- روسيا تخشى امتداد “ربيع” الديمقراطية الأميركية إليها؟
شهد الأسبوع الأخير تصعيدا كلاميا أميركيا كبيرا ضد سورية، وكنت قد حاولت في التدوينة السابقة أن أخمن سبب هذا التصعيد ووضعت بعض الاحتمالات لذلك، ولكن على ما يبدو فإن السبب المباشر لهذا التصعيد متعلق بالعلاقات الروسية-الأميركية.
التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية الروسية قديم ويعود إلى العصر السوفييتي عندما كانت أميركا تتدخل بذريعة الحرية والديمقراطية، وبعد أن تفتت الاتحاد السوفييتي وانهار اقتصاده وعمت فيه الفوضى والخراب بسبب الحرية والديمقراطية الأميركية جاء فلاديمير بوتين الذي نجح في ضبط الأوضاع في روسيا وتحسين الاقتصاد، فعادت الولايات المتحدة مجددا إلى نغمتها القديمة وإلى التدخل في الشؤون الداخلية الروسية بذريعة الحرية والديمقراطية.
آخر فصول التدخل الأميركي كان قضية المحامي سيرغي مغنيتسكي الذي تتهم الولايات المتحدة مسؤولين روس كبارا بالتورط في اغتياله. أميركا استغلت هذه القضية وقامت بفرض عقوبات على مجموعة من المسؤولين الروس الكبار تحت ذريعة أنهم متورطون في اغتياله. موسكو أصدرت بيانا قويا ضد أميركا يوم الأربعاء ويبدو أن العلاقات تتجه نحو التأزم.
تأزم العلاقات الأميركية-الروسية سينعكس في الشرق الأوسط، وخاصة في ليبيا وسورية. لقد شاهدنا التصعيد الغربي بالفعل في ليبيا وسورية حيث أن الغرب بدأ بسلسلة من الخطوات التصعيدية في ليبيا كالاعتراف بمجلس المتمردين على أنه الحكومة الليبية الشرعية وتحويل الأموال الليبية المجمدة له. الغربيون أوقفوا مساعيهم الجدية لإسقاط القذافي عسكريا وهم حاليا يعملون على تقوية مجلس المتمردين وإحكام الحصار على القذافي على أمل أن ينهار تحت وطأة الحصار. هم ببساطة يريدون تكرار السيناريو الكوري في ليبيا حيث أنهم سوف يقسمون ليبيا إلى شطرين ويدعمون أحد الشطرين بالمال والسلاح بينما يحاصرون ويخنقون الشطر الآخر، ولهذا السبب فإن معركة النفط في ليبيا هي معركة استراتيجية ومصيرية دفعت القذافي لوضع قوات وتحصينات هائلة في مرفأ البريقة النفطي.
أما في سورية فالتصعيد الغربي واضح ويتمثل بسيل الشتائم الأميركية التي تنهال يوميا بالإضافة إلى عودة الحديث عن العقوبات، ناهيك عن الشحن الكبير الذي يتم استعدادا لـ “معركة رمضان” التي يبدو منذ الآن أنها لن تسير لصالح المتمردين.
القاعدة تعلن دعمها للثورة السورية… والعرعور يختفي من الشاشة
- ظهر الظواهري فاختفى العرعور… هل تريد السعودية إخلاء مسؤوليتها من العنف القادم إلى سورية؟
أعلن زعيم القاعدة أيمن الظواهري قبل يومين دعمه الكامل “للثورة السورية” وذلك في شريط خاص بث لهذا الغرض. أهمية الإعلان هي أنه يؤكد ما قلناه سابقا عن تأييد القاعدة للمتمردين في سورية وعن احتمال وجود أعداد كبيرة من مقاتلي القاعدة تعمل حاليا في سورية. الملفت هو أن عمليات القاعدة في العراق انخفضت مؤخرا بشكل كبير مما يدل على أن القاعدة حولت وجهتها الرئيسية من العراق إلى سورية، وهناك تقارير تتحدث عن هجرة عكسية لمقاتلي القاعدة من العراق إلى سورية.
أمر آخر ملفت هو اختفاء عدنان عرعور عن شاشته، فما السبب؟ ربما يكون هناك من أحس بأن عرعرة التمرد في سورية لا تخدم هدف المتمردين الأكبر في إظهار تمردهم على أنه تمرد سلمي وغير طائفي، ولذلك تم إخفاء العرعور عن الشاشة. هذا مجرد احتمال.
تعرض اليوم أنبوب نفط جديد في تل كلخ للتخريب على أيدي متمردين. هذه رسالة رد على مشروع نقل الغاز الإيراني. إذا أخذنا هذه الرسالة وأخذنا الضوضاء الكبيرة جدا التي أثيرت حول وجود “انشقاقات في الجيش” في دير الزور (مصطلح “انشقاق في الجيش” هو كود يستخدمه المتمردون منذ بداية الأحداث يعني وجود عصابات مسلحة من المتمردين تقاتل الجيش السوري) إذا أخذنا هذه الأمور بالحسبان مع رسالة الظواهري والتصعيد الأميركي ضد الجيش السوري فيمكننا أن نتوقع أن التمرد السوري يتجه نحو المزيد من العنف والتسلح في المرحلة المقبلة. العقوبات الأوروبية الجديدة ستصدر قريبا وإذا كانت هذه العقوبات ستشمل أسماء شخصيات ومؤسسات عسكرية فهذا يؤكد التوجه لعسكرة التمرد كليا في المرحلة المقبلة وتركيز الاستهداف على الجيش السوري.
الغرب والتذرع بالتفوق الحضاري كمبرر للاستعمار
- الإعلام الغربي يصنع الرأي العام الغربي… والنخب السياسية والاقتصادية الغربية تصنع الإعلام الغربي… إذن النخب السياسية والاقتصادية الغربية تصنع الرأي العام الغربي
منذ أن ظهرت الأمم الأوروبية الحديثة وبدأت في سياستها الاستعمارية قبل نحو 500 سنة تستخدم هذه الأمم باستمرار “تفوقها الحضاري” كمبرر للغزو والسيطرة على الأمم الأخرى التي يعتبرها الغربيون غير متحضرة أو بربرية.
الدول الغربية الاستعمارية كانت وما زالت تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت ذرائع مختلفة تتعلق عادة بـ”التفوق الحضاري” الغربي على تلك الدول وحكوماتها، ثم يتطور ذلك التدخل فيتحول إلى استعمار وسيطرة مباشرة أو شبه مباشرة. هذا سيناريو ما زال يتكرر باستمرار منذ 500 عام إلى الآن.
في الهند مثلا تدخلت الدول الغربية في القرنين 16-17 تحت ذريعة حماية التجارة مع الملوك والأمراء الهنود، ثم تطور الأمر وبدأت الدول الغربية توقع اتفاقيات الحماية مع الممالك والإمارات الهندية وترسل قواتها إلى تلك الممالك والإمارات بحجة حمايتها من بعضها، وطبعا تلك الحماية لم تكن مجانية وكانت الممالك الهندية تضطر للتنازل عن جزء كبير من اقتصادها وسيادتها لكي توفي ما عليها من ديون للدول الغربية.
الشعوب الأوروبية كانت تدرك أن حكوماتها تستغل الشعب الهندي والشعوب الأخرى ولكنها كانت تبرر ذلك بأن الأوروبيين ينقلون الحضارة للشعوب البربرية، وهذا النمط من التفكير ما زال قائما في الغرب حتى الآن حيث أن الشعوب الغربية ما زالت تتقبل تدخل حكوماتها في شؤون الدول النامية الداخلية (بل وتشجع ذلك) تحت حجة نشر الحرية والديمقراطية وإيقاف القمع وغير ذلك من المبررات الاستعمارية الكلاسيكية (وأكبر مثال ما نراه حاليا في ليبيا).
سيناريو استعمار الهند تكرر في مناطق كثيرة من العالم ومنها جنوب شرق آسيا والخليج العربي مثلا، حيث كان البرتغاليون في البداية يسيطرون على منطقة الخليج العربي تحت ذريعة حماية التجارة، ثم جاء الإنكليز ووقعوا “اتفاقيات الحماية” مع بعض شيوخ وأمراء البدو، وكانت هذه الاتفاقيات تنص على أن تحمي بريطانيا أولئك الشيوخ والأمراء مقابل أن تحصل على النفط والنفوذ والقواعد العسكرية في مناطقهم. رغم أن تلك الاتفاقيات ألغيت رسميا في القرن الماضي إلا أنها ما زالت مطبقة عمليا (بشكل شفهي وغير رسمي) وما زالت الدول الغربية تحمي إمارات ومشيخات الخليج مقابل الحصول على النفوذ السياسي والعسكري فيها.
في مصر تدخلت بريطانيا في البداية في عام 1801 تحت ذريعة إخراج الفرنسيين ثم تدخلت في عام 1840 تحت ذريعة حماية السلطان العثماني من محمد علي ثم في عام 1876 تحت ذريعة تحصيل الديون من مصر وفي عام 1882 تحت ذريعة حماية الخديوي من أحمد عرابي، وبعد ذلك تم توقيع اتفاقية حماية وتحولت مصر إلى مستعمرة بريطانية.
أما الدولة العثمانية فكان التدخل الغربي فيها كثيرا ما يتم بذريعة حماية الأقليات والحريات الدينية. الدولة العثمانية كانت تطرح نفسها كدولة خلافة إسلامية ولم تبدأ بالتطور إلى دولة قومية إلا في أواخر القرن 19 (أي متأخرة بقرن كامل عن الدول الغربية، وأيضا الدولة العثمانية تأخرت قرنا كاملا عن الدول الغربية في دخول العصر الصناعي). تأخر الدولة العثمانية في التحول إلى دولة مواطنة nation-state فتح الباب واسعا للدول الغربية لكي تتدخل في شؤونها الداخلية تحت ذريعة حماية الأقليات الدينية (خاصة المسيحية). أول تدخل غربي كبير ضد السلطنة العثمانية كان في عام 1827 عندما قامت أساطيل الدول الغربية بتحطيم الأسطول العثماني في اليونان بذريعة نصرة الثورة اليونانية وإيقاف القمع العثماني الوحشي الذي أدى إلى اضطراب حركة التجارة في شرق المتوسط حسب قولهم، وأدى هذا التدخل إلى إنهاء الحكم العثماني في اليونان (والذي كان بداية نهاية الحكم العثماني في البلقان عموما). وتدخلت الدول الغربية عسكريا في السلطنة العثمانية مرة ثانية في عام 1861 عندما قامت قوات غربية بقيادة فرنسية باحتلال جبل لبنان تحت ذريعة حماية المسيحيين الموارنة من الذبح على أيدي الدروز الذين كان الغرب يتهم العثمانيين بدعمهم، وهذا التدخل الغربي في جبل لبنان أدى إلى إضعاف السيطرة العثمانية على منطقة سورية الكبرى مما أدى إلى ضياعها من يد العثمانيين بسهولة في عام 1918.
القانون الدولي والاستعمار
- بين هنري غورو وألان جوبيه… لم يختلف الكثير لا بالشكل ولا بالمضمون
عندما غزت القوات البريطانية سورية الكبرى في عام 1918 استقبلها “المثقفون” السوريون بالتهليل والترحاب على أساس أنها جاءت لتحريرهم من حكم الأتراك الظالمين (وهذه الثقافة انتشرت في سورية بسبب الغزو الثقافي الغربي الذي كان مصدره الأول مستعمرة جبل لبنان الفرنسية). ولكن النخبة السورية المخدوعة بالدعاية الغربية سرعان ما اكتشفت حقيقة التدخل الغربي عندما ظهرت اتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور إلى العلن وعندما نزلت القوات الفرنسية بقيادة غورو إلى شواطئ سورية ولبنان في عام 1919.
السوريون كانوا موعودين بقيام دولة عربية كبيرة تحت حماية ورعاية بريطانيا على أن تمتد هذه الدولة من جبال طوروس شمالا إلى اليمن جنوبا ومن فارس شرقا إلى مصر غربا، ولكن اتفاقية سايكس-بيكو ونزول القوات الفرنسية على الساحل السوري أصاب السوريين بخيبة الأمل، فبدؤوا في بناء “جيش عربي” لتحرير منطقة الساحل من الفرنسيين، ولكن فرنسا هاجمت هذا الجيش ودمرته في معركة ميسلون بعد مرور أشهر قليلة على إنشائه وقبل أن يتم تسليحه بشكل جدي. وبهذا انتهى مشروع الدولة العربية كليا ووقعت سورية بكاملها تحت الاحتلال فرنسي الذي قامت دول الغرب بشرعنته في إطار ما يسمى بنظام الانتداب، وكانت ذريعة الانتداب هي أن السوريين أظهروا عدم قدرة على إدارة شؤون بلدهم بشكل مسؤول وعدم التزامهم بالاتفاقات الدولية (كاتفاقيتي سايكس-بيكو ووعد بلفور اللتين أعلنت الحكومة العربية في دمشق رفضها لهما).
القانون الدولي هو شريعة الأقوياء، ولتغيير هذا القانون لا بد من وجود قوة جيوسياسية قادرة على ذلك. كمال أتاتورك مثلا نجح في تغيير القانون الدولي عندما نسف اتفاقية سيفر بكاملها وأعاد رسم خريطة تركيا بالشكل الحالي، وهذا الإنجاز تحقق بفضل الجيش التركي الذي نجح أتاتورك في تجميع قواه المتبعثرة وأعاد تنظيمها وشن حربا تحريرية ناجحة ضد اليونانيين والفرنسيين والأرمن. و نجح الأتراك بعد ذلك في انتزاع لواء الإسكندرون وشمال قبرص. الأتراك هم من الأمم القليلة في العالم الذين تمكنوا من توسيع أراضيهم وبناء اقتتصادهم وتطويره دون أن يدخلوا في صدام مع الغرب، وهذا يعود لأسباب كثيرة أهمها موقع تركيا الجيوستراتيجي وحاجة الولايات المتحدة الماسة لها، ولذلك تفادى الغربيون منذ العشرينات حتى الآن إغضاب تركيا مهما فعلت. تركيا نجحت منذ حرب التحرير التي شنها أتاتورك في عام 1919 في فرض نفسها كحليف للغرب بدلا من أن تكون تابعا، والغرب يتعامل مع الحلفاء بشكل مختلف عن تعامله مع الأتباع، خاصة إذا كان موقع الحليف مهما كموقع تركيا.
مثال آخر (وأكثر إبهارا) على شخصية نجحت في تغيير القانون الدولي هو أدولف هتلر، الذي نجح خلال سنتين فقط في نسف كل النظام العالمي الذي كان قائما على قانون “عصبة الأمم”، وهو قانون وضعه الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى على ألمانيا وحلفائها.
بعد الحرب العالمية الأولى أحس الغربيون بالحاجة إلى تنظيم نزاعاتهم القومية حتى لا تأخذ الشكل العنيف الشامل الذي وقع في عام 1914 مرة أخرى، وبذلك تم إنشاء “عصبة الأمم” والتي لم تكن مرجعية قانونية بالمعنى الفعلي (لأن أي مرجعية قانونية نزيهة بحاجة لقوة مستقلة تسندها وتمكنها من فرض القانون بالتساوي على الجميع، وهو ما افتقدته عصبة الأمم) ولكنها كانت مجرد أداة سياسية لتنظيم الصراعات والنزاعات القومية بين الدول الغربية وحصرها في نطاق ضيق بما لا يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية جديدة وبما يثبّت قدر الإمكان الواقع الجيوسياسي القائم (والذي يناسب مصالح الدول التي أنشأت المنظمة). منظمة “الأمم المتحدة” هي استمرار لنفس المنطق الذي أقيمت على أساسه عصبة الأمم، فهي ليست مرجعية قانونية حقيقية وإنما هي مجرد إطار لتحجيم الصراعات المسلحة ولتثبيت الواقع الجيوسياسي القائم عالميا والذي تم رسمه بعد الحرب العالمية الثانية.
من يريد أن يقوم بإعادة رسم كبيرة للخريطة الجيوسياسية لن يستطيع أن يفعل ذلك في إطار عصبة الأمم أو الأمم المتحدة، ولذلك مثلا نجد أن هتلر ضرب عرض الحائط بعصبة الأمم، ونفس الأمر ينطبق على الولايات المتحدة التي ضربت عرض الحائط بالأمم المتحدة عندما قررت غزو العراق في عام 2003 رغم معارضة أعضاء مجلس الأمن الآخرين لذلك. الأمم المتحدة كانت تحفظ التوازن العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم يعد لوجود الأمم المتحدة مبرر حسب المنطق الأميركي اليميني، ولذلك تجاهلت الولايات المتحدة مجلس الأمن عندما قامت بغزو العراق (المحافظون الجدد في أميركا كان لديهم موقف سلبي جدا من الأمم المتحدة وكانوا يريدون إلغاءها لاعتقادهم بأنها تعيق تمدد الولايات المتحدة في العالم بعد زوال الاتحاد السوفييتي). ولكن الانتكاسات التي أصابت التمدد العسكري الأميركي أجبرت الولايات المتحدة على العودة مجددا إلى منطق الأمم المتحدة لأنها أدركت أنها ليست بالقوة التي كانت تتصورها على الصعيد العالمي.
صدام حسين أيضا أراد تغيير الخريطة الجيوسياسية بالقوة ورغما عن القانون الدولي، ولكنه أخطأ جدا في تقدير موازين القوى وحقيقة الوضع الإقليمي (هو لم يكن يتصور أن المملكة السعودية والدول العربية سيقومون بما قاموا به من تغطية للتدخل العسكري الغربي، وسبب خطئه الجسيم في التقدير هو أنه لم يفهم حقيقة المملكة السعودية وأنها لا تستطيع أن تعارض الولايات المتحدة في مسائل جوهرية تهدد الخريطة الجيوسياسية الإقليمية وحتى الدولية).
السوريون لم يكن لديهم يوما هذا الوهم، وهم يدركون منذ التجربة المريرة لمعركة ميسلون أن تغيير الخريطة الجيوسياسية هو أمر يفوق قدرتهم. الحكومة العربية في دمشق قبل معركة ميسلون كانت لا تعترف بالانتداب الفرنسي إطلاقا وكانت تعلن انها ستحرر لبنان والساحل من الفرنسيين، ولكن معركة ميسلون وما تلاها من انتداب فرنسي قاس للغاية غير نظرة السوريين لأنفسهم وقدراتهم (الانتداب الفرنسي في سورية، كما في معظم الدول الأخرى، لم يفد سورية إلا قليلا جدا وكانت محصلته تخريبا اقتصاديا ودمارا سياسيا واجتماعيا وثقافيا).
فرنسا كانت مصممة منذ احتلالها لدمشق في عام 1920 على تقسيم سورية إلى دويلات عديدة كعقوبة لها على معركة ميسلون وما جرى قبلها من تحدي للانتداب الفرنسي. رئيس الوزراء الفرنسي ميلران طلب من غورور تقسيم سورية إلى 8 دويلات، ولكن غورو أصدر مراسيما بإنشاء 5 دويلات فقط (غورو شرح لميلران في رسالة أرسلها له أن المبالغة في تقسيم سورية ستعطي مفعولا عكسيا لأن بعض الدويلات التي اقترحها ميلران لا تملك مقومات البقاء الذاتي وستضطر لاحقا لطلب الوحدة مع غيرها).
رفضت فرنسا بإصرار طوال فترة الانتداب إعادة توحيد سورية، والتنازل الوحيد الذي قدمته كان قبولها بتوحيد حلب ودمشق في عام 1925، والذي كان عبارة عن مناورة أرادت منها فرنسا إحباط مشروع وحدوي أكبر يشمل حلب ودمشق واللاذقية. بعد أن تم توحيد حلب ودمشق بأشهر قليلة أجرت فرنسا انتخابات نيابية جديدة في حلب فاز فيها موالون لفرنسا يعارضون الوحدة ويريدون فصل حلب مجددا، مما يظهر أن فرنسا لم تكن تريد بصدق توحيد حلب ودمشق وأن قبولها بذلك كان مجرد مناورة، ولكن الوحدة مع ذلك استمرت بسبب عصيان قام به هنانو وأعضاء الكتلة الوطنية في حلب احتجاجا على مشروع الانفصال الذي كان مطروحا وقتها على نار حامية.
بعد توحيد حلب ودمشق في عام 1925 تم إغلاق ملف الوحدة السورية نهائيا من الجانب الفرنسي وتعنتت فرنسا في بحث هذه القضية مجددا، وكانت هذه القضية محل الخلاف الأساسي بين الكتلة الوطنية والفرنسيين حتى عام 1936. في عام 1936 وصل إلى الحكم في فرنسا تحالف اليساريين المسمى بالجبهة الشعبية والذي وافق لأول مرة على بحث مسألة الوحدة السورية، وذهب وفد سوري إلى فرنسا وتم التوصل إلى الاتفاق الشهير الذي وافقت فرنسا بموجبه على توحيد كل الدويلات السورية ما عدا لبنان.
هذا الاتفاق ظل حبرا على ورق لأن البرلمان الفرنسي رفض المصادقة عليه، وبالتالي فهو لم يدخل أبدا حيز التنفيذ. ولكن آثاره الإعلامية كانت مدمرة، حيث أن السوريين في دمشق وحلب اعتبروه فتحا مبينا وانتصارا عظيما، وهو ما أثار حفيظة الأقليات الانفصالية (وهي كثيرة في ذلك الزمن وتشمل موارنة لبنان وتركمان الإسكندرون وأكراد الجزيرة والبدو وقسما من العلويين والدروز). كل هذه الأقليات ثارت في وقت واحد وأعلنت العصيان والرفض لمضمون الاتفاقية بين فرنسا وسورية، فعمت الفوضى والاضطرابات في البلاد، وحاولت الحكومة السورية أن تخضع المتمردين ولكن السلطات الفرنسية منعتها من ذلك تحت ذريعة أن القمع غير مقبول (وهي الموعظة الاستعمارية السامة التي لا يطبقها الغربيون أبدا في بلادهم)، وكانت النتيجة أن أقدم الجيش التركي على غزو لواء الإسكندرون وطرد معظم سكانه العرب والأرمن في عام 1938 تحت ذريعة حماية الأتراك، وتم فصل لواء الإسكندرون عن سورية وفق المؤامرة المعروفة.
هذه الأحداث (وغيرها مما لا أريد أن أتوسع فيه هنا) ساهمت كلها في صياغة العقل السياسي السوري. رغم أن سورية هي دولة حديثة العهد نسبيا إلا أن التجارب التي مرت عليها منذ عام 1920 حتى الآن كانت في معظمها تجارب مريرة وأليمة تركت أثرها على التعاطي السوري مع القضايا الإقليمية. سورية -على سبيل المثال- لديها عقدة تجاه لبنان تعود إلى أيام معركة ميسلون، وهذه العقدة ليست عقدة توسعية كما يردد أعداء سورية وإنما هي عقدة دفاعية. سورية تقبلت استقلال لبنان منذ زمن بعيد ولا يوجد سياسي سوري حاول يوما أن يضم لبنان إلى سورية، وإنما الهدف السوري تجاه لبنان كان وما يزال هدفا دفاعيا بالمقام الأول يهدف إلى منع تكرار سيناريو ميسلون عندما استخدمت فرنسا لبنان كمنصة للانقضاض على دمشق واحتلال سورية وتدميرها (ومن الجدير بالذكر أن الجيش الذي جاء من لبنان إلى دمشق لم يكن فرنسيا خالصا بل كان فيه متطوعون لبنانيون، وهذا حال قسم من اللبنانيين حتى يومنا هذا حيث أنهم لا يكتفون بتسهيل مرور المستعمرين إلى سورية وإنما يساهمون معهم في المجهود الحربي). العلاقة بين لبنان وسورية علاقة معقدة، حيث أن الفريق اللبناني “الانعزالي” أو “الاستقلالي” (تقليديا الموارنة وحاليا سنة الحريري) ينظرون إلى سورية على أنها التهديد الأول لاستقلال لبنان (وهذا ربما يكون مبررا من وجهة نظر جيوسياسية)، وبما أن سورية هي التهديد الأول فهم يتخذون سياسة عدائية تجاهها ويتحالفون مع أعدائها (خاصة أميركا، وإلى درجة أقل إسرائيل وفرنسا). هذا الموقف العدائي يستدعي رد فعل عدائي من سورية، وهو أمر طبيعي، وبالمناسبة فإن سورية عندما اعترفت بلبنان في الأربعينات اشترطت في ذلك ألا يكون لبنان “ممرا للاستعمار ولا مقرا له”، وهذا الشرط غير متحقق في سياسة الانعزاليين أو الاستقلاليين اللبنانيين، وبالتالي فإن سورية معذورة عندما تتدخل في شؤون لبنان الداخلية لأن الاعتراف السوري بلبنان هو من الناحية التاريخية كان اعترافا مشروطا وليس اعترافا مفتوحا، والشرط الذي وضعه السوريون للاعتراف بلبنان لم يكن من باب عقدة التوسع والضم وإنما من باب الدفاع البحت كما يدرك أي ناظر إلى خريطة لبنان وسورية.
الغرب يحاول استباق صعود الصين وروسيا كقوى عظمى لمد نفوذه
الفترة التي نعيشها حاليا هي “الوقت الضائع” بالنسبة للغرب، حيث أن الصين وروسيا توشكان على الصعود كقوى عظمى جديدة في العالم ولكنهما لم تصلا بعد إلى مرحلة القوة الكافية لتحدي الغرب، ولذلك يحاول الغرب انتهاز هذه الفرصة “الذهبية” لمد نفوذه في العالم بأقصى ما يمكن.
هذا النمط من التفكير بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عندما قام جورج بوش الأب بتدمير العراق وحاول بيل كلينتون تصفية القضية الفلسطينية، ولكنه تسارع وأخذ شكلا محموما في عهد جورج بوش الابن. اندفاعة بوش الابن هدأت مجددا مع أوباما، ولكن السياسة ما زالت هي نفسها ولم تتغير.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بدأنا نشاهد سياسات غربية فجة لم نكن نشاهدها منذ عام 1956 (عندما فشل العدوان الثلاثي على مصر وانتهى عصر الاستعمار القديم). بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عاد الغرب مجددا إلى ممارساته الاستعمارية القديمة عندما كان يرسل جيوشه وأساطيله لمد نفوذه الاستعماري بشكل فج. شاهدنا هذا في أحداث العام 1991 عندما أرسلت أميركا أساطيلها إلى الخليج العربي/الفارسي ودمرت العراق (وهو أمر ما كنا لنراه في أيام عز الاتحاد السوفييتي). ثم جاء غزو أفغانستان والعراق ليذكرنا بعصر الاستعمار القديم تماما، حيث ضربت أميركا القانون الدولي بعرض الحائط وأرسلت جيوشها لاحتلال البلدين تحت ذرائع مختلفة تهاوى كثير منها أو معظمها.
مخطط “نشر الديمقراطية في العالم العربي” و”إسقاط الأنظمة العربية” الذي تعمل عليه الولايات المتحدة منذ 10 سنوات لا يخرج أبدا عن هذا الإطار الاستعماري. حجة نشر الحرية هي حجة قديمة استخدمها الغرب قديما (عندما كانت فرنسا تقسم سورية في زمن الانتداب وتضعف الحكومة المركزية كانت تدعي أنها تعطي الحريات وتمنع الحكومة السورية من قمع المحتجين—تماما نفس اللغة التي نسمعها اليوم في ليبيا وسورية). الغرب يحاول الآن أن يهيمن على المنطقة العربية بالكامل وأن “يطهر” سواحل البحر المتوسط من النفوذ الروسي والصيني كما قال أحد مساعدي رونالد ريغان مؤخرا في تصريح لفت انتباه الإعلام غير الغربي.
روسيا والصين تدركان هذا الأمر، ولذلك نجد الموقف الروسي المتصلب في موضوع سورية مثلا. روسيا وافقت مضطرة على قرار مجلس الأمن بخصوص الحظر الجوي على ليبيا (لأنها أحرجت من موقف العملاء العرب في جامعة الدول العربية) ولكنها لم تكن تتخيل أن هذا القرار سيتم استخدامه لإسقاط نظام القذافي. الحظر الجوي هو ممارسة تم تطبيقها في كثير من الدول (العراق في زمن صدام مثلا) وهو أمر مختلف كليا عن إسقاط النظام. إن محاولة الغرب إسقاط نظام القذافي أثارت استياء روسيا الشديد لأن روسيا شعرت بأنها خسرت منطقة جيوسياسية لصالح الغرب دون سبب وجيه، ولذلك هي تتصلب الآن في الموصوع السوري. مسألة سورية بالنسبة لروسيا هي مسألة صراع جيوسياسي كما هو واضح، وبالتالي من المستبعد أن تتخلى روسيا عن سورية (وهذا هو سبب ثقة الوزير المعلم في تصريحاته عن الموقف الروسي). الغرب خدع روسيا في موضوع ليبيا ولكنه لن ينجح في خداعها مجددا في موضوع سورية.
بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا تخشى بشكل جدي من تكرار السيناريو العربي داخل أراضيها (وهناك تجربة سابقة في زمن الاتحاد السوفييتي الذي انهار بسبب التدخل الغربي، وخاصة من ناحية الغزو الثقافي). روسيا حتى الآن ما تزال دولة متعددة الإثنيات والأديان وهي معرضة للتفتيت والتقسيم في حال تدخل الغرب فيها كما يحدث الآن في سورية مثلا، ولهذا السبب ربما نفهم الغضب الروسي الشديد على الولايات المتحدة بسبب فرضها عقوبات على بعض المسؤولين الروس. إن فرض العقوبات على المسؤولين الروس بذريعة “حقوق الإنسان” هي رسالة مخيفة لروسيا في هذه المرحلة وتوحي بأن “الربيع العربي” ربما لا يتوقف عند حدود العرب وإيران بل ربما يمتد نحو روسيا والصين، وهذا خطر جدي أكبر من الخطر العسكري، حيث أن الغرب أثبت أنه يستطيع تدمير الدول بالغزو الثقافي (بـ”الحرية والديمقراطية”) بشكل أكثر فعالية بكثير من الغزو العسكري (وما أقصده بالحرية والديمقراطية هي الديمقراطية الأميركية التي تحدثت عنها في تدوينة سابقة والتي هي اسم كودي للقومية الأميركية).