أصل الأتراك (10)

في الأجزاء الماضية استعرضت بشكل وجيز ماضي سهل البحر الأسود-قزوين وآسيا الوسطى وحوض تاريم وذكرت خلاصة مفادها أن الهندو-أوروبيين سكنوا هذه المناطق منذ بداية عصر البرونز (هم في الحقيقة الذين أدخلوا عصر البرونز إلى هذه المناطق).

لهذا السبب أنا لا أظن أن اللغة التركية البدائية نشأت في هذه المناطق.

الأرجح هو أن اللغة التركية البدائية نشأت في المنطقة المسماة “آسيا الداخلية” Inner Asia.

لا يوجد تعريف محدد لمنطقة “آسيا الداخلية”، ولكن المقصود بها أساسا هو المناطق الواقعة شمال الصين والتيبت من قبيل منشوريا ومنغوليا وحوض تاريم. البعض يدخلون سيبيريا أيضا ضمن آسيا الداخلية.

في مقالات سابقة استعرضت ماضي حوض تاريم واستبعدت أن تكون هذه المنطقة هي مهد الأتراك.

هذا يترك لنا منطقتين هما منشوريا ومنغوليا، بالإضافة إلى شرق سيبيريا.

شرق سيبيريا

 

منطقة شرق سيبيريا هي منطقة ذات تنوع لغوي عال نسبيا. هذا يعود إلى الظروف البيئية لهذه المنطقة.

سيبيريا بشكل عام هي مكونة من منطقتين بيئيتين، منطقة شمالية تسمى tundra، ومنطقة جنوبية تسمى taiga.

الشكل التالي يوضح المنطقتين:

biomes

 

الـ tundra هو عبارة عن سهل ذو مناخ قطبي وتربة متجمدة. الـ taiga هي عبارة عن غابات صنوبرية دائمة الخضرة.

Siberian tundra
 
 
Siberian taiga
 

الزراعة ورعي الماشية هي أمور غير يسيرة في بيئة الـ tundra والـ taiga. لهذا السبب فإن سكان سيبيريا لم يتبنوا هذه الأمور وحافظوا على طابع الحياة البدائي الذي يعتمد على الصيد وجمع الثمار hunting and gathering.

المجموعات التي تعيش بأسلوب الصيد والجمع تتميز عادة بأنها قليلة العدد. هذا ينطبق على سكان سيبيريا. هم يعيشون في جماعات قليلة العدد.

في البيئة السهلية الرعوية (مثلا بيئة السهل المنغولي-المنشوري) من الممكن إقامة تحالفات قبلية ضخمة يصل عدد أفرادها إلى عشرات آلاف ومئات آلاف الأشخاص. هؤلاء الأشخاص يمكنهم أن يتجمعوا سوية في منطقة صغيرة لأنهم يسوقون مواشيهم معهم، وبالتالي هم ليسوا محكومين بالبيئة التي هم موجودون فيها للحصول على الغذاء. إقامة مثل هذه التجمعات القبلية الضخمة هو أمر غير ممكن في البيئة السيبيرية، لأن السكان يعتمدون على موارد البيئة للحصول على غذائهم، وفي حال تجمع عدد كبير من الأشخاص في منطقة صغيرة فإن هذا سيستنزف الموارد التي هي أصلا محدودة.

لهذا السبب فإن السيبيريين كانوا دائما مضطرين للعيش في جماعات صغيرة متفرقة.

هذا الأمر منع نشوء عوائل لغوية ضخمة كالعوائل الموجودة في مناطق أخرى من العالم.

اللغات الموجودة في سيبيريا تصنف ضمن ثلاث مجموعات:

  • اللغات الأورالية Uralic (في سيبيريا الغربية)
  • اللغات الألطائية Altaic (في سيبيريا الشرقية والوسطى)
  • اللغات السيبيرية القديمة Paleosiberian (في سيبيريا الشرقية والوسطى)
 
 
اللغات الأورالية
 
 
اللغات الألطائية. اللون الأزرق = التركية Turkic. اللون الأخضر = المنغولية Mongolic. اللون الأحمر = الطنغوسية Tungusic
 

هناك جدل بين الباحثين حول الموطن الأصلي للغات الأورالية. تقليديا كان الاعتقاد السائد هو أن هذه اللغات نشأت في سيبيريا الغربية، ولكن هناك من يقولون أنها نشأت على الجهة الغربية لجبال الأورال في أوروبا الشرقية وتمددت لاحقا نحو سيبيريا الغربية. بالنسبة للغات الألطائية فأغلب الباحثين يوافقون على أنها لغات دخيلة في سيبيريا وأنها جاءت إلى هناك من الجنوب (من منشوريا ومنغوليا).

أقدم اللغات في سيبيريا هي اللغات التي تصنف تحت مسمى السيبيرية القديمة Paleosiberian. هذا التصنيف هو ليس تصنيفا جينيا genetic، بمعنى أن الباحثين لا يعتقدون أن اللغات السيبيرية القديمة هي متحدرة من أصل واحد.

من الناحية الجينية اللغات السيبيرية القديمة تصنف ضمن أربع مجموعات. هذه المجموعات هي مذكورة في صفحة ويكيبيديا.

على ما يبدو فإن العائلة اللغوية الأقدم في سيبيريا هي العائلة التي تسمى بالينيسية Yeniseian (نسبة إلى نهر ينيسي Yenisei في وسط سيبيريا).

 
خريطة تبين موقع نهر Yenisei
 
 
أقدم توزع معروف للغات الينيسية Yeniseian
 

هناك دليلان على قدم اللغات الينيسية في سيبيريا، الدليل الأول هو الدراسات الجينية التي أظهرت أن نسبة عالية من متحدثي هذه اللغات يحملون على الكروموسوم Y العلامة المسماة Haplogroup Q. هذه العلامة هي نادرة في آسيا ولا توجد بنسبة عالية إلا عند متحدثي اللغات الينيسية. الأمر اللافت هو أن هذه العلامة توجد بنسبة عالية عند سكان أميركا الأصليين (المعروفين بالهنود الحمر).

 
Haplogroup Q
 

سكان أميركا الأصليون كانوا في الأصل يسكنون سيبيريا، وهم انتقلوا من هناك إلى أميركا الشمالية عبر مضيق بيرنغ (الذي كان جافا في العصر الجليدي). وجود العلامة Haplogroup Q لدى متحدثي اللغات الينيسية دون غيرهم هو دليل على أنهم متحدرون من الرعيل الأقدم لسكان سيبيريا. هذا الرعيل انقرض من سيبيريا ولم يبق منه أحد سوى متحدثي اللغات الينيسية.

قد يقول قائل: من الممكن أن متحدثي اللغات الينيسية هاجروا من أميركا الشمالية إلى سيبيريا. هذه النظرية هي ضعيفة لأن موقع متحدثي اللغات الينيسية في سيبيريا هو بعيد عن مضيق بيرنغ.

الدليل الثاني على قدم الينيسيين مقارنة بغيرهم هو نمط حياتهم. الينيسيون هم الفئة الوحيدة في سيبيريا التي لا تمارس تربية الغزلان إلى جانب الصيد والجمع. هم يعتاشون بشكل حصري على الصيد والجمع.

تربية الغزلان دخلت إلى سيبيريا من الجنوب في وقت متأخر نسبيا. لهذا السبب هي ليست موجودة لدى الينيسيين.

الباحث اللغوي Edward Vajda يرى أن هناك صلة قرابة جينية بين اللغات الينيسية وبين عائلة لغوية محكية في أميركا الشمالية هي Na-Dené.

توزع لغات Na-Dené
 

طرح Edward Vajda يبدو قابلا للتصديق، لأن توزع عائلة Na-Dené في أميركا الشمالية يدل على أنها من أواخر اللغات التي دخلت إلى هذه القارة.

خلاصة ما سبق هي أن اللغات الينيسية تبدو أقدم اللغات في سيبيريا.

الجزء التالي

أضف تعليق