرود من المدينة والذي يعيش في الريف هو ليس إنسانا لا قيمة له، بل هو إنسان قادر على صنع أمة وديانة مهمة. هذه هي نظرة بني إسرائيل إلى أنفسهم التي هي على الأغلب نابعة من أساس تاريخي. الباحثون حاليا يرون أن بني إسرائيل كانوا متحدرين من فئتين على الأقل: الفئة الأولى هي فئة “العبريين” التي ورد وصفها في المصادر الأكدية باسم Ḫabirū/Apirū (أي “عَبِيرون” أو “عابرون”. الكتابة الأكدية ليس فيها حرف ع، و ū– في نهاية الاسم هي علامة جمع المذكر المرفوع) وفي السومرية SA.GAZ وفي أجاريت ʕpr (“عفر”) وفي المصادر المصرية ˁprw. كلمة “عبريين” كانت في الألفية الثانية قبل الميلاد كلمة عامة الاستخدام في الشرق الأوسط وكانت تطلق على فئة من الناس المطرودين أو الفارين من وجه العدالة ويجوبون الصحاري والأرياف ويقومون في الغالب بأعمال النهب والسلب والإغارة. أقرب مصطلح لمصطلح “العبريين” في اللغة العربية هو مصطلح “الصعاليك”، وما يلي تعريفه من كتاب جواد علي:

وقيل: الصعلوك: الفقير، وهو أيضاً المتجرد للغارات”. والصعاليك، قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم، لأسباب عديدة، منها عدم إدراك أهلهم أو قبيلتهم نفسياتهم، مما سبب إلى نفورهم منهم، وخروجهم على طاعة مجتمعهم، وهروبهم منه، والعيش عيشة الذؤبان، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم، وعلى قوتهم في تحصيل ما يعتاشون به، بالإغارة على الطرق والمسالك، وبمهاجمة أحياء العرب المبعثرة، أفراداً أو طوائف. وهم أبداً في خوف من متعقب يتعقبهم، لاسترداد ما أخذ أو سلب، ومن متربص يتربص بهم الدوائر، ليأخذ منهم ما غنموه بالقوة من غيرهم أو ما قد يجده في أيديهم. ولهذا كانوا يتكتلون أحياناً، بانضمام بعضهم إلى بعض، مكونين جماعات، جمعت بينها وحدة الهدف، وغريزة حماية النفس، والمصلحة المشتركة، بعد أن حرمهم أهلهم ومجتمعهم من تقديم أية مساعدة أو حماية لهم، وسحب منهم حق الأخذ بالثأر والانتقام ممن قد يعتدي عليهم، بحق “العصبية”، وبعد أن جعل دمهم هدراً، وتبرأ منهم ومن كل جريرة يرتكبونها، فلا يطالب أهلهم بدمهم، ولا يطالبونهم بأي دم قد يسفحه الصعلوك.

هذا التعريف هو نفس تعريف “العبريين” الذين كانوا يجوبون أرياف ما بين النهرين وسورية ومصر في الألفية الثانية قبل الميلاد، وهذا التعريف أيضا شبيه إلى حد كبير بقصة قين التوراتي وبنيه الذين كانوا في البداية مطرودين ذليلين ثم أصبحوا فيما بعد أصحاب قوة وشأن.

أما الفئة الثانية التي يرى الباحثون أنها ساهمت في تكوين بني إسرائيل فهي الفئة التي يطلق عليها في المصادر المصرية القديمة اسم “شأسو” š3sw (“شأسيون”، جمع “شأس”) وهي كلمة تعني “الرعاة” وكان المصريون يطلقونها على سكان سيناء وعربية الصخرية. ما لفت الباحثين هو أن المصادر المصرية ذكرت قوما باسم š3sw yhw (شأسيوا يهو) وهذا الاسم يعني “رعاة يهو”، وكلمة “يهو” هي على ما يبدو نفسها كلمة “يهوه” التي يطلقها بنو إسرائيل على إلههم. شأسيوا يهوه كانوا يسكنون مكانا ما في منطقة جبل الشراة وشمال الحجاز، وهذا دليل آخر على أن أصل الديانة اليهودية هو من تلك المنطقة (أنا كنت قد ذكرت سابقا أن جبل سيناء الذي نشأت فيه الديانة اليهودية حسب التوراة يقع على الأغلب في المنطقة الممتدة بين جبل الشراة وبين مدين في شمال الحجاز).

كثير من الباحثين يرون أن نشوء بني إسرائيل كان بسبب قيام مجموعة من العبريين (الصعاليك) والشأسيين (الرعاة) وغيرهم من سكان الأرياف بالتجمع واقتحام بلاد كنعان من جهة الشرق في القرن 12 قبل الميلاد. علم الآثار يدل على أن هكذا اقتحاما لفلسطين حصل بالفعل في ذلك الزمن. ربما يكون دخول الشأسيين إلى فلسطين حصل في فترة تالية لدخول العبريين وليس في نفس التوقيت، ولكن المهم هو أن بني إسرائيل لم يكونوا من أصل واحد وهناك أدلة عديدة على هذا الأمر.

ما سبق يفسر تعاطف التوراة مع قين ابن آدم. في البداية عندما كان قين حضريا نجد أن القصة التوراتية انحازت إلى أخيه هبل الريفي ضده، وعندما أصبح قين طريدا في البراري تغيرت نبرة القصة وصار قين محميا من الله وله نسل مبارك (وهذا النسل المبارك أصبح في النهاية صاحب لهو وضلال كما يقول الكتاب اليهودي دائما عن بني إسرائيل).

كثير من الباحثين لا يرون أن قصة قين وهبل هي من أصل إسرائيلي بحت. هم يربطون بين هذه القصة وبين أساطير بلاد ما بين النهرين التي يظهر فيها دائما صراع عائلي بين الآلهة الأوائل. مثلا قصة الخلق البابلية (المسماة Enûma Eliš) تقول أن بداية الخلق كانت من تزاوج Apsû (الماء العذب) وTiamat (“تهامة”، أي البحر أو الماء المالح). تزاوج Apsû وTiamat أنتج الآلهة، وبعد ذلك يقرر Apsû قتل الآلهة لأن عددها صار كبيرا وصارت تسبب الإزعاج، ولكن الآلهة بقيادة Ea (السومري Enki) تستبق مخططه وتصرعه، وتستمر القصة بعد ذلك وتستمر الدسائس والمؤامرات بين الآلهة إلى أن ينتهي الصراع بانتصار Marduk إله البابليين وتنصيب نفسه كبيرا للآلهة.

أيضا في القصة الحتّية المسماة “ملكوت السماء” (Kingship in Heaven) تظهر بداية العالم على أنها كانت صراعا بين الآلهة على السلطة. الحاكم في البداية كان Alal (“أنبوب ماء” باللغة السومرية، كناية ربما عن الري)، ولكن An (“السماء”) هاجمه و”أسقطه إلى الأرض”، وبعد ذلك هجم Kumarbi (أو Kingu) على An وابتلع عضوه الذكري، وبسبب ذلك حمل Kumarbi في جوفه مجموعة من الأبناء لـ An، وعندما علم Kumarbi بذلك بصق المني خارج جوفه، ولكنه رغم ذلك لم يتمكن من إجهاض Tešub الذي خرج من جوفه وأطاح به بمعونة والده An.

هناك أمثلة أخرى كثيرة على هذه الصراعات العائلية بين الآلهة. كثير من الباحثين ينظرون للصراع العائلي التوراتي بين قين وأخيه هبل ضمن هذا السياق. من القصص القريبة لقصة قين وهبل قصتان، القصة الأولى هي القصة السومرية المسماة “Inanna تفضل الفلاح” (“Inanna Prefers the Farmer“). في هذه القصة يتقدم إلهان للزواج من الإلهة Inanna، الأول هو تمّوز الراعي (اسمه بالسومرية: (Dumuzi(d)، والثاني هو Enkimdu الفلاح. Inanna تفضل الفلاح، ولكن أخاها Utu إله الشمس يطلب منها أن تختار Enkimdu، وهذا ما يؤدي إلى مواجهة بين تموز و Enkimdu. وطبعا في النهاية Inanna تختار تموز وهناك قصص كثيرة حول الاثنين. تموز يموت (يقتله جن من الأرض السفلى) و Inanna تنزل إلى الأرض السفلى لكي تنقذه وتعيده إلى الحياة. القصة الثانية شبيهة بهذه القصة وهي قصة الإله المصري Set الذي يقتل أخاه Osiris وبعد ذلك تقوم Isis زوجة الأخير بإحيائه من الموت.

قين في القصة التوراتية كان له نسل من البشر، والباحثون يرون أن نسله هم على الأغلب القَيْنِيٌّون Kenites الذين كانوا يسكنون مدين ويعملون في الحدادة حسب ما يستدل من التوراة، ومنهم يَتْرا (Jethro) كاهن مدين الذي زوج ابنته لموسى. بعض الباحثين يرون في هذه النصوص وغيرها دليلا على أن بني إسرائيل تعلموا عبادة يهوه من المدينيين (الذين هم ربما نفسهم “شأسو يهو”). سفر الخروج يقول أن موسى التجأ إلى مدين وسكن هناك عند الكاهن يترا (الذي كان كاهنا ليهوه على الأغلب)، وبعد ذلك يتحدث يهوه إلى موسى بينما كان الأخير يرعى غنم يترا قرب مدين، ويستمر بعد ذلك التواصل بين يهوه وموسى في هذه المنطقة المجاورة لمدين، وفي هذه المنطقة يتعلم موسى كل أصول الدين اليهودي من يهوه، وفي النهاية يأمر يهوه موسى أن يبني خيمة ويضع فيها مكونات المعبد اليهودي والألواح وأن يرتحل شمالا. هذه الكلام وغيره ليس مصادفات حسب رأي كثير من الباحثين بل هو دليل على أن موسى (أي بني إسرائيل) تعلم عبادة يهوه من المدينيين، ومن الأدلة القوية على هذه النظرية العبارة التالية في سفر الخروج:

(الخروج: 6)
2. وقالَ اللهُ لموسى: “أنا يهوه،
3. تراءَيتُ لإبراهيمَ وإسحَقَ ويعقوبَ بإِل سَدَّي، وأمَّا اسمي يهوه فما أعَلمْتُهُم بهِ.”

كلمة “إِل” אֵל (اللفظ الطبري: ʔēl) في اللغات السامية تعني “إله” (كلمة “إله” مركبة من “إل” وهاء هي على الأغلب هاء الخطاب التي تظهر في “أباه” و”أماه” و”عيناه” إلخ). أما كلمة “سَدَّي” שַׁדַּי فهي كلمة حيرت الباحثين ولكن بعد العثور في النقوش الأجاريتية على كلمة “ثدي” بمعنى “جبل” قرر كثير من الباحثين أن “إل سدي” هو “إل ثدي” أي “إله الجبل” (حرف الثاء يتحول دائما إلى سين في اللغات الكنعانية)، وهذه الكلمة لها نظير في الأكدية هو كلمة šadû (سَدُو) التي تعني “جبل” أو “شرق” ولكنها في الأصل تشير إلى جبل Mašu الذي هو جبل مقدس ذو قمتين يقع إلى الشرق من بابل بعيدا عند مطلع الشمس، وبالتالي ربما تكون كلمة “إل سدي” هي من أصل بابلي/سومري (وهذا ربما يفسر الثيمة التوراتية التي تجعل الجبال المقدسة دائما في جهة الشرق ومسبوقة بصحاري يضيع فيها الإنسان، مثلا صحراء نود وصحراء سيناء وغيرها). كلمة “إله الجبل” تظهر أيضا في كتابات المؤرخين الرومان الذين تحدثوا عن إله اسمه Elagabalus كان معبودا في حمص في القرون الميلادية الأولى. كلمة Elagabalus هي ربما ʔilāh haggabal التي تعني “إله الجبل” باللغات العربية الشمالية القديمة (العرب في تلك الفترة كانوا يحكمون حمص). “إله الجبل” الحمصي-العربي هو ربما نفسه “إل سدي” السوري القديم الذي تقول التوراة أنه كان إله بني إسرائيل قبل أن يعرفوا اسم يهوه.

بالإضافة إلى ما سبق فإن الكلام عن أن موسى تزوج ابنة كاهن مدين هو دليل على وجود اختلاط في النسب بين بني إسرائيل والمدينيين، وهناك ذكر صريح لوجود القينيين بين بني إسرائيل في سفر صموئيل 1 (30:29).

إذن القينيون هم ربما نفسهم “شأسو يهو” الذين ذكرتهم المصادر المصرية، وهم كانوا يشكلون جزءا من بني إسرائيل في زمن الملك داود. هذا ربما يفسر وجود نسل لقين في القصة التوراتية وكون بنيه يعملون في الحدادة. قين حسب هذه النظرية هو أحد أسلاف بني إسرائيل.

قصة قين تقول أنه أقام “بأرض نود شرقي عدن”، وقصة أيوب تقول بأنه كان “أعظم بني الشرق جميعا”. كلمة “بني شرق” هي مصطلح يتكرر في التوراة. الكلمة بالعبرية هي “بَنِي قَدْم” בְּנֵי־קֶדֶם (باللفظ الطبري: bə̆nȇqeḏem) والمعنى الحرفي لها هو “بني أمام” (كلمة “قَدْم” هي مرادف لـ”قُدَّام” في اللهجات العربية). الجذر “يمن” في اللغات السامية يعني جهة اليمين ويعني أيضا الجنوب، والجذر “شأم” يعني جهة اليسار والشمال الجغرافي، وفي التوراة الجذر “قدم” الذي يعني “الأمام” يستخدم أيضا بمعنى “شرق”. مصطلح “بني شرق” حسب باحثي التوراة يعني شعوب شرق الأردن ومن وراءهم، وهذا ظاهر مثلا في العبارة التالية:

(إشعيا: 11)
14. فيَجتاحونَ معاً سُفوحَ الفِلِسْطِيِّينَ غرباً، ويَنهَبونَ بَني الشَرقِ جميعاً يُلقونَ أيديَهُم على إدامَ ومأَبَ ويكونُ بَنو عَمَّانَ في طاعتِهِم.

هنا فسرت “بني شرق” بأنها تعني إدام ومأب وعمان، ولكن في العبارة التالية المعنى أوسع:

1. وعمِلَ بَنو إِسرائيلَ الشَّرَّ في عينَي يهوه، فسَلَّمَهُم إلى يَدِ مدينَ سبْعَ سِنينَ.
2. فَسادتْ عليهم يدُ مدينَ، وبِسببِ مدينَ لَجأوا إلى المَغاوِرِ التي في الجِبالِ والكُهوفِ والحُصونِ هرَباً مِنهُم.
3. وكانوا إذا زَرَعوا يصعَدُ إليهِمِ مدينَ وعَمَلِقُ وبنو شرقٍ ويُهاجِمونَهُم.

هنا بنو شرق ذكروا مع مدين وعملق (العماليق)، وهؤلاء يسكنون جنوب إدام وغربها، أي إلى الجنوب من فلسطين. بعض الباحثين يفسرون هذا التناقض بأن مدين وعملق هي قبائل متنقلة وليس لها موطن ثابت، ولكن هذا التفسير غير صحيح. الكتاب اليهودي يطلق مسمى “بني شرق” على شمال الحجاز وهناك أدلة عديدة على ذلك. من هذه الأدلة مثلا هذا النص الذي ألحق فيه “بنو شرق” مع المدينيين والعماليق. كثير من الباحثين يرون أن مصطلح Sarakēnoi (بالإنكليزية: Saracens) الذي أطلقه الرومان على العرب بدءا من القرن الثالث الميلادي له نفس أصل كلمة “بني شرق” الواردة في التوراة، والمؤلف عرفان شهيد وغيره يرون أن هذه الكلمة كانت في الأصل تطلق على عرب منطقة عربية الصخرية، وهي نفس المنطقة التي يشير إليها الكتاب اليهودي عندما يتحدث عن بني شرق. المقصود بالشرق في مصطلح بني شرق التوراتي هو شرق الأردن بالإضافة إلى جبل الشراة ووادي عربة وشمال الحجاز. سبب المعنى الواسع للمصطلح هو أن الكتاب اليهودي من طبيعته تعميم المصطلحات فهو يطلق اسم منطقة معينة على المناطق التي تقع خلفها. مثلا فأرن Paran هي في الأصل تعني منطقة في صحراء النقب ولكن الكتاب اليهودي وسع معناها حتى أوصلها إلى جبل سيناء في شمال الحجاز، ونفس الأمر ينطبق على بني الشرق حيث أن المصطلح يشير أصلا إلى جبل الشراة وشرق الأردن ولكن الكتاب اليهودي يقصد بهذه الكلمة شمال الحجاز أيضا.

“أرض نَوْد” التي تقع “شرقي عدن” والتي ذهب إليها قين ربما تكون منطقة مدين التي كان سكنها القينيون (إن اعتبرنا أن القصة التوراتية لا تدري أين هو مكان جنة عدن الأصلي، بدليل أنها تقول أن الأنهار الأربعة تخرج من عدن، والصحيح أنها تصب فيها). ربما يكون قصد صاحب القصة التوراتية من كلمة “شرق” هو منطقة مدين، و”صحراء نود” التي تقع باتجاه الشرق هي ربما نفسها صحاري فأرن وسيناء التي جال فيها بنو إسرائيل. صاحب القصة التوراتية كان ربما يفكر في قصة تيه بني إسرائيل عندما روى قصة قين.

أيضا “أرض عُوص” التي كان يسكنها أيوب “أعظم بني الشرق” هي على الأغلب تقع في نفس المنطقة العامة، أي بين جبل الشراة ومدين.

في الكتابات “الثمودية” من شمال الحجاز عثر على كلمة “قين” (بالكتابة الثمودية: “قن”) كاسم شخصي، وعثر في الكتابات اللحيانية على أسماء مركبة تحوي هذه الكلمة مثل ” قن منت” (“قين مناة”) و”عبد قن” (“عبد قين”). بعض الباحثين يرون أن “قين” كان في الأصل اسما لإله أو نصف إله لدى سكان شمال الحجاز وأن قبيلة القينيين القديمة منسوبة إلى هذا الشخص المقدس الذي ربما كان ربا للحدادة والحرف. أيضا لدى اليمنيين القدماء كان هناك إله باسم “قينن” (أي “القين” لأن النون في نهاية الاسم هي أداة التعريف في اللغات اليمنية القديمة، واللفظ ربما كان قَيْنان Qaynān). هذا الإله كان لقبيلة “سخيم” النازلة بـ “شبام” (“شبم سخم”)، ومن غير المعروف ما إذا كان هو نفسه الإله “قين” المفترض في شمال الحجاز. في اللغة السبئية ورد اسم “نقين” كاسم شخصي، وبعض الباحثين يشكون في وجود صلة بين هذا الاسم وبين الإله “قين”. إذا كان الإله “قين” معروفا لدى السبئيين فهذا يقوي فكرة أن الإله نفسه كان موجودا في الحجاز واليمن لأن السبئيين هم أقرب اليمنيين إلى الحجاز.

بعد الحديث عن قين ونسله يورد سفر التكوين ما يلي:

(التكوين: 4)
25. وعَرَفَ آدمُ امرأتَهُ مرةً أُخرى، فولَدَتِ ابْناً وَسَمَّتْهُ سِتًا وقالت: “غَرَسَ اللهُ لي بِذْرَةً أُخرَى بدَلَ هَبْلٍ لأنَّ قَيْنًا قتَلَهُ”.
26. ووُلِدَ لِسِتٍ ابنٌ وَسَمَّاهُ إِنَاسًا، وفي ذَلِكَ الوقتِ بدَأَ النَّاسُ يَدعونَ باسمِ يهوه.

سِت שֵׁת هو الذي يسميه الكتاب المسلمون “شيث” (باللفظ الطبري: šēṯ، بالإنكليزية Seth)، أما إناس אֱנוֹשׁ فهو “أنوش” لدى المسلمين (باللفظ الطبري: ʔĕnôš، بالإنكليزية Enos).
بعد ذكر هذه الفقرة ينتهي الفصل الرابع من سفر التكوين ويبدأ الفصل الخامس الذي يرى كثير من الباحثين أنه من مصدر مختلف هو P (أما الفصول السابقة فهي من J و E). ميزة هذا الفصل هي أنه يبدأ بعبارة zeh sēp̄er tôlĕḏōṯ… (هذا سفر مواليد…) التي يستخدمها كثير من الباحثين كاسم للمصدر المفترض الذي نقل منه P هذا الكلام (يسمونه “سفر المواليد” Toledot book):

(التكوين: 5)
1. هذا سِفرُ مواليدِ آدمَ: يومَ خلَقَ اللهُ الإنسانَ على مِثالِ اللهِ صنَعَهُ.
2. ذَكَراً وأنثَى خلَقَهُ وباركَهُ وسَمَّاهُ آدمَ يومَ خلَقَه .
3. وعاشَ آدمُ مئةً وثلاثينَ سنَةً، ووَلَدَ وَلَداً على مِثالِه كَصُورَتِهِ، وسمَّاهُ سِتًا.
4. وعاشَ آدمُ بَعدَما وَلَدَ سِتًا ثَمانيَ مئَةِ سَنةٍ، وَلَدَ فيها بَنينَ وبَناتٍ.
5. فكانَت كُلُّ أيّامِ آدمَ الّتي عاشَها تسعَ مئَةٍ وثلاثينَ سنَةً وماتَ.
6. وعاشَ سِتٌ مِئةً وخَمْسَ سِنينَ، ووَلَدَ إِنَاسًا.
7. وعاشَ سِتٌ بَعدَما ولدَ إِنَاسًا ثمانيَ مئةٍ وَسَبْعَ سِنينَ، وَلَد فيها بَنينَ وبناتٍ.
8. فكانَت كُلُّ أيّامِ سِتٍ تِسْعَ مئةٍ واثنتي عشْرَةَ سنَةً وماتَ.
9. وعاشَ إِنَاسُ تِسعينَ سنَةً، وولَدَ قَيْنَنَ.
إلخ…

ثم يستمر في سرد مواليد آدم بنفس النمط إلى أن يصل إلى نوح، الذي هو الشخص العاشر بعد آدم وبعده الطوفان. الباحثون الغربيون يربطون بين “سفر المواليد” الذي استقى منه P هذا المعلومات وبين “لوائح الملوك السومرية” Sumerian King Lists التي عثر عليها في بلاد ما بين النهرين. هذه اللوائح تعدد ملوك سومر منذ فجر التاريخ، والملفت فيها هو أنها تنص دائما على عشر ملوك أوائل يتبعهم طوفان يعم العالم، وهذا ما دعى الباحثين للربط بين أبناء آدم العشرة قبل الطوفان وبين ملوك سومر العشرة قبل الطوفان.

قصة الطوفان وردت في أساطير ما بين النهرين بصيغ عديدة، وفي كل مرة يكون لشخصية نوح اسم مختلف (الاسم الشائع في الكتابات السومرية: Ziudsura أو ZinSuddu، وفي الكتابات الأكدية: AtraHasis أو UtNapishtim). القاسم المشترك بين كل هذه الروايات هو وجود إله أو آلهة يقررون إغراق الأرض بالطوفان ما عدا شخص واحد يأمرونه ببناء فلك وينجو من الطوفان بمساعدة الآلهة (في ملحمة جلجاميش البابلية سفينةUtNapishtim ترسو بعد انحسار الطوفان على جبل اسمه Nisir، ويعتقد أن هذا الجبل يقع في كردستان العراقية، أي بالقرب من موقع جبل أراراط التوراتي الذي يقع شمالا في الهضبة الأرمنية). بالإضافة إلى الأساطير المكتوبة على الألواح المسمارية هناك كاتب بابلي-هيليني اسمه Berossos كتب في القرن الثالث قبل الميلاد كتابا باللغة اليونانية اسمه Babyloniaca يحكي فيه تاريخ بابل، والذي يلفت الباحثين في هذا الكتاب هو مدى التشابه بين أسلوبه وبين أسلوب التوراة اليهودية، حيث أنه يبدأ بسرد قصة الخلق البابلية (الصراع بين الإله Marduk وبين Tiamat) ثم يروي قصص الملوك العشرة الذين حكموا بابل قبل الطوفان، وبعد ذلك يذكر قصة نوح الذي يسميه Xisouthros (Ziusudra=) ثم يذكر انقسام العالم إلى ثلاثة أقسام.

الأساطير السومرية لم تكن قصصا ثابتة بل كانت أشبه بموتيفات motifs أو ثيمات themes، بمعنى أنها كانت مجموعة من الأفكار والعناصر التي تتكرر بشكل مختلف في كل رواية للقصة. مثلا في الألواح المعروفة باسم “ترنيمة معبد كيش” Kesh Temple Hymn ورد ذكر شخصية Tagtug الذي أنقذته إلهة الأرض Nintud من الطوفان الذي قرر إله الماء Enki إغراق الأرض به لإبادة البشر. الإلهة Nintud أمرت Tagtug وأشخاصا صالحين آخرين بالركوب في سفينة حتى ينجوا من الطوفان. الملفت هو ما حدث بعد الطوفان، حيث أن الإلهة Nintud (التي هي خالقة البشر بالتعاون مع إله الأرض Enlil) تشفعت لدى الإله Enki لكي يعفو عن Tagtug، فقبل Enki بذلك وأخذ Tagtug إلى معبده وكشف له أسرارا ووضعه في حديقة وأخبره أنه يستطيع أن يأكل من كل الأشجار ما عدا واحدة، ولكن Tagtug عصى هذا الأمر وأكل من الشجرة المحرمة، فعوقب بأن أصيب بالمرض، ولم يكن البشر يمرضون قبل ذلك ولذلك كانت أعمار البشر قبل الطوفان أطول بكثير من أعمارهم بعد الطوفان، ولكن الآلهة الأخرى تدخلت وأرسلت للبشر الأدوية والأعشاب الطبية لكي يتداووا من الأمراض.

الملفت في هذه القصة هو أن فيها خلطا واضحا بين قصة آدم ونوح، حيث أن Tagtug هو نوح وآدم في نفس الوقت، وهذا يدل على أن هذه القصص لم تكن قصصا ثابتة بل كانت على ما يبدو أشبه بالموتيفات الأدبية أو الأسطورية. هذا ربما يعود إلى كون هذه القصص قديمة جدا وتعود إلى عصور سحيقة، وهذا يفسر انتشارها الكبير في البلاد المحيطة بما بين النهرين. القصص السومرية كانت موجودة بصياغات متباينة لدى الحتيين في الأناضول، ومن هناك انتقلت هذه القصص غربا حتى وصلت إلى اليونانيين الذين استفادوا منها في أساطيرهم بشكل كبير وجوهري. ونفس الأمر ينطبق ربما على حضارة بلاد السند القديمة التي توجد لديها قصص مشابهة للقصص السومرية. آدم وحواء في الأساطير الهندية القديمة اسمهما Atman و Iiva، والجبل الذي رست عليه سفينة نوح اسمه Manu. نوح عند المصريين هو Nun الذي ركب في سفينة رع التي تحوي أربعة آلهة مذكرة وأربعة آلهة مؤنثة، وجبل أرارات هو جبل Hetep.

بالنسبة لحقيقة الطوفان فهي محل جدل بين الباحثين. بعضهم يرون أن الطوفان كان طوفانا محدودا حدث في سومر، وآخرون يرون أن الطوفان المقصود هو الطوفان الذي حدث في منطقة البحر الأسود قبل 7000 عام بسبب ظهور مضيق البسفور. وهناك من يرون أن فكرة الطوفان هي خرافة نشأت من اكتشاف البشر للأحافير أو المستحاثات (fossils) البحرية على ظهر اليابسة وفي مناطق جبلية مرتفعة أحيانا. ولكن بغض النظر عن حقيقة الطوفان فإن قصص التوراة بشكلها الحالي تعود حسب رأي كثير من الباحثين إلى بلاد ما بين النهرين، ولكن هذا لا يعني أنها مأخوذة مباشرة من المصادر السومرية أو الأكدية. قديما بعض الباحثين كانوا يرون أن اليهود أخذوا هذه القصص من بابل أثناء وجودهم في السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن هذه النظرة حاليا تعتبر ضعيفة لأن مقارنة القصص اليهودية بما اكتشف من كتابات قديمة في منطقة سورية الكبرى تظهر أنها مأخوذة من تراث هذه المنطقة، وهذا التراث هو في الأصل متأثر بتراث ما بين النهرين ولكن من قبل ظهور اليهود بمئات وآلاف السنين.

لائحة أنساب “سفر المواليد” تضم الأسماء التالية من الأب إلى الابن:

  • آدم Adam
  • سِت Seth
  • إناس Enos
  • قَيْنَن Cainan
  • مَهَلَلَئِل Mahalaleel
  • يَرْد Jared
  • حَنَاك Enoch
  • مَتُوسِلَح Methuselah
  • لَمْك Lamech
  • نَاح (نوح) Noah

هناك أمور عديدة أثارت اهتمام الباحثين في هذه السلسلة، منها مثلا مسألة الأعمار. بالنسبة لكون أعمار سفر التكوين طويلة جدا وخرافية فهذا يشبه لوائح الملوك السومرية التي تعطي ملوك ما قبل الطوفان أعمارا طويلة جدا تصل إلى عشرات آلاف السنين، والباحثون يفسرون هذا بأنه دلالة على الطبيعة المقدسة ونصف الإلهية للملوك الأوائل. الأساطير السومرية (وغيرها) تصور آدم بأنه ابن الآلهة وبأن له طبيعة نصف إلهية demigod أو حتى إلهية كاملة في بعض الروايات، وبالتالي هذا يفسر كون أعمار البشر الأوائل طويلة جدا لأن الآلهة لا تموت. في رواية Tagtug التي نقلتها في الأعلى ورد ذكر السبب الذي جعل أعمار البشر المتأخرين تقصر: السبب هو خطيئة Tagtug (آدم) عندما أكل من الشجرة المحرمة. هذا هو ما دفع الآلهة لأن تعاقب Tagtug وبنيه بالأمراض، ولولا رحمة بعض الآلهة الذين أرسلوا الدواء للناس لكانت الأمراض أبادتهم بعدما نجوا من الطوفان. (هناك معتقدات شعبية ما زالت موجودة حتى الآن بأن أعمار البشر القدماء كانت أطول من أعمار البشر الحاليين، وهذه مقولة ينفيها العلم الحديث لأن أعمار البشر تتزايد مع مرور الزمن ولا تتناقص).

كثير من الباحثين لاحظوا أن الأعمار الواردة في “سفر المواليد” ترتبط بالرقم 60 ومضاعفاته، وهم لهذا السبب يرون أن لهذه الأعمار علاقة بعلم الحساب والفلك البابلي.

بالإضافة إلى موضوع الأعمار هناك موضوع الأسماء. الباحثون لاحظوا أن هناك تشابها بين أسماء بعض أبناء ست وأبناء قين:

  • قَيْنَن : قَين
  • مَهَلَلَئِل : مَحُوءَئِل
  • يَرْد : عِيرَد
  • حَنَاك : حَنَاك
  • مَتُوسِلَح : مَتُوسَئِل
  • لَمْك : لَمْك

هناك ستة أسماء في نسل ست تشبه الأسماء الواردة في نسل قين، وهذا ما دفع كثيرا من الباحثين للقول بأن هذه الأسماء هي نفسها الأسماء التي وردت في نسل قين ولكنها تختلف بشكل طفيف لأن المصدر مختلف (قصة قين وأبنائه مصدرها J، أما سفر المواليد فمصدره P).

ابن آدم الأول في سفر المواليد هو سِت. هذا الاسم غامض المعنى. كاتب القصة التوراتية فسر الاسم بأنه يعني “غرسة” أو “بذرة”:

(التكوين: 4)
25. وعَرَفَ آدمُ امرأتَهُ مرةً أُخرى، فولَدَتِ ابْناً وَسَمَّتْهُ سِت (שֵׁת) وقالت: “غَرَسَ (سَت שָׁת) اللهُ لي بِذْرَةً (زَرْع זֶרַע) أُخرَى بدَلَ هَبْلٍ لأنَّ قَيْنًا قتَلَهُ”.
26. ووُلِدَ لِسِتٍ ابنٌ وَسَمَّاهُ إِنَاسًا، وفي ذَلِكَ الوقتِ بدَأَ النَّاسُ يَدعونَ باسمِ يهوه.

هنا صاحب الرواية ربط ما بين الفعل “سَت” שָׁת بمعنى “غرس” وما بين اسم سِت שֵׁת. ولكن الباحثين المعاصرين رفضوا هذا التفسير ورأوا أن اسم ست قد يعني “عَطِيَّة” أو “بَعْث” (“القيام من الموت”).

أما “إناس” ابن ست فاسمه يعني “رجل” (مأخوذ من الجذر أنس كما كلمة “إنس” العربية). اسم إناس هو إذن مرادف لاسم آدم الذي يعني أيضا “رجل”، وبالتالي ربما يكون “إناس” هو مجرد اسم آخر لآدم، وهذا قد يفسر كون ابن إناس اسمه “قَيْنَن” الذي هو على ما يبدو نفسه “قَيْن” ابن آدم.

اسم “قَيْنَن” باللفظ الطبري هو Qēnān، وهذا يعيدنا إلى نفس السؤال الذي سألناه حول تَيْمَن: لماذا الاسم هو Qēnān وليس Qēnōn كما يجب أن يكون بالكنعانية؟ التفسير ربما يكون أن هذه الكلمة مستعارة من منطقة مدين أو شمال الحجاز، وهذا غير مستغرب لأننا بينا سابقا أن القينيين في التوراة هم في الأصل سكان مدين. هناك احتمال أن يكون “قينن” التوراتي هو نفسه “قينن” (Qaynān* = القَيْن) الذي عثر على اسمه في النقوش اليمنية والذي كان إلها لـ”شبام سخيم” (قرب صنعاء حاليا). في حال كان “قينن” التوراتي هو نفسه “قينن” اليمني فهذا لا يعني بالضرورة أن اليهود أخذوا اسمه من اليمن وإنما الأرجح أنهم أخذوا اسمه من اليمنيين الذين كانوا يسكنون شمال الحجاز في العصور القديمة (مثلا مدينة دَدَن التي تقع إلى الجنوب من مدين وتيمن).

على ما يبدو فإن نسب نوح الذي أورده P في الفصل الخامس من سفر التكوين هو نفس نسب قين الذي أورده J في الفصل الرابع مع اختلافات بسيطة في الأسماء. آدم عند P له اسمان: “آدم” و”إناس”، وكلا الاسمين لهما نفس المعنى وهو “رجل”. النسب الذي كان لدى P أصلا يبدأ بإناس (أي آدم) وبعد إناس يأتي “قَيْنَن” (أي قين) وبعد قَيْنَن تأتي أسماء بقية أبناء قين ولكن بترتيب مختلف.

النسب عند J: آدم – قَيْن – حَناك – عِيرَد – مَحُوءَئِل – مَتُوسَئِل – لَمْك
النسب عند P: إناس – قَيْنَن – مَهَلَلَئِل – يَرْد – حَنَاك – مَتُوسِلَح – لَمْك

الفرق الوحيد بين النسبين هو انعكاس موقع حَناك ومَحُوءَئِل/مَهَلَلَئِل.

إذن P كان لديه في الأصل نسب للبشرية مطابق للنسب الذي أورده J، ولكنه لكي يوفق بين النسبين جعل إناس (الذي هو نفسه آدم عند J) الابن الثالث لآدم، وجعل من سِت أبا لإناس وابنا لآدم، بحيث يكون سِت بديلا عن هَبْل الذي هو في رواية J مات ولم يترك أولادا.

اسم “سِت” غامض ولا أدري إن كان P اخترع هذا الاسم أم أن الاسم كان موجودا أصلا في سفر المواليد الذي نقل منه P النسب. هناك من يقولون بأن اسم سِت له أصل كنعاني قديم وأنه كان اسما لشخصية أسطورية عند الكنعانيين. لا أدري إن كانت هناك علاقة بين هذا الاسم وبين اسم الإله المصري Set الذي قتل أخاه Osiris وبعد ذلك قامت Isis زوجة الأخير بإحيائه من الموت. هناك باحثون يقولون أن Osiris وزوجته Isis هما نظيران مصريان لآدم وحواء، وبما أن Isis أحيت زوجها Osiris من الموت فلا يستغرب أن تكون هناك علاقة بين هذه القصة وبين قول حواء في التوراة أن الله غرس لها سِت بدلا من هَبل المقتول. الملفت أن Isis في إحدى الأساطير المصرية حاولت تسميم Atum بثعبان لأنها أرادت “أن تعرف اسم الله السري”. هذه الرواية تشبه عبارة “وفي ذَلِكَ الوقتِ بدَأَ النَّاسُ يَدعونَ باسمِ يهوه” التي وردت في النص التوراتي الذي يتحدث عن عن ولادة حواء لسِت (“يهوه” في الديانة اليهودية هو اسم الله السري). هذه العبارة حيرت الباحثين ولم يعرفوا المغزى منها، وربما يكون تفسيرها أنها نابعة من القصة المصرية الأصلية. كل قصة سِت وولادة حواء له ربما تكون ثيمات مصرية الأصل.

من الصعب تفكيك سَلَطة المصادر التي أنتجت الرواية التوراتية، ولكن الفكرة هي أن P قام بدمج النسب الذي كان موجودا لديه مع النسب الذي أورده J بحيث صارت النتيجة: آدم – سِت – إناس – قَيْنَن – مَهَلَلَئِل – يَرْد – حَنَاك – مَتُوسِلَح – لَمْك.

طبعا النسب الذي أورده P له نفس معاني ومغازي النسب الذي أورده J. الفكرة العامة هي أن الأجيال الأولى كانت تقية وقريبة من الله، ولكن مع مرور الزمن وتطور حياة الناس وتعقدها بدأ الانحراف والضلال يتسرب إليهم حتى استحقوا العقاب بالطوفان. هذه الثيمة هي من مميزات الكتاب اليهودي عموما ولكنها تظهر لدى D وP بوضوح أكثر من غيرهما، وهي بالمناسبة ثيمة سومرية الأصل، أو على الأقل هي كانت موجودة لدى السومريين قبل اليهود بزمن طويل. الثيمة الأصلية هي أن الأجيال الأولى كانت أقرب للألوهية ومع مرور الزمن بدؤوا يتحولون إلى بشر فانين بسبب معاصيهم.

ويختتم P الفصل الخامس من سفر التكوين بقوله:

30. وعاشَ لَمْكُ بَعدَما وَلَدَ نُوحاً خَمْسَ مئةٍ وخَمْساً وتِسْعينَ سنَةً وَلَدَ فِيها بَنينَ وبَناتٍ.
31. فكانَت كُلُّ أيّامِ لَمْكٍ سَبْعَ مئةٍ وسَبْعاً وسَبعينَ سنَةً وماتَ.
32. ولمَّا كانَ نوحُ ابنَ خَمْسِ مئةِ سنَةٍ وَلَدَ ساماً وحاماً ويافثَ.

من الفروقات بين النسب الذي أورده J ونسب P هو أن الأول ينتهي بلمك وبعد ذلك تتفرع الشجرة إلى ثلاثة أبناء هم يَبَل ويُوبَل وتُوبَل قَيْن، أما نسب P فهو يحوي نوح بعد لمك، والتفرع إلى ثلاثة أبناء يحصل بعد نوح وليس بعد لمك.

لماذا أضاف مصدر P نوح بعد لمك؟ الجواب ببساطة هو لأنه أراد أن يكمل العدد إلى عشرة. النسب الأصلي كان يحوي سبعة أسماء فقط. طبعا العدد سبعة هو عدد سحري ويعتبر من الأعداد المباركة في الأديان القديمة (مثله مثل العدد 3)، ولكن النسب الذي أورده J لم يكن في نهايته طوفان. هو تحدث عن سلسلة من سبعة أشخاص وبعد ذلك تفرعت السلسلة إلى ثلاثة فروع وانتهى الموضوع بسلام وبدون طوفان، أما المصدر الذي نقل منه P (“سفر المواليد”) فهو يريد أن يحدث طوفانا في نهاية السلسلة، ولذلك اضطر إلى زيادة عدد شخصيات السلسلة إلى 10 حتى تتفق مع الثيمة السومرية.

هذا هو سبب إضافة نوح إلى السلسلة. أبناء نوح الثلاثة (سام وحام ويافث) هم نفسهم أبناء لمك في رواية J (يَبَل ويُوبَل وتُوبَل قَيْن) ولكنهم نقلوا منه إلى ابنه نوح.

عندما وصل P في سرده لنسب نوح إلى حَناك أضاف العبارة التالية:

24. وَتمَاشى حَناكُ معَ اللهِ، ثُمَّ لم يكُن، لأنَّ اللهَ أخذَهُ.

كلمة “تماشى” أو “تمشّى” هي ترجمتي التقريبية لكلمة “تَهَلَّك” וַיִּתְהֵלֵּךְ الواردة في النص العبري الأصلي، والمقصود بها على الأغلب أن حناك كان قريبا من الله. هذه العبارة مميزة لحناك دون غيره من الأسماء الواردة في نسب نوح، وهي لهذا السبب حيرت مفسري التوراة. بعض الباحثين يفهمونها في إطار القصص السومرية وهم يرون أن اسم “حناك” هو مستوحى من اسم الإله السومري Enki الذي هو خالق Adapa (آدم السومري).

الكتابة السومرية التي يستخدمها الباحثون لا تعكس في كثير من الأحيان اللفظ الحقيقي للكلمات السومرية لأسباب تتعلق بطبيعة نظام الكتابة السومري المسماري الذي هو إلى حد كبير نظام لوغوغرافي (logographic)، بمعنى أن الرموز المستخدمة فيه لا تعبر عن أصوات وإنما عن كلمات أو مفاهيم. الباحث المعروف A.H. Sayce رأى أن كلمة adapa يجب أن تقرأ adamu، وهناك آخرون وافقوه على هذا الرأي.

Adapa في الأسطورة السومرية كان رجلا صالحا وابنا للإله Adapa .Enki ارتكب خطيئة بحق الإلهة Ninlil، فدعاه الإله An إلى السماء لكي يحاسبه، وقبل صعوده إلى السماء للحساب أوصاه والده Enki بالاعتذار عن خطاياه وبألا يأكل أو يشرب أي شيء في السماء حتى لا يموت. في السماء An رضي عن Adapa لصدقه وعرض عليه طعام الخلود الذي لو أكله لأصبح خالدا لا يموت، ولكن Adapa رفض أن يأكل التزاما بوصية والده Enki، وبذلك أضاع فرصته للخلود.

هذه القصة معاكسة لقصة آدم التوراتي الذي فقد ميزة الخلود بسبب الأكل وليس بسبب رفض الأكل.

Enki كان يسكن دلمون وأرسل من هناك الحضارة إلى مدينة Eridu أو Eridug التي هي المدينة الإنسانية الأولى وكانت في الأصل معبدا لـ Enki، ومن هنا يرى البعض أن “حناك” هو في الأصل Enki، خاصة في ظل العبارة التوراتية التالية:

(التكوين: 4)
17. وعَرَفَ قَيْنٌ امرأتَهُ فحَمَلتْ ووَلَدت حَناكَ. وبنَى مدينةً سَمَّاها بِاسْمِ ابنِه حَناكَ.

لماذا سمى قين المدينة باسم حناك وليس باسمه هو؟ بعض الباحثين يرون أن مدينة حناك هي ليست إلا (Eridu(g المدينة السومرية الأولى التي بنيت حول معبد الإله Enki. أما بالنسبة لكلمة Eridu فبعضهم يرون أنها تظهر في اسم “عِيرَد” ابن حناك حسب نسب J (عيرد بن حناك = Eridu مدينة Enki).

الملك الأول في لائحة الملوك السومرية هو Alulim الذي يشبه اسمه اسم Alal الذي ورد ذكره في قصة “ملكوت السماء” الحتية التي ذكرتها من قبل (والذي كان يحكم في السماء قبل أن يخلعه إله السماء An ويسقطه إلى الأرض)، ولكن التشابه بين الاسمين لا يعني بالضرورة أنهما واحد. كلمة Alal تعني ربما “أنبوب ماء” وهي دلالة على الري والفلاحة (أي أن Alal = قين؟)، أما كلمة Alulim فقيل أنها تعني “غزال”.

لائحة الملوك السومرية تقول ما يلي:

بعد أن سقط الملكوت من السماء كان الملكوت في (Eridu(g. في (Eridu(g صار Alulim ملكا وحكم 28800 عام.

هل اسم مَحُوءَئِل/مَهَلَلَئِل ابن عيرد هو مستوحى من Alulim؟

الملك الخامس في لائحة الملوك السومرية هو “تمّوز الراعي” (Dumuzid the Shepherd)، وهو ما يذكر بقصة تموز الراعي مع Enkimdu الفلاح.

خلاصة ما سبق هي أن بعض الأسماء الواردة في سلسلتي J و P ربما تكون مستوحاة من قصة الخلق السومرية:

  • آدم/إناس = Adapa
  • حَناك = Enki
  • عِيرَد/ يَرْد = Eridu
  • مَحُوءَئِل/ مَهَلَلَئِل = Alulim؟

يبدو أن المقصود بجنة عدن التوراتية هو في الحقيقة ليس إلا جنة دلمون السومرية. الإله Enki كان يقيم في دلمون (التي هي موطن كل من آدم ونوح السومريين)، ومن هناك أرسل الحضارة إلى مدينة Eridu مع شخصيات نصف إلهية سوف أتحدث عنها لاحقا. جنة عدن الموصوفة في التوراة هي ليست Eridu كما يقول بعض الباحثين وإنما هي في الحقيقة دلمون التي تقع إلى “الشرق” من سومر حسب وصف السومريين (بينما هي في الحقيقة تقع إلى الجنوب الشرقي). مدينة Eridu هي مدينة حناك التي بناها قين بعدما خرج من جنة عدن واتجه “شرقا” عبر أرض نود.

Enki عند السومريين هو إله الحِرَف والمدنية والحضارة، وهذا يفسر المساواة بينه وبين قين. قين على ما أعتقد هو نفسه Enki، وهذا يعني ربما أن قين وحناك هما مسميان لشيء واحد (مثلما أن آدم وإناس هما مسميان لشيء واحد). هذا يفسر كون قين أبا لحناك رغم أن حناك في القصة السومرية هو أبو آدم وأبو الحضارة.

إذا اعتبرنا أن قَيْن = Enki وحَناك = Enki وعِيرَد = Eridu ومَحُوءَئِل = Alulim فهذا يعني أن الاختلاف في ترتيب الأسماء بين J و P لا معنى له، لأن كل هذه الشخصيات عاشت في نفس الفترة، وهي في الحقيقة ليست شخصيات بل مكونات لقصة محددة تدور أحداثها في فترة محددة.

ربما يكون هدف P من نقل اسم حناك (القريب من الله) إلى الأسفل هو إظهار الفرق بين الأجيال الباكرة القريبة من الله وبين الأجيال المتأخرة التي استحقت عقوبة الله. حناك حسب P هو آخر الأجيال الصالحة قبل أن تأتي الأجيال الفاسدة، واسم الشخص التالي له “مَتُوسِلَح” له معنى مرتبط بالقتال والموت (يقال أن الاسم مركب من مقطعين: “موت” بمعنى “المخلص” أو “العبد”، و”سِلَح” بمعنى “سلاح” أو شيء من هذا القبيل، ولقد عثر على اسم “سلح” في أسماء مركبة من شمال سورية ويعتقد بأنه كان اسما لإله أو شخص مقدس)، أما لَمْك فهو في النسب الذي أورده J يعبر عن الجيل الأخير البعيد عن الله، وفي نسب P وردت العبارة التالية على لسان لمك بعد ولادته لنوح:

28. وعاشَ لَمْكُ مئةً واثنتَينِ وثمانينَ سنَةً، ووَلَدَ ابْناً
29. وسَمَّاهُ نُوحًا، قالَ: “هذا يُريحُنا (يُنَحِّمُنا יְנֵחֲםֵנוּ) عَنْ أعمالِنا وعَنْ تَعَبِ أيدينا، مِن الأرضِ الّتي لعَنَها يهوه”.

هذه العبارة فيها محاولة لربط اسم نوح بالفعل العبري “نحّم ينحّم” بمعنى “أراح يريح”. عبارة “مِن الأرضِ الّتي لعَنَها يهوه” غامضة التفسير لدى المفسرين. بعضهم يترجمونها إلى “بسبب الأرضِ الّتي لعَنَها يهوه”. أنا لا أعرف تفسيرها ولكنني فسرتها هنا على أن المقصود هو أن نوح سيريحنا من الأرض التي لعنها يهوه، واللعنة هي بسبب الذنوب والمعاصي التي استشرت في جيل لمك.

اسم نوح الأصلي هو “نَاح” נֹחַ/נוֹחַ (اللفظ الطبري: Nōaḥ)، وهذا الاسم مجهول الأصل. التوراة تربط بينه وبين الجذر “نحم” الذي يعني الاستراحة، وهناك من الباحثين من قبلوا هذا التفسير وبعضهم ربطه باسم الإله المصري Nun (الذي يعتبرونه نظيرا لنوح) والذي يعني اسمه في اللغة المصرية القديمة “الطوفان” ويعني أيضا “الاستراحة” (لأن المصريين القدماء كانوا يستريحون من الفلاحة في زمن فيضان النيل). هذا ربما يكون أصل تسمية نوح وأصل الربط بين الطوفان وبين الاستراحة. في المقابل هناك باحثون آخرون يرون أن أصل كلمة “ناح” هو من شمال سورية وهم يرجحون أنها كانت اسما لأحد الآلهة أو أنصاف الآلهة (ككل الأسماء الأخرى في سلسلة أبناء آدم قبل الطوفان)، ودليلهم هو بعض الأسماء الشخصية التي عثر عليها في أماكن مثل ترقا في دير الزور، مثلا Muutnaḫa (“مَوْت ناحا” أو “مَوْت ناح”، أي “المُخلِص لناحا/ناح”) و Naḫili (“ناح لي”).

مصادر

  • Gary M. Burge, Andrew E. Hill, Baker Illustrated Bible Commentary
  • John Phillips, Exploring Genesis: An Expository Commentary
  • John Barton, The Oxford Bible Commentary
  • James D. G. Dunn, John William Rogerson, Eerdmans Commentary on the Bible
  • K. A. Mathews, The New American Commentary
  • Joseph Blenkinsopp, Creation, Un-Creation, Re-Creation: A Discursive Commentary on Genesis
  • Richard James Fischer, Historical Genesis: From Adam to Abraham
  • David L. Jeffrey, A Dictionary of Biblical Tradition in English Literature
  • Kelley Coblentz Bautch, A Study of the Geography of 1 Enoch 17-19: “no One Has Seen what I Have Seen”
  • David Toshio Tsumura, The Earth and the Waters in Genesis 1 and 2: A Linguistic Investigation
  • David Toshio Tsumura, Creation And Destruction: A Reappraisal of the Chaoskampf Theory in the Old Testament
  • Charles N. Pope, Living In Truth: Archaeology and the Patriarchs
  • Allen Austin, The Middle of the Earth
  • Gerald Massey, Ancient Egypt – The Light of the World: A Work of Reclamation and Restitution in Twelve Books
  • Israel Finkelstein, Amihay Mazar, Brian B. Schmidt, International Institute for Secular Humanistic Judaism. Colloquium, The Quest for the Historical Israel: Debating Archaeology and the History of Early Israel
  • Frank Anthony Spina, Israelites as Gerim, ‘Sojourners’, in Historical Context
  • Jan Retsö, The Arabs in Antiquity: Their History from the Assyrians to the Umayyads
  • Irfan Shahîd, Byzantium and the Arabs in the Fifth Century
  • Encyclopaedia of Islam
  • The Cambridge Encyclopedia of the World’s Ancient Languages
  • Gesenius’ Hebrew grammar
  • Arthur Ungnad, Akkadian grammar
  • Rebecca Hasselbach, Sargonic Akkadian A Historical and Comparative Study of the Syllabic Texts
  • Daniel A. Foxvog, Introduction to Sumerian Grammar
  • Theodor Nöldeke, Compendious Syriac Grammar
  • Wikipedia, the free encyclopedia
  • Encyclopædia Britannica
  • Microsoft Encarta
  • جواد علي، المفصل في تاريخ العرب
  • ربحي كمال، اللغة العبرية
  • Claudii Ptolemaei Geographia
  • مصدر نص الكتاب المقدس العربي: The Bible Society in Lebanon (مع تصرف شديد)
  • مصدر نص الكتاب المقدس العبري: Biblia Hebraica Stuttgartensia
  • مصدر نص الكتاب المقدس الإنكليزي: King James Version of the Holy Bible

بلاد العرب (4)

هذا الموضوع هو استكمال لموضوع كنت قد بدأته سابقا في عدة أجزاء (هذا هو الجزء السابق). عندما بدأت كتابة هذا الجزء قبل شهر تقريبا كنت أريد الحديث عن منطقة تَيْمَن في شمال غرب الجزيرة العربية وعلاقة اسمها ببلاد اليمن، ولكنني منذ شهر إلى الآن لم أتمكن من إتمام الحديث في هذا الموضوع لأنني كلما أردت الحديث في نقطة أتفرع إلى نقطة أخرى وهكذا حتى وجدت في النهاية أن الموضوع تشعب جدا ولم تعد له علاقة بالموضوع الأصلي.

أنا سوف أنشر الكلام الذي كتبته كما هو في أجزاء متتابعة. هذا الكلام لا يعتبر بحثا علميا لأنه خال من التنظيم أولا ولأن مصادره غير موضحة بشكل جيد ثانيا، ولكنني رغم ذلك أعتقد أنه مفيد للمهتمين بالتاريخ. سوف أذكر في نهاية المقال قسما كبيرا من المصادر التي اعتمدت عليها، وسوف أذكر مصادر أخرى في مقالات لاحقة.

__________________________________________________________

تحدثت في الجزء السابق من هذا الموضوع عن مسمى “عربية السعيدة” اليوناني وبينت أصل هذا المصطلح وفق كتاب المستشرق Jan Retsö.

طبعا رأي Retsö هو حديث وهو ليس الرأي الشائع عند المستشرقين. كثير من المستشرقين يتبنون رأي المستشرق Sprenger الذي رأى في عام 1875 أن كلمة “عربية السعيدة” اليونانية هي ترجمة قديمة للجذر السامي “يمن” الذي يعني “الجنوب” ويعني أيضا “البركة” (كما جاء في لسان العرب: “اليُمْنُ البَركةُ”).

في الكتاب اليهودي هناك ذكر لمنطقة اسمها تَيْمَن תֵּימָן (في الترجمة الإنكليزية: Teman). اللفظ الطَبَري لهذه الكلمة هو Tēmān. الكتابة العبرية الأصلية هي كالكتابة العربية لا تُظهِر الحركات (أصوات العلة vowels)، ولكن أحبار اليهود قاموا بدءا من القرن السادس الميلادي (قرن ولادة الرسول) وحتى القرن 11 بوضع أنظمة تشكيل لضبط اللفظ العبري، ونتاج عملهم يسمى بالنص المساري (النص المسوري Masoretic Text). معنى كلمة مَسارَة מסורה هو “السُنَّة” أو “العرف”، وبالتالي كلمة “مساريين” Masoretes تعني “أهل السنة”. النص المساري الشائع الآن هو نتاج عمل أحبار اليهود في مدينة طبرية في فلسطين في فترة ظهور الإسلام وما تلاها، ولهذا السبب فإنه يسمى بالتحريك الطبري أو اللفظ الطبري. هذا اللفظ لا يعبر عن اللفظ العبري القديم الذي كان سائدا في زمن كتابة التوراة (أي قبل المساريين بقرون كثيرة)، ولهذا السبب أنا عندما أكتب الكلمات التوراتية لا أستخدم اللفظ الطبري وإنما أستخدم اللفظ العبري القديم الذي يمكن استنتاجه من خلال قواعد علمية وضعها الباحثون في علم اللغويات السامية المقارن. اللفظ الطبري عموما يختلف بشكل كبير عن اللفظ العبري الأصلي. مثلا كلمة “كتب” כתב كانت تلفظ في العبرية أصلا katab ، ولكنها في اللفظ الطبري kāthav مع كون النبرة على المقطع الأخير (بكتابة المستشرقين kāṯáḇ. لرؤية هذه الكتابة حمل ونصب هذا الخط. سوف أستخدم هذه الكتابة كثيرا في هذا المقال والمقالات اللاحقة).

ظهور المساريين في القرن السادس الميلادي كان مرتبطا بالصراع الديني بين اليهود الرَبَّانِيين (رَبَّنِيم רבנים) واليهود القُرَّاء (قَرَئِيم קראים). الربانيون أو الرَبِّيون هم الأحبار التقليديون الذين قاموا بجمع التَلْمُود خلال القرون الميلادية الأولى وأكملوا جمع التلمود البابلي في القرن السادس الميلادي، والتلمود هو كتاب ديني كبير يضم مختلف العلوم الدينية من تفسير للتوراة وفقه وحديث وأخبار وأدب وفلسفة إلخ، وهو يعتبر المرجع الأول للدين عند الربانيين. أما القراء فهم كانوا يرون أن التوراة لوحدها هي مصدر الدين وأن كل ما سواها بدعة، وبالتالي هم كانوا يرفضون التلمود وعندما اكتمل جمع التلمود البابلي في العراق في القرن السادس بدؤوا بإنتاج النص المساري كرد فعل ربما على جمع التلمود. النص المساري كان في البداية مرفوضا من الربانيين ولكنهم مع مرور الوقت قبلوه رغم أنهم لا يتمسكون به كنص مقدس. الخلاف بين الربانيين والقراء له جذور قديمة تعود إلى ما قبل “خراب الهيكل” في عام 70 ميلادي. أسلاف الربانيين كانوا يُعرَفون قبل خراب الهيكل بالفَرُوسِِيين (فروسيم פְּרוּשִׁים) وأسلاف القراء كانوا يعرفون بالصَّدُوقِيين (صدوقيم צְדוּקִים)، وهذان الفريقان كانا موجودين في زمن المسيح وورد ذكرهما في الأناجيل (Pharisaioi و Saddoukaioi). الفرق الأهم بين الفروسيين والصدوقيين هو أن الصدوقيين كانوا يرفضون أي مصدر للدين غير التوراة وكانوا ينكرون البعث بعد الموت.

المؤرخ كمال الصليبي يرى في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب) أن المساريين مذكورون في القرآن في الآية التالية:


﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ۝وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيَّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً۝مِنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بَأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً۝يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾

كمال الصليبي يرى أن عبارات “يحرفون الكلم عن مواضعه… ليا بألسنتهم” تعني تحريف لفظ التوراة، وهذا ما كان الربانيون يتهمون به المساريين. ولكن هذا التفسير بصراحة فيه تكلف كبير وهو بعيد عن مضمون الآية ومثيلاتها من الآيات التي تتحدث في نفس الموضوع.

هذه هي بقية الآيات التي تتحدث في موضوع التحريف:

﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾

وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ﴾

﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً۝فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾

هذه الآيات تتحدث كلها عن شيء واحد وهو قيام اليهود بتحريف القرآن وليس الكتاب اليهودي. اليهود في المدينة كانوا يسمعون القرآن من الرسول ثم يحرفونه بهدف الاستهزاء والإساءة، وأيضا هم كانوا يتلاعبون بالألفاظ ويقولون في العلن كلاما وفي السر كلاما آخرا (مثلا في العلن يقولون “سمعنا وأطعنا” وفي السر “سمعنا وعصينا”). “لي الألسنة” المقصود هنا هو الحذلقة والفهلوة اللفظية (خفة الدم) التي كان اليهود يبدونها تجاه الرسول والقرآن، وأما ما ذهب إليه كمال الصليبي فهو بعيد عن نص هذه الآيات. لا توجد في الحقيقة آيات قرآنية صريحة تتحدث عن تحريف اليهود للكتاب اليهودي. القرآن لا يقول أن اليهود حرفوا كتابهم بل على العكس هو يقول:

﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بَالْمُؤْمِنِينَ﴾

يقول “التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ”. هو لا يطعن في التوراة ولكنه يطعن في اليهود. ما يقوله القرآن هو أن بعض (وليس كل) أهل الكتاب بدلوا دينهم وتولوا وتفرقوا ونقضوا ونكثوا إلخ، ولكنه في المقابل يثني على قسم آخر منهم كما في الآيات التالية:

﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾

﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾

﴿وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ۝وَتَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ۝لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾

هذه الآيات كلها واضحة وهي لا تطعن في التوراة ولا حتى في الربانيين والأحبار. (كلمة ربانيين شرحناها وأما كلمة أحبار فلا أعرف معناها. معنى حَبِر חָבֵר في اللغة العبرية هو “الشريك” أو “العضو في جماعة”، وبالتالي هي ربما كانت تطلق على أعضاء الجماعات الدينية اليهودية؟) ما يقوله القرآن هو أن التوراة هدى ونور وفيها حكم الله، ولكن هناك فئة من اليهود انحرفت عما جاء فيها، وواجب الربانيين والأحبار هو إعادتهم إليها. هذا هو كل ما يقوله القرآن في هذه الآيات.

الآية التالية هي ربما الآية الوحيدة في القرآن التي يمكن أن يكون المقصود منها هو أن اليهود يحرفون كتابهم:

﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾

لكي نفهم هذه الآية يجب أن نأخذ سياقها كاملا (ويجب أيضا أن نقارنها مع بقية الآيات لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا يجوز عزل آية معينة عن بقية الآيات):

﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ۝وَإِذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ۝أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ۝وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ۝فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾

من الواضح هنا أن القرآن يتحدث في البداية عن نفس القضية، أي قضية تحريف القرآن وليس تحريف الكتاب اليهودي. ثم بعد ذلك يثير القرآن قضية جديدة هي قضية متاجرة “الأميين” بالكتاب اليهودي بهدف الإساءة للإسلام. كلمة “الأميين” في القرآن لا تعني الذي لا يقرأ ولا يكتب وإنما هي ترجمة لمصطلح gōyim גוים التوراتي (بالإنكليزية: Gentiles) الذي يعني “أممين” أو “شعوبيين” (أي غير اليهود). هذه الكلمة تترجم في الأناجيل العربية حاليا إلى “أممين” ولكنها في القرآن ترجمت إلى “أميين”. كلمة “أميين” في القرآن مشتقة من “أمة” ولا علاقة لها بالقراءة والكتابة. هذا التفسير لا شك فيه بدليل الآية التي تقول:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾

هذه الآية لا دخل لها بالقراءة والكتابة بل هي نظير عربي لمصطلح Apostle to the Gentiles (الرسول إلى الأمميين) الذي يطلق على القديس المسيحي بولص. العرب قبل الإسلام لم يكونوا أميين بمعنى أنهم لا يقرؤون ولا يكتبون. هذه خرافة ينفيها علم الآثار تماما. المستشرق M.C.A. Macdonald يقول أنه بناء على العدد الهائل من الكتابات والنقوش الشخصية التي تم اكتشافها في الجزيرة العربية يمكننا القول بأن نسبة القراءة والكتابة لدى سكان الجزيرة العربية قديما كانت الأعلى في العالم. ربما يكون هذا الكلام مبالغة ولكن القول بأن العرب قبل الإسلام كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة هو مجرد خرافة شعبية نشأت من سوء فهم للقرآن.

ابن عباس كان يعرف التفسير الصحيح لكلمة “أميين” في القرآن. ما يلي تفسير الآية لدى ابن كثير:

يَقُول تَعَالَى ” وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ” أَيْ وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب قَالَهُ مُجَاهِد : وَالْأُمِّيُّونَ جَمْع أُمِّيّ وَهُوَ الرَّجُل الَّذِي لَا يُحْسِن الْكِتَابَة . قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع وَقَتَادَة وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَغَيْر وَاحِد وَهُوَ ظَاهِر فِي قَوْله تَعَالَى ” لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَاب ” أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ . وَلِهَذَا فِي صِفَات النَّبِيّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : أَنَّهُ الْأُمِّيّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِن الْكِتَابَة كَمَا قَالَ تَعَالَى “وَمَا كُنْت تَتْلُوا مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ “وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ” إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ” الْحَدِيث أَيْ لَا نَفْتَقِر فِي عِبَادَتنَا وَمَوَاقِيتهَا إِلَى كِتَاب وَلَا حِسَاب وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ” وَقَالَ اِبْن جَرِير : نَسَبَتْ الْعَرَب مَنْ لَا يَكْتُب وَلَا يَخُطّ مِنْ الرِّجَال إِلَى أُمّه فِي جَهْله بِالْكِتَابِ دُون أَبِيهِ . قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَوْل خِلَاف هَذَا وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْب حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد عَنْ بِشْر بْن عُمَارَة عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى ” وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ” قَالَ الْأُمِّيُّونَ قَوْم لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّه وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّه فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سَفَلَة جُهَّال هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه وَقَالَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَمَّاهُمْ أُمِّيِّينَ لِجُحُودِهِمْ كَتَبَ اللَّهُ وَرُسُله ثُمَّ قَالَ اِبْن جَرِير : وَهَذَا التَّأْوِيل تَأْوِيل عَلَى خِلَاف مَا يَعْرِف مِنْ كَلَام الْعَرَب الْمُسْتَفِيض بَيْنهمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيّ عِنْد الْعَرَب الَّذِي لَا يَكْتُب . قُلْت ثُمَّ فِي صِحَّة هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس بِهَذَا الْإِسْنَاد نَظَر وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله تَعَالَى ” إِلَّا أَمَانِيّ ” قَالَ اِبْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس إِلَّا أَمَانِيّ الْأَحَادِيث وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى ” إِلَّا أَمَانِيّ ” يَقُول إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا وَقَالَ مُجَاهِد إِلَّا كَذِبًا : وَقَالَ سُنَيْد عَنْ حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد ” وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَاب إِلَّا أَمَانِيّ ” قَالَ أُنَاس مِنْ الْيَهُود لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ الْكِتَاب شَيْئًا وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَاب اللَّه وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ الْكِتَاب أَمَانِيّ يَتَمَنَّوْنَهَا وَعَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ نَحْوه وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع وَقَتَادَة إِلَّا أَمَانِيّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّه مَا لَيْسَ لَهُمْ وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ إِلَّا أَمَانِيّ قَالَ تَمَنَّوْا فَقَالُوا نَحْنُ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَلَيْسُوا مِنْهُمْ قَالَ اِبْن جَرِير وَالْأَشْبَه بِالصَّوَابِ قَوْل الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد إِنَّ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مِنْ الْكُتُب الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مُوسَى شَيْئًا وَلَكِنْهُمْ يَتَخَرَّصُونَ الْكَذِب . يَتَخَرَّصُونَ الْأَبَاطِيل كَذِبًا وَزُورًا وَالتَّمَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِع هُوَ تَخَلُّق الْكَذِب وَتَخَرُّصه وَمِنْهُ الْخَبَر الْمَرْوِيّ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان – رَضِيَ اللَّه عَنْهُ – مَا تَغَنَّيْت وَلَا تَمَنَّيْت يَعْنِي مَا تَخَرَّصْت الْبَاطِل وَلَا اِخْتَلَقْت الْكَذِب . وَقِيلَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ ” إِلَّا أَمَانِيّ ” بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف أَيْضًا أَيْ إِلَّا تِلَاوَة فَعَلَى هَذَا يَكُون اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ” إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ” أَيْ تَلَا ” أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أَمْنِيَّته ” الْآيَة وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك الشَّاعِر : تَمَنَّى كِتَاب اللَّه أَوَّل لَيْلَة وَآخِره لَاقَى حِمَام الْمَقَادِر وَقَالَ آخَر : تَمَنَّى كِتَاب اللَّه آخِر لَيْلَة تَمَنِّي دَاوُد الْكِتَاب عَلَى رَسَل وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس ” لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَاب إِلَّا أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ” أَيْ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّتك بِالظَّنِّ وَقَالَ مُجَاهِد” وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ” يَكْذِبُونَ وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع : يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظُّنُون بِغَيْرِ الْحَقّ .

ابن عباس يقول “الْأُمِّيُّونَ قَوْم لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّه وَلَا كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّه”. هذا المعنى قريب من معنى كلمة “أمميين” التوراتية وهو التفسير الصحيح، ولكن كعادة المسلمين فإن الفهم الصحيح ضاع مع الزمن واندثر حتى لم يعد أحد يعرفه.

إذن المقصود بالآية باختصار هو أنه كانت هناك جماعة من اليهود يظهرون الإيمان في العلن ولكنهم فيما بينهم يقولون أننا لا نريد أن نناقش المسلمين في التوراة لأنهم من الأممين ولا يجوز لنا تعليمهم التوراة وإلا فإنهم سيستخدمونها للتقرب إلى الله على حسابنا، والقرآن يرد عليهم ويقول أن من يقولون ذلك ليسوا كلهم من أهل الكتاب فعلا وأن هناك بينهم أمميين لا يعلمون التوراة “إلا أماني” (أي أنهم لا يعرفون منها سوى تلاوتها). هذا الكلام هو تكرار لنفس المنطق القرآني الذي يتهم بعض اليهود بالبعد عن كتابهم وبأنهم لا يتبعون ما جاء فيه. أما الآية الأخيرة التي تقول “فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ…” فهذه رد على اليهود الذين اتهموا الرسول بأنه يؤلف القرآن. يجب أن نفهم هذه الآية في سياق الآيات السابقة لها. الآيات تقول أن بعض اليهود كانوا يهزؤون من الرسول وكانوا يمتنعون عن مناقشته في الدين بحجة أنه أممي، أي أنهم كانوا يتكبرون عليه وعلى المسلمين. القرآن يرد عليهم ويقول أنكم لا تختلفون عن المسلمين شيئا فأنتم لا تعرفون من كتابكم شيئا سوى تلاوته، أي أنكم أمميون بهذا المعنى، وبالتالي لا يحق لكم التكبر على الناس واتهامهم بأنهم يؤلفون الكتاب وينسبونه إلى الله. الآية الأخيرة هي مجرد رد فعل على اتهام اليهود للرسول بأنه يؤلف القرآن وهي لا تعني أن القرآن يطعن في التوراة. لو كانت الآية تطعن في التوراة فهذا يعني أنها تناقض الآية السابقة لها التي تقول “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”. كيف يتهم القرآن اليهود بالبعد عن التوراة ثم بعد ذلك يقول أنها محرفة؟ هذا كلام غير متسق. الكتاب المقصود في الآية الأخيرة هو ربما القرآن. الآية تقول أن من يؤلف الكتاب ملعون، أي أن الرسول لا يؤلف الكتاب، وإن كان الكتاب المقصود هو ما لدى اليهود فالآية هي مجرد اتهام مضاد لليهود بأنهم هم من يؤلفون الكتاب وليس الرسول. سياق الآيات السابقة هو رد الاتهام إلى أصحابه (لسنا نحن الأمميين وإنما أنتم) وبالتالي يجب فهم الآية الأخيرة أيضا في هذا السياق في حال كان الكتاب المقصود فيها هو ما لدى اليهود (الذي هو ليس التوراة في هذه الحالة). يجب الانتباه أيضا إلى أن هذه الآية تتحدث عن حالة ظرفية محددة (تحديدا هي تتحدث عن قسم من اليهود في عصر الرسول) ومن غير المنطقي استخدام هذه الآية للقول بأن التوراة الأصلية مفقودة وغير موجودة الآن. هذا الكلام يناقض آيات القرآن الأخرى التي تثني على الربانيين والأحبار وكتابهم. لا توجد في القرآن آيات تتحدث عن كون التوراة مفقودة. القرآن يثني على التوراة ويهاجم قسما من اليهود ويتهمهم بالبعد عن التوراة وربما حتى بكتابة كلام ونسبته إليها، ولكن لا يوجد في القرآن أي نص يقول أن التوراة ككتاب عام هي كتاب محرف أو ضائع. هذه المقولة نشأت لدى المسلمين في عصور تالية لعصر القرآن وربما يكون السبب الأساسي لذلك هو سوء الفهم للقرآن (بالإضافة إلى أسباب أخرى طبعا كنزول الآيات المتأخرة التي تدعو المسلمين لقتال أهل الكتاب وظهور مفهوم نسخ القرآن للكتب السماوية السابقة والفتوحات الإسلامية إلخ، هذه الأسباب كلها ربما لعبت دورا في خلق الفكرة القائلة بأن التوراة المعروفة حاليا هي كتاب محرف وأن التوراة الأصلية مفقودة).

كل الكلام السابق هو انحراف عن الموضوع الأساسي الذي هو “تيمن”. كلمة “تيمن” في التوراة هي اسم لمنطقة في جنوب أرض إدام، وتيمن في أنساب سفر التكوين هو من نسل عِشَو (عيسو Esau) جد الإداميين، وبالتالي تيمن هي جزء من أرض إدام. الإداميون كانوا يتحدثون لغة كنعانية كالعبرانيين وبالتالي لو كان أصل كلمة “تَيْمَن” هو “تَيْمان” بالمد لكان لفظها في الإدامية والعبرية هو Tēmōn بالتفخيم (لأن الألف الممدودة في اللهجات الكنعانية تفخم دائما إلى ō، وهذا ما يسميه المستشرقون “التحويلة الكنعانية” Canaanite shift). بعض المستشرقين زعموا أن التحويلة الكنعانية لها استثناءات وأن ān– في نهاية بعض الكلمات العبرية لم تخضع للتحويلة الكنعانية، ولكن هذا قول فاسد ويمكن الرد عليه بسهولة (الـ ān– التي يقولون أنها لم تتحول إلى ōn– في بعض الكلمات العبرية هي في الحقيقة an– بالفتحة القصيرة).

اللفظ الطبري لكلمة تيمن ليس Tēmōn وإنما Tēmān بالفتح، وهذا يدل على أمر من أمرين: إما أنها أصلا تَيْمَن بالفتحة القصيرة أو أنها ليست كلمة كنعانية وإنما عربية أو آرامية، وما يوجه نحو الفرضية الثانية عدد من الأمور منها مثلا وجود بلدة باسم تَيْماء إلى الجنوب من إدام في شمال الحجاز (كلمة “تيماء” تشبه “تيمان”). أيضا ورد في سفر إرميا (49:7) ما يلي على لسان الله:

7. وقالَ يهوه القديرُ عن إدام: أمَا مِنْ حِكمَةٍ بَعدُ في تَيْمَنَ؟ هل نَفَدَ الفَهْمُ مِن بَنِيها وزالت حِكمَتُهُم؟
٨. اهرُبوا. وَلُّوا. اختَبِئوا يا سُكَّانَ دَدَن! سأجلِبُ النَّكبَةَ على الإداميين بَني عِشَو لأنَّ وقتَ عِقابِهِم حانَ.

الكلام هنا موجه إلى الإداميين ولكن الملفت هو ذكر مدينة دَدَن التي تقع في شمال الحجاز جنوب غرب تيماء (بجوار مدينة العلا). إنذار الله لسكان ددن بإخلاء مدينتهم يوحي بأنها قريبة جدا من تيمن أو ربما تقع فيها، أي أن تيمن ربما تكون بالفعل مرتبطة بتيماء.

في هذا النص أيضا يتساءل الله عن حكمة تيمن وأين ذهبت هذه الحكمة. منطقة تيمن موصوفة بالحكمة في الكتاب اليهودي في أكثر من موضع، وهذا يظهر مثلا في قصة أيوب (اسمه الأصلي أَيَّاب אִיּוֹב):

(أيوب: 1)
1.كانَ في أرضِ عُوصَ رَجلٌ اسمُهُ أيُّوبُ، وكانَ هذا الرَّجلُ نَزيهاً مُستقيماً يَخافُ اللهَ ويَحيدُ عَنِ الشَّرِّ.
2. ووُلِدَ لأيُّوبَ سبعةُ بَنينَ وثَلاثُ بَناتٍ.
3. وكانَت مَواشيهِ سبعةَ آلافٍ مِنَ الغنَمِ، وثَلاثةَ آلافِ جمَلٍ، وخمْسَ مئَةِ فَدَّانِ بقَرٍ، وخَمْسَ مئَةِ أتانٍ، ولَه عبيدٌ كثيرونَ. فكانَ ذلِكَ الرَّجلُ أعظمَ بَنِي الشَّرقِ جميعاً.

6. وجاءَ الملائِكةُ يوماً للمُثولِ أمامَ يهوه، وجاءَ الشَّيطانُ أيضاً بَينَهُم.
7. فقالَ يهوه لِلشَّيطانِ: “مِنْ أينَ جِئْتَ؟” فأجابَ الشَّيطانُ: “مِنَ التَّجَوُّلِ في الأرضِ والسَّيرِ فيها”.
8. فقالَ لَه يهوه: “هل استَرعى انتِباهَكَ عبدي أيُّوبُ؟ فهوَ لا مَثيلَ لَهُ في الأرضِ لأنَّه رَجلٌ نَزيهٌ مُستَقيمٌ يخافُ اللهَ ويَحيدُ عَنِ الشَّرِّ.”
9. فأجابَ الشَّيطانُ: “أيخافُ أيُّوبُ يهوه بلا مُقابل؟
10. أما سيَّجْتَ حَولَهُ وحَولَ بَيتِهِ وحَولَ كُلِّ شيءٍ لَه مِنْ كُلِّ جِهَةٍ؟ أما بارَكتَ عَمل يَدَيه فتكاثرت مَواشيهِ في الأرضِ؟
11. ولَكِنْ مُدَّ يدَكَ الآنَ ومُسَّ كُلَّ شيءٍ لَه، فتَرى كَيفَ يَشتمُكَ في وجهِكَ.”
12. فقالَ يهوه لِلشَّيطانِ: “ها أنا أجعَلُ كُلَّ شيءٍ لَه في قَبضَةِ يدِكَ، ولكِنْ إليهِ لا تمُدَّ يدَكَ.” وخرَجَ الشَّيطانُ مِنْ أمامِ وجهِ يهوه.
13. وحدَثَ يوماً أنَّ بني أيُّوبَ وبَناتِهِ كانوا يأكلونَ ويشرَبونَ خمراً في بَيتِ أخيهِمِ الأَكبرِ،
14. فأقبَلَ رَسولٌ إلى أيُّوبَ وقالَ: “كانَتِ البقَرُ تحرُثُ والحميرُ تَرعى بِجانِبِها،
15. فانقَضَّ علَيها بَنو سَبَأ وأخَذوها وقتَلوا الرُعاةَ بِحدِّ السَّيفِ، ونَجوتُ أنا وَحدي لأُخبِرَكَ”.
16. وفيما هوَ يتكلَّمُ، أقبَلَ آخَرُ وقالَ: “سقَطَت نارُ اللهِ مِنَ السَّماءِ وأحرقَتِ الغنَمَ والرُعاةَ وأكلَتهُم، ونَجَوتُ أنا وَحدي لأُخبِرَكَ”.
17. وفيما هوَ يتكلَّمُ، أقبلَ آخَرُ وقالَ: “هجَمَت ثَلاثُ عِصاباتٍ مِنَ الكَلْدانيِّينَ على الجِمالِ وأخَذوها وقتَلوا الرُعاةَ بِحَدِّ السَّيفِ، ونَجَوتُ أنا وحدي لأُخبِرَكَ”.
18. وفيما هوَ يتكلَّمُ، أقبلَ آخَرُ وقالَ: “كانَ بَنوكَ وبَناتُكَ يأكُُلونَ ويشرَبونَ خمراً في بَيتِ أخيهِمِ الأكبر،
19. فهَبَّت ريحٌ شديدةٌ جاءت مِنْ عَبرِ البَرِّيةِ وصدمَت زَوايا البَيتِ الأربَعِ، فسقَطَ علَيهِم
فماتوا، ونَجَوتُ أنا وحدي لأُخبِرَكَ”.
20. فقامَ أيُّوبُ وشَقَّ ثوبَهُ وجَزَّ شَعرَ رأسِه ووقَعَ على الأرضِ ساجداً
21. وقالَ: “عُرياناً خرَجْتُ مِنْ بَطنِ أُمِّي وعُرياناً أعودُ إلى هُناكَ، يهوه أعطى ويهوه أخذَ تبارَكَ اسمُ يهوه”.
22. وما خَطِئَ أيُّوبُ معَ هذا كُلِّهِ، ولا عَتِبَ على اللهِ.

(أيوب: 2)
1. وجاءَ الملائِكةُ يوماً للمُثولِ أمامَ يهوه، وجاءَ الشَّيطانُ بَينَهُم.
2. فقالَ يهوه لِلشَّيطانِ: “مِنْ أينَ جِئتَ؟” فأجابَ الشَّيطانُ: “مِنَ التَّجَوُّلِ في الأرضِ والسَّيرِ فيها”.
3. فقالَ لَه يهوه: “هل استَرعى انتِباهَكَ عبدي أيُّوبُ؟ فهوَ لا مَثيلَ لَهُ في الأرضِ لأنَّه رَجلٌ نَزيهٌ مُستَقيمٌ يخافُ اللهَ ويَحيدُ عَنِ الشَّرِّ، وإلى الآنَ هوَ مُتَمَسِّكٌ بِنَزاهَتِهِ، معَ أنَّكَ حَرَّضتَني علَيهِ مِنْ دُونِ سبَبٍ”.
4. فأجابَ الشَّيطانُ: “نجا بِجِلدِه. كلُّ ما يَملِكُهُ الإنسانُ يَبذُلُهُ عَن نَفسِه.
5. ولكِنْ مُدَّ يدَكَ ومُسَّ عظْمَهُ ولَحمَهُ فترَى كيفَ يَشتمُكَ في وجهِكَ”.
6. فقالَ يهوه للشَّيطانِ: “ها هوَ الآنَ في قبضَةِ يَدِكَ، ولكِنِ احفَظْ حَياتَهُ”.
7. وخرَجَ الشَّيطانُ مِنْ أمامِ وجهِ يهوه وضرَبَ أيُّوبَ بِالجرَبِ مِنْ باطِنِ قدَمِهِ إلى قِمَّةِ رأسِه.
8. فأخذَ أيُّوبُ شَقفَةً مِنَ الخَزَفِ ليَحُكَّ جسَدَه بِها وهوَ جالِسٌ على الرَّمادِ.
9. فقالَت لَه امرأتُهُ: “ما زِلتَ مُتَمَسِّكاً باستِقَامَتِكَ؟ اُشتمِ اللهَ ومُتْ!”.
10. فقالَ لها أيُّوبُ: “كلامُكِ هذا كلامُ امرأةٍ جاهِلَةٍ. أنَقبَلُ الخَيرَ مِنَ اللهِ وأمَّا الشَّرَّ فلا نقبَلُهُ؟” ومع كل هذا لم يَخطَأْ أيُّوبُ بكَلِمَةٍ مِنْ شَفَتَيهِ.
11. وسَمِعَ ثَلاثَةُ أصدِقاءَ لأيُّوبَ بِكُلِّ ما حَلَّ بهِ مِنَ المصائِبِ، فأقبلَ كُلُّ واحدٍ مِنْ مَكانِهِ :إِلِيفَزُ التَّيْمَنيُّ وبِلْدَدُ السُّوحِيُّ وصَوْفَرُ النَّعْمَتِيُّ، و اتَّفَقوا على أنْ يذهَبوا إلى أيُّوبَ لِيَرثوا حالَه ويُعَزُّوهُ.

ثم يصاب أيوب باليأس ويعبر بأبيات شعرية عن قنوطه من رحمة الله، فيجادله أصدقاؤه الثلاثة بأبيات من الشعر، وفي أثناء هذا الجدل يقول أيوب ساخرا من أصدقائه:

(أيوب: 12)
1. فأجابَ أيُّوبُ :”لا قَوْمَ إلا أَنتُم وفي موتِكُم تموتُ الحكمةُ!”

ثم ينضم إلى الجدال الشعري شخص رابع هو “إِلِيهُوء بن بَرَكْئِل البُوزِي من عشيرة رَم”، وفي النهاية ينضم يهوه أيضا ويجادل أيوب إلى أن يتوب الأخير:

(أيوب: 42)

1. فأجابَ أيُّوبُ يهوه وقالَ :
2. “عرَفتُكَ قادراً على كُلِّ شيءٍ فلا يتَعذَّرُ علَيكَ أمرٌ.
3. أخفَيتَ مَشورَتَكَ ولم تَبُحْ بِها. فتكلَّمتُ بكَلامٍ باطلٍ على مُعجِزاتٍ لا أُدرِكُ مَغزاها وعجائِبَ فَوقَ مُتَناوَلِ فَهمي .
4. إسمَعْ، فلي بعدُ ما أقولُهُ، وما أسألُكَ عنهُ فأخبِرْني .
5. سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ رأتْكَ عَينِي.
6. لذلِكَ أستَرِدُّ كَلامي وأندَمُ وأنا هكذا في التُّرابِ والرَّمادِ”.

10. ورَدَّ يهوه أيُّوبَ إلى ما كانَ علَيهِ مِنْ جاهٍ حينَ صلَّى لأجلِ أصحابِه.ِ وزادَ اللهُ أيُّوبَ ضُعفَ ما كانَ لَه مِن قَبلُ.
11. وزارَهُ جميعُ إخوتِهِ وأخواتِهِ وكُلُّ مَنْ كانَ يعرِفُهُ مِنْ قَبلُ، فآَكلوا معَهُ خُبزاً في بيتِهِ ورَثَوا حالَهِ وعَزَّوهُ عَنْ كُلِّ البلايا الّتي أنزَلَها يهوه بهِ. وأهدى لَه كُلُّ واحدٍ منهمُ قِطعةً مِنَ الفِضَّةِ وخاتَماًمن ذهَبٍ.
12. وبارَكَ يهوه أيُّوبَ في آخِرِ أيّامِهِ أكثرَ مِنْ أوَّلِها، فكانَ لهُ مِنَ الغنَمِ أربعَةَ عشَرَ ألفاً ومِنَ الجِمالِ سِتَّةُ آلافٍ، ومِنَ البقَرِ ألفُ فَدَّانٍ، ومِنَ الحميرِ ألفُ أتانٍ.
13. وكانَ لَه سبعَةُ بنينَ وثَلاثُ بَناتٍ.
14. وسمَّى الأُولى يَمِيمَةَ، والثَّانيةَ قَصِيعَةَ، والثَّالثةَ قَرْنَ هَفُّوكَ.
15. وما كانَ في الأرضِ كُلِّها نساءٌ بجَمالِ بَناتِ أيُّوبَ. وأعطاهُنَّ أبوهُنَّ ميراثاً بَينَ إخوَتِهِنَّ.
16. وعاشَ أيُّوبُ بَعدَ هذا مئَةً وأربَعينَ سنَةً، فرأى بَنيهِ وبَني بَنيهِ إلى أربعَةِ أجيالٍ. وماتَ أيُّوبُ شيخاً شبِعَ مِنَ الأيّامِ.

أحداث هذه القصة تدور في “أرض عُوص” (land of Uz)، وعوص حسب أنساب سفر التكوين هو أحد أبناء (أَرَم Aram) بن سام (سِم Shem).

____________________________________________________

تم اقتطاع جزء من هذا المقال وتحويله لموضوع منفصل. تكملة هذا الموضوع ستأتي لاحقا تحت عنوان “بلاد العرب (5)”.

بلاد العرب (3)

تحدثت في الجزء الأول من هذا الموضوع عن منطقة عربية الصحراوية Arabia Deserta، وتحدثت في الجزء الثاني عن منطقة عربية الصخرية Arabia Petraea، والآن سوف أبدأ الحديث عن المنطقة الأخيرة من بلاد العرب القديمة وهي منطقة عربية السعيدة Arabia Felix.

المصدر الأساسي للمعلومات الواردة في هذا المقال هو كتاب The Arabs in Antiquity للمستشرق الفنلندي Jan Retsö.

عربية السعيدة عند بطليموس (القرن الثاني للميلاد) تعني كل مناطق شبه الجزيرة العربية ما عدا عربية الصحراوية وعربية الصخرية، أي أنها تعادل جزيرة العرب عند الكتاب المسلمين.

ظهور مفهوم عربية السعيدة لدى اليونانيين له قصة طويلة. أقدم جغرافي ومؤرخ يوناني معروف هو هقطاي المليطي Hecataeus of Miletus الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد في مدينة Milētos في يونيا Iōnia (الساحل الغربي لآسيا الصغرى) التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم الفرس الأخمينيين. هقطاي تجول في أنحاء الإمبراطورية الأخمينية ورسم خريطة للعالم هي الأقدم لدى اليونانيين. خريطته وكتبه كلها مفقودة ولكن الباحثين يعرفون ما ورد فيها جزئيا من كتابات الكتاب اليونانيين اللاحقين الذين نقلوا منها.

العالم حسب خريطة هقطاي كان عبارة عن قرص من اليابسة محاط من كل الجهات بنهر اسمه Ōkeanos (من هذه الكلمة جاءت كلمة ocean الأوروبية). القرص مكون من ثلاث كتل أو قارات هي أوروبا (النصف الشمالي من القرص) وآسيا (القسم الجنوبي الشرقي) وليبيا (القسم الجنوبي الغربي). الحد الفاصل بين أوروبا وآسيا هو البحر الأسود ونهر Phasis الذي يصب فيه من جهة الشرق، والحد الفاصل بين آسيا وليبيا هو نهر النيل. هناك أربعة شعوب تسكن أطراف العالم الأربعة هي القلط Keltoi في الغرب والإسقوث Skythēs في الشمال والعرب Arabioi في الجنوب وربما الهنود في الشرق.

قارة آسيا مكونة من كتلتين أو نتوءين يمتدان من الشرق إلى الغرب: النتوء الشمالي هو آسيا الصغرى (Asia Minor) والنتوء الجنوبي هو ربما آسيا الكبرى (Asia Major). النتوء الجنوبي يتكون من ثلاثة بلاد هي من الشرق إلى الغرب فارس Persis وآشور Assyria وعربية Arabia. كلمة “آشور” عند هقطاي تعني بلاد ما النهرين وسورية الكبرى، أي الهلال الخصيب بكامله (الذي كان خاضعا قبل الحكم الفارسي لحكم البابليين وقبلهم الآشوريين)، أما “عربية” فالمقصود بها هو منطقة عربية الصخرية التي تحدثت عنها في المقال السابق (المقصود بها تحديدا هو تيه بني إسرائيل وصحراء مصر الشرقية، وهذا هو معنى عربية عند هيرودوت أيضا). بمحاذاة النتوء الجنوبي من جهة الجنوب يمتد “البحر الأحمر” من الشرق إلى الغرب، وبالتالي حسب خريطة هقطاي فإن الجزيرة العربية لا وجود لها وفي مكانها يقع البحر الأحمر (أي المحيط الهندي)، وسبب ذلك هو أن هقطاي واليونانيين الأوائل لم يكونوا يعلمون بوجود شبه الجزيرة العربية.

بعض الباحثين يرون أن هقطاي أخذ مفهومه للعالم من مصادر شرقية، ومما يدل على ذلك مثلا تقسيمه العالم إلى ثلاث مناطق كما في التوراة اليهودية التي تجعل العالم مكونا من ثلاث مناطق هي سام وحام ويافث (مناطق سام وحام ويافث في التوراة تشبه آسيا وليبيا وأوروبا في جغرافية هقطاي). هذا التقسيم الثلاثي ورد أيضا في مصادر بابلية (وربما يعود أصله إلى السومريين كقصة طوفان نوح التي يرى الباحثون أنها سومرية الأصل). أيضا كلمتا آسيا Asia وأوروبا Eurōpē هما من أصل شرقي على الأغلب، وهناك باحثون يرون أنهما ربما من أصل آشوري. كلمة آسيا مأخوذة ربما من الجذر ’WṢ (المقابل العربي “وضأ” ؟) الذي يعني “طلع” ويستخدم لطلوع الشمس، وكلمة أوروبا مأخوذة ربما من الجذر RB‘ (المقابل العربي المفترض “عرب”، رغم أن المعنى ينطبق على “غرب”) الذي يعني “دخل” ويستخدم لغروب الشمس، أي أن معنى آسيا وأوروبا هو “المشرق” و”المغرب”. أصحاب هذه النظرية يحتجون عادة بكلمتي Oriens و Occidens اللاتينيتين اللتين تعنيان “المشرق” و”المغرب”. كلمة Oriens مشتقة من الفعل “orio” الذي يعني الصعود، وكلمة Occidens مشتقة من الفعل “occido” الذي يعني الهبوط، أي أن هاتين الكلمتين اللاتينيتين تبدوان وكأنهما ترجمة لكلمتي Asia وEurōpē اليونانيتين اللتين هما بدورهما من أصل آشوري أو سامي.

إذن هقطاي لم يكن يعلم بوجود الجزيرة العربية، أما “أبو التاريخ” هيرودوت Herodotus (الذي عاش في القرن التالي له، أي القرن الخامس قبل الميلاد) فهو كان يعلم بوجود الجزيرة العربية وكان يميز ما بين “البحر الأحمر Erythra Thalassa” (الذي يقصد به الخليج العربي) وما بين “الخليج العربي Arabios Kolpos” (الذي يقصد به البحر الأحمر وخليج السويس). هيرودوت كان مطلعا على كتاب Scylax of Caryanda الذي هو أول يوناني أبحر حول الجزيرة العربية في عام 517 قبل الميلاد (أبحر من نهر السند إلى مصر عبر مضيق باب المندب)، وهو كان مطلعا أيضا على مصادر فارسية وزار بنفسه مصر وعربية (سيناء) وانتقل منها إلى سورية وذهب ربما إلى بابل أيضا، ولذلك كتابه كان أغنى بالمعلومات من كتاب هقطاي. أيضا هيرودوت بخلاف هقطاي ميز في كتابه بين آشور Assyria وسورية Syria. طبعا أصل كلمة Syria هو محل خلاف بين الباحثين ولكن الصحيح هو أنها مجرد تخفيف لكلمة Assyria وهي نشأت في الأناضول كما قال نولدكه ووصلت من هناك إلى اليونانيين في غرب الأناضول.

هيرودوت ارتكز في كتابه على هقطاي ونقل منه في مواضع عديدة دون أن يسميه، وفي مواضع أخرى كان يهاجمه. مثلا في قضية الحد بين آسيا وليبيا يقول ما يلي (17-2:15):

الآن إذا قبلنا رأي اليونيين Iōnoi الذين يقولون أن الدلتا فقط هي مصر… وأن كل ما تبقى من مصر يعود جزء منه لليبيا وجزء لعربية، إذا اتبعنا هذه الرواية فهذا يعني أنه في زمن ما لم يكن هناك أرض للمصريين، لأننا رأينا –كما يقول المصريون أنفسهم وكما أرى أنا نفسي- أن الدلتا هي أرض رسوبية لم تظهر للوجود –إن صح القول- إلا مؤخرا. إذن لو لم يكن لهم في الماضي أرض لما صح القول بأنهم أقدم شعب في العالم… أنا أقول بالأحرى أن المصريين لم يظهروا للوجود مع ظهور ما يسميه اليونيون الدلتا بل هم كانوا موجودين منذ ظهور الجنس البشري، ومع زيادة رقعة الأرض بقي كثير منهم وتمدد الكثير إليها… إذن إن كان حكمنا صحيحا فاليونيون مخطئون فيما يتعلق بمصر، وإن كان رأيهم صحيحا فهذا يعني بوضوح أنهم وبقية اليونانيين يخطئون الحساب حينما يقسمون الأرض إلى ثلاثة أقسام هي أوروبا وآسيا وليبيا، لأنهم يجب أن يضيفوا قسما رابعا هو دلتا مصر طالما أنها ليست من آسيا ولا من ليبيا… نترك رأي اليونيين جانبا، حكمنا في هذه المسألة هو ما يلي: مصر هي كل البلاد التي يسكنها مصريون… ولا نعلم حدا (صحيحا) بين آسيا وليبيا سوى حدود المصريين.

يقصد باليونيين هنا هقطاي. هيرودوت كان من منطقة Karia التي تقع إلى الشرق مباشرة من يونيا. طبعا هو هنا يحاول أن يظهر نفسه بمظهر صاحب العقلية العلمية ولكن كلامه بعيد عن العلم والمنطق. هو في كتابه يتهجم كثيرا على الآخرين. مثلا عندما يتحدث عن قضية فيضان نهر النيل يقول “بعض اليونانيين الذين يريدون أن يظهروا أنفسهم بمظهر الأذكياء طرحوا تفسيرات لهذه الظاهرة” ثم يذكر تفسيراتهم ويسخر منها وبعد ذلك يطرح تفسيره الذي لا يقل سخافة عن تفسيراتهم.


المناطق القديمة في الأناضول

 

رغم أن هيرودوت كان يعلم بوجود الجزيرة العربية إلا أن معلوماته عنها كانت سطحية للغاية. ما يلي كلام لهيرودوت حول عربية (113-3:107):

عربية هي أبعد البلاد المسكونة جنوبا، وهي البلد الوحيد الذي يعطي البخور (libanōtos) والمُر (smyrna) والسنا (kasia) والقرفة (kinnamōmon) واللبان (ladanon) . الحصول على هذه كلها باستثناء المر هو أمر صعب على العرب.

هم يجمعون البخور بحرق العبهر (styraks) الذي يحمله الفينيقيون إلى اليونان؛ يحرقونه ويحصلون على البخور، لأن الأشجار الحاملة للبخور تحرسها ثعابين مجنحة، صغيرة الحجم متعددة الألوان وكثيرة حول كل شجرة، وهي نفس تلك التي تهاجم مصر. لا شيء غير دخان العبهر يمكن أن يبعدها عن الأشجار. العرب يقولون أن هذه الثعابين كانت لتملأ العالم كله لولا أن… الحكمة الإلهية جعلت الكائنات الجبانة والصالحة للأكل سريعة التكاثر لكيلا تنقرض بسبب تعرضها للأكل، بينما جعلت الكائنات الجريئة والخبيثة قليلة التكاثر. على سبيل المثال، لأن الأرنب… ((ثم يتابع مثاله عن الأرنب))… وهكذا أيضا لو كانت الأفاعي وثعابين عربية المجنحة تتكاثر بشكل طبيعي لما استطاع الإنسان الحياة على الأرض… الأفاعي متوزعة في كل أنحاء العالم، ولكن الثعابين المجنحة توجد بأعداد كبيرة في عربية فقط وليس في أية أرض أخرى، ولهذا السبب هي تبدو كثيرة هناك.

هكذا إذن يحصل العرب على البخور، أما السنا فالحصول عليه هو كما يلي: هم يغطون بجلود البقر وجلود أخرى كل أجسادهم ووجوههم ما عدا أعينهم، ثم يذهبون ليحصلوا على السنا. هذه تنمو في بركة ليست عميقة جدا، وحول البركة وفي داخلها يربض على ما يبدو وحوش مجنحة تشبه تقريبا الخفافيش، وهي تصرخ بأصوات مرعبة وتقاتل بشجاعة. هم يجب أن يبقوها بعيدا عن أعينهم لكي يتمكنوا من قطع السنا.

أما القرفة فهم يجمعونها بطريقة أكثر عجبا، لأنها لا يعرفون أين تنمو وما هي الأرض التي تنتجها، ولكن بعضهم يقولون (وهذه رواية غير أكيدة) أنها تنمو في تلك المناطق التي نشا فيها ديونوس Dionysos ((إله الخمر))، وهم يقولون أن طيورا كبيرة تحمل تلك الأعواد الجافة (التي تعلمنا من الفينيقيين أن نسميها kinnamōmon) إلى أعشاش مصنوعة من الطين ومثبتة على رؤوس الجبال الشاهقة التي لا يمكن للإنسان الصعود إليها بأية وسيلة. للتعامل مع هذا يقوم العرب بالحيلة التالية: هم يقطعون أطراف الثيران والحمير الميتة وحيواناتهم الأخرى إلى قطع كبيرة بما يكفي، ويوصلونها إلى تلك الأماكن ويبتعدون عنها بعد أن يضعوها قرب الأعشاش. ثم تنزل الطيور وتحمل أطراف الحيوانات إلى الأعشاش، والأعشاش لا تقوى على حملها فتنهار وتقع على الأرض، فيأتي الرجال إليها ويجمعون القرفة. هكذا تُجمع القرفة وتأتي من هذا الشعب إلى بقية بلاد الأرض.

أما اللبان، الذي يسميه العرب ladanon، فهو يأتي بطريقة أكثر عجبا حتى مما سبق، لأنه رغم كونه أزكى الأشياء رائحة إلا أنه يأتي من أخبث الأشياء رائحة، لأنه يوجد في لحى الماعز، يظهر هناك كما يظهر الصمغ من الخشب. هو مفيد لصنع الكثير من العطور، والعرب يستخدمونه في الغالب كبخور.

يكفي ما ذكرناه عن التوابل والعطور التي تهب روائحها الزكية من أرض عربية. هم لديهم أيضا نوعان من الخراف يستحقان الإعجاب ولا يوجدان في أية أرض أخرى: الأول له ذيل طويل لا يقل طوله عن ثلاثة أذرع، ولو تركت هذه لتجر ذيولها خلفها لأصيبت بالقروح من احتكاك ذيولها بالأرض، ولكن الرعاة يعرفون ما يكفي من النجارة لصنع عربات صغيرة يربطونها تحت الذيول ويربطون ذيل كل حيوان إلى عربة صغيرة منفصلة. النوع الآخر من الخراف له ذيل عريض يصل عرضه إلى ذراع.

بالنسبة لعبارة “وهي نفس تلك التي تهاجم مصر” فتفسيرها موجود في موضع آخر من كتابه:

هناك مكان في عربية -ليس بعيدا عن بلدة Buto- ذهبت إليه لأتحرى عن الثعابين المجنحة، وفي الطريق إلى هناك رأيت عددا لا يحصى من عظام الثعابين. أكوام كثيرة من العظام كانت هناك، كبيرة وصغيرة وبالغة الصغر. هذا المكان الذي تتناثر فيه العظام فيه ممر جبلي ضيق يقود إلى سهل عظيم متصل بسهل مصر. يقال أن الثعابين المجنحة تطير من عربية في بداية الربيع باتجاه مصر، ولكن طيور أبي منجل (ibis) تواجهها في هذا الممر وتقتلها. العرب يقولون أن طير أبي منجل مكرم جدا لدى المصريين لهذا السبب.

وأيضا حديث عن طير مقدس آخر:

هناك طير مقدس آخر يسمى الفينيق (phoinix). أنا بنفسي لم أره ولكنني رأيت صورا له، لأنه نادرا ما يأتي إلى مصر، مرة كل خمسمئة عام كما يقول أهل Heliopolis (مدينة الشمس)… يقول المصريون أنه يأتي من عربية إلى معبد الشمس حاملا أباه مغطًّى بالمر ويدفنه هناك.

هذه الخزعبلات التي يذكرها هيرودوت في كتابه تدل على أن معلوماته عن الجزيرة العربية لم تكن أفضل كثيرا ممن سبقوه من اليونانيين. هو طبعا أفضل حالا من هقطاي لأنه على الأقل يدرك وجود الجزيرة العربية، والفقرة الأولى من كلامه توحي بأنه ربما كان يعلم بوجود اليمن، مما يوحي بأنه ربما قرأ كتاب Scylax of Caryanda (الذي هو أول يوناني زار اليمن، ولكن من الواضح أنه لم يدخلها وإنما اكتفى بالطواف حولها من البحر، بدليل الخزعبلات التي يذكرها هيرودوت عن كيفية إنتاج البضائع اليمنية). هيرودوت كانت لديه معلومات جيدة عن عربية التي في الشمال (أي سيناء وصحراء مصر الشرقية) وهو وصفها ووصف سكانها في كتابه، ولكن بالنسبة لـ”عربية السعيدة” (أي المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية) فهو لم يكن يعلم عنها شيئا سوى أساطير أخذها ربما من المصريين ومن بعض العربان الذين التقاهم في عربية الشمال (والذين يبدو أن بعضهم كان يستهزئ به خاصة أولئك الذين رووا له قصة العربة التي توضع تحت ذيل الخراف).

طبعا هؤلاء العربان الذين يحملون البضائع من اليمن ويأتون بها إلى مصر من مصلحتهم أن يرووا مثل هذه القصص الخرافية لكي يظهروا أنفسهم بمظهر الأبطال الذي يقومون بأعمال فذة لا يوجد لها مثيل ولكي يرفعوا من قيمة بضائعهم، ولكن الغريب هو أن الناس كانت تصدقهم.

التراث العربي القديم مليء بمثل هذه الخزعبلات التي يذكرها هيرودوت. من يقرأ مثلا في الكتابات الإسلامية يجد كثيرا من القصص الخرافية التي كان العرب قبل الإسلام يعتقدون بها (بعضها مشهور مثل قصص العفاريت والنسناس والغول ووادي عبقر والعنقاء إلخ). هذا يدل على أن العرب قديما كانوا مغرمين بالخرافات، وهذا ربما يعود لطبيعة بلادهم الواسعة والمقفرة والموحشة.

إذن الجزيرة العربية لدى اليونانيين القدماء كانت مكانا شبه أسطوري. هي كانت بالنسبة لهم تمثل أقصى الجنوب الذي لا يعلم أحد ما يوجد فيه، ولهذا السبب كانوا يروون حولها الأساطير والخرافات. أي أنها مثل بلاد “واق الواق” لدى الكتاب المسلمين. بلاد واق الواق عند المسلمين هي بلاد تقع في مكان مجهول في جنوب بحر الهند (المحيط الهندي) الذي إلى الجنوب منه يقع “البحر المحيط” أو “الأوقيانوس” المحيط بالعالم (الذي هو نفسه Ōkeanos اليوناني).

هقطاي وهيرودوت كانا يعيشان في ظل إمبراطورية الفرس الأخمينيين (القرون 6 و5 و4 قبل الميلاد) التي كانت تحكم مصر وآسيا الصغرى وسورية وآشور وإيران، واهتمامهما بجغرافية العالم كان نابعا في الأساس من فضول علمي. ولكن بعد أن قام الإسكندر المقدوني بحملته المظفرة على الإمبراطورية الأخمينية بين عامي 334 و325 قبل الميلاد أصبح اهتمام اليونانيين بالجغرافيا ذا طابع آخر هو الطابع الاستعماري. بعد أن غزا الإسكندر بلاد السند في عام 325 قبل الميلاد أرسل أسطولا من نهر السند باتجاه بابل يقوده نيارخ Nearchus (وهو من جزيرة كريت). نيارخ هذا هو أول يوناني يكتشف عمان والخليج العربي (المعروف عند اليونانيين الأوائل باسم “البحر الأحمر”، وبعد حملة الإسكندر صاروا يسمونه “الخليج الفارسي”). نيارخ وصف رأس مسندم العماني وسماه باسم Maketa وذكر مدينتي Diridotis وGerrha على الساحل الجنوبي للخليج.

من الأمور المهمة التي نتجت عن رحلة نيارخ هي أن اليونانيين ربطوا بين الساحل الجنوبي للخليج الفارسي وبين عربية. ما يلي كلام للمؤرخ أرّيان Arrianus (القرن الثاني للميلاد) عن رأس مسندم العماني في رحلة نيارخ:

أولئك الذين لديهم معرفة بالمنطقة قالوا أن هذا الرأس تابع لعربية واسمه Maketa، ومن هنا يحصل الآشوريون على القرفة والتوابل الأخرى.

إذن الربط بين عمان والساحل الجنوبي للخليج الفارسي من جهة وبين “عربية” (Arabia) من جهة أخرى تم بعد رحلة نيارخ.

عمان قريبة جدا من السند والهند (المسافة بين مسقط وكراتشي هي 800 كم، أي ثلث المسافة بين مسقط ودمشق)، ولهذا السبب فإن سكان الشرق الأوسط قديما كانوا يعتبرون أن عمان وما حولها هي من الهند، وليس عمان فقط بل حتى كل الجزيرة العربية جنوب صحراء النفود كانت تعتبر لديهم من الهند. مثلا في ترجمة للكتاب اليهودي إلى اللغة الآرامية (تَرْجُوم) ورد مصطلح هندقي/هندقاي كترجمة لكلمة حَوِيلَة التي يستخدمها النص العبري للدلالة على صحراء النفود وما وراءها، وهذا المصطلح هو “تأريم” لمصطلح Indika اليوناني-اللاتيني الذي يعني الهند. أيضا المؤرخ يوحنا ملالا Ioannes Malalas (وهو من مدينة أنطاكية في سورية ولهذا السبب اسمه سرياني) كتب في القرن السادس الميلادي (قرن ولادة الرسول) قصة مقتل الحارث بن عمرو الكندي (الذي يسميه Aritas)، وفي هذه القصة يقول ملالا أن الحارث اصطدم بالروم في فلسطين فاضطر للتراجع والهروب إلى الهند (Indica). طبعا موطن الحارث الكندي هو هضبة نجد وبالتالي المقصود بالهند هنا هو هضبة نجد، ولكن في أعراف السوريين في ذلك الوقت كل ما هو جنوب الصحراء السورية يعتبر من الهند.

طائر الفينيق الذي قال هيردوت أنه يأتي من عربية قيل في مصادر أخرى أنه يأتي من الهند، والمعنى واحد.

حتى الحجازيون في العصر الإسلامي كانوا يشككون في عروبة الجنوب. مثلا القصة التالية وردت في كتاب الأغاني (الجزء 23)، وهي من أيام الفتنة القيسية-اليمانية في العصر الأموي:

قال العباس: قال هارون: فأخبرني بعض أصحابنا: أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول: الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال له ابنه: الحمد لله الذي أذلهم بأيدينا، فما كانت قريش تظن أن من نزل على عمان من الأزد عربي، قال: وكان هذان الرجلان مع أهل المدينة، فقال القرشي لابنه: يا بني، هلم نبدأ بهذين الرجلين، قال: نعم يا أبت، فحملا عليهما، فقتلاهما، ثم قال لابنه: أي بني تقدم، فقاتلا. حتى قتلا. وقال المدائني: القرشي عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، والمتكلم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار.

يقول أن قريش لم تكن تعتقد أن أزد عمان من العرب، وأزد عمان هو اسم عرب عمان في ذلك الوقت.

وفي نفس الكتاب (الجزء 14) وردت قصة تبادل الهجاء بين زياد الأعجم (من عبد القيس) وكعب الأشقري (من الأزد). زياد الأعجم قال ما يلي بحق الأشقري:

هل تسمع الأزد ما يقال لهـا       في ساحة الدار أم بها صمم؟

اختتن القوم بعدما هـرمـوا        واستعربوا ضلة وهم عجـم

يقول عن الأزد “استعربوا وهم عجم”، والآزد هو اسم لسكان عسير وعمان من العرب.

موطن العرب أصلا هو في الشمال، وتمددهم نحو الجنوب حدث ببطء وعبر قرون طويلة، ولهذا السبب نرى هذه الأمور في الكتابات القديمة. اليونانيون هم أول من أطلق مسمى “عربية” على عمان واليمن وذلك في أزمنة سحيقة لم يكن للعرب فيها تواجد يذكر في تلك المناطق.

سبب تسمية اليونانيين لعمان واليمن باسم عربية هو ما نقلته في الأعلى عن أريان:

أولئك الذين لديهم معرفة بالمنطقة قالوا أن هذا الرأس تابع لعربية واسمه Maketa

يتضح من هذه العبارة وأمثالها أن إطلاق كلمة عربية على عمان كان مجرد استنتاج جغرافي. اليونانيون في الأصل لم يكونوا يعرفون عمان واليمن. هم كانوا يعرفون فقط الهند وفارس وآشور وسورية وعربية، والمقصود بعربية هو مناطق سيناء وعربية الصخرية والصحراء السورية، وعندما اكتشفوا عمان واليمن لأول مرة أدركوا أن هذه المناطق متصلة بعربية التي يعرفونها في الشمال، ولذلك وسعوا مفهوم كلمة عربية وعمومه على عمان واليمن والساحل الجنوبي للخليج الفارسي. هذا التعميم الجغرافي كان معتادا في العصور القديمة، وأنا ذكرت في مقال سابق كيف أن الكتاب اليهودي مثلا يطلق مسمى فأرن على الصحاري الواقعة إلى الجنوب من فأرن الحقيقية، وأيضا اليونانيون كانوا يطلقون مسمى آشور Assyria على كل الهلال الخصيب رغم تعدد شعوب هذا الهلال. بنفس الطريقة اليونانيون عمموا كلمة “عربية” على كل شبه الجزيرة رغم أن سكان القسم الجنوبي من شبه الجزيرة في زمن الإسكندر لم يكن لهم علاقة بالعرب الحقيقيين الذين في الشمال.

بعد أن التقى نيارخ بالإسكندر في بابل قرر الإسكندر غزو الساحل الجنوبي للخليج الفارسي، وفي ذلك يقول أريان نقلا عن أحد مرافقي الإسكندر:

الإسكندر كان يخطط لاستعمار ساحل الخليج الفارسي والجزر القريبة منه، لأنه ظن أنها يمكن أن تصبح بلادا مزدهرة مثل فينيقية… غنى البلاد أغراه، لأنه سمع أن السنا تنمو في الواحات، ومن الأشجار يأتي المر والبخور، ومن الشجيرات تقطع القرفة، وفي المروج ينمو نبات spikenard)) nardou stakhus)). أيضا كان هناك حجم البلاد، لأن ما قيل له هو أن ساحل عربية لم يكن أقصر من ساحل الهند، وأن هناك جزرا ومرافئ على طول الساحل، والمرافئ كبيرة تستوعب أسطوله وتسمح ببناء مدن عليها، وهذه المدن قابلة للازدهار.

هذه الرواية تشرح الأسباب المادية التي دفعت الإسكندر للتخطيط لغزو الجزيرة العربية، وهناك روايات أخرى تذكر أسبابا أخرى غير مادية.

من هذه الرواية يتبين أن الإسكندر كانت لديه دوافع استعمارية دفعته للتفكير في غزو ساحل الخليج. هو لم يكن يعرف اليمن بعد ولكنه عرف عمان والبحرين (المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية) ولهذا السبب هو ظن أن البخور والتوابل مصدرها من هناك. اليونانيون حتى زمن الإسكندر لم يكونوا يعرفون ما هو المصدر الدقيق للتوابل والبخور والإسكندر لو عرف اليمن لما فكر في غزو البحرين وعمان. طبعا الإسكندر مات في بابل قبل أن يغزو الخليج ولكنه قبل وفاته أرسل رحلات استكشافية أخبرته عن جزيرة Icarus (فيلكة) و Tylus (البحرين).

كلمة Maketa (وفي روايات لاحقة Makai) هي على الأرجح نفسها كلمة má-gan-an-na التي وردت في النصوص السومرية كاسم لبلاد تقع في طريق الهند، واللفظ السومري لهذه الكلمة كان على ما يبدو Makan، وهذه الكلمة هي أصل كلمة عُمان العربية أو على صلة بها.

أما كلمة Tylus التي أطلقت على جزيرة البحرين فهي مرتبطة بكلمة dilmun السومرية التي كانت ربما تلفظ “تلمون” بالتاء. وجود الجهر والهمس (voice) في اللغة السومرية هو أمر خلافي والأرجح أن الأصوات التي يكتبها الباحثون على أنها أصوات انفجارية مجهورة (voiced stops) كانت في السومرية تلفظ كأصوات مهموسة، وأما الأصوات التي تكتب على شكل أصوات انفجارية مهموسة (voiceless stops) فكانت تلفظ مع زفر الهواء (aspirated) أو بشكل آخر من النطق الثانوي.

بعد وفاة الإسكندر وظهور حكم البطالمة في مصر بدأ حكام مصر يرسلون رحلات استكشافية في البحر الأحمر حتى صار اليمن معروفا لهم تماما، وبحلول العام 100 قبل الميلاد كان الملاحون قد اكتشفوا طريقة للإبحار من مصر إلى الهند، وبذلك فقد اليمن والجزيرة العربية جزءا كبيرا من أهميتهما التجارية السابقة، وهناك من المستشرقين (Patricia Crone) من بالغوا وقالوا أن طرق التجارة البرية في الجزيرة العربية توقفت تماما بعد هذا الاكتشاف، وبالتالي ما يقال عن قبيلة قريش وتجارتها قبل الإسلام هو مجرد خرافات برأيهم، وقولهم هذا غير صحيح ويخالف الأدلة التاريخية.

إذن اليونانيون اكتشفوا الجزيرة العربية بالتدريج. في البداية هم لم يكونوا يعرفون سوى صحاري سيناء ومصر وهذه كانت Arabia بالنسبة لهم، وأما المناطق الجنوبية فهي كانت مناطق غامضة ولا يعرفون عنها شيئا سوى الأساطير، وكان يسمونها باسم “الهند”. وبعد حملة الإسكندر المقدوني على الشرق بدأت معرفة اليونانيين بالمنطقة تزداد بسرعة (لأنهم سكنوا فيها وصاروا يحكمونها) فصاروا يعرفون سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر وأسماء المناطق والشعوب داخل الجزيرة العربية، وبحلول القرن الثالث قبل الميلاد كانوا يعرفون اليمن ويعرفون أسماء الممالك اليمنية.

إراطوسثين القوريني Eratosthenes of Cyrene (ولد في مدينة برقة Kyrēnē في شرق ليبيا وعاش في القرن الثالث قبل الميلاد) كان لديه تصور واضح للجزيرة العربية مقارنة بمن سبقوه. هو كان يعرف أسماء عدد من شعوب شمال وشرق الجزيرة العربية (Alesēnoi ، Agraioi ، Khaulotaioi ، Nabataioi) وجنوبها (Khatramis ، Minaioi ، Sabaioi ، Khitabenoi) وكان يميز ما بين سكان بوادي سورية وما بين النهرين الذين يسميهم بساكني الخيام (skēnitai) من جهة وما بين سكان المناطق الصحراوية والشرق والجنوب.

إراطوسثين هو أول من قسم عربية إلى عربيتين: عربية الصحراوية Arabia Erēmos وعربية السعيدة Arabia Eudaimōn. عربية الصحراوية تعني الصحراء السورية وبلاد النبط، وعربية السعيدة تعني كل ما تبقى من شبه الجزيرة العربية. المنطقة الواصلة ما بين عربية الصحراوية وعربية السعيدة هي برزخ (Isthmos) في جنوب العراق اسمه Mesēnē (ميسان).

إراطوسثين ليس هو من اخترع مصطلح “عربية السعيدة”، بل هو فقط حوله إلى مصطلح علمي جغرافي. هذا المصطلح هو أقدم بكثير من إراطوسثين. في مسرحية لـ Euripidēs من القرن الخامس قبل الميلاد يرد على لسان الإله ديونوس Dionysos ذكر “عربية السعيدة” على أنها مكان يقع في آسيا بالقرب من Bactria و Media (وهي مقاطعات إيرانية). وفي كتاب “التاريخ المقدس” لـ Euhemerus (وهو كتاب مفقود يعود للقرن الثالث قبل الميلاد يتحدث عن أصل الآلهة) ورد وصف عربية السعيدة على أنها مكان مثالي خال من التسلط (utopia) وغني بالأنهار والزروع والثمار والتوابل والعطور، وفيها جزر مقدسة إحداها جزيرة Hiera التي تحوي عينا مقدسة اسمها “ماء الشمس”. وفي كلام مشابه منسوب لكاتب اسمه Iambulus (وهذا اسم عربي أو سامي) ورد وصف “عربية التوابل والعطور” التي فيها جزيرة تسمى “الجزيرة السعيدة”، وهذه الجزيرة محاطة بالماء العذب رغم أنها تقع في وسط “محيط الجنوب”، وعليها توجد ينابيع كثيرة حارة وباردة، وسكانها يعبدون الشمس والأجرام السماوية.

كل من Euhemerus وIambulus يصفان عربية السعيدة بأنها تقع بالقرب من فارس والهند، وهما يقولان أن فيها جزيرة مقدسة ومباركة تقع في وسط “محيط الجنوب”، وهذه الجزيرة لها علاقة بعبادة الشمس.

في مسرحية “الطيور” لـ Aristophanēs (القرن الخامس قبل الميلاد) يرد على لسان طائر الهدهد ذكر “المدينة السعيدة” التي تقع في “البحر الأحمر”.

كل ما سبق يوحي بأن فكرة “عربية السعيدة” لا علاقة لها باليمن بل هي فكرة أسطورية قديمة موجودة لدى اليونانيين من قبل أن يعرفوا اليمن. “الجزيرة السعيدة” المذكورة في هذه الأساطير تقع في البحر الأحمر حسب تعريف هقطاي المليطي، أي البحر الجنوبي الذي يمتد جنوب فارس وآشور وعربية. هذه الجزيرة تقع بالقرب من إيران، وبالتالي لا علاقة لها باليمن.

ما هو أصل هذه الأسطورة؟ هذه الأسطورة هي من أصل شرقي، وبالتحديد هي أسطورة دلمون السومرية الشهيرة. دلمون في الأساطير السومرية هي البحرين، أي المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، وجزيرة دلمون هي جزيرة البحرين المعروفة الآن.

جزيرة دلمون في الأساطير السومرية هي جزيرة مقدسة تشرق منها الشمس، وهي الجزيرة التي يحط فيها Ziusudra (الذي يسميه المستشرقون “نوح السومري”) بعد الطوفان الذي يعم العالم. الإله الذي ينقذ Ziusudra ويوصله إلى هذه الجزيرة هو أوتو Utu إله الشمس.

ما يلي جزء من الأسطورة السومرية:

أوتو يقف في السماء

من الثغر الذي ينهمر منه ماء الأرض

يُخرج الماء العذب من الأرض

يَضخ الماء في مخازنها الكبيرة

منها تشرب المدينة الماء

دلمون تشرب من هذه المياه الفياضة

بئرها المالح صار الآن عذبا

حقولها ومزارعها الخصبة تنتج أكواما من الحبوب

مدينتها الآن هي السد الذي يحجز الماء عن الأرض

دلمون هي سد الأرض

الآن بفضل أوتو صارت اليوم كذلك

كثير من الصفات المذكورة في هذه الأساطير تنطبق بالفعل على جزيرة البحرين. الينابيع التي تضخ الماء العذب في مياه المحيط حول الجزيرة ما زالت موجودة إلى اليوم، وزراعة الحبوب والنخيل كانت البحرين تشتهر بها إلى زمن قريب، والآثار المكتشفة في البحرين تظهر أنها كانت على ما يبدو مدفنا مقدسا في العصور القديمة.

فكرة الأرض السعيدة الخالية من التسلط (utopia) والتي تقدّس فيها الشمس هي فكرة تتكرر كثيرا في الأساطير الغربية والشرقية، ومصدرها جميعا يعود إلى أسطورة دلمون. الباحث Retsö يربط بين هذه الأساطير وبين الروايات المنسوبة إلى الإسكندر المقدوني التي تتحدث عن سبب تفكيره في غزو البحرين. إحدى الروايات تقول أنه قرر غزو العرب لأنهم كانوا الشعب الوحيد الذي لم يرسل له سفراء يباركون له انتصاره على الفرس ويعلنون خضوعهم له، ورواية أخرى تقول أنه قرر غزوهم بعدما علم أنهم يعبدون إلهين فقط: Uranus (بوصفه إلها للشمس) و Dionysus (بسبب رحلته إلى الهند، التي تشمل بلاد العرب) وأنه أراد أن يجعل نفسه إلها ثالثا لهم.

هذه الروايات ربما يكون الهدف منها هو التعبير عن حقيقة أن العرب كانوا الشعب الوحيد الذي نجا من غزو الإسكندر بسبب وفاته بينما كان يستعد لغزوهم، ولهذا السبب نجد الربط بينهم وبين الحرية وإله الشمس. فكرة أن العرب “شعب محب للحرية” هي فكرة ترد حرفيا في الكتابات اليونانية القديمة، وهي تعبر عن نظرة اليونانيين للعرب. اليونانيون القدماء كانوا يتخيلون العرب على أنهم شعب يعيش في مجتمع مثالي بعيد عن التسلط وأنهم يعبدون الشمس، أي أن مكونات الأسطورة الطوباوية تنطبق عليهم. هذه النظرة الخيالية للعرب تنبع من موقعهم الجغرافي البعيد ومن طبيعة بلادهم التي هي بالنسبة لليونانيين بلاد غامضة وشبه أسطورية.

طبعا أسطورة بلاد العرب تحطمت في عام 24 قبل الميلاد عندما أرسل الرومان حملة لاحتلال اليمن ولكنها منيت بالفشل الذريع بسبب العطش وحرارة الجو. وقتها أدرك الغربيون ربما أن بلاد العرب ليست “سعيدة” كما تقول أساطيرهم بل هي قاحلة وذات طبيعة صعبة.

الباحث Retsö يحاول أن يربط بين أسطورة الحرية والشمس وبين قصة ملكة سبأ الواردة في القرآن. قصة ملكة سبأ في القرآن تختلف عن قصة ملكة سبأ التوراتية من عدة نواح، منها أن سليمان في القرآن له قوة وسطوة أكبر بكثير من قوة وسطوة سليمان التوراتي. سليمان في القرأن يخضع له كل شيء في الكون بما في ذلك الحيوانات والجن، والاستثناء الوحيد هو ملكة سبأ وقومها الذين يعبدون الشمس. الباحث Retsö يزعم أن الإضافات القرآنية على قصة ملكة سبأ مصدرها أسطورة القوم الأحرار الذين يعبدون الشمس، وهو يربط بين طائر الهدهد الذي يخاطب سليمان في القرآن وبين طائر الهدهد الذي يتحدث إلى Peithetairos في مسرحية الطيور لـ Aristophanēs ويخبره عن “المدينة السعيدة” التي في الجنوب. سليمان في القرآن أرسل كتابا إلى قوم سبأ يطلب فيه منهم “أن يأتوه مسلمين”، وهناك من يشبهون هذه القصة بقصة الإسكندر الذي غضب من العرب لأنهم كانوا الشعب الوحيد الذين لم يرسلوا إليه رسلا في بابل يعلنون خضوعهم له. أيضا القرآن يقول أن سليمان غضب عندما علم أن قوم سبأ يعبدون الشمس، والإسكندر غضب عندما علم أن العرب يعبدون إله الشمس وإله الهند. الإسكندر في القرآن بلغ مطلع الشمس ومغربها ووجدها “تغرب في عين حمئة”، وهناك من يزعمون أن هذه العين هي نفس العين التي وردت في الأساطير على أنها “ماء الشمس” التي تقع في جزيرة دلمون حيث تشرق الشمس في الأسطورة السومرية. في القرآن يرد مفهوم “مجمع البحرين” و”مرج البحرين يلتقيان”، وهناك من يزعمون أن هذين البحرين هما البحران العذب والمالح الذان وردا في الأساطير على أنهما يلتقيان في نهاية العالم وفي مكان التقائهما يوجد نبع الحياة، ويقال أن أحد الأسباب التي دفعت الإسكندر لغزو بلاد العرب هو هذه الأسطورة. باختصار الباحثون الغربيون يربطون كثيرا بين أساطير الإسكندر المقدوني وبين القرآن (أيضا هم يربطون بينها وبين قصص لقمان الحكيم الواردة في التراث الإسلامي).

إذن “عربية السعيدة” لم تكن في الأصل اسما لمنطقة حقيقية بل كانت مجرد أسطورة، واليونانيون بعد اكتشافهم لبلاد العرب بدؤوا يبحثون عن “عربية السعيدة” لعلهم يجدونها على أرض الواقع، وهذا كان ربما من الأسباب التي دفعت الإسكندر المقدوني إلى التخطيط لغزو بلاد العرب بعد أن فتح إيران والسند. بعد أن اكتشف الغربيون اليمن أدركوا أنه أكثر منطقة في الجزيرة العربية تستحق أن تسمى بالسعيدة، ومن هنا نشأ الربط بين مصطلح Arabia Felix أو Arabia Beata وبين اليمن، مع أن المصطلح أصلا لم تكن له علاقة باليمن. هو في الأصل كان اسما لكل مناطق الجزيرة العربية جنوب الصحراء السورية وبلاد النبط، وقبل ذلك كان اسما للمنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، أي البحرين.

__________________________________________________________

يمنع النقل من المدونة بدون ذكر المصدر

بلاد العرب (2)

أقسام بلاد العرب في القرن السادس الميلادي


هذا المقال هو استكمال لموضوع كنت قد بدأته قبل فترة تحت عنوان “تاريخ العرب”. كنت أريد من هذا المقال أن يكون مجرد مقدمة جغرافية وجيزة أدخل منها للحديث عن تاريخ العرب في الفترة السابقة للإسلام، ولكنني انحرفت بشكل غير مقصود وغصت كثيرا في التفاصيل الجغرافية مما جعل المقال أشبه بدراسة أو بحث جغرافي وأفقد العنوان معناه، ولهذا السبب غيرت العنوان إلى “بلاد العرب” وقررت اعتبار هذا الموضوع منفصلا عن الموضوع التاريخي الذي سوف أكتبه لاحقا.

بلاد النبط

مملكة النبط


تحدثت في المقال الأول عن المنطقة الأولى من مناطق الجزيرة العربية حسب التقسيم اليوناني-الروماني القديم وهي منطقة عربية الصحراوية Arabia Deserta، والآن سوف أتحدث عن المنطقة الثانية وهي عربية الصخرية Arabia Petraea.

بالنسبة لعربية الصخرية فهي منطقة نابعة من التقسيم الجغرافي اليوناني-الروماني القديم وليست تقسيما عربيا، ولذلك فإن العرب في زمن ظهور الإسلام لم يكونوا يعرفون هذه المنطقة كوحدة مستقلة وإنما كانوا يعتبرونها تنتمي كليا أو جزئيا إلى الشام، ويقصدون بالشام المنطقة التي كان الروم البيزنطيون يسمونها سورية Syrίa) Συρία).

عربية الصخرية عند الجغرافيين اليونانيين كانت تعني بالأساس بلاد الأنباط أو النَبَط التي كانوا يسمونها في الأصل نبطية Nabataea، والنبط هو اسم لشعب بدوي الأصل كان يسكن منطقة جبل الشراة منذ منتصف الألفية الأخيرة قبل الميلاد (القرن الخامس قبل الميلاد) وحتى القرن الثالث الميلادي، والنبط كانوا يتحدثون نفس اللغة المُضَرية التي كانت قبيلة قريش تتحدثها في القرن السادس الميلادي (زمن ولادة الرسول)، مما يعني أن النبط هم أقدم شعب معروف كان يتحدث اللغة المضرية التي تعرف الآن باللغة العربية.

تاريخ النبط القديم وأصلهم مجهول، ولكن عددا من المستشرقين والباحثين يرون أن النبط سكنوا جبل الشراة لأول مرة بعد الغزو البابلي لفلسطين (بقيادة نبوخد نصر) في العام 586 قبل الميلاد، ومنذ ذلك الوقت بدأ النبط يغيرون نمط حياتهم القديم ويتحولون إلى نمط حياة جديد قائم على التجارة. النبط استغلوا ضعف السلالات اليونانية الحاكمة لسورية (السلوقيون) ومصر (البطالمة) وبدؤوا منذ القرن الثالث قبل الميلاد بتكوين مملكة توسعية في جنوب سورية على حساب مناطق كان يتناوب على حكمها سابقا السلوقيون والبطالمة (والنبط لم يكونوا الوحيدين في ذلك حيث أن هناك أقواما أخرى عدة كونت مماك مستقلة في تلك الفترة في أراضي السلوقيين). أول ملوك النبط المعروفين هو “حارثة” الذي ورد اسمه في نقش نبطي من العام 168 قبل الميلاد (حرتت) وورد اسمه أيضا في سفر يهودي مكتوب باللغة اليونانية (Aretas)، ويسميه المستشرقون باسم “حارثة الأول” Aretas I.

بعد حارثة الأول ظهر عدد من الملوك الذين قاموا بتوسيع مملكة النبط بشكل تدريجي حيث نجحوا في مدها شمالا إلى صلخد وبصرى في جنوب شرق حوران (وفي بعض الأزمنة إلى دمشق) ونجحوا في ضم مناطق من شرق الأردن وشمال الحجاز وأجزاء من فلسطين ومن شبه جزيرة سيناء.

في عام 62 قبل الميلاد (في عهد حارثة الثالث Aretas III) أصبحت مملكة النبط تابعة للرومان وصارت تدفع لهم الجزية، وفي عام 106 ميلادي ألغى الإمبراطور الروماني ترايان Trajanus مملكة النبط وحولها إلى مقاطعة رومانية باسم عربية الصخرية Arabia Petraea والتي صارت تعرف أيضا بعربية Arabia.

الشراة

مهد المملكة النبطية هو جبل الشَّراة أو جبال الشَّراة، والتي كان يسكنها قبل النبط الإداميّون Edomites، ولهذا السبب فإنني رأيت أن بعض الباحثين التوراتيين يسمون جبال الشَّراة باسم “جبال الإداميين” Edomite Mountains.

كلمة “الشَّراة” هي على ما أظن مرادف لكلمة “السَّراة” التي تطلق على مرتفعات الحجاز واليمن، ومعناها المرتفع من الأرض. هناك مرتفعات كثيرة في الجزيرة العربية كانت أسماؤها مشتقة من هذا الجذر. ما يلي من معجم البلدان:

وقال نصر الشرى مقصور جبل بنجد في ديار طيء وجبل بتهامة موصوف بكثرة السباع. والشرى موضع عند مكة

وأيضا هناك جبل شَرَوْرى الذي يقع شرقي تبوك. بالنسبة للجبل “الموصوف بكثرة السباع” الذي يقع في تهامة فهو قد يكون نفسه جبل الشراة النبطي، مع أنه لا دليل على ذلك لأن الكتاب القدامى تخبطوا في تحديد موقع هذا الجبل مما يدل على أنه مجهول.

جاء في لسان العرب:

والشَّرى: موضعٌ تُنْسب إليه الأُسْدُ، يقال للشُّجْعانِ: ما هُمْ إلا
أُسودُ الشَّرى؛ قال بعضهم: شَرى موضع بِعَيْنهِ تأَْوي إليه الأُسْدُ،
وقيل: هو شَرى الفُراتِ وناحِيَتهُ، وبه غِياضٌ وآجامٌ ومَأْسَدَةٌ؛ قال
الشاعر:
أُسودُ شَرىً لاقتْ أُسودَ خفِيَّةٍ.
والشَّرى: طريقٌ في سَلْمى كثير الأُسْدِ. والشَّراةُ: موضِع.

النبط كان لديهم إله مهم اسمه ذو الشرى (Dusares) وهو منسوب إلى جبلهم (الشرى = الشراة)، وهذا الإله كان لا يزال معبودا لدى بعض القبائل في زمن ظهور الإسلام كقبيلة دوس التي كانت تسكن إلى الجنوب من مكة.

جبل الشراة هو منطقة تكثر فيها العيون والأودية مقارنة بما حولها وفي زمن النبط ومن قبلهم كان الجبل أخصب مما هو عليه الآن. أودية الجبل تصب غربا نحو وادي عَرَبة وشرقا نحو بادية الشام في منطقة منخفضة تسمى الآن باسم “قاع الجَفر”.

الحد الشمالي لجبل الشراة هو وادي الحَسا الذي يفصله عن البلقاء، والحد الجنوبي هو وادي رَمّ الذي يفصله عن جبال حِسْمى، وإلى الغرب من الجبل يقع وادي عَرَبة، وهو واد كبير يفصل جبل الشراة عن صحراء النقب ويمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة ويقع في نهايته ميناء العقبة (المعروف قديما باسم أيلة).

في العصر الإسلامي الباكر كان بعض الكتاب (كاليعقوبي وابن خرّداذبه) يميزون بين القسم الشمالي من جبل الشراة الذي كانوا يطلقون عليه اسم “كورة الجبال” (مركزها عَرَنْدَل) والقسم الجنوبي الذي كانوا يسمونه “كورة الشراة” (مركزها أَذْرُح). مثلا اليعقوبي عندما يعدد كور جند دمشق يقول:

وجبال: ومدينتها عرندل، وأهلها قوم من غسان، ومن بلقين وغيرهم… والشراة: ومدينتها أذرح، وأهلها موالي بني هاشم، وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده.

المسلمون في العصر الباكر كانوا يقسمون الشام إلى “أجناد”، وهي مناطق إدارية تعادل المقاطعات البيزنطية، وكانوا يقسمون كل جند إلى كُوَر (مفردها “كورة” وهي مأخوذة من الرومية χώρα)، وكانوا يقسمون كل كورة إلى رستاقات (مفردها رُستاق)، وهناك أيضا كلمة كانوا يستخدمونها هي الإقليم (من الرومية κλῆμα)، ومعنى الإقليم يختلف حسب كل كاتب فأحيانا يكون أكبر من الكورة وأحيانا أصغر منها. وبالنسبة لمراكز المناطق فكانوا أحيانا يسمونها بالقصبات (مفردها قَصَبة). هذه المعلومات مهمة لمن يقرأ قي معجم البلدان وغيره من الكتب القديمة.

القسم الشمالي من جبل الشراة (كورة الجبال) هي الموطن التاريخي للإداميين حسب رأي الباحثين، وهم يرون أن عاصمة الإداميين المعروفة في الكتاب المقدس اليهودي باسم سَلْع تقع بالقرب من مدينة الطفيلة.

أما القسم الجنوبي من جبل الشراة (كورة الشراة) فهو يحوي مدينة بطرا Petra عاصمة النبط، والتي تسمى في الإعلام باسم “البتراء” (أظن أنهم أخذوا هذا الاسم من ياقوت الحموي؟).

هناك في الكتب تخبط حول سلع وبطرا. بعض الكتب تقول أن مدينة بطرا النبطية هي نفسها سلع الإدامية، وهناك كتب أخرى تقول أن مدينة سلع الإدامية تقع قرب الطفيلة، أي أنها ليست نفسها بطرا النبطية.

كلمة (Pétra (Πέτρα اليونانية تعني “صخرة”، وهو نفس معنى كلمة سَلْع סֶּלַע‎ العبرية. ياقوت الحموي يقول في معجمه:

وسلع أيضا حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب البيت المقدس

وادي موسى هو الوادي الذي يقع قرب بطرا، أي أنه يقول أن بطرا (البتراء) كانت تعرف باسم سلع.

ربما كانت هناك مدينتان في جبل الشراة تحملان نفس الاسم “سلع”، واحدة إدامية والثانية نبطية، أو ربما هناك خطأ ما حدث في العصور القديمة وأدى إلى الالتباس بين المدينتين.

السفر الرابع من التوراة اليهودية (الذي يتحدث عن جولة بني إسرائيل في صحراء سيناء) يقول أن بني إسرائيل حاولوا عبور أرض إدام Edom من صحراء النقب باتجاه الشرق ولكنهم فشلوا في ذلك بسبب خروج ملكها لهم “بشعب كبير ويد قوية”، فارتدوا على أعقابهم إلى جبل اسمه بالعبرية Hōr הֹר (هذا الاسم تعريبه إما هار أو هُرّ، ولا أدري ما هو الصحيح)، وعلى هذا الجبل الذي تصفه التوراة بأنه يقع “في طرف أرض إدام” مات أَهَران Aharōn (هارون) شقيق موسى ودفن. بما أن اسم الجبل شبيه باسم هارون فأنا سوف أفترض أن هناك رابطا بين الاسمين وسوف أكتب الاسم “هار”.

موقع جبل هار غير معروف لباحثي التوراة ولكن بما أنه يقع في طرف أرض إدام فهو يقع في منطقة جبل الشراة. هناك قمة قرب البتراء تسمى باسم “جبل النبي هارون”.

البلقاء

البَلْقاء هو اسم كان يطلقه العرب في العصر الإسلامي الباكر على كورة كبيرة ذات حدود متبدلة حسب الكاتب وحسب الزمن. كورة البلقاء كانت على ما يبدو تشمل المنطقة التي يسميها الكتاب المقدس اليهودي “عبر الأردن” עֵבֶר הַיַּרְדֵּן، وهي الهضبة الكلسية المتعرجة الممتدة على مسار الضفة الشرقية لنهر الأردن والبحر الميت (والتي يسميها الغربيون Transjordania، ومن هذه الكلمة التوراتية أتى اسم “إمارة شرق الأردن” التي أسسها البريطانيون في عام 1921 لعبد الله بن الحسين). بالإضافة إلى شرق الأردن يبدو أيضا أن كورة البلقاء كانت تضم مناطق في غرب الأردن كأريحا مثلا.


شرق الأردن في القرن التاسع قبل الميلاد بعد إنشاء الممالك اليهودية في كنعان


شرق الأردن حسب أسفار التوراة كان يحوي شعبين غير إسرائيليين هما مأب Moab وعَمّان Ammon، بالإضافة إلى إدام الذين كانوا يعيشون جنوبا. اسم مآب كان معروفا عند الكتاب المسلمين واليعقوبي مثلا ذكر أن مآب هي كورة تابعة لدمشق. كورة مآب كانت على ما يبدو تمتد شرق البحر الميت من وادي الحسا إلى وادي الموجب (أو إلى الشمال منه قليلا)، ومدينتها زغر وفيها تقع مُؤْتة (قرب الكرك حاليا)، وهذه نفسها هي أرض مأب التوراتية. أما عمّان فاليعقوبي يسميها كورة الظاهر (ومدينتها عمّان)، وهذه الكورة أيضا تطابق أرض عمّان التوراتية. إلى الغرب من كورة الظاهر اليعقوبي يذكر كورة الغور ومدينتها ريحا. وإلى الشمال من هاتين الكورتين يذكر كورتي جرش وفحل التابعتين لجند الأردن (الذي عاصمته طبرية).

اليعقوبي بعد أن ذكر كورتي الظاهر والغور قال “وهاتان المدينتان أرض البلقاء”. إذن هو يقول أن البلقاء هي المنطقة الممتدة بين وادي الزرقاء شمالا ووادي الموجب جنوبا. هذا التعريف يختلف كثيرا عن تعريف ياقوت الحموي الذي يقول:

البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمان وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة وبجودة حنطتها يضرب المثل… وبالبلقاء: مدينة الشراة شراة الشام أرض معروفة وبها الكهف والرقيم، فيما زعم بعضهم.

ياقوت يقول أن البلقاء تمتد حتى وادى القرى في عمق الحجاز، وهو يؤكد قوله هذا حينما يصرح بأن الشراة تقع في البلقاء.

في ترجمة مآب ياقوت يقول:

مآب: بعد الهمزة المفتوحة ألف وباء موحدة بوزن معاب… وهي مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. قال أحمد بن محمد بن جابر: توجه أبو عبيدة بن الجراح في خلافة أبي بكر في سنة 13 بعد فتح بصرى بالشام إلى مآب من أرض البلقاء، وبها جمع العدو فافتتحها على مثل صلح بصرى…

إذن مفهوم ياقوت للبلقاء أوسع بكثير من مفهوم اليعقوبي الذي عاش قبل ياقوت بحوالي أربعة قرون، لأن ياقوت يقول أن مآب والشراة هي من البلقاء. أيضا أبو الفداء لديه نفس مفهوم ياقوت للبلقاء.

بالنسبة لأصل كلمة البلقاء فهو كما يقول ياقوت:

وأما اشتقاقها، فهي من البلق، وهي سواد وبياض مختلطان، ولذلك قيل: أبلق وبلقاء.

وأما الراوية التي ذكرها ياقوت وغيره والتي تقول أن البلقاء سميت نسبة إلى “بالق من بني عمان بن لوط” فهذه طبعا خرافة.

البلقاء بالتعريف الضيق هي ليست جزءا من الجزيرة العربية. منطقة شرق الأردن الممتدة من نهر اليرموك شمالا إلى وادي الحسا جنوبا كانت تعتبر عند اليونانيين جزءا من سورية، ونفس الأمر استمر في زمن الرومان والبيزنطيين.

أما جبل الشراة فهو حسب علمي ليس جزءا من منطقة “عبر الأردن” التوراتية وليس جزءا من فلسطين، إذن هو في الأصل من بلاد العرب، وهو في الحقيقة أساس المنطقة التي سماها اليونانيون والرومان باسم “عربية الصخرية”، والمصادر القديمة كلها تصرح بأن سكان هذا الجبل هم من العرب (النبط والإداميون وصفوا صراحة بأنهم عرب في المصادر القديمة). بعض الناس يقولون أن مفهوم العرب في العصور القديمة كان يعني البدو عموما، وبالتالي ليس كل من وصفوا بأنهم عرب هم عرب فعلا. هذا الكلام صحيح ولكنه لا يغير من الأمر شيئا لأن هذه المناطق كان يسكنها ناس يعرفون بالعرب سواء كان هؤلاء يتحدثون اللغة العربية أم لا. لو كنا سنعتمد اللغة كمعيار فهذا يعني أن اليمن أيضا لم تكن من جزيرة العرب لأن اليمن لم تتعرب لغويا إلا قبل الإسلام بفترة قصيرة.

عربة وتيه بني إسرائيل

عَرَبة هو اسم لواد كبير يمتد بين البحر الميت وخليج العقبة، وهو يعرف أيضا باسم “وادي الجيب” على ما أعتقد، وفي نهاية هذا الوادى يقع مرفأ العقبة الذي كان يعرف سابقا بأيلة، وهو مرفأ أساسي للنبط والإداميين من قبلهم. أيضا الصهاينة قاموا في خمسينات القرن العشرين ببناء مرفأ جديد قريب من العقبة سموه “إيلات”، وهذا المرفأ أقيم في موقع مرفأ أثري مذكور في التوراة هو عِصْيان جَبْر עֶצְיֹנ גָּבֶר (في الترجمة الإنكليزية للكتاب اليهودي: Etzion Geber).

إلى الغرب من وادي عربة تمتد صحراء النقب. النَقَب هي كلمة عبرية لم تكن معروفة لدى الكتاب العرب القدماء، وهي تعني “الجفاف”. صحراء النقب نفسها هي مفهوم حديث ظهر في القرن 19 بعد رسم الحدود الحالية بين مصر وفلسطين (بين بريطانيا والسلطنة العثمانية)، وقبل رسم هذه الحدود لم يكن هناك شيء اسمه صحراء النقب وكانت صحراء النقب الحالية جزءا من الصحراء الكبيرة المعروفة لدى الكتاب العرب القدماء باسم تِيه بني إسرائيل أو التِيه.

مسمى “تيه بني إسرائيل” مأخوذ من القرآن أو من أسفار اليهود، وما يلي تعريف التيه حسب ياقوت:

التيه: الهاء خالصة وهو الموضع الذي ضل فيه موسى بن عمران وقومه وهي أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة ((هاني: يقصد الشراة؟)) من أرض الشام… والغالب على أرض التيه الرمال وفيها مواضع صلبة وبها نخيل وعيون مفترشة قليلة يتصل حد من حدودها بالجفار وحد بجبل طور سينا وحد بأرض بيت المقدس وما اتصل به من فلسطين وحد ينتهي إلى مفازة في ظهر ريف مصر إلى حد القلزم…

إذن المقصود بالتيه هو صحراء كبيرة تشغل معظم شبه جزيرة سيناء. التيه حسب هذا التعريف يمتد من الشراة شرقا إلى “مفازة ريف مصر” غربا (مَفازة = صحراء)، ومن أرض بيت المقدس (أي جند فلسطين) والجِفار شمالا إلى أيلة وطُور سيناء جنوبا.

المقصود بالجفار عند الكتاب المسلمين هو الساحل الشمالي لشبه جزيرة سيناء الذي ينتقل الناس عبره من فلسطين إلى مصر. ما يلي تعريف الجفار حسب ياقوت:

الجفار: بالكسر وهو جمع جفر نحو فرخ وفراخ والجفر البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو، وقال أبو نصر بن حماد: الجفرة سعة في الأرض مستديرة والجمع جفار مثل برمة وبرام… والجفار أيضا أرض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر، أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي، متصلة برمال تيه بني إسرائيل وهي كلها رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشمال بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم، وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها رأيتها مرارا، ويزعمون أنها كانت كورة جليلة في أيام الفراعنة إلى المائة الرابعة من الهجرة فيها قرى ومزارع فأما الآن ففيها نخل كثير ورطب طيب جيد وهو ملك لقوم متفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه وأيام إدراكه فيجتنونه وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء، وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل وهي رفح والقس والزعقا والعريش والورادة وقطية في كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكين يشترى منها كل مايحتاج المسافر إليه.

إذن الجفار تبدأ من رفح (التي هي من فلسطين) وتنتهي عند الخشبي، وأنا لا أعلم مكان الخشبي بالضبط ولكنها تقع حاليا عند الحد الغربي لمحافظة شمال سيناء المصرية (يقول ياقوت الحموي في مادة “خُرّ”: وفي طريق ديار مصر في الرمل منزل يقال له الخر دون الأعراس وبعده أبو عروق ثم الخشبي ثم العباسية ثم بلبيس ثم القاهرة).

يقول الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب”:

والجفار رمال إلى حد الفَرما وما خلف الفرما إلى مصر للقبط.

يقصد ربما أن الفرما هي آخر مدينة يسكنها العرب وما بعدها يسكنه القبط. مدينة الفرما كانت في زمن ياقوت الحموي خَرِبة ومدفونة تحت الرمل ولذلك فهو لم يذكرها على طريق مصر كما فعل الهمداني (الذي عاش قبل ياقوت بحوالي ثلاثة قرون). الفرما هي Pelousion بالرومية وفي زمن الفتح الإسلامي كانت تسكنها قبيلة جذام، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن يوجد فيها قبط حيث أن ياقوت نقل عن الحسن بن محمد المهلبي ما يلي:

وأما الفرما فحصن على ضفة البحر لطيف لكنه فاسد الهواء وخمه لأنه من كل جهة حوله سباخ تتوحل فلا تكاد تنضب صيفا ولا شتاء، وليس بها زرع ولا ماء يشرب إلا ماء المطر فإنه يخزن في الجباب ويخزنون أيضا ماء النيل يحمل إليهم في المراكب من تنيس، وبظاهرها في الرمل ماء يقال له: العذيب ومياه غيره في آبار بعيدة الرشاء وملحة تنزل عليها القوافل والعساكر، وأهلها نحاف الأجسام متغيرو الألوان وهم من القبط وبعضهم من العرب من بني جرى وسائر جذام، وأكثر متاجرهم في النوى والشعير والعلف لكثرة اجتياز القوافل بهم، ولهم بظاهر مدينتهم نخل كثير له رطب فائق وتمر حسن يجهز إلى كل بلد.

هو يقول أن أهلها “من القبط وبعضهم من العرب من بني جرى وسائر جذام”، أي أن سكانها كانوا من القبط والعرب، وأما عبارة “نحاف الأجسام متغيروا الألوان” فهو يقصد بها على ما أعتقد التباين في البنية الجسمية ولون البشرة بين القبط والعرب.

مدينة الفرما هي حاليا بقايا أثرية تم الكشف عنها قرب الحدود بين محافظتي شمال سيناء وبور سعيد، وهذا يعني باختصار أن الحد الغربي لتيه بني إسرائيل هو تقريبا الحد الغربي لمحافظة شمال سيناء حاليا، وما بعد هذا الحد هو “ريف مصر” كما سماه الكتاب المسلمون.

الحد الغربي لتيه بني إسرائيل هو طبعا مجرد حد جغرافي وليس الحد السياسي بين مصر وفلسطين. الحد السياسي بين مصر وفلسطين في العصر الإسلامي الباكر كان هو نفسه الحد الروماني القديم، أي الخط الممتد بين العريش Rhinokorura والقُلْزُم Clysma.

خريطة تبين الحد الفاصل بين مقاطعتي مصر وعربية الصخرية الرومانيتين، وهذا الحد ظل هو نفسه حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع. الخريطة تبين أيضا الحد الفاصل بين فلسطين وعربية الصخرية


العريش كانت تابعة لمصر وكان سكانها عندما فتحها عمرو بن العاص من جذام، والحد الفاصل بين مصر وفلسطين كان تحديدا نقطة تقع قبل العريش يسميها الكتاب المسلمون باسم “الشجرة” أو “الشجرتين”. يقول اليعقوبي:

ومن خرج من فلسطين مغربا يريد مصر خرج من الرملة إلى مدينة يبنا ثم إلى مدينة عسقلان، وهي على ساحل البحر، ثم إلى مدينة غزة وهي على الساحل أيضا، ثم إلى رفح وهي آخر أعمال الشأم، ثم إلى موضع يقال له الشجرتين وهي أول حد مصر، ثم إلى العريش وهي أول مصالح مصر وأعمالها.

أما القلزم فهي ميناء مهم كان يقع بجوار مدينة السويس الحالية وكان يمثل النهاية الشمالية لبحر القلزم (البحر الأحمر)، وبجوار هذا الميناء كانت هناك قناة ملاحية هامة تربط البحر الأحمر بنهر النيل وهذه القناة ظلت مفتوحة وصالحة للملاحة حتى عهد أبو جعفر المنصور العباسي في القرن الثامن. بعد انسداد القناة خربت القلزم وظهرت بدلا منها بشكل تدريجي مدينة السويس الحالية.

طبعا في العصور المتأخرة بدأت الحدود تتغير. أحد الكتاب المسلمين المتأخرين اعتبر العريش من الشام، وهناك كاتب آخر اعتبر طور سيناء من مصر. في معاهدة لندن التي وقعت في عام 1840 اعتبرت سيناء بأكملها من “جنوب سورية”، ولكن بريطانيا أجبرت العثمانيين بعد ذلك على التخلي عنها لمصر (التي كانت تحت هيمنة بريطانيا) وذلك لكي يبقى العثمانيون بعيدين عن قناة السويس، وهذا هو أصل الحدود الحالية بين مصر وفلسطين (وهو أيضا أصل مفهوم “صحراء النقب” التي ظهرت بعد رسم الحدود الحالية).

إلى الجنوب من تيه بني إسرائيل تقع أيلة وطور سيناء. طور سيناء أو الطور هو منطقة المرتفعات التي تقع في جنوب شبه جزيرة سيناء، والتسمية طبعا هي من مصدر توراتي.


بعض المواضع التوراتية في تيه بني إسرائيل


تيه بني إسرائيل (بمعناه الكامل الذي يشمل صحراء النقب) هو ربما أكثر صحاري العالم التي نالت اهتمام الباحثين والدارسين التاريخيين، والسبب هو أن هذا التيه هو المنطقة التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس اليهودي على أنها المنطقة التي كان بنوا إسرائيل يعيشون فيها قبل أن يجتاحوا كنعان (فلسطين) من جهة الشرق في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. الكتاب اليهودي يذكر عموما أسماء الكثير من المواضع القديمة في منطقة الشرق الأوسط وخلال القرن العشرين تعرف الباحثون والمنقبون على العديد من هذه المواضع، ولكن المواضع التي يذكرها الكتاب اليهودي على أنها في تيه بني إسرائيل هي بالذات صعبة التحديد ورغم السعي الحثيث من الباحثين والمنقبين لإيجادها فإن معظمها ما يزال مجهولا وغير معروف ويقتصر تحديده على التخرص والتكهن.

أشهر المواضع التوراتية في التيه هو جبل سيناء (اسمه بالعبرية القديمة سِينَي סִינָי، أي سِينَى بالعربية، وفي الترجمة الإنكليزية للكتاب اليهودي: Sinai) ويسمى أيضا جبل حارِِِِِِِِِِِِِِب חֹרֵב (Horeb)، وجبل إلاهيم (أي جبل الله mount of God). هذا الجبل ورد ذكره في الكتاب اليهودي عشرات المرات وهو المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث الدينية المهمة خلال فترة وجود بني إسرائيل في التيه.

التوراة تقول أن جبل سيناء\حارب هو المكان الذي تحدث فيه موسى مع الله لأول مرة:


1.وكان موسى يرعى غنَمَ يَتْرا حَمِيهِ كاهنِ مَدْيَنَ، فساقَ الغنَمَ إلى ما وراءَ البَرِّيةِ حتَّى وصَل إلى جبَلِ اللهِ حارِب.
2.فتَراءى لَه مَلاكُ يهوه في َلهيبِ نارٍ مِنْ وسَطِ الشُجَيرةِ. ورأى موسى الشُجَيرةَ تتوقَّدُ بالنَّارِ وهيَ لا تحتَرِقُ.
3.فقال في نفسه: “أَمِيلُ وأنظرُ هذا اَلمشهدَ العظيمَ. ما بال الشُجَيرةِ لا تحترقُ؟”
4.ورَأى يهوه أنّهُ مالَ ليَنظُرَ، فناداهُ مِنْ وسَطِ الشُجَيرةِ: “مُوسى، مُوسى”. فقالَ: “نعم”.
5.قالَ: “لا تقتَرِبْ إلى هُنا. إخَلعْ حِذاءكَ مِنْ رِجَليكَ، لأنَّ المَوضِعَ اّلذي أنتَ واقِفٌ علَيهِ أرضٌ مَُقدَّسَةٌ”.
6.وقالَ: “أنا إلهُ آبائِكَ. إلهُ إبراهيمَ وإسحَقَ ويعقوبَ”. فستَرَ موسى وجهَهُ خَوفًا مِنْ أنْ يَنظُرَ إلى اللهِ.

وبعد هذه المقابلة الأولى بين موسى والله على جبل سيناء\حارب تحول هذا الجبل فيما بعد إلى مركز دائم للتواصل بين الله وبني إسرائيل عبر موسى، وحسب التوراة فإن الدين اليهودي نشأ بالكامل على هذا الجبل فهو المكان الذي أنزل الله فيه على موسى اللوحين الحجريين اللذين يحويان “الوصايا العشرة” وأمره بصنع صندوق (أَراك ark) يضعهما فيه، وأمره بصنع مائدة ومنارة ومذبح إلخ (كل مكونات المعبد اليهودي)، وأنزل عليه تفاصيل الشريعة وأمره بتنصيب أخيه هارون وبنيه ككهان، وفي النهاية أمره ببناء خيمة كبيرة يضع فيها “صندوق العهد” Ark of the Covenant (الذي يحوي اللوحين) وبقية الأمور التي صنعها كالمذبح وغيره، وبعد ذلك تحولت هذه الخيمة إلى جبل سيناء متنقل حيث أن الله صار يكلم موسى منها بدلا من الجبل وصارت هي المعبد اليهودي الذي تقدم إليه القرابين والذبائح ويشرف عليه الكهان، وظهرت فوق هذه الخيمة سحابة ربانية تقود بني إسرائيل إلى المكان الذي يجب أن يضعوا الخيمة فيه، وهذه السحابة ظلت تحرك بني إسرائيل في البادية من موضع إلى موضع حتى أوصلتهم في النهاية إلى أرض كنعان التي كان الله قد وعد بها بني إسرائيل عبر موسى استجابة للعهد القديم الذي قطعه مع جدهم إبراهيم.

موقع جبل سيناء المذكور في التوراة غير معروف للباحثين. في العصور القديمة كان أغلب الناس يعتقدون (بناء على مقولة للمؤرخ اليهودي يوسف الذي عاش في القرن الميلادي الأول) أن جبل سيناء هو أعلى نقطة في شبه جزيرة سيناء، أي الطور الذي يقع في جنوب شبه جزيرة سيناء والذي بنى عليه المسيحيون في القرن السادس ديرا باسم دير القديسة كاترين، ولكن كثيرا من الباحثين المعاصرين يرون أن جبل كاترين ليس هو جبل سيناء المقصود في التوراة ويرون أن الجبل المقصود يقع شمالا قرب صحراء النقب، ولكنهم اختلفوا في تحديد موقعه بالضبط وطرحوا فيه آراء عديدة متباينة هي أقرب للتخرصات. الشيء الوحيد الذي يتفق عليه معظمهم هو أن جبل سيناء التوراتي يقع في المنطقة الجنوبية الشرقية من تيه بني إسرائيل قرب خليج العقبة.

بعض المواقع التي اقترح الباحثون أنها جبل سيناء التوراتي. هناك أيضا اقتراحات أخرى ولكنني لم أضعها على الخريطة إما لأنني لا أعرف مكانها على الخريطة أو لأنها لا تظهر عليها. مثلا هناك باحثون اقترحوا جبالا في الحجاز على أنها جبل سيناء، وهناك حتى من قال بأن جبل سيناء التوراتي يقع في الجيزة في مصر. النقاط الحمراء تقع في المنطقة التي تعرف تقليديا باسم جبل سيناء أو طور سيناء (النقاط تمثل جبل كاترين وجبل موسى ورأس الصفصاف)


أكثر ما يلفت انتباه الباحثين المعاصرين هو وصف جبل سيناء في التوراة والذي يظهره على أنه بركان. ما يلي مقطع مأخوذ من السفر الثاني من التوراة (نفس السفر الذي أخذ منه المقطع السابق) وفيه قصة صعود موسى إلى جبل سيناء لكي يتلقى “الوصايا العشرة”:


1.وفي الشَّهرِ الثَّالثِ لخُروجِ بَني إِسرائيل منْ أرضِ مِصْرَ جاؤوا في أحدِ الأَيَّامِ إلى بَرِّيَةِ سيناءَ.
2.جاؤوا منْ رَفِيدِيمَ ونزَلوا هُناكَ في البَرِّيَةِ تجاهَ الجبَلِ.
3.وصعدَ موسى إلى الجبَلِ ُلملاقاةِ اللهِ. فناداهُ يهوه مِنَ الجبَلِ وقالَ لهُ: “قُلْ لبَيتِ يعقوبَ بَني إِسرائيلَ :
4.رأيتُم ما فعلْتُ بالمِصْريِّينَ وكيفَ حَمَلتُكم على أجنِحَةِ النُّسورِ وجِئتُ بِكُم إليَّ.
5.والآنَ إنْ سمِعْتُم كلاميَ وحَفِظتُم عَهْديَ، فإنَّكم تكونونَ شعبيَ الخاصَّ بَينَ جميعِ الشُّعوبِ.”

16.وحدَثَ في اليومِ الثَّالِثِ عِندَ الصَّباحِ أنْ كانَت رُعودٌ وبُروقٌ وسَحابٌ كثيفٌ على جبَلِ سيناءَ، وصوتُ بوقٍ شديدٌ جِدَّا، فارْتَعدَ جميعُ اّلذينَ في المُخيَّمِ.
17.فأخرَجَهُم موسى مِنَ المُخيَّمِ لِمُلاقاةِ اللهِ، فوَقفوا عندَ أسَفلِ الجبَلِ.
18.والجبَلُ يُلفُّهُ دُخانٌ، لأنَّ يهوه نَزل علَيهِ بالنَّارِ، فتصاعدَ دُخانُهُ كدُخانِ الأَتونِ واهتَزَّ الجبَلُ اهتِزَازًا شديدًا.
19.وكانَ صوتُ البوقِ يرتَفِعُ جِدًّا وموسى يتكلّمُ واللهُ يُجيبُهُ بقصفِ الرَّعْدِ.
20.ونَزلَ يهوه على رأسِ جبَلِ سيناءَ ونادى موسى إلى رأسِ الجبَلِ فصَعدَ.
21.فقالَ يهوه لموسى: “انزِل إلى الشَّعبِ وأنذِرْهُم أنْ لا يُجاوِزوا الحَدَّ المَرسومَ حَولَ الجبَلِ ليَنظروا إليَّ فيَهلِكَ مِنهُم كثيرونَ”.
22.وقُل للكهَنةِ الذينَ يتَقَدَّمونَ إليَّ أنْ يَتَطهَّروا لِئلاَّ أبطِشَ بِهِم”.

هذا الوصف لجبل سيناء يوحي لكثير من الباحثين بأنه يقع قرب الفالق الجيولوجي. هناك من قالوا بأنه يقع في جبال الشراة قرب مدينة البتراء، وهناك من قالوا بأنه يقع جنوبا في الحجاز قرب مدين. مثلا الجبل الحجازي التالي (المعروف باسم “حلا البدر”) هو من المواقع المفضلة عند عدد من الباحثين لأنه عبارة عن بركان قديم هائل (وهو يقع في قلب المنطقة التي كانت تسكنها قبيلة ثمود قديما)، ولكن مشكلة هذا الجبل في رأيي هي أنه بعيد نسبيا عن تيه بني إسرائيل. من الممكن أن جبل سيناء هو بركان آخر يقع إلى الشمال من هذا البركان. منطقة شمال الحجاز والشراة هي منطقة غنية بالبراكين القديمة وهذا ليس هو البركان الوحيد هناك على ما أعتقد.

“حلا البدر”


من يقرأ التوراة جيدا يجد ترابطا واضحا بين منطقتي سيناء ومدين. موسى زار جبل سيناء مرتين: المرة الأولى عندما كان في مدين هاربا من مصر، والمرة الثانية عندما عاد إلى الجبل مع بني إسرائيل. في المرة الأولى موسى وصل إلى جبل سيناء بالصدفة بينما كان يرعى الغنم في مدين، وفي المرة الثانية التوراة تقول أن كاهن مدين عندما سمع بوجود موسى في جبل سيناء جاء إليه ليزوره. هذه الأمور تدل على أن جبل سيناء قريب جدا من مدين وفي أطرافها، أي أنه في شمال الحجاز أو منطقة جنوب الشراة.

كلمة “حارب” العبرية تعني “حارّ”، وهذا دليل آخر على أن جبل سيناء هو بركان.

بعد أن أنهى بنوا إسرائيل صنع الخيمة المقدسة في جبل سيناء تحركت السحابة الربانية من فوق الخيمة وقادتهم شمالا نحو موضع قريب من كنعان هو الموضع المسمى قَدِس بَرْنِع קָדֵשׁ בַּרְנֵעַ (في الترجمة الإنكليزية: Kadeshbarnea). هذا الموضع هو من المواضع المهمة في التوراة وهو يقع كما تقول التوراة في بَرِّيَة صِن מִדְבַּר צִן (wilderness of Zin) التي يرى الباحثون أنها كانت القسم الشمالي الشرقي من تيه بني إسرائيل الذي يتصل بفلسطين (أو أرض بيت المقدس كما سماها ياقوت). أيضا التوراة تقول أن قدس (برنع) تقع في بَرِّيَة فَأرَن מִדְבַּר פָּארָן (wilderness of Paran)، والمقصود ببرية فأرن على ما يبدو هو القسم الجنوبي الشرقي من التيه، وبهذا فإن قدس برنع تكون واقعة بين برية صن شمالا وبرية فأرن جنوبا. كثير من الباحثين يرون أن قدس برنع هي حاليا عين القديرات في سيناء قرب حدود فلسطين.

قدس برنع هو المكان الذي توفيت فيه مريم شقيقة موسى، وهو أحد المواضع التي ضرب فيها موسى الحجر بالعصا فتفجر منه الماء، وهو أيضا الموضع الذي أرسل منه موسى الجواسيس الاثني عشر للتجسس على أرض كنعان:


1.وكلَّمَ يهوه موسى فقالَ:
2.”تُرسِلُ رِجالاً يتَجَسَّسونَ أرضَ كَنعانَ التي أعطَيتُها لبَني إِسرائيلَ. تُرسِلُهُم رَجُلا واحدا مِنْ كُُلِّ سِبْطٍ ويكونونَ كُُلُّهم رُؤساءَ أسباطِهِم.”
3.فأرسَلَهُم موسى مِنْ بَرِّيَةِ فَأْرَنَ، كما قالَ يهوه كلُّهم مِنْ رُؤساءِ أسباطِ بَني إِسرائيلَ.

17.وأرسَلَهُم موسى ليَتَجَسَّسوا أرضَ كَنعانَ وقالَ لهم: “تَطلَعونَ مِنْ هُناكَ مِنْ جَنوبي أرضِ كَنعانَ، وتصعَدونَ الجبَلَ
18.وتنظُرونَ إلى الأرضِ كيفَ هيَ، وإلى الشَّعبِ المُقيمِ بِها أشَديدٌ هوَ أم ضعيفٌ؟ أقليلٌ أم كثيرٌ؟
19.وكيفَ الأرضُ التي هوَ مُقيمٌ بِها، أجَيِّدةٌ هيَ أم رَديئةٌ؟ وما المُدُنُ، أخيامٌ أم حُصونٌ؟
20.وكيفَ الأرضُ، أمُخْصِبةٌ هيَ أم عقيمةٌ؟ أفيها شجَرٌ أم لا؟ وتَشجَّعوا وخُذوا مِنْ ثَمَرِها.” وكانَت في ذلِكَ الوقتِ أيّامُ بَواكيرِ العِنبِ.
21.فصَعدوا وتجَسَّسُوا الأرضَ مِنْ بَرِّيَةِ صِنَّ إلى رَحابَ عِندَ مدخلِ حَماةَ.

25.ورَجَعوا مِنْ تَجسُّسِ الأرضِ بَعدَ أربَعينَ يوما،
26.وساروا حتَّى جاؤوا إلى موسى وهارونَ وكُلِّ جماعةِ بَني إِسرائيلَ في بَرِّيَةِ فَأْرَنَ، في قَدِسَ، ورَدُّوا خبَرا علَيهِم وأرَوهُم ثمَرَ الأرضِ.

برية فأرن هي أيضا المكان الذي عاش فيه إسماعيل بن إبراهيم بعد أن طردت سارة زوجة إبراهيم هاجر المصرية أم إسماعيل، وطبعا هذا حسب السفر الأول من التوراة:


9.ورأت سارةُ ابنَ هاجرَ المِصْريَّةِ الّذي ولَدتْهُ لإبراهيمَ يلعبُ مع ابنِها إسحَقَ،
10.فقالت لإبراهيمَ: “أُطردْ هذِهِ الجاريةَ وابنَها فابنُ هذِهِ الجاريةِ لا يَرِثُ معَ ابني إسحَقَ”.
11.وساءَ إبراهيمَ هذا الكلامُ، لأنَّ إسماعيلَ كانَ أيضاً ابنَه.
12.فقالَ لَه اللهُ: “لا يَسوؤُكَ هذا الكلامُ على الصَّبيِّ وعلى جاريتِكَ. اسمعْ لكُلِّ ما تقولُهُ لكَ سارةُ، لأنَّ بإسحَقَ يكونُ لكَ نسلٌ،
13.وابنُ الجاريةِ أيضاً أجعلُهُ أُمَّةً لأنَّهُ مِنْ صُلبِكَ”.
14.فبكَّرَ إبراهيمُ في الغدِ وأخذَ خُبزاً وقِربةَ ماءٍ، فأعطاهُما لهاجرَ ووضَعَ الصَّبيَّ على كتِفِها وصَرَفَها، فمضَت تَهيمُ على وجهِها في بَرِّيَةِ بئرِ سَبْع.
15.ونفدَ الماءُ مِنَ القِربةِ، فألقت هاجرُ الصَّبيَّ تَحتَ إحدى الأشجارِ.
16.ومضَت فجلسَت قُبَالتَهُ على بُعْدِ رميَتَي قوسٍ وهيَ تقولُ في نفْسِها: “لا أُريدُ أنْ أرى الولدَ يموت”. وفيما هيَ جالسةٌ رفعت صوتَها بالبُكاءِ.
17.وسَمِعَ اللهُ صوتَ الصَّبيِّ، فنادى ملاكُ اللهِ هاجرَ مِنَ السَّماءِ وقالَ لها: “ما لكِ يا هاجرُ؟ لا تخافي. سَمِعَ اللهُ صوتَ الصَّبيِّ حَيثُ هوَ.
18.قُومي احملي الصَّبيَّ وخُذي بيدهِ، فسأجعَلُهُ أمَّةً عظيمةً”.
19.وفتحَ اللهُ بصيرتَها فرأت بئرَ ماءٍ، فمضَت إلى البئرِ وملأتِ القِربةَ ماءً وسقتِ الصَّبيَّ.
20.وكانَ اللهُ معَ الصَّبيِّ فكبُرَ، وأقامَ بالبَرِّيَةِ، وكان رامياً بالقوسِ.
21.وأقامَ بِبَرِّيَةِ فَأْرَنَ، وزوَّجَتْهُ أمُّهُ بامرأةٍ مِنْ أرضِ مِصْرَ.

أحيانا في التوراة يبدو وكأن برية فأرن لها معنى يغطي برية سيناء، وبالتالي يبدو أن برية فأرن كان لها معنيان: معنى خاص هو الذي ذكرته سابقا ومعنى عام يتجاوز المعنى الخاص ممتدا إلى الصحاري الجنوبية. لهذا السبب ربما نجد أن جبل سيناء سمي في بعض مقاطع التوراة باسم “جبل فأرن”.

مثلا موسى قال قبل وفاته لبني إسرائيل:

“أقبَلَ يهوه مِنْ سِينَاءَ، وأشرَقَ لهُم مِنْ جبَلِ شَعِيرَ، وتَجلَّى مِنْ جبَلِ فَأْرَنَ، وأَتَى من رُبَى قُدْس وعن يمينه نارٌ مشتعلةٌ لَهُم”.

وفي نشيد النبي حَبَقُوق:

اللهُ مِن تَيْمَنَ يَجِيءُ، وقَدَاسَةٌ مِن جَبَلِ فَأْرَنَ، غطَّى جَلالُهُ السَّماواتِ، وامْتَلأتِ الأرضُ مِنَ التَّهَلُّلِ لَه.

بعض دارسي الكتاب اليهودي يقولون أن هذه الأبيات فيها نوع من الترادف المألوف في الأدب العبري، بمعنى أن جبل فأرن وربى قدس في كلام موسى هما مرادف لجبل سيناء وكناية عنه، وتيمن في كلام حبقوق مرادف لفأرن، والمقصود بتيمن (Teman) هو منطقة تقع في جنوب بلاد الإداميين (أي القسم الجنوبي من جبل الشراة)، وكلمة تيمن مشتقة من الجذر يمن وهي مرادفة لكمة يَمَن العربية التي تعني الجنوب. أي أن حبقوق باستخدامه لكلمتي تيمن وفأرن يشير نحو الجنوب ويقول أن الله أتى من هناك، أي أنه يقصد جبل سيناء ولكنه لا يصرح باسمه كنوع من الأسلوب الأدبي.

إذن خلاصة ما سبق هي أن فأرن من الممكن أن تستخدم بمعنى مجازي يشمل المناطق التي تقع إلى الجنوب منها، ونفس الأمر ينطبق على تيمن التي قصد منها حبقوق منطقة أخرى مجاورة لها هي سيناء.

أما بالنسبة لجبل شَعِيْر שֵׂעִיר (Seir) فهو جبل يتكرر ذكره في التوراة وهو مثل جبل سيناء مجهول المكان ولكن التوراة تقول أنه يقع في برية فأرن في وسط الطريق بين جبل حارب وقدس برنع، إذن استخدام موسى له في الكلام المنقول في الأعلى هو مثل استخدامه لكلمة فأرن، أي أنه يكني به عن جبل سيناء.

إذا اعتمدنا نظرية أن جبل سيناء هو في الحجاز فهذا يوحي بإمكانية أن يكون جبل شعير واقعا في جبال الشراة، أو ربما يكون حتى هو نفسه جبال الشراة.

بعد أن رجع الجواسيس الاثنا عشر من كنعان قالوا لقومهم ما يلي:


27…. ذهَبْنا إلى الأرضِ الّتي أرسَلْتَنا إليها، فإذا هيَ بالحقيقةِ تَدُرُّ لَبَنا وعسَلا، وهذا ثمَرُها،
28.غَيرَ أنَّ الشَّعبَ السَّاكنينَ فيها أقوياءُ والمُدُنَ حصينةٌ عظيمةٌ جِدَّا، ورَأينا هُناكَ بَني عَنَقَ.
29. عَمَالِيقُ مُقيمونَ بأرضِ الجنوبِ، والحِتِّيونَ واليَبُوسِيُّونَ والأَمُورِيُّونَ مُقيمونَ بِالجبَلِ، والكنعانيُّونَ مُقيمونَ عِندَ البحرِ وعلى مَجرى الأُردُنِّ.
31…. لا نَقدِرُ أنْ نصعَدَ إلى هُناكَ لأنَّ القَومَ أقوى مِنَّا.
32…. الأرضُ الّتي مَرَرْنا فيها لِنَتَجَسَّسَها هيَ أرضٌ تأكُلُ أهلَها، وجميعُ الشَّعبِ الّذينَ رَأيناهُم فيها أُناسٌ طِوالُ القاماتِ.
33. وشاهَدْنا هُناكَ مِنَ الجَبابرةِ جَبابرةَ بَني عَنَقَ، فَصِرْنا في نظَرِنا صِغارا كالجَرادِ، وكذلِكَ في نظَرِهِم.

لهذا السبب أحجم بنوا إسرائيل عن دخول كنعان من جهة الجنوب، فغضب الله عليهم وعندما ندموا وحاولوا دخولها هزمهم أموريوا الجبل فعادوا أدراجهم إلى قدس. بعد ذلك حاولوا التوجه شرقا عبر أرض إدام ولكنهم هزموا أيضا على يد الإداميين فعادوا إلى جبل هار (الذي يقع “في طرف أرض إدام”) حيث مات هارون ودفن، ثم ساروا جنوبا “على طريق البحر الأحمر ليدوروا من حول أرض إدام”، أي أنهم توجهوا جنوبا لكي يدوروا من حول جبل الشراة باتجاه شرق الأردن.

السفر الرابع من التوراة يصف موضوع الدوران كما يلي:

ثُمَّ رحَلوا مِنْ جبَلِ هار على طريقِ البحرِ الأحمرِ ليَدوروا مِنْ حَولِ أرضِ إِدَامَ

أما السفر الخامس فيصف نفس الموضوع بالشكل التالي:


1. ثُمَّ تحوَّلْنا ورحَلْنا في البَرًيَةِ على طريقِ البحرِ الأحمرِ، كما أمرَني يهوه، ودُرْنا حولَ جبَلِ شَعِيرَ أيَّاماً كثيرةً.
2. وقالَ ليَ يهوه:
3.كُُفُّوا عنِ الدَّورانِ حولَ هذا الجبَلِ وتحوَّلوا نحوَ الشَّمالِ.
4.وقُلْ للشَّعبِ إنكُم ستَعبُرونَ حُدودَ أرضِ أنسِبائِكُم بَني عِشَو المُقيمينَ في شَعِيرَ، فكونوا على حذَرٍ لأنَّهُم سيخافونَ مِنكُم.
5.لا تُواجِهوهُم لأنِّي لن أُعطيَكُم مِنْ أرضِهِم شيئاً، ولو مَوطِئَ قدَمٍ، لأنَّ جبَلَ شَعِيرَ وهَبْتُهُ لعِشَو مُلْكاً.

من المقارنة يظهر أن أرض إدام هي نفسها جبل شعير، وهذا يؤكد الفرضية التي تقول أن جبل سيناء يقع إلى الجنوب من جبل الشراة. بالنسبة لبني عشو (المعروف بعيسو) أنسباء بني إسرائيل فهم نفسهم الإداميون حسب ما تقوله التوراة.

إذن على ما يبدو لي فإن جبل شعير هو جبل الشراة أو جزء منه وجبل هار هو جبل يقع بالقرب منه في جهة الغرب.

هناك أيضا في التوراة منطقة اسمها برية سِين מִדְבַּר סִין (wilderness of Sin)، وبعض الباحثين يزعمون أنها برية صن نفسها. بنوا إسرائيل مروا عبر برية سين قبل أن يصلوا إلى برية سيناء وبعد أن مروا على “البحر الأحمر”، وفيها أكلوا المن والسلوى بعد أن شكوا الجوع إلى موسى:


1.ورحلَ جميعُ بَني إِسرائيلَ مِنْ أَيْلِمَ إلى بَرِّيَة سِينَ التي بينَ أَيْلِمَ وسيناءَ، في اليومِ الخامسَ عشَرَ مِنَ الشَّهرِ الثَّاني لخروجِهِم مِنْ أرضِ مِصْرَ.
2.فألَقوا اللَّومَ على موسى وهارون في البرِّيَّةِ.
3.وقالوا لهما: “ليتَنا مِتْنا بيدِ يهوه في أرضِ مِصْرَ. فهناكَ كنَّا نجلِسُ عِندَ قُدورِ اللَّحمِ ونأكلُ مِنَ الطَّعامِ حتّى نشبَعَ، فلماذا أخرجتُمانا إلى هذِهِ البرِّيَةِ لِتُميتا هذا الجمْعَ كلَّهُ بالجُّوعِ؟”

ومن سفر آخر:


4.وتَأوَّهَ الأوباشُ الذينَ بينَ بَني إِسرائيلَ شَهوةً إلى اللَّحمِ. فجاراهُمُ الكثيرونَ مِنْ بَني إِسرائيلَ وبكَوا وقالوا: “مَنْ يُطعِمُنا لحَمًا؟
5.نذكُرُ السَّمَكَ الّذي كُنَّا نأكُلُه في مِصْرَ مَجَّانا، والقِثَّاءَ والبطِّيخَ والكُرَّاثَ والبَصَلَ والثُّومَ.
6.والآنَ فنُفوسُنا يَبِسَت. لا شيءَ أمامَ عُيونِنا غير المَنِّ”.
7.وكانَ المَنُّ كَبِزْرِ الكُزبرَةِ، ولونُهُ أصفرُ مائِلا إلى البياضِ كلَونِ المُقْلِ.
8.وكانَ الشَّعبُ يَطوفونَ فيَلتَقطونَهُ ويَطحَنونَهُ بالرَّحَى، أو يَدُقُّونَهُ في الهاوَنِ، ويَطبُخونَهُ في القُدورِ ويصنَعونَهُ أقراصا رَقيقةً. وكانَ طَعمُهُ كطَعمِ قَطائِفَ بِزيتٍ،

9.ويَنزِلُ معَ نُزولِ النَّدَى على المُخَيٍّمِ ليلا.

31.وهَبَّت ريحٌ مِنْ عِندِ يهوه فساقَت طَيرَ السَّلوى مِنَ البحرِ وألقَتْهُ على المُخَيٍّمِ، على مَسيرةِ يومٍ مِنْ هُنا ويومٍ مِنْ هُناكَ حَولَ المُخَيٍّمِ، على ارتِفاعِ ذِراعَينِ عَنْ وجهِ الأرضِ.
32.فقامَ الشَّعبُ يجمَعُ السَّلوى طُولَ النَّهارِ واللَّيلِ والغَدِ، فجَمَعَ أقَلُّهم مئَتَي
كَيلَةٍ، فسَطَحوها حَولَ المُخَيٍّمِ لِتَجِفَّ.
33. وبينَما اللَّحمُ بَعدُ بَينَ أسنانِهِم قبلَ أنْ يَمضَغوهُ، اشْتَدَّ غضَبُ يهوه على الشَّعبِ فضَرَبَهم ضَربَةً عظيمةً جِدًّا.

أنا لم أقرأ ما يكفي عن برية سين ولكن من نظرة سريعة يتبين لي أنها لا يمكن أن تكون برية صن نفسها لأن سياق التوراة يدل على أنها تقع قرب سيناء ومدين وهي مجاورة للبحر كما يبدو من النص الذي يتحدث عن هبوب السلوى من البحر، وبالتالي يبدو لي أنها تقع قرب خليج العقبة، ويؤكد هذا الأمر التشابه بين اسمها وبين اسم سيناء (الذي هو في العبرية القديمة مكون من كلمة سين مضافا إليها علامة نسبة ـَيْ، أي سِيْنَيْ. وطبعا “سين” هو اسم إله القمر المعروف قديما عند الساميين).

عبادة القمر هي أمر معروف عند الساميين القدماء، والساميون البدو بالذات (والساميون الجنوبيون عموما) كانوا يعتبرون القمر أعظم آلهتهم. القمر كان أعظم آلهة اليمن القديم، ونفس الأمر ينطبق على منطقة مكة أيضا لأن إله مكة الأعظم قبل الإسلام كان هُبَل الذي هو القمر، وكعبة مكة كانت في الأساس معبدا لهبل قبل أن يتم ربطها بإبراهيم وابنه إسماعيل. بناء على كل هذا لا يستغرب أن يكون جبل سيناء وبرية سين هي أماكن تقع في شمال الحجاز مثلا أو بالقرب منه.

أنا رأيت أن الصهاينة يطلقون حاليا مسمى وادي صن Nahal Zin على واد يقع في شمال شرق صحراء النقب ويصب في وادي عربة، ويطلقون مسمى وادي فأرن Nahal Paran على واد مواز للواد الأول يقع إلى الجنوب منه ويصب أيضا في وادي عربة. لا أدري إن كانت هذه المسميات هي من اختراعهم ولكنني أظن أنها كذلك لأن هذا هو ديدنهم.

كل المواضع التوراتية التي ذكرت حتى الآن هي مواضع تقع في القسم الشرقي من التيه (باستثناء مدين التي تقع في الحجاز، وربما سيناء أيضا) والقسم الشرقي من التيه هو القسم الأهم بالنسبة لتاريخ بني إسرائيل لأنه القسم الذي أمضوا فيه معظم فترة التيه والقسم الذي وقعت فيه معظم الأحداث المهمة. أما القسم الغربي فهو الذي تطلق عليه التوراة مسمى بَرِّيَة سُور מִדְבַּר שׁוּר (wilderness of Shur)، وهو القسم هو الذي عبره بنوا إسرائيل بعد خروجهم من مصر وعبورهم للبحر المنشق كما تقول التوراة. بعض الباحثين يرون أن المقصود بسور هو خط دفاعي أقامته مصر قديما على حدود التيه الغربية لوقف تغلغل البدو.

برية سور هي المكان الذي فرت إليه هاجر جارية إبراهيم المصرية بعد أن اضطهدتها سارة زوجة إبراهيم بسبب حملها بإسماعيل، وذلك حسب ما ورد في السفر الأول من التوراة.

هذا السفر أيضا استخدم مسمى برية سور عند حديثه عن مكان سكن بني إسماعيل:

وَسَكنُوا (شعب إسماعيل) مِن حَوِيلة إلى سُوْر، مُقابِلَ مِصْرَ باتجاهِ أَسُّوْر

حويلة هي مكان غير معروف يقول البعض أنه اليمن أو شمال اليمن أو الحجاز، وسور هي غرب التيه، وأسور هي بلاد آشور (الجزيرة)، والواضح من العبارة هو أن مكان سكن بني إسماعيل كان يمتد من صحراء التيه الغربية المحاذية لمصر باتجاه الشرق (باتجاه أَسُّور)، وهذا يعني ربما أنهم كانوا يسكنون التيه والصحراء السورية بالإضافة ربما إلى الحجاز ونجد وبقية مناطق الجزيرة العربية الممتدة من اليمن إلى سور.

ما سبق هو أهم المناطق التي ذكرتها التوراة في تيه بني إسرائيل، وهناك طبعا أسماء أخرى عديدة وردت في التوراة يعتقد أنها تقع في التيه ولكن هذه الأسماء بمعظمها مجهولة ومن غير الممكن تحديدها.


الطرق البرية القديمة في الجزيرة العربية وموقع دومة الجندل


إذن عربية الصخرية كانت تشمل جبل الشراة وتيه بني إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك عربية الصخرية كانت تشمل مناطق من بادية الشام تمتد شرقا باتجاه وادي السرحان ودُومة الجَنْدَل. دومة الجندل هي واحة تقع على الطرف الشمالي لصحراء النفود وهي بلدة ذات شهرة في النصوص الآشورية والبابلية القديمة، وكانت لها أيضا شهرة في الكتابات الإسلامية الباكرة. سبب أهميتها هو أنها تقع في نقطة تقاطع الطرق التجارية القديمة التي كانت تعبر شمال الجزيرة العربية. إلى الشمال منها يقع وادي السرحان الذي يقود إلى بصرى الشام ودمشق، وإلى الشرق منها يمتد الطريق المؤدي إلى الحيرة في العراق، وإلى الجنوب طريق صحراوي إلى جبلي طيء (حائل) ونجد، وإلى الغرب طريق إلى تبوك والحجاز. هذا الموقع هو الذي أكسب هذه الواحة أهمية في العصور القديمة. اسمها أصلا هو دُومة بضم الدال وبدون كلمة الجندل (نفس اسم دومة التي تقع قرب دمشق)، ولكن في العصور المتأخرة صار اسمها ينطق بفتح الدال وأضيفت لها كلمة الجندل (تمييزا لها ربما عن دومة أخرى كانت في العراق).

إذن النبط بسيطرتهم على دومة ووادي السرحان حققوا مكسبا تجاريا هاما، وهم أيضا سيطروا على بصرى الشام وجعلوها ربما عاصمتهم الثانية إلى جانب بطرا، وكانوا يسيطرون على تيه سيناء الذي يقود من الحجاز إلى غزة ومن مصر إلى الشرق والشمال. بهذا الامتداد الجغرافي الهام كان النبط يتحكمون بمعظم التجارة البرية المارة عبر الجزيرة العربية، وهذا ما أكسبهم ثروة كبيرة وجعل شهرتهم تصل إلى أماكن بعيدة.

النبط كانوا يسيطرون أيضا على شمال الحجاز، وتحديدا هم كانوا يسيطرون على المنطقة المسماة بحِسمى (وهي نفسها منطقة مدين القديمة على ما يبدو) وعلى البلدات الواقعة شمال وادي القرى كتَبوك وتَيْماء والحِجْر ودَدَن.

تمدد النبط داخل الحجاز وفي الصحاري الشمالية خلق بلبلة في المفاهيم لدى العرب قديما، وهذه البلبلة نراها واضحة في كتابات الجغرافيين المسلمين الذين تخبطوا في تحديد الحد الفاصل بين الحجاز والشام.

ياقوت الحموي يحدد الشام كما يلي:

وأما حدها فمن الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية؛ وأما عرضها فمن جبلي طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم وما بشأمة ذلك من البلاد… وطولها من الفرات إلى العريش نحو شهر وعرضها نحو عشرين يوما.

هو يقول أن الشام تمتد من جبلي طيء (أي من حائل في شمال نجد) إلى بحر الروم، وهذا يعني أنه يعتبر عربية الصخرية بكاملها من بلاد الشام، بما في ذلك مدن شمال الحجاز كتبوك وتيماء.

تأكيدا لهذا المفهوم نجد القول التالي المنسوب إلى أحمد بن يحيى بن جابر تحت مادة تبوك:

توجه النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة إلى تبوك من أرض الشام وهي آخر غزواته لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم وعاملة ولخم وجذام فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدا

وفي مادة تيماء نجد التالي:

تيماء: بالفتح والمد. بُلَيد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق

إذن ياقوت الحموي يعتبر أن الشام تنتهي عند حدود وادي القرى وأن وادي القرى هو أول الحجاز. هذا المفهوم ليس خاصا بياقوت فقط بل هو موجود عند آخرين غيره، كالقزويني مثلا الذي يقول:

الشام هي من الفرات إلى العريش طولا، ومن جبلي طيء إلى بحر الروم عرضا

في المقابل هناك آخرون لديهم مفهوم مخالف، كالإصطخري الذي يقول ما يلي:

وأما الشام فإن غربيها بحر الروم، وشرقيها البادية من أيلة إلى الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم، وشماليها بلاد الروم، وجنوبيها حد مصر وتيه بني إسرائيل، وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، ومما يلي الروم الثغور، وهي ملطية والحدث ومرعش والهارونية والكنيسة وعين زربة والمصيصة وأذنة وطرسوس والذي يلي الشرقي والغربي مدن قد ذكرها في تصوير الشام، ” وفي إعادتها تطويل “. قد جمعت الثغور إلى الشام، وبعض الثغور تعرف بثغور الشام، وبعضها تعرف بثغور الجزيرة، وكلاهما من الشام، وذلك أن كل ما وراء الفرات من الشام، وإنما سمي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة، لأن أهل الجزيرة بها يرابطون وبها يغزون، لا لأنها من الجزيرة.

الإصطخري يرى أن الحد الجنوبي للشام يبدأ من أيلة ويسير بمحاذاة تيه بني إسرائيل إلى الجفار. إذن هو يخرج حسمى وتبوك وتيه بني إسرائيل من الشام.

هناك مفهوم مشابه لمفهوم الإصطخري في معجم البلدان تحت مادة سرغ:

سرغ: بفتح أوله وسكون ثانيه ثم غين معجمة سروغ الكرم قضبانه الرطبة الواحدة سرع بالعين والغين لغة فيه. وهو أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام وهناك لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمراء الأجناد وبينها وبين المدينة ثلاث عثرة مرحلة. وقال مالك بن أنس: هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز الأول وهناك لقي عمر بن الخطاب من أخبره بطاعون الشام فرجع إلى المدينة

هذا الكلام الذي أورده ياقوت في كتابه ينسف كلامه السابق عن حدود الشام، مما يدل على أنه نقل هذا الكلام من أحد المصادر بدون أن يفكر فيه، أو ربما هو لا يعلم أين تقع سرغ. سرغ حاليا تسمى المُدَوَّرة وهي تقع في أقصى جنوب الأردن قرب الحدود السعودية على طريق تبوك.

بالإضافة إلى المفهومين السابقين لحدود الشام نجد مفهوما ثالثا أورده ياقوت نقلا عن إبراهيم الحربي تحت مادة الحجاز:

وعن إبراهيم الحربي أن تبوك وفلسطين من الحجاز

إذن يمكننا أن نقول أن حدود الشام عند المسلمين تتراوح ما بين أن تكون ممتدة في عمق الجزيرة العربية إلى حدود جبل شمر وما بين أن تكون منحسرة إلى ما قبل فلسطين. هذه هي البلبلة التي قصدتها.

قرأت لكاتب يهودي معاصر نظرية يحاول فيها أن يشرح سبب هذه البلبلة. هو يقول أن سبب اعتبار المسلمين لتيماء من الشام هو أن عمر بن الخطاب عندما أخرج اليهود من الجزيرة العربية لم يخرج يهود تيماء، ففسر المسلمون هذا على أن تيماء من الشام وليست من الجزيرة العربية. طبعا أنا أستبعد صحة هذا الكلام ولذلك لسبب بسيط هو أن غالبية الآراء القديمة والمعاصرة تقول أن عمر بن الخطاب أخرج اليهود من تيماء ولم يبقهم فيها، وياقوت الحموي نفسه عندما تحدث عن تيماء نقل هذا الرأي الذي يقول بأن عمر أخرج اليهود منها. وبالتالي الربط بين حدود الشام وقصة يهود تيماء هو في رأيي نظرية غير صحيحة.

سبب البلبلة حول حدود الشام يعود ببساطة إلى تاريخ منطقة عربية الصخرية. هذه المنطقة تغيرت حدودها كثيرا عبر التاريخ وكذلك تغير تواجد الرومان فيها ومدى سيطرتهم عليها، ولهذا السبب نشأت البلبلة عند العرب حول هويتها وما إذا كانت من الشام أم الحجاز.

أنا قلت سابقا أن جبل الشراة في التاريخ القديم (مثلا في التوراة) لم يكن يعتبر من منطقة عبر الأردن، وأيضا أنا بينت رأيي في أن هذا الجبل هو ربما نفسه جبل شعير التوراتي، أي أن هذا الجبل هو باختصار جزء من الجزيرة العربية طالما أنه ليس من شرق الأردن ولا من فلسطين.

السؤال هو هل جبل الشراة جزء من الحجاز أم من بادية الشام؟ طبعا ياقوت الحموي يعتبر أنه من الشام:

والشراة أيضا صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان.

وياقوت يعتبر أيضا أن حسمى من بادية الشام، وهذا أمر مفهوم طالما أن الشام عند ياقوت تصل إلى حائل. ولكن أغلب الكتاب الغربيين حاليا يعتبرون أن جبال حسمى هي امتداد جيولوجي لجبال سراة الحجاز ولهذا السبب حسمى عندهم تعتبر امتدادا للحجاز وجزءا منه.

الحدود الحالية بين الأردن والسعودية مبنية على هذا الفهم. حاليا حسمى تشكل أقصى شمال الحجاز في السعودية والشراة والعقبة تشكل أقصى جنوب الأردن.

جبل الشراة هو في رأيي ليس من الحجاز وإما من بادية الشام أو من تيه بني إسرائيل. الحد الشمالي للحجاز في رأيي هو تقريبا وادي رَمّ الذي يفصل جبال الشراة عن جبال حسمى.

بالنسبة لتيه بني إسرائيل فهو حاليا لا يصنف من ضمن الجزيرة العربية رغم أنه تاريخيا جزء منها. وصف سكان تيه سيناء بالعرب هو أمر قديم يعود إلى زمن الآشوريين والبابليين. أيضا السفر الأول التوراتي يقول أن إخوة يوسف باعوه لتجار مدينيين أو إسماعليين راحلين إلى مصر، والمدينيون والإسماعيليون هي مرادفات للعرب. هيرودوت قال بصراحة أن العرب كانوا يسكنون شبه جزيرة سيناء في زمانه، وعلى الأغلب أن كل كلام هيرودوت عن العرب كان يقصد به عرب شبه جزيرة سيناء هؤلاء، ومن وصفه لهم يتبين أنهم كانوا عربا كالعرب المعروفين الآن وليسوا آراميين أو عبرانيين مثلا. هيرودوت أطلق مسمى “عربية” على شبه جزيرة سيناء وصحراء شرق مصر، ومن بعده ظهر مسمى عربية الصخرية عند بطليموس وغيره والذي كان يشمل صحراء سيناء.

في الكتاب المقدس المسيحي (“العهد الجديد”) هناك نص لرسالة أرسلها القديس بولس إلى سكان مدينة غلاطية قي آسيا الصغرى، وفي هذه الرسالة يذكر بولس جبل سيناء ويصفه بعبارة “جبل سيناء في العربية” mount Sinai in Arabia. بولس كتب هذه الرسالة في القرن الأول الميلادي وعلى الأغلب أنه قصد بجبل سيناء الطور المعروف في جنوب شبه جزيرة سيناء.

اسم وادي عَرَبة هو ربما مأخوذ من كلمة عَرَبة עֲרָבָה العبرية أو الكنعانية، وهذه الكلمة تعني الصحراء أو البرية وهي مشتقة من الجذر عرب الذي هو نفسه الجذر الذي اشتق منه اسم العرب، وياقوت الحموي كان يدرك هذا الأمر ولذلك قال في بداية ترجمته لعربة:

عربة: بالتحريك. وهي في الأصل اسم لبلاد العرب.

إذن وادي عربة وتيه بني إسرائيل هي مناطق مرتبطة بالعرب منذ القدم. أما البلقاء والحوران وفلسطين فهي مناطق وصفها اليونانيون منذ القدم بأنها من سورية. هيرودوت مثلا قال حرفيا أن جنوب غزة يسكنه العرب وشمالها يسكنه السوريون. كلمة “السوريين” عند اليونانيين القدماء لم تكن تعني شعبا واحدا وإنما كانت مصطلحا عاما يطلقونه على كل سكان سورية الكبرى، وهم كانوا يدركون أن هذه المنطقة لا يسكنها شعب واحد وخاصة المتأخرين منهم كإسطرابون مثلا الذي ذكر أن سكان سورية ليسوا شعبا واحدا.

الرومان سيطروا على مملكة النبط في عام 62 قبل الميلاد، وفي عام 106 ميلادي ألغى ترايان هذه المملكة وحولها إلى مقاطعة رومانية باسم عربية الصخرية، وهذه المقاطعة (كغيرها من المقاطعات التي تقع في منطقة سورية الكبرى) كانت تابعة إداريا لحاكم سورية العام المقيم في أنطاكية.

الرومان اهتموا بالمقاطعة العربية وكان في نيتهم المحافظة عليها، ولهذا السبب بدؤوا فور إنشائها بشق طريق كبير يمتد من بصرى إلى العقبة، وهذا الطريق عرف باسم “الطريق التراياني الجديد” Via Traiana Nova (تمييزا له عن الطريق التراياني القديم الموجود في إيطاليا). الرومان كان من عادتهم فور استيلائهم على منطقة شق طريق سريع يوصل إليها لتسهيل نقل القوات إليها بسرعة عند الحاجة.

المقاطعة العربية في بدايتها كانت تضم فقط صلخد وبصرى من حوران (وبصرى كانت العاصمة)، ولكن الرومان وسعوها تدريجيا حتى صارت في نهاية القرن الثاني (في عهد Septimius Severus) تضم جبل العرب (Auranitis) واللَجاة (Trachonitis) (والمقصود باللجاة الهضبة البركانية الممتدة بين جبل العرب وريف دمشق). وفي نهاية القرن الرابع غير ديوقلطيان Diocletianus التقسيم كليا حيث أنه جعل حوران مع معظم شرق الأردن مقاطعة باسم عربية (Provincia Arabia)، أما المناطق الممتدة جنوب وادي الموجب وحتى حدود مصر (التي وصفتها سابقا) فجعلها مقاطعة جديدة باسم فلسطين الثالثة Palaestina Tertia أو فلسطين الصحيحة Palaestina Salutaris. وهذه التقسيمات ظلت قائمة حتى الفتح الإسلامي وهي تمثل أساس التقسيم الإسلامي إلى أجناد (جند فلسطين هو فلسطين الأولى وجند الأردن هو فلسطين الثانية، أما عربية وفلسطين الثالثة فكلتاهما ضمتا إلى جند دمشق باستثناء تيه سيناء ربما).

بالنسبة لمناطق شمال الحجاز كتبوك والحجر فهذه المناطق كان الباحثون سابقا يعتبرون أن وجود الرومان فيها كان اسميا، وهم كانوا يستندون في هذا الاعتقاد إلى أن هذه المناطق كانت تقع ضمن ما سماه الرومان باسم “الحد العربي” Limes Arabicus، وكلمة “الحد” limes تعني عند الرومان محيطا دفاعيا. كثير من الباحثين كانوا يرون أن الرومان كانوا يستعينون بقبائل عربية لحماية الحد العربي ولم يكن لهم تواجد حقيقي في تلك المنطقة، ومما دعم اعتقادهم هذا المعطيات التاريخية التي تقول بأن الرومان بدوؤا منذ القرن الرابع على الأقل يعتمدون في حماية حدود “الشرق الروماني” Oriens Romanus على أحلاف foederati من القبائل العربية كقبيلة تنوخ (القرن الرابع) وبني صالح (القرن الخامس) والغساسنة (القرن السادس).

ولكن التنقيبات الأثرية التي جرت في أواخر القرن العشرين في شمال الحجاز وبادية الشام أظهرت صورة مغايرة، حيث أن التنقيبات أظهرت أن الرومان كان لديهم خط دفاعي حقيقي يمتد من شمال شرق وادي السرحان ويمتد حتى مدينة الحجر الأثرية، وهذا الخط كان مكونا من حصون عسكرية castra (من هذه الكلمة جاءت كلمة “قصر” العربية) تضم جنودا رومانا نظاميين، وعثر في مدينتي تبوك والحجر على بقايا لحاميات عسكرية رومانية نظامية، وفي مدينة الحجر عثر على نقوش لاتينية تؤكد تواجد الرومان في هذه المنطقة التي تقع على حدود وادي القرى من جهة الشمال. وعثر حديثا قرب مدينة العقبة على بقايا لمعسكر روماني كان يضم فيلقا رومانيا كاملا.

ليس هذا فقط بل إن المستشرقين والباحثين توصلوا من خلال قراءة النقوش التي عثر عليها في مدينة الحجر إلى مفاجآت، ومن هذه المفاجآت أن سكان الحجر من العرب كانوا يعتبرون أنفسهم يعيشون في الدولة الرومانية.


“نقش رقوش”. الكتابة العمودية على اليمين هي بالخط “الثمودي” وتقول “ذن رقش بنت عبد منت” (هذه رقوش بنت عبد مناة)


من النقوش الشهيرة والمهمة التي عثر عليها في الحجر “نقش رقوش” الذي يعود للقرن الثالث الميلادي، ومايلي هو نصه بالكتابة النبطية:


تا قبرو صنعه كعبو بر
حرتت كرقوش برت
عبد منوتو امه وهي
هلكت في الحجرو
سنت مئه وستين
وترن بيرح تموز ولعن
مري علما من يشنا القبر
دا ومن يفتحه حشي[و]
ولده ولعن من يقبر ويعلي منه

هذا النص ينتمي لصنف الكتابات النبطية المتأخرة التي يسميها المستشرق Knauf باسم Arabo-Aramaic، بمعنى أنها خليط من العربية والآرامية. الكلمات باللون الأزرق هي آرامية والكلمات الباقية هي إما عربية أو مشتركة بين العربية والآرامية.

ما يلي هو ترجمة النص إلى اللغة العربية الحالية، وبالنسبة للجزء الملون بالأحمر فترجمته هي تكهن من عندي لأنني وجدت أن المصادر غير متفقة على ترجمته (وحتى قراءته غير أكيدة لأن الكتابة النبطية غير منقطة وبالتالي الكلمة التي قرأها المستشرقون “حشي” ربما تكون “خسي” مثلا):


هذا قبر صنعه كعب بن
حارثة لرقوش بنت
عبد مناة أمه وهي
هلكت في الحجر
سنة مئة وستين
واثنين بشهر تموز والعن
سيد العالم من يعتدي على القبر
هذا ومن يفتحه ؟
ولده والعن من يقبر فوقه

طبعا مثل هذا النص هو أمر معتاد لدى عرب الشمال في تلك الأزمنة الذين كان معظمهم يتقن الآرامية ويكتب بها، ولكن الملفت فيه هو أن كاتبه يعتبر سنة إنشاء إقليم عربية الصخرية الروماني (سنة 106) بداية للتقويم، ولهذا السبب هو كتب “سنة مئة وستين واثنين” التي تعادل سنة 267 بالتقويم الميلادي. هذا الأمر يدل على أن كاتب النص كان يعتبر نفسه مقيما في الدولة الرومانية وليس مجرد حليف (foederatus) للرومان.

حاليا الباحثون يرون أن إقليم العربية كان مستقرا جدا تحت حكم الرومان ولم يكن له علاقة بالصورة التقليدية التي كانت تصوره على أنه منطقة صراع دائم مع قبائل البدو. هناك مستشرقون نبهوا إلى نقطة لافتة وهي أنه خلال فترة الحرب الأهلية الرومانية في نهاية القرن الثاني الميلادي كان موقف مقاطعة العربية منحازا إلى الغرب (إلى Septimius Severus المتمركز في روما) ضد الشرق (المتمثل في Pescennius Niger المتمركز في أنطاكية عاصمة سورية). في تلك الفترة كل المقاطعات الشرقية بايعت Niger ما عدا مقاطعة العربية التي ظلت موالية لـ Severus من البداية إلى النهاية، ولهذا السبب فإن Severus بعد أن احتل سورية في عام 194 نكل بها وفصل جبل العرب واللجاة عن سورية وضمهما إلى العربية ونقل على ما يبدو مقر الفيلق الروماني المتمركز في القدس إلى العربية.

التواجد الروماني ثم البيزنطي في شمال الحجاز ظل قائما حتى القرن السادس، وهو القرن الذي ولد فيه الرسول. القرن السادس كان من أسوأ القرون في تاريخ الدولة البيزنطية لأنه شهد سلسة من الكوارث الداخلية والحروب الخارجية المدمرة، ولهذا السبب ربما فإن البيزنطيين سحبوا قواتهم من جنوب سورية وأوكلوا مهمة حماية هذه المنطقة بالكامل لحلفائهم الغساسنة، والغساسنة انهاروا في بداية القرن السابع فانفتح الطريق أمام عرب الحجاز المسلمين لكي يندفعوا شمالا ويسقطوا السيطرة البيزنطية عن سورية بالكامل.

هذا التاريخ في رأيي يشرح سبب البلبلة لدى المسلمين في تحديد حدود الشام، لأن هذه الحدود تراجعت بسرعة خلال فترة قصيرة من الزمن لا تتجاوز القرن. البيزنطيون في نهاية القرن الخامس كانت لديهم حاميات في تبوك والحجر، ولكنهم خلال القرن السادس تراجعوا شمالا وتركوا مناطق عربية الصخرية بالكامل للغساسنة، ثم بعد ذلك انهار الغساسنة وأصبح جنوب سورية البيزنطية عمليا جزءا من مناطق جزيرة العرب التي لا تخضع لسيطرة أحد.