مقدمة: أصل اللغة الفرنسية وتاريخها

⌂ فهرس مواضيع اللغة الفرنسية

۞مقدمة: أصل اللغة الفرنسية وتاريخها

اللغة الفرنسية (بالفرنسية français، بالإنگليزية French) هي منسوبة إلى الإفرنج (باللاتينية Francī، بالفرنسية Francs، بالإنگليزية Franks). كلمة الإفرنج وردت لأول مرة في القرن الميلادي الثالث كتسمية لقبائل من الگرمان أو الجرمان (باللاتينية Germānī، بالفرنسية Germains، بالإنگليزية Germans) كانت تسكن القسم الأوسط والأسفل من حوض نهر الراين (باللاتينية Rhēnus، بالفرنسية Rhin، بالإنگليزية Rhine)، الذي هو نهر كبير ينبع من جبال الألب في سويسرا حاليا ويسير شمالا نحو هولندا ويصب في بحر الشمال.

المناطق الواقعة على الضفة اليمنى (الشرقية) لنهر الراين كانت عموما خارج سلطة الرومان. هم حاولوا السيطرة عليها في الفترة بين 12 قبل الميلاد و 16 ميلادية ولكنهم تخلوا عن ذلك لأنهم رأوا أن طبيعة البلاد الواقعة شرق الراين (مغطاة بغابات كثيفة) لا تناسب أساليبهم القتالية وتجعلهم عرضة للكمائن والهزائم. هم اعتبروا الراين حدا دفاعيا يفصل بينهم وبين القبائل الگرمانية الساكنة في الغابات شرق النهر. المناطق الواقعة على الجهة الغربية للنهر كانت داخلة ضمن البلاد الشاسعة التي أطلق عليها الرومان مسمىى گَـلِّـيـا Gallia (بالفرنسية Gaule، بالإنگليزية Gaul)، والتي تعادل حاليا فرنسا وبلجيكا وكل الأراضي الواقعة على يسار الراين في سويسرا وألمانيا وهولندا.

الرومان أسسوا إقليمين على امتداد الراين أطلقوا عليهما مسمى گرمانيا العليا Germānia superior وگرمانيا السفلى Germānia īnferior. گرمانيا العليا كانت تمتد من جبال الألب جنوبا إلى منطقة الألزاس ثم إلى المنطقة المحيطة بالمدينة التي تسمى الآن ماينتس Mainz والتي بناها الرومان أنفسهم. گرمانيا السفلى كانت تمتد على ما تبقى من مسار الراين حتى مصبه في هولندا حاليا، ومركزها كان المدينة المسماة الآن كۆلۆنيا (بالفرنسية والإنگليزية Cologne) والتي بناها الرومان أيضا. الإفرنج كانوا موجودين في الإقليم المسمى گرمانيا السفلى. المؤلفون المعاصرون يقسمونهم إلى فئتين، الفئة الأولى تسمى بالإفرنج الرِّپـواريـيـن Ripuarian Franks ومكانها هو منطقة مدينة كۆلۆنيا في غرب ألمانيا حاليا، والفئة الثانية تسمى بالإفرنج الساليين Salian Franks ومكانها هو البلاد التي تنطق اليوم باللغة الهولندية (هولندا وشمال بلجيكا). كل هؤلاء الإفرنج كانوا داخلين في حكم الرومان وبعضهم كان يخدم في الجيش الروماني.

الإفرنج قد يكونون نفس الشعب الگرماني الذي ورد ذكره في مصادر أقدم باسم الإسْتْـوَيـۆنِـيِّـين Istvaeonēs، لأن المؤرخ إپليني الأكبر Pliny the Elder (الذي عاش في القرن الميلادي الأول) وصف هؤلاء الإستويۆنيين بأنهم “الأقرب إلى الراين” (proximī Rhēnō) من بين الشعوب الگرمانية.

في القرن الميلادي الخامس انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية تحت وطأة الغزوات التي تعرضت لها من كل حدب وصوب. الشعوب “البربرية” التي قامت بتلك الغزوات لم تأت من خارج الإمبراطورية وإنما كانت من القبائل الگرمانية الحليفة foederātī التي جندها الرومان للقتال معهم وأسكنوها في أراضيهم. هذه الشعوب (وأهمها القوط Gothī) دأبت على التمرد ضد الرومان قبل القرن الخامس، ولكن في بداية القرن الخامس حصل أمر غير مسبوق وهو أن الشعب القوطي المسمى وِسِگـۆت Visigothī بقيادة Alaric غزا مدينة روما ونهبها في عام 410. بعد ذلك أفلتت الأمور من أيدي الرومان على نحو متسارع وتمكنت القبائل الگرمانية من بسط سلطتها على كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية الغربية قبل نهاية القرن الخامس. الإفرنج الساليون كانوا من الأقوام الگرمانية التي تحركت في القرن الخامس لانتزاع السلطة من الرومان. حسب النظرية التي طرحها مؤلفون معاصرون (بالاستناد على أدلة تاريخية ضئيلة جدا) فإن الإفرنج الساليين كانوا في البداية يقيمون في البلاد الواطئة ثم تمددوا جنوبا بقيادة رجل يدعى Chlodio واحتلوا الأراضي الممتدة بين غرب بلجيكا ونهر سۆم Somme في شمال فرنسا حاليا. في منتصف القرن الخامس برز لهم قائد مهم يدعى Childeric، الذي قاتل إلى جانب الرومان ضد الوِسِگـۆت في مدينة Orléans وضد شعوب بربرية أخرى كانت تحاول التمدد في شمال گلّيا. بعد وفاة Childeric في عام 481 خلفه ابنه كـلـۆوِي Clovis الذي انقلب على الرومان وهزمهم في معركة في عام 486 في Soissons على بعد 100 كم شمال شرق باريس. بعد ذلك تحرك كلۆوِي ضد الگرمان الألمنّيين Alemannī في الشرق وهزمهم في معركة قرب الحدود الألمانية-البلجيكية حاليا، ثم تحرك ضد الوِسِگـۆت وأخرجهم من معظم مناطق سيطرتهم في جنوب گلّيا. في النهاية تمكن كلۆوِي من تأسيس مملكة شملت معظم مساحة گلّيا ومعظم مساحة گرمانيا شرق الراين. هذه المملكة سميت مملكة الإفرنج Rēgnum Francōrum أو إفرنجيا Francia. السلالة الحاكمة التي ابتدأها كلۆوِي تسمى بالسلالة المرونجية Merovingian نسبة إلى Merovech الذي ورد اسمه كجد لكلۆوِي. في منتصف القرن الثامن بدأت سلالة حاكمة ثانية هي السلالة الكارلنجية Carolingian المنسوبة إلى شارل مارتێل Charles Martel الذي هزم المسلمين في معركة بلاط الشهداء في عام 732.

الكلمة اللاتينية Francia هي مصدر الكلمة الفرنسية France التي نترجمها بالعربية إلى «فرنسا». اسم الإفرنج هو موجود أيضا في اسم منطقة فرنكۆنيا Franconia في ألمانيا، وفي اسم مدينة Frankfurt.

كلۆوِي اعتنق الديانة المسيحية في عام 496 ميلادية، وتبعه في ذلك كبراء قومه، ولكن عامة الإفرنج لم يدخلوا فعلا في المسيحية إلا في وقت لاحق. كلۆوِي وضع قانونا لمملكته سمي “القانون السالي” (باللاتينية Lex Salica)، ومن تسمية هذا القانون استنتج مؤلفون معاصرون أن كلۆوِي ومن معه هم من الإفرنج الساليين، رغم أن المصادر القديمة لا تذكر ذلك صراحة، وهناك من المؤلفين المعاصرين من ينكر وجود انقسام تاريخي للإفرنج إلى ساليين ورِپـواريـين ويرى أن هذا التقسيم هو مجرد اختراع في العصر الحديث.

كلۆوِي اتخذ من مدينة باريس مقرا لحكمه. المنطقة المحيطة بمدينة باريس سميت بلاد فرنسا Pays de France ثم جزيرة فرنسا Isle de France (بالفرنسية المعاصرة Île-de-France).

الممالك المكونة للدولة الإفرنجية المرونجية في حدود 700 ميلادية

بعد وفاة كلۆوِي قسمت مملكته بين أبناءه الأربعة. هذا التقليد، ألا وهو تقسيم الْمُلك بين الورثة، استمر طوال التاريخ الباكر لمملكة الإفرنج وكان سببا لحروب دائمة عاشتها هذه المملكة بسبب التنازع بين الورثة. المملكة المرونجية لم تكن في معظم أوقاتها مملكة واحدة وإنما مجموعة من الممالك التي يحكمها أشخاص ينتمون لنفس العائلة. هذه الممالك كانت شديدة اللامركزية وملوكها المتأخرون كانوا بلا سلطة حقيقية. في القرن السابع وضع لمنطقة كۆلۆنيا قانون باسم “القانون الرِّپـواري” Lex Ripuaria وهو ما يدل على اللامركزية حتى في القوانين (تسمية “القانون الرِّپـواري” هي مصدر تسمية “الإفرنج الرِّپـواريـين”، وكما ذكرنا سابقا فإن هناك من ينكر وجود هذا التقسيم للإفرنج في العصور القديمة ويرى أن الإفرنج الساليين والرِّپـواريـين كانوا جميعا يسمون “إفرنج” ولم يكن هناك فرق بينهم).

المهاجرون الإفرنج الذين دخلوا گلّيا مع تأسيس المملكة الإفرنجية استقروا أساسا في القسم الشمالي من گلّيا الواقع شمال نهر اللوار Loire. في القرون الأولى لمملكة الإفرنج كان الإفرنج ثنائيي اللغة يتحدثون لغة گلّية محلية (متحدرة من اللاتينية) إلى جانب لغتهم الگرمانية الأصلية. اللغة الفرنسية هي متحدرة من اللغة الگلّية اللاتينية التي تكلم بها الإفرنج في شمال گلّيا إلى جانب لغتهم الگرمانية الأصلية. بما أن هذه كانت لغة ثانية للإفرنج فإنها لم تكن لغة صافية وإنما متأثرة بلغتهم الأخرى. الأثر الگرماني يظهر واضحا في اللغة الفرنسية سواء في المفردات أم في النطق أم في القواعد.

في زمن دخول الإفرنج إلى گلّيا في القرن الميلادي الخامس كانت اللغات الگرمانية المحكية في أوروبا الغربية (التي تسمى باللغات الگرمانية الغربية West Germanic) ما تزال قريبة جدا من بعضها وعلى الأغلب مجرد لهجات للغة واحدة، وذلك يعني أن الإفرنج “الساليين” في گلّيا كانوا يتحدثون بنفس اللغة التي يتحدثها الإفرنج “الرِّپـواريـون” في منطقة كۆلۆنيا أو بلغة قريبة جدا منها. لغة الإفرنج الرِّپـواريـين هي معروفة لنا من خلال كتابات يعود تاريخ أقدمها إلى القرن الميلادي التاسع. هذه الكتابات تنتمي إلى لغة تسمى “الفرنكۆنية القديمة” Old Franconian أو “الإفرنجية القديمة” Old Frankish، التي هي لهجة من لهجات الألمانية العالية القديمة (بالإنگليزية Old High German)، التي هي أقدم شكل معروف للغة الألمانية.

ملاحظة

اللغات الگرمانية المحكية في ألمانيا والبلاد الواطئة تقسم إلى قسمين كبيرين هما “الألمانية العالية” (بالإنگليزية High German) و”الألمانية الواطئة” (بالإنگليزية Low German). مصطلح اللغات الفرنكۆنية Franconian هو مصطلح إنگليزي يطلق على مجموعة من اللغات الألمانية العالية والواطئة المحكية على امتداد نهر الراين حتى مصبّه وإلى الشرق من نهر الراين في غرب ووسط ألمانيا.

خريطة من ويكيپيديا لللغات الفرنكۆنية. اللغات “الفرنكۆنية الواطئة” هي ملونة بدرجات اللون الأصفر

مصطلح “الفرنكۆنية” هو مشتق من الكلمة اللاتينية Franconia، التي هي اسم كان يطلق في القرون الوسطى على منطقة تعادل القسم الشرقي من مملكة الإفرنج الباكرة وتقع حاليا في ألمانيا. المصطلح المناظر في اللغة الألمانية هو Fränkisch، وهذا المصطلح يترجم أحيانا في الإنگليزية إلى Frankish فيقولون مثلا Old Frankish بنفس معنى Old Franconian.

اللغات التي تسمى بالفرنكۆنية أو الإفرنجية هي عموما لهجات من الألمانية العالية، ويستثنى من ذلك مجموعة تسمى “الفرنكۆنية الواطئة” Low Franconian هي لهجات اللغة الهولندية. الفرنكۆنية الواطئة يمكن أن تصنف كلهجة من لهجات الألمانية الواطئة، ولكن يبدو أن متحدثي الهولندية لا يحبون تصنيف لغتهم كألمانية واطئة ويفضلون جعلها فرعا مستقلا ضمن العائلة الگرمانية الغربية.

في أقصى شمال ألمانيا وهولندا على سواحل بحر الشمال توجد مجموعات صغيرة من الناس يتحدثون لغات تصنف ضمن مجموعة تسمى الفريسية (بالإنگليزية Frisian). هذه اللغات الفريسية هي گرمانية غربية ولكنها ذات أصل منفصل عن بقية اللغات الگرمانية الغربية المحكية في ألمانيا والبلاد الواطئة، وهي لا تدخل في التقسيم إلى ألمانية عالية وواطئة.

هناك أدلة تاريخية على أن الملك الإفرنجي شارلمان Charlemagne (حفيد شارل مارتێل، عاش بين 742 و 814) كان يتحدث بلغة قريبة من لغة الكتابات “الإفرنجية القديمة” المستخدمة في منطقة كۆلۆنيا، ولكن عدد الكتابات الإفرنجية القديمة التي وجدت في گلّيا (أو التي يعتقد أن أصلها يرجع إلى گلّيا) هو قليل جدا. هناك نزاع بين الباحثين حول التاريخ الذي توقف فيه الإفرنج الذين استقروا في گلّيا (الإفرنج الساليّون) عن التحدث بلغتهم الگرمانية الأصلية. كثيرون يرون أن لغة الإفرنج الساليين الگرمانية انقرضت بعد دخولهم إلى گلّيا بزمن قصير جدا، بدليل أن المؤرخ الگلّي Grégoire de Tours (عاش في القرن السادس وهو أحد المصادر التاريخية القليلة من تلك الحقبة) لم يذكر لغة الإفرنج الگرمانية أثناء تعداده للغات المحكية في گلّيا في زمانه. بناء على ذلك يرى أصحاب هذا الرأي أن اللغة الإفرنجية التي استخدمت في بلاط شارلمان وعثر على بعض كتاباتها في گلّيا هي مستوردة وليست متحدرة من لغة الإفرنج الساليين التي انقرضت قبل ذلك بزمن طويل.

لا توجد كتابات تاريخية يتفق الباحثون على أنها تعبر عن اللغة الگرمانية للإفرنج الذين استقروا في گلّيا. هذه اللغة هي عمليا مجهولة باستثناء بضع كلمات وردت ضمن كتابات باكرة باللاتينية، مثل نص القانون السالي Lex Salica الذي هو باللاتينية ولكنه يحوي بضع كلمات گرمانية. معظم ما نعلمه عن لغة الإفرنج الساليين هو استنتاجات نظرية (إعادة بناء reconstruction) مبنية على أساس دراسة الكلمات الگرمانية المستعارة في اللغة الفرنسية (ولكن تحديد الكلمات ذات الأصل الإفرنجي من بين الكلمات ذات الأصل الگرماني في الفرنسية هو بحد ذاته مسألة إشكالية، لأن بعض الكلمات الگرمانية في الفرنسية هو موجود أيضا في لغات محكية بعيدا عن فرنسا كالإيطالية والإسبانية، ومن المرجح أن أكثر هذه الكلمات هو ليس من أصل إفرنجي وإنما قوطي).

ملاحظة

مقال ويكيپيديا المعنون Frankish language هو عبارة عن ترهات وليس بمقال علمي (يبدو أن كاتب هذا المقال هو هولندي يحاول أن يروج لنظريات متداولة في أوساط هولندية تتناقض مع المفاهيم السائدة). المقال يتعامل مع مصطلح “الإفرنجية القديمة” Old Frankish أو Old Franconian على أنه مرادف لمصطلح “الهولندية القديمة” Old Dutch أو “الفرنكۆنية الواطئة القديمة” Old Low Franconian. هذه المساواة بين الإفرنجية القديمة وبين اللغة المسماة بالهولندية القديمة (والتي هي لغة متخيلة أكثر من كونها لغة حقيقية موثقة) هي بلا أساس ومجرد طرح شاذ. اللغة الإفرنجية القديمة هي لغة تاريخية موثقة عثر على معظم كتاباتها في ألمانيا وتصنف كلهجة من لهجات الألمانية العالية القديمة، وأما اللغة المسماة بالهولندية القديمة فهي لغة مجهولة غير موثقة (إلا من خلال بضع جمل متناثرة) ولكننا نعلم أنها كانت في واقع الأمر مجرد لهجة من لهجات اللغة السكسۆنية القديمة Old Saxon، التي هي الأصل التاريخي لللغات الألمانية الواطئة.

هذه القضية هي متعلقة بقضية أخرى هي العلاقة بين الشعب الهولندي المعاصر وبين الإفرنج القدماء. الأدلة التاريخية المتعلقة بأصل الشعب الهولندي هي شحيحة جدا، ولكن الباحثين الجديين الذين نظروا في هذه المسألة لم يجدوا دليلا يربط الشعب الهولندي بالإفرنج الساليين. الرأي الراجح هو أن الهولنديين المعاصرين هم متحدرون أساسا من الشعب المعروف قديما باسم السكسۆن Saxonēs إلى جانب شعوب گرمانية أخرى أتت إلى البلاد الواطئة بعد زمن طويل من رحيل الإفرنج الساليين عنها، على فرض أن الإفرنج الساليين كانوا موجودين في البلاد الواطئة قبل رحيلهم إلى فرنسا (الاعتقاد بأن الإفرنج الساليين أتوا إلى فرنسا من البلاد الواطئة هو مجرد نظرية مبنية على معطيات وأدلة تاريخية ضئيلة، والبعض ذهبوا إلى حد اعتبار الأدلة الداعمة لهذه النظرية غير ذات قيمة وطرحوا احتمالا بديلا وهو أن الإفرنج الساليين أتوا إلى فرنسا من منطقة كۆلۆنيا، لأن “الإفرنج الساليين” هم في الحقيقة نفسهم “الإفرنج الرِّپـواريـون” والتمييز المعاصر بين إفرنج ساليين وإفرنج رِپـواريـين هو مجرد وهم. للاستزادة انظر المقال أدناه).

J. Stengers (1959), “Les origines de la frontière linguistique ou de la légitimité de l’hypothèse historique,” Latomus T. 18, Fasc. 2 (AVRIL-JUIN 1959), pp. 366-395.

اللغة الفرنسية قد توصف أحيانا (إلى جانب غيرها من اللغات المعاصرة المتحدرة من اللاتينية) بأنها لغة “لاتينية حديثة” (بالفرنسية néolatin، بالإنگليزية Neo-Latin)، ولكن هذه التسمية هي ليست شائعة. التسمية الشائعة لللغات المتحدرة من اللاتينية هي “اللغات الرومانية” (بالفرنسية roman، بالإنگليزية Romance أو Romanic). أصل هذا المصطلح يعود إلى العصور الوسطى في أوروبا (وربما إلى ما قبل العصور الوسطى). في العصور الوسطى كان الأوروبيون يطلقون مسمى اللاتينية على اللغة الرسمية التي تعود إلى زمن قِقرون، وأما اللغات العامية المتحدرة من اللاتينية فكانت تسمى بالرومانية.

عند دراسة تاريخ اللغات الرومانية فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو متى تنتهي اللاتينية ومتى تبدأ الرومانية؟ دارسو اللغات الرومانية يعتبرون في الغالب أن اللغات الرومانية بدأت مع بداية القرون الوسطى. بالتالي هم يطلقون مسمى اللاتينية على كل اللغات واللهجات التي كانت مستخدمة حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الميلادي الخامس، ويطلقون مسمى الرومانية على اللغات العامية التي استخدمت في القرن السادس وما بعده.

اللهجات اللاتينية المحكية حتى القرن الخامس تسمى “اللاتينية العامية” (بالإنگليزية Vulgar Latin) أو “اللاتينية الشعبية” (بالإنگليزية Popular Latin) أو “اللاتينية المتأخرة” (بالإنگليزية Late Latin). تسمية “الرومانية الگلّية” (بالفرنسية Gallo-roman، بالإنگليزية Gallo-Romance) تطلق على اللهجات الرومانية المحكية في گلّيا من القرن السادس إلى تاريخ ظهور أقدم الكتابات الفرنسية في القرن التاسع. اللهجات اللاتينية العامية واللهجات الرومانية الگلّية لم تكن تكتب ولذلك هي غير موثقة ومعظم ما نعرفه عنها هو استنتاجات نظرية وإعادة بناء.

سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية أدى لضعف كبير في حركة الكتابة والتدوين باللغة اللاتينية. الفترة الممتدة تقريبا بين القرنين السادس والعاشر تسمى تقليديا بعصور الظلام (بالإنگليزية Dark Ages) وذلك بسبب ندرة الكتابات التي تعود إليها. انقطاع الكتابات من أوروبا الغربية في تلك الفترة يؤشر إلى حالة من الانحطاط الثقافي سببها هو حالة الفوضى والحروب وانقطاع طرق التجارة وما أدى إليه ذلك من انهيار اقتصادي، ناهيك عن أن القبائل البربرية التي سيطرت على مقاليد الأمور كانت أمية لا تدرك أهمية الكتابة والتدوين.

الملك الإفرنجي شارلمان Charlemagne (عاش بين 742 و 814) اختلف عن أسلافه من ملوك الإفرنج بأنه اهتم باللغة اللاتينية وشجع على تعلمها واستخدامها. لهذا السبب عصر شارلمان هو بداية النهاية لـ”العصور المظلمة” في أوروبا. رغم جهود شارلمان في دعم اللاتينية إلا أن الواقع القائم في القرن التاسع كان أن اللاتينية هي لغة ميتة لا يفهمها عامة الناس. لهذا السبب قرر مجمع تورس Concile de Tours الذي انعقد في عام 813 التخلي عن استخدام اللغة اللاتينية في عظات الكنائس والاستعاضة عنها باللغات الرومانية والتودسكية التي يتحدثها عامة الناس. بعد حوالي 29 عاما من هذا القرار ظهرت وثيقة قسم ستراسبورغ التي سنتحدث عنها في الأسفل والتي هي أول وثيقة تحوي نصا لاتينيا مترجما إلى الرومانية (الفرنسية) والتودسكية (الألمانية).

أول لغة رومانية دونت كانت الفرنسية في القرن التاسع، وهذا الأمر لم يكن مصادفة وإنما يعود إلى أن الفرنسية انحرفت بعيدا عن اللاتينية بسرعة كبيرة مقارنة باللغات الرومانية الأخرى. سبب ذلك هو أن الفرنسية كانت لغة الإفرنج الذين كانوا يتحدثونها كلغة ثانية إلى جانب لغتهم الگرمانية الأصلية، وبالتالي هي كانت عرضة لتأثيرات من لغة الإفرنج الگرمانية. بالإضافة إلى ذلك، الإفرنج في بداية تاريخهم في فرنسا لم يكونوا مسيحيين في الغالب ولم يكونوا يرتادون الكنائس، وبالتالي هم لم يكونوا يسمعون العظات باللغة اللاتينية في الكنائس التي كانت تبقي الصلة قائمة بين عامة الناس وبين اللغة اللاتينية. الإفرنج كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون وكانوا لا يرتادون الكنائس، بالتالي لم تكن هناك أية صلة بينهم وبين اللغة اللاتينية. لهذا السبب اللغة الرومانية الگلّية التي تحدثوا بها تطورت سريعا في اتجاه بعيد عن اللاتينية.

أقدم كتابة بالفرنسية وردت في وثيقة من عام 842 تسمى قَسَم ستراسبورغ Serments de Strasbourg.

هذه الوثيقة هي إعلان لتحالف بين أخوين من أحفاد شارلمان ضد أخ ثالث لهما في أثناء حرب أهلية دارت بين الإخوة الثلاثة بين عامي 840 و843. الوثيقة تحتوي على قَسَم باللغة اللاتينية مع ترجمة إلى لغتين سميتا في الوثيقة بالتِّوْدِسْكِيّة teudisca والرومانية romana. كلمة teudisca هي شكل قديم للكلمة التي تكتب اليوم بالألمانية deutsch، التي هي اسم اللغة الألمانية. النص الوارد بهذه اللغة في الوثيقة يصنف اليوم بأنه ينتمي للألمانية العالية القديمة. النص الروماني الوارد في الوثيقة يصنف تقليديا بأنه ينتمي للفرنسية القديمة (بالفرنسية ancien français، بالإنگليزية Old French)، ولكن لغة النص تحوي اختلافات مهمة عن بقية الكتابات التي تصنف تحت عنوان الفرنسية القديمة. مثلا الكلمة المعاصرة peuple «ناس، شعب» ترد في النص بالشكل poblo، والاسم الشخصي Charles يرد بالشكل Carlus (مرفوع) و Karlo (غير مرفوع). في هذه الكلمات النهاية o− ما تزال باقية، في حين أنها في الفرنسية القديمة لا تظهر أو تظهر بالشكل e− الذي يقصد به الصوت المختزل /ə/ (مثلا كلمة peuple وردت بالشكل poble في كتابات فرنسية قديمة باكرة من القرن الميلادي العاشر). بسبب هذا الأمر وغيره فإن البعض يصنفون لغة قَسَم ستراسبورغ بأنها رومانية گلّية.

ثاني أقدم كتابة بالفرنسية هي «سلسلة القديسة إولاليا» Séquence de sainte Eulalie التي تعود إلى نهاية القرن التاسع. هذه الكتابة تشبه بوضوح الكتابات الفرنسية القديمة اللاحقة، ولكن لهجتها هي ليست لهجة “جزيرة فرنسا” (مصدر اللغة الفرنسية المعاصرة) وإنما لهجة أخرى محكية إلى الشمال من جزيرة فرنسا.

مصطلح “الرومانية الگلّية” يشمل كل اللهجات الرومانية المحكية في گلّيا قبل بداية تاريخ اللغة الفرنسية، أي أن هذا المصطلح يشمل اللهجات المحكية جنوب نهر اللوار حيث لم يكن يوجد الإفرنج. مصطلح “الفرنسية القديمة” يشمل فقط اللهجات المحكية شمال نهر اللوار بعد بداية تاريخ اللغة الفرنسية. اللهجات المحكية جنوب نهر اللوار في حقبة الفرنسية القديمة تسمى اليوم “الأۆكتانية القديمة” ancien occitan. في عصر الإحياء Renaissance أطلقت تسمية “لغات الأۆيِل” langues d’oïl على اللغات المحكية شمال نهر اللوار المتحدرة من لهجات الفرنسية القديمة، وأطلقت تسمية “لغات الأۆك” langues d’oc على اللغات المحكية جنوب نهر اللوار المتحدرة من لهجات الأۆكتانية القديمة. سبب هذه التسميات هو أن اللغات الشمالية كانت تستخدم كلمة oïl بمعنى «نَعَمْ»، وأما اللغات الجنوبية فكانت تستخدم كلمة oc لهذا المعنى.

لغات الأۆيِل ما زالت تسمى بنفس هذا الاسم إلى اليوم، وأما لغات الأۆك فهي اليوم تسمى غالبا بالأۆكتانية occitan.

لغات الأۆيِل تشمل لغة الوالۆن wallon المحكية تاريخيا في القسم الجنوبي من بلجيكا المسمى والۆنيا Wallonie، ولغة الپـيكارد picard المحكية تاريخيا في منطقة پـيكارديا Picardie إلى الشمال من جزيرة فرنسا، واللغة النۆرمانية أو النۆرماندية normand المحكية في نۆرمانديا Normandie. اللغة النۆرمانية كانت محكية أيضا في إنگلترا في القرون الوسطى (حيث تسمى Anglo-Norman) وهي مصدر لكلمات فرنسية كثيرة مستعارة في الإنگليزية.

الشعار الرسمي لبريطانيا يحوي عبارة باللغة الفرنسية هي Dieu et mon droit «الله وحَقِّي». هذه العبارة تعود إلى القرون الوسطى عندما كانت اللغة الفرنسية النۆرمانية هي اللغة الرسمية في إنگلترا. سبب ذلك هو أن حكام إنگلترا في القرون الوسطى كانوا من النۆرمان. النۆرمان جاؤوا إلى إنگلترا من شمال فرنسا في عام 1066 تحت قيادة ويليام الفاتح William the Conqueror الذي استولى على حكم إنگلترا بعد معركة فاصلة في التاريخ الإنگليزي هي معركة Hastings.

الكتابات الفرنسية القديمة هي عموما نادرة قبل القرن 12. التاريخ الحقيقي للتدوين الفرنسي والأدب الفرنسي يبدأ في القرن 12. المرحلة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن 11 تسمى “الفرنسية القديمة الباكرة”، والمرحلة الممتدة من القرن 12 إلى بداية عصر الإحياء في حدود 1300 ميلادية تسمى “الفرنسية القديمة المتأخرة”. مرحلة عصر الإحياء الممتدة بين 1300 ميلادية و1600 ميلادية تسمى “الفرنسية الوسطى” (بالفرنسية moyen français، بالإنگليزية Middle French). المرحلة التالية تسمى “الفرنسية المعاصرة” (بالفرنسية français moderne، بالإنگليزية Modern French).

اللغة الفرنسية القديمة هي كما وضحنا في الأعلى مجموعة من اللهجات، ولكن اللغة الفرنسية الوسطى واللغة الفرنسية المعاصرة هما لهجة واحدة هي لغة الأۆيِل التي كانت محكية تاريخيا في باريس و”جزيرة فرنسا” المحيطة بها، والتي هي متحدرة من لهجة فرنسية قديمة كانت محكية في نفس المنطقة تسمى أحيانا francien. بقية لغات الأۆيِل ولغات الأۆك هي اليوم شبه منقرضة.

هيمنة لغة جزيرة فرنسا على فرنسا حصلت عبر مسار طويل بدأ في القرن 16 عندما أصدر الملك فرنسوا الأول François Iᵉʳ مرسوما في عام 1536 يسمى Ordinance of Villers-Cotterêts أوجب فيه استخدام “اللغة الفرنسية الأم” langage maternel francoys في الوثائق العدلية بدلا من اللغة اللاتينية. المعنى العملي لذلك المرسوم هو أن كل المناطق الفرنسية (بما في ذلك المناطق الجنوبية) صارت ملزمة باستخدام لغة الملك الباريسية في الوثائق بدلا من اللغة اللاتينية. في نفس القرن بدأ ظهور قواميس وكتب قواعد قَدَّمت لغة باريس على أنها اللغة الفرنسية الصحيحة أو المعيارية، وفي عام 1635 أسست في باريس “الأكاديمية الفرنسية” Académie française بهدف مأسسة اللغة الرسمية.

عندما حصلت الثورة الفرنسية في نهاية القرن 18 كانت لغات الأۆيِل والأۆك ما تزال موجودة بقوة، والنظام التعليمي (الذي تشرف عليه الكنيسة الكاثوليكية) كان ما يزال يركز على تعليم اللغة اللاتينية. الثورة الفرنسية ألزمت المدارس بالتركيز على تعليم اللغة الفرنسية الباريسية. الضربة القاصمة لللغات المحلية أتت مع فرض التعليم الإلزامي في ثمانينات القرن 19. مدارس التعليم الإلزامي منعت استخدام اللغات المحلية داخل أسوارها وعاقبت على ذلك وكأنه جريمة. السياسة الحكومية قرنت بين الهوية الوطنية الفرنسية وبين استخدام اللغة الفرنسية الرسمية، بحيث أن استخدام تلك اللغة كان شرطا للوطنية الفرنسية أو دليلا عليها. اللغات المحلية تعرضت للتحقير وصورت على أنها لغات للريفيين الجهلة والمتخلفين. تلك اللغات واللهجات المحلية كانت (وما زالت) تسمى باسم تحقيري هو patois.

بسبب هذه السياسات فإن فرنسا اليوم هي ذات لغة واحدة متجانسة. الاختلافات اللهجية الموجودة اليوم هي طفيفة ولا تشبه في شيء الوضع الذي كان قائما حتى القرن 19. الناطقون بالفرنسية في بلجيكا وسويسرا يتحدثون نفس هذه اللغة مع اختلافات لهجية طفيفة.

تلخيصا لما سبق، المراحل التاريخية للغة الفرنسية هي كما يلي:

  1. اللاتينية العامية Latin vulgaire: مجموعة كبيرة من اللهجات التي كانت محكية في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية الغربية حتى انهيارها في القرن الخامس.
  2. الرومانية الگلّية Gallo-roman: مجموعة من اللهجات التي كانت محكية في گلّيا من القرن السادس إلى القرن التاسع.
  3. الفرنسية القديمة Ancien français: مجموعة من اللهجات التي كانت محكية في شمال فرنسا من القرن التاسع إلى القرن 13.
  4. الفرنسية الوسطى Moyen français: لغة مدينة باريس من القرن 14 إلى القرن 16.
  5. الفرنسية المعاصرة Français moderne: لغة متحدرة من الفرنسية الوسطى هي اليوم لغة معظم سكان فرنسا.

اللاتينية العامية أنتجت اللغات الرومانية، وإحداها هي اللغة الرومانية الگلّية المحكية في گلّيا. اللغة الرومانية الگلّية أنتجت اللغة الفرنسية القديمة في شمال گلّيا واللغة الأۆكتانية القديمة في جنوب گلّيا. اللغة الفرنسية القديمة أنتجت لغات الأۆيِل، وإحداها هي اللغة الفرنسية الوسطى في مدينة باريس. اللغة الفرنسية المعاصرة هي استمرار للغة الفرنسية الوسطى ولكنها اليوم باتت محكية في كل فرنسا. اللغة الأۆكتانية القديمة أنتجت لغات الأۆك أو اللغات الأۆكتانية.

  • أكبر تجمع للناطقين بالفرنسية المعاصرة هو موجود في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها 65 مليونا.
  • في بلجيكا يوجد حوالي 4 ملايين ناطق بالفرنسية كلغة أم يمثلون 40% من سكان البلاد.
  • في سويسرا يوجد حوالي مليوني ناطق بالفرنسية كلغة أم يمثلون 24.4% من سكان البلاد.
  • في كندا يوجد 7.3 مليون ناطق بالفرنسية كلغة أم يمثلون 21% من سكان البلاد.
  • في ولاية لويزيانا الأميركية يوجد 150,000-200,000 ناطق بالفرنسية كلغة أم.

رأيان حول “مقدمة: أصل اللغة الفرنسية وتاريخها

أضف تعليق