وليد جنبلاط يوصف عادة بأنه متقلب، ولكنه فيما يخص الأزمة السورية وتداعياتها لم يظهر تقلبا. هو حافظ على مبدأ ثابت منذ بداية الأزمة السورية وحتى الآن.
سياسة
قناة الجزيرة: لورنس العرب الجديد؟
كثير من المعلقين يتحدثون عن الثورة العربية الحالية وكأنها ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العرب، وهذا كلام غير صحيح حيث أن الثورة العربية الكبرى التي قامت أثناء الحرب العالمية الأولى لم تكن تختلف في معظم تفاصيلها عن الثورة الحالية.
الثورات الشعبية العفوية لا تقوم إلا لسبب اقتصادي (ضائقة اقتصادية خانقة)، ولكن تسييس الثورات يأتي عادة من مثقفي الطبقة الوسطى (البورجوازيين) الذي يمتطون الثورات ويوجهونها حسب رؤيتهم (التي تخدم عادة مصالحهم).
في أواخر العصر العثماني كانت البلاد العربية الآسيوية تعيش في ظل النظام العثماني المهترئ، وكان المثقفون العرب المتأثرون بالغرب مقتنعين تماما بأن سبب كل مصائبهم هو الحكم التركي الذي يورث التخلف والفقر وأن هذا الحكم لا قابلية لإصلاحه. بالطبع كانت هناك أيضا النزعة القومية العربية التي نشأت كرد فعل على القومية التركية، وهذه النزعة ساهمت في ترسيخ القناعة لدى المثقفين العرب المتأثرين بالغرب بأن سبب تخلفهم هو الحكم التركي.
فكرة أن “الحكم التركي” هو سبب التخلف هي فكرة غربية الأصل والفصل والمثقفون العرب اقتبسوها عن الغربيين. الدول الغربية كانت تسعى لإضعاف الدولة العثمانية بوسائل متعددة، وإحدى أهم هذه الوسائل كانت إشعال الصراعات القومية داخل السلطنة وتحريض الأقليات ضد العنصر التركي. كان الغربيون ينشرون بين رعايا الدولة العثمانية من غير الأتراك أن الأتراك هم سبب التخلف وأنهم عنصر همجي متوحش غير قابل للإصلاح والتطور. هذه النظريات العنصرية كانت شائعة في الغرب قبل سقوط الدولة العثمانية وهي كانت تلقى صدى لدى المثقفين غير الأتراك داخل الدولة العثمانية بمن فيهم العرب.
ما يجهله كثير من الناس هو أن السلطنة العثمانية كانت تعيش في أواخر عهدها نهضة إصلاحية. الإصلاحات في تركيا بدأت منذ أواسط القرن التاسع عشر وتسارعت مع سيطرة القوميين الأتراك على السلطة في بداية القرن العشرين. السلطنة العثمانية نجحت في تحديث قوانينها وإداراتها ونجحت كذلك في تحديث جيشها (خاصة بالتعاون مع الألمان)، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت هناك بوادر نهضة اقتصادية حقيقية في السلطنة وقد وصلت بوادر هذه النهضة إلى بلاد العرب مع إنشاء خط سكة الحديد الحجازية والذي كان من شأنه تطوير اقتصاد الأقاليم العربية بشكل كبير.
لم تعش السلطنة طويلا لكي تظهر عليها نتائج الإصلاحات، فالحرب العالمية الأولى اندلعت في عام 1914، وبخلاف ما توقع الحلفاء الغربيون فإن السلطنة صمدت في وجه الروس وتمكنت من صد هجوم غاليبولي، مما أظهر أن السلطنة العثمانية لم تكن بالضعف والتداعي الذي كان يتوهمه الغرب. كان للألمان دور كبير في تطوير وتقوية الدولة العثمانية قبيل الحرب. ولكن سوء إدارة الضباط الاتراك للحرب واتخاذهم قرارات خاطئة قاتلة أدت إلى هزيمة الدولة العثمانية في النهاية بفعل المجاعة وانهيار الاقتصاد.
خلال الحرب قامت بريطانيا بإغراء شريف الحجاز لكي يثور على الأتراك مقابل أن يتولى هو حكم العرب. وأشاعت بريطانيا بين بدو الحجاز فكرة الثورة على الأتراك لتحقيق حرية العرب، وقامت بتوزيع الذهب والأسلحة عليهم لكي يهاجموا المراكز العسكرية العثمانية ويدمروا السكك الحديدية وخطوط الإمدادات، وسهلت هذه الثورة العربية على بريطانيا احتلال سورية الكبرى التي دخلها الإنكليز بدون مقاومة إلا من الأتراك، حيث أن الجنود الأتراك كانوا هم فقط من قاوم القوات البريطانية وأما العرب فاستقبلوا القوات البريطانية بالتهليل والترحيب على أساس أنها محرر العرب الذي سيجلب لهم الحرية والتقدم. وكان مما زاد نقمة العرب على الأتراك المجاعة التي وقعت في سنوات الحرب وقيام إبراهيم باشا والي الشام بإعدام بعض المثقفين العرب الذين كانوا ينادون بحرية العرب واتهموا بأنهم يتواصلون مع الغرب لتحقيق لذلك.
لم تمض إلا سنوات قليلة قبل أن يتبين للعرب أن ثورتهم على الأتراك لم تأت لهم بالحرية ولا بالتقدم، وإنما على العكس من ذلك فإنها أتت لهم بالذل والتقسيم والشرذمة والتخلف، ومقارنة بسيطة بين حال تركيا اليوم وحال سورية الكبرى مثلا تظهر من الذي كان الخاسر الأكبر من الثورة العربية.
هذه التجربة الثورية الفاشلة تكررت في مناطق كثيرة من العالم، ولعل من أبرز الأمثلة ما سمي بالبروسترويكا في الاتحاد السوفيتي السابق (التي تمت تحت ضغط الغرب) والتي قادت في النهاية إلى تفتيت الاتحاد السوفيتي وتدمير اقتصاده وقسم كبير من نفوذه الدولي وحتى الإقليمي. هذا الانحطاط والدمار الكبير الذي وقع في روسيا تحت شعارات الحرية والديمقراطية (المستوردة معلبة من الغرب) هو ما دفع الروس إلى الالتفاف حول القبضة الصارمة لفلاديمير بوتين وتجاهل الهجوم الغربي الدائم عليه. الروس فقدوا الثقة بشعارات الحرية الغربية التي لا تنبع من حرص على حرية الشعوب الأخرى بقدر ما تنبع من رغبة في اختراق الدول التي لا تسير في الفلك الغربي.
الثورة العربية الحالية هي بلا شك مثال جديد على ثورات “الحرية الكاذبة” التي تهدف في البداية والنهاية إلى خدمة المصالح الغربية ولا شيء آخر. لقد تحمسنا في البداية للثورة التونسية التي اندلعت بشكل عفوي وكانت في بدايتها حركة شعبية تونسية خالصة (رغم أنني شخصيا لا أؤمن بأن الإصلاح يمكن أن يتم من خلال “الثورات” لأن هذا كلام غير علمي يخالف المنطق وتجارب التاريخ). وجاءت بعد ذلك الثورة المصرية التي لم تكن ثورة عفوية وإنما كانت إلى حد كبير ثورة مفتعلة وغير طبيعية وكانت الرائحة الأميركية تفوح منها من بدايتها إلى نهايتها.
إن الولايات المتحدة تنفق ملايين الدولارات منذ عام 2001 إلى الآن لتحقيق هدف تسميه “نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.” الأميركان يعتقدون أن الأنظمة الموجودة في الشرق الأوسط قامت بتوليد الإرهاب، ولذلك فإن القضاء على جذور الإرهاب حسب اعتقادهم يكون بإخراج المنطقة من حالة الركود السياسي وإدخالها في حالة من المخاض سماها بعضهم “الفوضى الخلاقة”. تحقيق الفوضى الخلاقة يستلزم وجود قوى سياسية حية بإمكانها تحدي الأنظمة القائمة، وهذا هو ما قامت الولايات المتحدة بصنعه حيث أنها قامت بإنفاق ملايين الدولارات في مصر وغيرها لإنشاء قوى ليبرالية موالية فكريا للغرب وناقمة على التاريخ العربي تحت شعار دعم الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني. هذه القوى هي التي صنعت الثورة المصرية بتأثر من الثورة التونسية، ولذلك فإنها حظيت بدعم وتغطية من الولايات المتحدة التي منعت الجيش المصري من قمع الثورة المصرية بخلاف ما حصل مثلا مع الثورة البحرينية التي تم قمعها بوحشية دون أن ينبس الغرب ببنت شفة.
مشكلة القوى التي تصنع الثورات العربية الحالية أنها مزيج من قوى “إسلامية” وهابية وإخوانية وقوى ليبرالية تابعة فكريا للثقافة الأميركية (قوى رجعية كما كان الوطنيون يسمونها قديما)، وهكذا قوى لا يمكنها أبدا أن تصنع دولا وطنية كما أثبتت تجارب التاريخ. الليبرالية الأميركية حينما تسيطر على بلد معاد للولايات المتحدة فإنها تقود إلى خرابه وتقسيمه، والأمثلة كثيرة بدءا من الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء بالعراق الجديد. الليبرالية الأميركية كما تحدثت عنها سابقا هي في الحقيقة تعني القومية الأميركية. إذا سيطرت الليبرالية الأميركية على بلد وكانت المصلحة الأميركية تقتضي ازدهاره فإنه سيزدهر (أمثلة: السعودية ودول الخليج)، وإذا سيطرت الليبرالية الأميركية على بلد وكانت المصلحة الأميركية تقتضي تخريبه فإنه سيخرب (أمثلة: روسيا، العراق، ليبيا).
“الإسلاميون” والليبراليون الموالون للغرب ليس لديهم فكر قومي أو وطني، وبالتالي فهم معلقون تماما بحبال الولايات المتحدة وحبال النزعات والعصبيات الضيقة غير الوطنية، وهذا ما يجعلهم وسيلة مثلى لتحقيق القوضى الخلاقة. إنني أتوقع (كما يتوقع الكثيرون غيري) أن الثورات التي نعيشها حاليا ستقود إلى مزيد من التقسيم للكيانات العربية الموجودة حاليا وإيجاد كيانات جديدة خاضعة كليا لسيطرة الولايات المتحدة والغرب، تماما كما حدث عقب الثورة العربية الكبرى.
خلال الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا تستخدم رجلا بريطانيا يتقن العربية يدعى لورنس العرب (وهو ضابط استخبارات بريطاني) لتحريض العرب على الثورة ضد الأتراك تحت شعار الحرية. في الحرب العالمية الأميركية على الإرهاب يتم استخدام عدة قنوات أجنبية ناطقة بالعربية لتحريض العرب للثورة على ما تبقى من الأنظمة الوطنية العربية تحت شعار الحرية، فهل سيتذكر التاريخ هذه القنوات الخليجية (التابعة في المحصلة للغرب) على أنها قامت بنفس الدور الذي قام به لورنس العرب في الثورة العربية الكبرى؟