الدماغ البشري (3)

ذكرنا في مقال سابق أن دماغ الفقاريات يتكون من ثلاثة حويصلات:

  • الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon
  • الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon
  • الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon

ذكرنا أيضا أن الدماغ الخلفي ينتج حويصلين:

  • الدماغ النخاعيmyelencephalon (يتحول إلى النخاع المستطيل (medulla oblongata
  • الدماغ التالي metencephalon (يتحول إلى الجسر pons والمخيخ cerebellum)

والدماغ الأمامي ينتج حويصلين:

  • الدماغ البينيdiencephalon (يتحول إلى الثَّلَم thalamus وما تحت الثلم hypothalamus وما فوق الثلم epithalamus وشبكيتي العينين retinae)
  • الدماغ النهائي telencephalon (يتحول إلى المخ cerebrum)

ذكرنا أيضا أن المخ cerebrum يتكون في المرحلة الجنينية من ثلاثة مكونات:

  • الرداء pallium (يتحول إلى القشرة المخية cerebral cortex والبصلتين الشميتين olfactory bulbs)
  • ما تحت الرداء subpallium (يتحول إلى العقد القاعدية basal ganglia)
  • الحاجز septum

في أدمغة الفقاريات البدائية (الأسماك) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا:

دماغ حيوان فقاري بدائي

أيضا في الثدييات بسيطة التركيب (مثلا القوارض) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا، ولكن في الثدييات معقدة التركيب (مثلا الإنسان) هناك صعوبة في رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح لسبب أساسي هو النمو الشديد وغير المتناسب لقشرة المخ cerebral cortex.

human mouse brain
مقارنة بين دماغ إنسان (في الأعلى) ودماغ فأر (في الأسفل). قشرة المخ تظهر باللون الأخضر

النمو الزائد للقشرة المخية لدى الثدييات المعقدة يؤدي إلى تجعدها وإلى نشوء أخاديد sulci (المفرد sulcus) على سطحها. المناطق الواقعة بين الأخاديد تسمى “تلافيف” gyri (المفرد gyrus). نشوء الأخاديد والتلافيف في القشرة المخية يعود إلى زيادة مساحتها الإجمالية.

vertebrate brains
قشرة المخ تظهر باللون الأزرق. لاحظ أن نسبة قشرة المخ تزداد تدريجيا مع تطور الحيوان الفقاري. الكائنات الظاهرة في الرسم هي من الأعلى إلى الأسفل: lamprey (سمكة بلا فكين)، سمك القرش (سمكة غضروفية)، codfish (سمكة عظمية)، ضفدع (برمائي)، تمساح (زاحف)، إوزة (طائر)، حصان (ثديي)
قشرة المخ لدى بعض الثدييات

النمو الكبير للمخ هو أكثر ما يميز أدمغة الثدييات المعقدة. هذا النمو الكبير للمخ يطمس معالم الدماغ، لأن المخ النامي يحيط ببقية أجزاء الدماغ ويغطي بعضها بالكامل (المخ البشري يغطي بشكل كامل كلا من الدماغين البيني والأوسط).

لكي نفهم تكوين الدماغ البشري يمكن في رأيي أن نقارن نمو المخ البشري بنمو السحابة النووية:

من الممكن أيضا أن نشبه شكل الدماغ البشري بشكل الفطر:

mushroomساق نبتة الفطر تعادل كل أجزاء الدماغ البشري من الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon وحتى الدماغ البيني diencephalon. قبة نبتة الفطر تعادل الدماغ النهائي telencephalon (المخ cerebrum).

المخ البشري يغطي بالكامل كلا من الدماغين البيني والأوسط. لهذا السبب الدماغ البيني هو عمليا موجود في قلب المخ البشري، رغم أنه في الأصل ليس جزءا من المخ.

لرؤية الدماغين البيني والأوسط لا بد من قطع المخ وإزالته:

صورة جانبية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ
صورة ظهرية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ. لاحظ الغدة الصنوبرية pineal gland في مؤخرة الثلَمين thalami، ولاحظ التليلات colliculi على سقف tectum الدماغ الأوسط

الدماغ الخلفي (دون المخيخ) والدماغ الأوسط يسميان معا باسم “جذع الدماغ” brainstem.

المخ هو منشطر إلى شطرين متناظرين يسمى كل منهما “نصف كرة” hemisphere. نصفا الكرة المخيان يتصلان مع بعضهما في الوسط بواسطة جسر من الألياف العصبية يسمى “الجسم الخشن” corpus callosum (الترجمة السورية: “الجسم الثَّفَني”، وبالرجوع إلى المعاجم وجدت أن الثَّفَنة من البعير هي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما).

صورة للمخ من الأعلى بعد قطع جزء منه لكي يظهر الجسم الخشن corpus callosum الواصل بين نصفي الكرة المخيين
cerebral hemisphere
صورة للشطر الأيسر من المخ (نصف الكرة المخي الأيسر) ونحن ننظر إليه من الجهة الإنسية medial (الداخلية). الجسم الخشن corpus callosum يقع فوق الدماغ البيني diencephalon. المنطقة المسماة septum pellucidum (“الحاجز الشفاف”) تفصل بين التجويفين الذين يوجدان في باطني نصفي الكرة المخيين

دماغ جنين الإنسان في بداية تكوينه يشبه أدمغة الفقاريات البدائية:

Human embryo 28 days
جنين إنسان عمره 28 يوما
نمو دماغ جنين الإنسان

نمو مخ الثدييات يشبه نمو السحابة النووية، ولكن في الحقيقة هذا التشبيه هو ليس دقيقا تماما، لأن نمو مخ الثدييات ليس متساويا في كل الاتجاهات وإنما يحصل بشكل أكبر بالاتجاه الخلفي:

brain development
لاحظ اتجاه الأسهم نحو الخلف. معظم النمو في قشرة المخ لدى الثدييات يحدث باتجاه الخلف، أي أن قشرة المخ تتمدد في الدرجة الأولى نحو الخلف

تطور الجهاز العصبي المركزي

تحدثنا في مقال سابق عن الكيفية التي تطور بها الجهاز العصبي المركزي. الجهاز العصبي المركزي في الأصل كان مجرد حبلين عصبيين nerve cords مقطعين إلى عقد قطعية segmental ganglia (وفقا لمبدأ التقطع المتتالي metamerism المميز لثنائيات الجانب bilaterians). لاحقا العقد القطعية الموجودة في الرأس تكتلت وتحولت إلى دماغ. هذه العملية تسمى cephalization، وسببها ربما هو تجمع بعض أعضاء الحس المعقدة نسبيا (الشم والبصر) في منطقة الرأس. التعامل مع أعضاء الحس المعقدة شجع العقد القطعية الرأسية على الاندماج مع بعضها وتكوين الأدمغة. كل دماغ من الأدمغة نشأ في الأصل بهدف التعامل مع أحد أنظمة الحس المعقدة. مثلا الدماغ النهائي telencephalon نشأ في الأصل بهدف التعامل مع حس الشم، والدماغ البيني diencephalon نشأ بهدف التعامل مع حس البصر.

أنا قارنت في مقال سابق بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات vertebrates ومفصليات الأرجلarthropods . هناك في رأيي الكثير من أوجه الشبه بين الجهازين. لاحقا أنا عثرت على هذه الدراسة التي يرى صاحبها أن الجهازين لهما أصل مشترك يعود إلى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians.

bilaterian central nervous system

صاحب هذه الدراسة يرى أن الجهاز العصبي المركزي في urbilaterians كان يتكون من ثلاثة أقسام:

  • الدماغ البدائي proto-brain
  • الحبل البدائي proto-cord
  • الحد الفاصل boundary بين الدماغ البدائي والحبل البدائي

الدماغ البدائي proto-brain أنتج لدى الفقاريات الدماغين الأمامي والأوسط، وأنتج لدى مفصليات الأرجل المخ الأولprotocerebrum والمخ الثاني deutocerebrum.

الحبل البدائي proto-cord كان يحوي في مقدمته منطقة منتفخة أو “مرأسنة” cephalized. هذه المنطقة يعادلها عند الفقاريات الدماغ الخلفي، وعند مفصليات الأرجل المخ الثالث tritocerebrum والعقدة تحت المريئية subesophageal ganglion.

هذا التصور هو مبني على الدراسات الجينية، ولكن السؤال الذي خطر لي هو لماذا لا نرى لدى الديدان نفس التكوين للجهاز العصبي المركزي؟ الجهاز العصبي المركزي لدى الديدان هو أكثر بدائية من هذا النموذج المشاهد لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل.

أيضا يجب أن ننتبه إلى وجود فروقات مهمة بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل. عند الفقاريات القسم الأمامي من الدماغ (الدماغ النهائي telencephalon) هو مسؤول عن حاسة الشم، والقسم الذي خلفه (الدماغ البيني diencephalon) هو مسؤول عن حاسة البصر. عند مفصليات الأرجل هناك توزيع معاكس للأدوار (المخ الأول مسؤول عن البصر والمخ الثاني مسؤول عن الشم).

هناك فروقات أخرى مهمة أشار صاحب الدراسة إلى بعضها. أنا لم أقتنع بأن ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians كانت بالضرورة تملك دماغا بدائيا وحبلا بدائيا على طريقة الفقاريات ومفصليات الأرجل. الأكثر منطقية بالنسبة لي هو أن ثنائيات الجانب البدائية كانت تملك جهازا عصبيا يشبه الجهاز العصبي لدى الديدان. من الممكن أن الجهاز العصبي للفقاريات ومفصليات الأرجل يعود إلى أصل مشترك، ولكن هذا الأصل المشترك هو ليس ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians وإنما أصل آخر أحدث. من الممكن أيضا أن الجهاز العصبي تطور بشكل متشابه ولكن مستقل لدى كل من الفقاريات ومفصليات الأرجل. أنا بصراحة لا أملك العلم الكافي حتى أفتي في هذا الموضوع ولكنني أقول بعض الاحتمالات الممكنة.

الحبل الشوكي

الحبل الشوكي يوجد داخل العمود الفقري ويتصل في الأعلى مع جذع الدماغ brainstem

الحبل الشوكي هو العضو الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات. هذا الحبل هو مجرد استمرار للحبل العصبي الظهري الموجود لدى الحبليات. الدماغ نشأ في الأصل من الحبل العصبي الذي هو نفسه الحبل الشوكي، وبالتالي لو أننا فهمنا آلية عمل الحبل الشوكي فهذا سيسهل علينا فهم آلية عمل الدماغ.

الحبل الشوكي هو كما قلنا سابقا مقطّع وظيفيا إلى قطع متتالية تسمى “قطع الحبل الشوكي” spinal cord segments. هذه القطع هي على ما أظن استمرار للعقد القطعية segmental ganglia المشاهدة في الحبلين العصبيين لدى الديدان والتي أظن أنها كانت موجودة لدى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians. هناك عصبان شوكيان spinal nerves يخرجان من كل قطعة من قطع الحبل الشوكي (واحد من جهة اليمين وآخر من جهة اليسار).

رسم يبين الأعصاب الشوكية spinal nerves في منطقة الصدر أو البطن. العصبان الشوكيان الأيمن والأيسر يخرجان من الحبل الشوكي ويلتفان على جدار الجسم مشكلين حلقة. إلى الأسفل منهما يوجد عصبان آخران يشكلان حلقة أخرى، وهكذا. هذا النمط الحلقي أو القطعي يعبر عن الحالية الأصلية (المشاهدة لدى الديدان). هذا النمط هو غير واضح في الذراعين والرجلين لأن هذه الأعضاء نشأت في وقت متأخر ولم تكن جزءا من الهيكل الأصلي لجسم ثنائيات الجانب bilaterians

تركيب الحبل الشوكي وآلية عمله هي عموما متطابقة في جميع القطع segments المكونة له. ما يلي هو مقطع في إحدى قطع الحبل الشوكي:

في هذا المقطع نرى العصبين الشوكيين (مقطوعين) على جهتي اليمين واليسار. كل عصب شوكي له جذران يخرجان من الحبل الشوكي: جذر أماميanterior root (له وظيفة تحريكية motor) وجذر خلفيposterior root (له وظيفة حسية sensory).

في الحبل الشوكي هناك مادتان: مادة رمادية gray matter (في الوسط) ومادة بيضاء white matter (حول المادة الرمادية). المادة الرمادية هي مكونة من أجسام الخلايا العصبية cell bodies، والمادة البيضاء هي مكونة من الألياف العصبية nerve fibers. الليف العصبي هو عبارة عن محور عصبي axon محاط بغمد من مادة الـ myelin.

neuronالألياف العصبية تتكتل مع بعضها وتشكل حُزما. هذه الحزم تسمى “أعصابا” nerves عندما تكون خارج الجهاز العصبي المركزي، ولكنها في داخل الجهاز العصبي المركزي (في المادة البيضاء) تسمى “طرقا عصبية” أو “سبلا عصبية”neural pathways or neural tracts .

شكل المادة الرمادية في مقطع الحبل الشوكي يشبه شكل الفراشة. القسم الأمامي منها يسمى “القرنان الأماميان” anterior horns أو “القرنان البطنيان” ventral horns، والقسمى الخلفي يسمى “القرنان الخلفيان” posterior horns أو “القرنان الظهريان” dorsal horns.

القرنان الأماميان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية محركة motor neurons. المحاور العصبية axons الصادرة من أجسام خلايا هذين القرنين تشكل الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية. القرنان الخلفيان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية تستقبل المحاور العصبية axons المكونة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. هذه المحاور هي صادرة من أجسام خلايا عصبية حسية sensory neurons موجودة في العقد الخلفية للأعصاب الشوكية dorsal root ganglia.

اللون الأحمر يعبر عن خلية عصبية محركة (مكونة من جسم موجود في المادة الرمادية ومحور axon ينتقل عبر المادة البيضاء إلى الجذر الأمامي لعصب شوكي). اللون الأزرق يعبر عن خلية عصبية حسية (جسمها موجود في عقدة جذر خلفي dorsal root ganglion، ومحورها ينتقل عبر الجذر الخلفي لعصب شوكي نحو القرن الخلفي للمادة الرمادية)

الخلايا العصبية الموجودة في القرنين الخلفيين للمادة الرمادية هي متكتلة ضمن عدة أنوية nuclei:

الأنوية الظاهرة باللون الأزرق تستقبل محاور الخلايا الحسية الموجودة في عقد الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. المنطقة المسماة “المادة الجيلاتينية” substantia gelatinosa تستقبل محاور عصبية من النوع (IV) C التي تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth (تغير الحرارة نحو الارتفاع) والحكة itch. المنطقة المسماة “النواة الذاتية” nucleus proprius تستقبل محاور عصبية من النوع (III) Aδ التي تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold (تغير الحرارة نحو الانخفاض). النواة الذاتية تستقبل أيضا محاور عصبية من النوع (II) Aβ التي تنقل حس “اللمس الدقيق” fine touch والضغط pressure والاهتزاز vibration والإحساس بمدى تقلص العضلة وهي ثابتة secondary receptors of muscle spindle، ومحاور عصبية من النوعIb التي تنقل الإحساس بمدى تقلص العضلة المتحركة Golgi tendon organ، ومحاور عصبية من النوع Ia التي تنقل الإحساس بسرعة تقلص العضلة primary receptors of muscle spindle. الأحاسيس المتعلقة بمدى وسرعة تقلص العضلات (التي تنتقل عبر محاور عصبية من النوعين I و II) تسمى “الحس الذاتي” proprioception. المنطقة المسماة “النواة الظهرية” nucleus dorsalis تستقبل محاور عصبية تنقل الحس الذاتي (أي من النوعين I و II).

مما سبق يتبين أن المادة الرمادية (أجسام الخلايا العصبية) داخل الحبل الشوكي هي منقسمة إلى قسمين:

  • قسم أمامي (بطني ventral) مسؤول عن التحريك motor
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) مسؤول عن الحس sensory

حسب هذه الدراسة فإن هذا التوزع للخلايا العصبية (الخلايا الحسية في الاتجاه الظهري والخلايا المحركة في الاتجاه البطني) هو قديم ويعود إلى زمن ثنائيات الجانب الأولى urbilaterians.

بالنسبة للقسم الظهري (الحسي) من المادة الرمادية فهو بدوره منقسم وظيفيا:

  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الألم والتغير في درجة الحرارة تتركز في المنطقة الظهرية
  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الاهتزاز والحس الذاتي proprioception تتركز في المنطقة البطنية

حتى في داخل كل منطقة من هاتين المنطقتين هناك انقسامات وظيفية. مثلا حس الألم هو منقسم إلى قسمين:

  • حس “الألم البطيء” slow pain يتركز في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa)
  • حس “الألم السريع” fast pain يتركز في المنطقة البطنية (النواة الذاتية nucleus proprius)

حس “الألم السريع” هو مثلا الحس الذي تشعر به فور تعرضك لوخزة دبوس: هو ألم “ناخز” أو “ناكز” محدد المكان بدقة (في المكان الذي اخترق فيه الدبوس الجلد). هذا الحس يزول سريعا ويحل محله حس “الألم البطيء”، الذي هو حس ألم “حارق” غير محدد المكان بدقة (يغطي مساحة أوسع من الجلد). حس الألم البطيء يدوم لفترة أطول من حس الألم السريع، وهو لهذا السبب مزعج للإنسان. حس الألم البطيء هو قليل الدقة سواء من حيث موقع الإصابة أو من حيث مدتها الزمنية.

هناك انقسام مشابه في حس اللمس:

  • حس “اللمس غير الدقيق” crude touch يوجد في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية و النواة الذاتية)
  • حس “اللمس الدقيق” fine touch يوجد في المنطقة البطنية (النواة الذاتية والنواة الظهرية nucleus dorsalis)

حس “اللمس الدقيق” يعني القدرة على تحديد موقع اللمس على الجلد بشكل دقيق، بخلاف حس “اللمس غير الدقيق” الذي هو قليل الدقة. لو أتلفنا الخلايا المسؤولة عن حس “اللمس الدقيق” لدى شخص ما ثم لمسنا جلد هذا الشخص عند نقطة معينة فإنه سيشعر أننا لمسناه ولكنه لن يستطيع أن يحدد نقطة اللمس.

مما سبق يتبين أن الأحاسيس الموجودة في المنطقة الظهرية من القرنين الخلفيين هي أقل دقة من الأحاسيس الموجودة في المنطقة البطنية من القرنين الخلفيين.

المنعكسات

الحبل الشوكي يؤدي وظيفة بسيطة وأساسية للغاية تسمى “المنعكسات” reflexes.

spinal reflexالمنعكس هو عبارة عن دارة عصبية neural circuit مكونة من عصب حسي وعصب محرك وعصب ثالث واصل بينهما interneuron.

الصورة في الأعلى توضح مبدأ المنعكس. في البداية هناك تنشيط لمستقبلات حسية في الجلد (بواسطة حرارة قوية). المستقبلات الحسية تولد إشارات عصبية تنتقل عبر الجذر الخلفي للعصب الشوكي نحو المادة الرمادية الظهرية. في المادة الرمادية الظهرية يوجد تشابك عصبي synapse بين المحور العصبي الحسي وبين جسم خلية واصلة interneuron. وصول الإشارة العصبية الحسية إلى هذا التشابك يولد إشارة عصبية جديدة في الخلية الواصلة. الإشارة الجديدة تنتقل وتولد إشارة أخرى في خلية محركة في القرن الأمامي للمادة الرمادية، وهذه الإشارة تنتقل عبر المحور العصبي للخلية المحركة وتصل إلى ليف عضلي أو ألياف عضلية وتؤدي إلى تقليصها وبالتالي سحب الذراع بعيدا عن مصدر الحرارة.

هذا هو المنعكس في أبسط صوره. المنعكسات على ما أظن هي أبسط وظائف الحبل الشوكي (والجهاز العصبي المركزي) على الإطلاق. تنفيذ المنعكسات هو ربما السبب الذي أدى إلى ظهور الجهاز العصبي المركزي لأول مرة لدى الحيوانات.

لو نظرنا إلى الجهاز العصبي لدى الدودة الحلقية فسنجد أنه يعتمد بشكل كامل على المنعكسات. كل الحركات التي ينفذها جسم الدودة الحلقية تحدث بسبب منعكسات. المؤثرات الحسية التي تصل إلى جسم الدودة تولد إشارات عصبية حسية تنتقل نحو الحبلين العصبيين. الإشارات تنتقل على طول الحبليين العصبيين، وهذا يؤدي لتوليد إشارات عصبية في الأعصاب المحركة التي تخرج من الحبلين العصبيين على شكل حلقات متتابعة محيطة بالجسم. تقبض العضلات الحلقية بشكل متتابع يؤدي إلى تحريك الجسم.

المنعكسات رغم بدائيتها ما زالت موجودة لدى البشر. المنعكسات لدى البشر هي سلوك “لا إرادي” involuntary، بمعنى أن الإنسان لا يعلم بها في عقله الواعي إلا بعد البدء في تنفيذها وليس قبل ذلك. العقل الواعي (قشرة المخ) يمكنه أن يتدخل في بعض المنعكسات ويمكنه أن يحاول تثبيطها لو أراد ذلك.

المنعكسات الواعية وغير الواعية

أنا شخصيا لا أحب استخدام كلمتي “إرادي” voluntary و”لا إرادي” involuntary وأفضل بدلا من ذلك استخدام كلمتي “واع” conscious و”غير واع” unconscious.

المنعكسات هي في الأصل سلوك غير واع unconscious، ولكن العقل الواعي يمكنه أن يتدخل في عمل بعض المنعكسات.

من الممكن أن نقسم المنعكسات إلى صنفين:

  • منعكسات واعية (يمكن التدخل بها إراديا)
  • منعكسات غير واعية (لا يمكن التدخل بها إراديا)

المنعكسات التي يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤدي لتحريك العضلات الهيكلية skeletal muscles.

المنعكسات التي لا يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤثر على الإفراز secretion أو على العضلات القلبية cardiac muscles أو على العضلات الملساء smooth muscles.

أنا في مقال سابق ذكرت أن مخرجات الجهاز العصبي المركزي تتمثل في شكلين:

  • تحريك العضلات
  • الإفراز

الإفراز هو دائما سلوك لا إرادي أو غير واع. حسب علمي فإن العقل الواعي لا يمكنه أبدا أن يتحكم بإفراز الهرمونات أو النواقل العصبية (مثلا الإنسان لا يمكنه أن يتحكم إراديا بإفراز الهرمونات من الغدة النخامية، أو بإفراز العرق من الغدد العرقية).

بالنسبة لتحريك العضلات فهو يمكن أن يكون إراديا أو غير إرادي حسب نوع العضلات.

العضلات الموجودة في أجسام الحيوانات تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  • العضلات الهيكلية skeletal muscles
  • العضلات القلبية cardiac muscles
  • العضلات الملساء smooth muscles

العضلات الهيكلية هي العضلات المغطية للهيكل العظمي والتي يؤدي تقليصها أو إرخاؤها لتحريك الجسم. هذه العضلات يمكن للإنسان أن يتحكم بها إراديا، ولهذا السبب فإن المنعكسات التي تؤدي إلى تقليص أو إرخاء هذه العضلات يمكن التدخل بها إراديا (ولكن هذا التدخل له حدود. مثلا المنعكس الذي يؤدي إلى سحب اليد بعيدا عن النار من الصعب تثبيطه أو إعاقته).

العضلات القلبية هي العضلات التي تدخل في تكوين القلب. هذه العضلات تشبه من حيث تكوينها (ومن حيث قوة انقباضها) العضلات الهيكلية، ولكن التحكم الإرادي بهذه العضلات هو غير ممكن.

العضلات الملساء هي العضلات التي تدخل في تكوين أحشاء الجسم viscera ما عدا القلب (مثلا العضلات التي تدخل في تكوين القناة الهضمية والقناة التنفسية والقناة البولية والقناة التناسلية والأوعية الدموية). العضلات الملساء توجد أيضا في الجلد (تقلصها يؤدي إلى انتصاب الشعر وإلى ظهور “بروزات الإوزة” goose bumps).

بروزات الإوزة goose bumps (باللاتينية “جلد الإوزة” cutis anserina)

إذن مخرجات الجهاز العصبي المركزي يمكن أن تكون واعية (إرادية) أو غير واعية (لا إرادية). المنعكسات التي تنتج مخرجات واعية يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها، والمنعكسات التي تنتج مخرجات غير واعية لا يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها.

من الأمور اللافتة في الجهاز العصبي أن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية هي منفصلة عن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية.

الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب الجسمانية somatic nerves. الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب ذاتية الحكم أو المستقلة autonomic nerves.

في مقطع الحبل الشوكي أجسام الخلايا العصبية “الجسمانية”somatic تقع في الناحية الأمامية (البطنية) من القرنين الأماميين للمادة الرمادية، وإلى الخلف منها تقع أجسام الخلايا العصبية “ذاتية الحكم”autonomic . أجسام الخلايا ذاتية الحكم تكون قرنا ثالثا من قرون الحبل الشوكي يسمى “القرن الجانبي” lateral horn (القرن الوحشي).

ألياف الخلايا ذاتية الحكم تمر عبر الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية، وبالتالي الجذور الأمامية يجب ألا توصف بأنها “محركة” motor وإنما “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent. كلمة “مؤثر” effector أو “صادر” efferent تغطي كلا من وظيفتي التحريك motion والإفراز secretion. بالنسبة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية فيمكن وصفها بأنها “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent.

بالتالي الوصف الصحيح للمادة الرمادية في الحبل الشوكي هو أنها تنقسم إلى:

  • قسم أمامي (بطني ventral) يحوي خلايا عصبية “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) يحوي خلايا عصبية “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent

القسم الأمامي المؤثر أو الصادر ينقسم بدوره إلى قسم أمامي واع (إرادي) وقسم خلفي غير واع (لا إرادي).

الطرق العصبية الواعية

ذكرنا في الأعلى أن هناك منعكسات واعية يمكن التدخل فيها إراديا ومنعكسات غير واعية لا يمكن التدخل فيها إراديا. السؤال هو كيف يتدخل العقل الواعي في عمل المنعكسات الواعية؟

هذا يحدث عن طريق ألياف عصبية نازلة من قشرة المخ نحو القرنين الأماميين للحبل الشوكي. هذه الألياف النازلة أو الطرق النازلة توجد في المادة البيضاء.

“الطريق القشري الشوكي” corticospinal tract هو طريق نازل ينقل الإشارات العصبية من قشرة المخ المحركة motor cortex نحو القرن الأمامي للحبل الشوكي. معظم ألياف هذا الطريق تعبر نحو الجهة المعاكسة قبل أن تبلغ الحبل الشوكي وتشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الجانبي lateral corticospinal tract، وقسم ضئيل منها يظل في نفس الجهة ويشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الأمامي anterior corticospinal tract

“الطريق القشري الشوكي” النازل من القشرة المحركة في المخ يفسر قدرة العقل الواعي على التدخل في منعكسات الحبل الشوكي المؤثرة في العضلات الهيكلية، ولكن إلى جانب هذا الطريق النازل لا بد من وجود طريق آخر صاعد يعلم قشرة المخ بوجود منعكس شوكي قيد التنفيذ. إذا لم تعلم قشرة المخ بأن هناك منعكسا قيد التنفيذ فهي بطبيعة الحال لن تكون قادرة على التدخل فيه.

هناك طريقان صاعدان ينقلان الإشارات الحسية من القرنين الخلفيين للحبل الشوكي إلى قشرة المخ:

  • “الطريق الشوكي الثلمي” spinothalamic tract ينقل إشارات حس الألم والحرارة واللمس غير الدقيق crude touch
  • “العمودان الظهريان” dorsal columns ينقلان حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception

هذان الطريقان ينقلان الإشارات الحسية إلى الثلم thalamus، ومن هناك هذه الإشارات تنتقل إلى قشرة المخ “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex التي تقع في مقدمة الفص الجداري parietal lobe.

مقطع في الحبل الشوكي يبين الطرق العصبية الصاعدة باللون الأزرق، والطرق العصبية النازلة باللون الأحمر. طبعا الطرق الصاعدة والنازلة توجد في كل من جانبي الحبل الشوكي ولكن هذا الرسم عزل الطرق الصاعدة في الجانب الأيمن والطرق النازلة في الجانب الأيسر لغرض التوضيح

انقطاع الطرق العصبية الواعية

قبل تطور الدماغ لم يكن هناك على ما أظن “طرق عصبية صاعدة” و”طرق عصبية نازلة”. كل ما كان موجودا هو القطع المتتالية المكونة للحبل العصبي (التي تتمثل لدى الديدان والحشرات بالعقد القطعية segmental ganglia، ولدى الفقاريات بقطع الحبل الشوكي spinal cord segments الملتحمة مع بعضها). كل قطعة متتالية كانت تعمل بمفردها ودون اتصال مباشر مع مناطق بعيدة في الجهاز العصبي المركزي (الحبل العصبي). أقصى ما كان يحدث هو انتقال الإشارات العصبية من قطعة متتالية نحو قطعة متتالية أخرى مجاورة لها، وهذا هو ما يؤدي إلى التقلص المتتابع المشاهد لدى الديدان مثلا.

ما الذي سيحدث لو أننا قطعنا الطرق العصبية الصاعدة والنازلة الموجودة في الحبل الشوكي لدى البشر؟

هذه الحالة تحدث في إصابات الحبل الشوكي (مثلا بسبب كسور العمود الفقري). ما يحدث عادة هو أن الأشخاص المصابين يفقدون إحساسهم الواعي وتحكمهم الواعي بمناطق من جسمهم تقع تحت مستوى الإصابة في الحبل الشوكي. مثلا لو أصيبت الطرق الصاعدة والنازلة في القسم الرقبي من الحبل الشوكي فهذا سيؤدي لفقدان الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي) من مناطق تقع تحت مستوى الرقبة، كالذراعين والصدر والبطن والحوض والرجلين. لو كانت الإصابة كاملة وقطعت جميع الطرق الصاعدة والنازلة فهذا سيؤدي لفقدان الحس والتحريك الواعي بشكل كامل من كل أعضاء الجسم التي تقع تحت مستوى الرقبة. هذه الحالة تسمى الشلل الرباعي quadriplegia.

paralysis

مثل هذه الإصابة لن تؤثر على المنعكسات الشوكية التي تقع تحت مستوى الإصابة. مثلا لو أتينا إلى شخص مصاب بالشلل الرباعي واختبرنا منعكساته الشوكية تحت مستوى الرقبة فسنجد أنها فعالة ونشطة. السبب هو أن عمل المنعكسات الشوكية لا يحتاج الطرق الصاعدة والنازلة. الطرق الصاعدة والنازلة هي تطور لاحق ظهر بعد ظهور المنعكسات الشوكية. هذه الطرق تربط المنعكسات الشوكية بالدماغ. الطرق التي تربط المنعكسات الشوكية بقشرة المخ هي تحديدا الطرق المسؤولة عن الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي).

المنعكسات الشوكية الوحيدة التي ستتعطل عند إصابة الحبل الشوكي هي المنعكسات التي تقع عند مستوى الإصابة، لأن الإصابة هنا أتلفت أجسام ومحاور الخلايا العصبية الشوكية المسؤولة عن تنفيذ المنعكسات.

الحس الواعي والحس غير الواعي

في الأعلى بينا الفرق بين الأعصاب الجسمانيةsomatic المسؤولة عن التنفيذ العصبي الواعي (التأثير في العضلات الهيكلية) والأعصاب ذاتية الحكمautonomic المسؤولة عن التنفيذ العصبي غير الواعي (الإفراز والتأثير في العضلات القلبية والملساء).

هذه الأعصاب هي أعصاب تنفيذية أو تأثيرية effector. السؤال هو هل هناك أعصاب استقبالية receptor غير واعية؟

الجواب هو نعم. هناك في الحبل الشوكي ألياف عصبية استقبالية (حسية) غير واعية.

ما يجعل أية خلية حسية في الحبل الشوكي “واعية” هو وجود اتصال بينها وبين قشرة المخ (تحديدا القشرة “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex). أية خلية حسية يوجد اتصال بينها وبين قشرة المخ هي واعية.

ولكن الدماغ لا يتكون فقط من قشرة المخ. هناك في الدماغ أجزاء أخرى غير قشرة المخ، ومعظم هذه الأجزاء (إن لم يكن كلها) هي أقدم من قشرة المخ الجسمانية الحسية.

هناك طرق عصبية صاعدة (ونازلة) تربط خلايا الحبل الشوكي مع الدماغين الخلفي والأوسط. هذه الطرق هي كلها “غير واعية”.

من الطرق الصاعدة غير الواعية الطريق المسمى “الطريق الشوكي المخيخي” spinocerebellar tract. هذا الطريق ينقل إشارات حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception إلى المخيخ cerebellum. الخلايا التي يخرج منها هذا الطريق تقع في القسم البطني من القرن الظهري للمادة الرمادية (قسم كبير من هذا الطريق يخرج من النواة الظهرية nucleus dorsalis التي تسمى أيضا “نواة كلارك” Clarke’s nucleus).

هناك أيضا الطريق المسمى “الطريق الشوكي الزيتوني” spinoolivary tract. هذا الطريق ينقل حس الاهتزاز واللمس الدقيق والحس الذاتي إلى الزيتونة olive التي تقع في القسم العلوي (المنقاري rostral) من النخاع المستطيل medulla oblongata.

الطريق الشوكي الزيتوني والطريق الشوكي المخيخي يشبهان من حيث المحتوى طريق “العمودين الظهريين” dorsal columns الذي يصل إلى الثلم thalamus ومن هناك إلى قشرة المخ الجسمانية الحسية. الفرق بين هذه الطرق الثلاثة هو أن طريق العمودين الظهريين هو واع، وهو بالطبع أحدث عمرا من الطريقين الآخرين.

الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة و”اللمس غير الدقيق” crude touch من الحبل الشوكي إلى الدماغ هو في الحقيقة مجموعة من الطرق وليس طريقا واحدا. البعض يقسمون هذا الطريق إلى قسمين كبيرين:

  • الطريق “الشوكي الثلمي القديم” paleospinothalamic
  • الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” neospinothalamic

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” مكون من ألياف عصبية من النوع (IV) C (تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth والحكة itch).

الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” مكون من ألياف عصبية من النوع (III) Aδ (تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold).

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” هو في الحقيقة ليس “شوكيا ثلميا” لأن حوالي 90% من أليافه لا تصل إلى الثلم ولكنها تتوقف في الدماغين الخلفي والأوسط. البعض يقسمون هذا الطريق إلى عدة أقسام:

  • الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “التشكيل الشبكي” reticular formation في جذع الدماغ)
  • الطريق الشوكي السقفي spinotectal tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “سقف” tectum الدماغ الأوسط)
  • الطريق الشوكي ما تحت الثلمي spinohypothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “ما تحت الثلم” hypothalamus)
  • الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي والثلم thalamus)

الطريق الوحيد الواعي من بين كل هذه الطرق هو الطريق الشوكي الثلمي، الذي يضم أيضا ألياف الطريق “الشوكي الثلمي الحديث”.

الخلاصة هي أن الألياف العصبية الحسية تنقسم إلى قسمين، قسم واع يصل إلى الثلم ومنه إلى قشرة المخ، وقسم غير واع لا يصل إلى الثلم.

كل الألياف العصبية الحسية التي تحدثنا عنها هي ألياف عصبية “جسمانية” somatic، بمعنى أنها لا تنقل الحس من الأحشاء viscera أو الغدد glands.

الأحشاء والغدد لا تحوي الكثير من المستقبلات الحسية كما هو الحال في الأعضاء “الجسمانية”. المستقبلات الحسية في الأحشاء تنقل حس التمدد distension والالتهاب inflammation ونقص التروية الدموية ischemia، ولكنها لا تنقل أحاسيس أخرى (مثلا لا تنقل حس النخز أو الحرق).

الإشارات الحسية الواردة من الأحشاء والغدد تنتقل عبر الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية وتصل إلى القسم الأمامي من القرنين الخلفيين للمادة الرمادية، وكثير من هذه الإشارات تنتقل ضمن الأعصاب المستقلة autonomic. لهذا السبب الألياف الحسية الحشوية تصنف ضمن “الجهاز العصبي المستقل” autonomic nervous system.

هذا التصنيف هو منطقي لأن الإحساسات الحشوية هي عموما غير واعية، بمعنى أنها لا تصل إلى قشرة المخ. قليل جدا من الخلايا الحسية الحشوية هي متصلة مع قشرة المخ بواسطة ألياف صاعدة. لهذا السبب العقل الواعي لا يشعر بأحاسيس الأحشاء إلا عندما تكون هذه الأحاسيس قوية للغاية (مثلا عند انسداد الأمعاء، أو انسداد الحالب، أو تعرض العضلة القلبية للاحتشاء infarction بسبب انسداد الأوعية الدموية القلبية).

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء البطنية والحوضية يسمى “المغص” colic. شعور “المغص” هو شعور عام للغاية وغير دقيق على الإطلاق. عندما يسمع الطبيب كلمة “مغص” فإنه يصاب بالحيرة لأن شعور “المغص” يمكن أن يكون من القناة الهضمية أو القناة الصفراوية أو القناة البولية أو القنوات التناسلية. أي عضو حشوي داخل البطن أو الحوض يمكن أن يكون مصدرا لشعور “المغص”، والمريض عادة لا يستطيع أن يحدد مكانا دقيقا يوجد فيه “المغص”، وحتى لو حدد المكان فهذا لا يفيد كثيرا في التشخيص لأن شعور “المغص” هو شعور غير دقيق.

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء الصدرية يسمى “الذبحة” angina. مصدر هذا الشعور عادة هو القلب، ولكنه يمكن أن يكون أيضا من المريء esophagus.

العقل الواعي يميز الكثير من الأحاسيس الواردة من الأعضاء “الجسمانية” (مثلا شعور اللمس والنخز والحرق والحكة والحرارة والبرودة والاهتزاز والضغط إلخ)، ولكن بالنسبة للأعضاء الحشوية فالعقل الواعي لا يميز فيها سوى إحساسين أو ثلاثة (المغص والذبحة)، وهذه الأحاسيس التي يميزها العقل الواعي في الأحشاء هي عامة جدا سواء من حيث الموقع أو من حيث السبب.

لو كان العقل الواعي يميز الأحاسيس الحشوية بدقة أكبر لكان ذلك سهل عمل الأطباء ووفر الكثير من الأموال التي تنفق حاليا على الصور والتحاليل الطبية.

طبعا الإحساس الواعي بوجود الإصابة في الأحشاء هو شيء مفيد لحفظ حياة الإنسان. لهذا السبب الجهاز العصبي المركزي طور طريقة التفافية يستطيع من خلالها أن يعلم العقل الواعي بوجود إصابة في الأحشاء دون الاستعانة بألياف عصبية صاعدة من الخلايا الحسية الحشوية إلى قشرة المخ. هذه الطريقة الالتفافية تسمى “الألم المحوّل” referred pain.

الألم المحول هو ظاهرة تحدث عند وجود إصابة حشوية بالغة. ما يحدث هو أن الإشارات العصبية تنتقل من خلايا حسية حشوية إلى خلايا حسية جسمانية قريبة منها، وهذا يجعل العقل الواعي يشعر بألم “جسماني”.

مثلا عندما يكون هناك احتشاء infarction في القلب (وهي إصابة بالغة للغاية) تنتقل الإشارات العصبية من الخلايا الحسية الحشوية في الحبل الشوكي إلى الخلايا الحسية الجسمانية القريبة منها، وبعد ذلك تنتقل الإشارات عبر الطريق الشوكي الثلمي وتصل إلى قشرة المخ. الإنسان يشعر وقتها بألم بالغ للغاية في النصف الأيسر من صدره يمتد حتى نهاية ذراعه اليسرى. هو يشعر بالألم في جدار الصدر وفي الذراع اليسرى، رغم أن الإصابة الحقيقية هي في القلب. بما أن الخلايا الحسية الحشوية التي تستقبل الحس من القلب هي عاجزة عن إبلاغ العقل الواعي بطريقة مباشرة فإنها تبلغ جاراتها “الجسمانية”، وهذا يؤدي إلى وصول الرسالة إلى العقل الواعي ولكنها رسالة غير دقيقة ولا تدل على المكان الصحيح للإصابة.

ظاهرة الألم المحول تحدث في الكثير من الأمراض الحشوية الأخرى. مثلا عندما يصاب المرء بالتهاب الزائدة الدودية appendicitis فإنه في البداية يشعر بمغص في بطنه (عندما يسأله الطبيب أين الألم فإنه يشير إلى وسط بطنه). عندما يشتد الالتهاب فإن الخلايا الحسية الجسمانية تتنشط وعندها يشعر المريض بالألم في جدار الربع السفلي الأيمن من بطنه.

أيضا عندما يصاب الإنسان بالتهاب في رئتيه فإنه في البداية لا يشعر بألم، ولكن عندما يشتد الالتهاب ويصل الحس إلى الخلايا الحسية الجسمانية فإن الإنسان يشعر بألم في جدار صدره.

أحيانا يكون موقع الألم المحول بعيدا للغاية عن موقع الإصابة الحشوية (لأسباب تطورية جنينية). مثلا الإصابة في المرارة gall bladder يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في الكتف الأيمن. أيضا الإصابة في الحالب يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في كيس الصفن scrotum أو على الجانب الداخلي للفخذ. الأطباء يحفظون مواقع الألم المحول لكي يستفيدوا منها في التشخيص.

الحس غير الواعي والحس “تحت الواعي”

الباحثون لاحظوا منذ زمن طويل أن إدراك العقل الواعي لكثير من الأحاسيس هو مسألة شخصانية subjective وليست موضوعية objective.

المعنى هو أن شعور العقل الواعي بإحساس معين هو مسألة متغيرة وليست ثابتة، وهو يعتمد على عوامل ومتغيرات لا علاقة لها بالإحساس نفسه.

مثلا لو وخزنا شخصا بدبوس فإن شعور عقله الواعي بالوخزة هو ليس ثابتا دائما ولكنه يعتمد على عوامل ومتغيرات شخصانية (تتعلق بالشخص نفسه).

مثلا إذا كان الشخص منتبها جدا للدبوس أثناء وخزه به فإنه سيشعر بألم كبير نسبيا. ولكن لو كان الشخص ملتهيا عن الدبوس بمسألة أخرى فإن شعوره بالألم سيكون أقل (مثلا إذا وخزناه بالدبوس وهو يتشاجر مع شخص آخر فإنه ربما لن يشعر بالوخزة من الأساس).

هناك عوامل عديدة تؤثر في شعور الإنسان بالإحساس. من هذه العوامل ما يلي:

  • اليقظة (شعور الإنسان المستفيق بالأحاسيس هو أكبر من شعور الإنسان النائم أو الغائب عن الوعي)
  • الانتباه (الشخص المنتبه لحس معين يشعر به أكثر من الشخص الملتهي بأحاسيس أو أفكار أخرى)
  • العاطفة (شعور الإنسان الغاضب أو الخائف بالأحاسيس هو أقل من شعور الإنسان المرتاح)

في الحقيقة كل هذه العوامل يمكن إرجاعها إلى عامل واحد هو الانتباه attention. عندما يكون العقل الواعي منتبها للحس فإنه يشعر به بقوة، وعندما يكون انتباه العقل الواعي للحس ضعيفا فإنه لن يشعر به بنفس القوة، وربما لا يشعر به أبدا.

مفهوم الانتباه هو في رأيي أساس مفهوم الوعي consciousness. أنا ذكرت هذه الفكرة في مقال سابق. في رأيي أن “العقل الواعي” conscious mind هو في الحقيقة ليس سوى الأفكار الموجودة في دائرة انتباه الدماغ.

الأفكار التي تخرج من دائرة الانتباه تخرج من الوعي وتدخل في حيز يسمى “ما تحت الوعي” subconsciousness.

مفهوم “ما تحت الوعي” subconsciousness يختلف عن مفهوم “اللاوعي” unconsciousness. المفهوم الأول يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من غير الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني هو أساس نظرية فرويد في التحليل النفسي psychoanalysis.

بناء على ما سبق يمكن في رأيي أن نصنف الأحاسيس إلى ثلاث طبقات:

  • أحاسيس واعية conscious (موجودة في العقل الواعي)
  • أحاسيس تحت واعية subconscious (يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)
  • أحاسيس غير واعية unconscious (لا يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)

وفق هذا التصنيف فإن المنعكسات الشوكية التي وصفتها في الأعلى بأنها “واعية” هي في الحقيقة “تحت واعية”، لأن الأصل في هذه المنعكسات هو أنها غير واعية ولكنها يمكن أن تدخل إلى الوعي.

المنعكسات الإفرازية والحشوية (ذاتية الحكم autonomic) هي عموما غير واعية unconscious لأنها لا تدخل إلى الوعي (مثلا إفراز الإنسولين من البنكرياس عند ارتفاع سكر الدم هو منعكس غير واعي unconscious).

منعكسات الحبل الشوكي هي إما تحت واعية subconscious أو غير واعية unconscious. المنعكسات الواعية conscious هي المنعكسات التي يبدأ تنفيذها من قشرة المخ (طبعا بشرط أن تكون بداية هذه المنعكسات من دائرة الانتباه. المنعكس الذي يبدأ من خارج دائرة الانتباه هو ليس منعكسا واعيا حتى ولو كانت بدايته من قشرة المخ).

الآلية الفيزيولوجية لما تحت الوعي

في الأعلى أنا ذكرت الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس غير الواعي. الآلية التي ذكرتها هي باختصار كما يلي:

  • الحس المتصل مع قشرة المخ ← واع
  • الحس غير المتصل مع قشرة المخ ← غير واع

ما هي يا ترى الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس “تحت الواعي”؟

الآلية هي مرتبطة بآلية الانتباه attention. المشكلة هي أن آلية الانتباه هي غير معروفة جيدا، وهناك أصلا جدل حول موضوع العقل الواعي ومكان وجوده. بعض الناس في زماننا الحالي ينكرون مادية العقل ويقولون أن العقل هو ليس ماديا (بالأحرى هم يقولون أن العقل هو مادي ولكن خصائصه “ليست فيزيائية”). أنا تحدثت عن هذه القضية في مقالات سابقة. بالنسبة لي أنا سوف أفترض أن العقل هو كيان مادي بحت، لأنني لو افترضت شيئا آخر فهذا سيمنعني من الخوض في موضوع العقل.

أنا أظن أن “الوعي” consciousness هو نفسه “الانتباه” attention. طبعا كلمة “انتباه” تستخدم في العادة مع المدركات الحسية الخارجية، ولكن بالنسبة لي أنا أفهم الانتباه على أنه يتعلق بجميع الأفكار التي تدور في عقل الإنسان سواء كانت مدركات حسية أم أشياء مسترجعة من الذاكرة أم أشياء مستنبطة عبر المعالجة أو الخيال.

مثلا الإنسان الذي يتخيل في عقله كائنا خرافيا هو “منتبه” إلى هذا الكائن، مثلما أن الإنسان الذي ينظر إلى شيء ما ويتفحصه هو منتبه إلى هذا الشيء.

أي شيء موجودة في دائرة الانتباه هو موجود في العقل الواعي، وأي شيء موجود خارج دائرة الانتباه هو موجود خارج العقل الواعي.

كيف يحدث الانتباه فيزيولوجيا؟ الآلية التفصيلية هي غامضة وغير معروفة، ولكن المبدأ العام في رأيي هو كما يلي “الخلايا الأكثر نشاطا في قشرة المخ هي التي تصنع الانتباه والوعي”.

أنا شرحت هذه الفكرة في مقال سابق وضربت مثالا حول أشخاص عديدين موجودين في غرفة ويتحدثون في آن واحد.

هذه المرة سأتحدث من الناحية الفيزيولوجية.

سوف أتحدث الآن باختصار ولكنني سأعود للموضوع مجددا في مقال لاحق.

في فيزيولوجيا الأعصاب هناك مفهوم يسمى “الإثارة” excitation ومفهوم يسمى “التثبيط” inhibition.

الخلايا العصبية يمكن أن “تثار” ويمكن أن “تثبط”.

الإثارة والتثبيط تعتمد على نوعية النواقل العصبية neurotransmitters التي تصل إلى غشاء الخلية العصبية وتؤدي إلى تنشيط أو تثبيط “كمون الفعل” action potential، وعلى نوعية المستقبلات العصبية neuroreceptors الموجودة في غشاء الخلية العصبية.

بعض النواقل والمستقبلات هي “مثيرة”، وبعضها الآخر هو “مثبط”.

بالنسبة للخلايا العصبية الناقلة للأحاسيس فهي يمكن أن تثار وأن تثبط بواسطة نواقل عصبية معينة تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة في أغشية هذه الخلايا.

على سبيل المثال، هناك في المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa (في القرن الخلفي للحبل الشوكي) خلايا عصبية تفرز نواقل عصبية تسمى إندورفينات endorphins. هذه النواقل العصبية تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة موجودة في أغشية الألياف العصبية الناقلة لحس الألم نحو الحبل الشوكي (من النوعين C و ). تفاعل الإندورفينات مع مستقبلاتها يؤدي لتثبيط وصول الإشارات العصبية إلى الخلايا الموجودة في القرن الخلفي للحبل الشوكي، وبالتالي تثبيط وصول الإشارات العصبية إلى المناطق الدماغية العليا (بما فيها قشرة المخ). المحصلة هي أن إشارات حس الألم لن تصل إلى الدماغ، وبالتالي الإنسان لن يشعر بالألم (أو سيشعر به مخففا في حال وصول نسبة قليلة من الإشارات العصبية).

الملفت هو أن الدماغ الأوسط midbrain فيه خلايا عصبية ترسل أليافا نازلة نحو القرون الخلفية للحبل الشوكي بهدف إثارة الخلايا المفرزة للإندورفينات، وبالتالي تثبيط حس الألم. خلايا الدماغ الأوسط هذه تتنشط في حالات معينة لا مجال لذكرها الآن، ولكن الفكرة العامة هي أن هناك منعكسا في الدماغ الأوسط مسؤول عن “تسكين” حس الألم عبر منع صعوده من الحبل الشوكي. هذا المنعكس هو مثال على الطريقة التي يتلاعب بها الدماغ بالأحاسيس والمشاعر. الدماغ يقوي بعض الأحاسيس ويضعف بعضها الآخر بالاعتماد على النواقل العصبية وتأثيرها في الخلايا العصبية.

من المؤكد أن هناك في الدماغ البشري منعكسات مسؤولة عن إثارة بعض خلايا قشرة المخ وتثبيط بعضها الآخر. خلايا قشرة المخ هي عمليا “الأفكار” التي تدور في العقل. تثبيط خلية معينة في قشرة المخ يعني عمليا إخراج فكرة معينة من دائرة الانتباه، وإثارة خلية أخرى يعني إدخال فكرة معينة إلى دائرة الانتباه.

هذه بإيجاز شديد الآلية الفيزيولوجية للانتباه. في المقالات القادمة سأتحدث بإيضاح أكثر.

أضف تعليق