الاقتصاد السوري… هل سينمو بقوة؟ وإلى متى؟

مقال السيد جورج صغير يلفت النظر مجددا إلى مشكلة سورية القديمة المتجددة، والتي تتشارك فيها سورية مع كثير من البلدان العربية والنامية، ألا وهي التسارع في النمو السكاني ونمو قوة العمل الذي يفوق معدل خلق الوظائف، وبالتالي تزايد معدل البطالة وما يستتبعه ذلك من ثورات شعبية كما حدث في تونس ومصر مؤخرا.

السيد صغير يقارن بين نموذجين؛ نموذج “فاشل” هو النموذج المصري، حيث فشلت الحكومة في تنمية الاقتصاد بوتيرة كافية لتلاقي احتياجات السكان المتزايدة للوظائف، ونموذج ناجح هو النموذج التركي، وينصح السيد صغير بتقليد تركيا وليس مصر.

الانفتاح الاقتصادي في مصر بدأ قبل ثلاثين سنة، ولكن الحكومات المتعاقبة فشلت في إحداث إصلاحات كافية، وبالتالي فإن معدل النمو وتدفق الاستثمارات الأجنبية كانا أقل من المطلوب لتحسين حصة الفرد من الناتج الإجمالي المحلي؛ وحتى عندما بدأت معدلات النمو وتدفق الاستثمارات الخارجية تتحسن بقوة في السنوات الأخيرة في ظل حكومة أحمد نظيف فإن التحسن كان في الواقع متأخرا جدا، والأسوأ أنه لم ينعكس بشكل كاف على الطبقات الدنيا من الشعب، وسبب هذا غير واضح تماما بالنسبة لي كوني غير ملم بتفاصيل الاقتصاد المصري، ولكن ما فهمته هو أن الفساد وعدم عدالة النظام الضريبي لعبا دورا في هذه المأساة التي انتهت إليها مصر بعد أن كان اقتصادها يبدي نموا قويا على الورق.

وضع الاقتصاد السوري هو بلا شك أسوأ من وضع الاقتصاد المصري، رغم أن قلة عدد السكان مقارنة بعدد سكان مصر قد خدمتنا في العقود الماضية ولهذا فإننا لم نشهد معدلات فقر مرتفعة كما هو الحال في مصر؛  ولكن لا شك أن التعويل على قلة عدد سكان سورية لم يعد يجدي نفعا خاصة مع النمو السكاني الكبير حاليا وما تردد كثيرا في العقد الأخير عن قرب نضوب النفط السوري.

النفط إما أن يكون نعمة على البلد أو نقمة عليه، وفي الحالة السورية كان النفط نقمة للأسف. لقد اصطدمت الحكومة السورية في أوائل الثمانينات بفشل النهج الاقتصادي الذي كانت تسير عليه في السبعينات، ومن المعروف أن الاقتصاد السوري عانى الأمرين في حقبة الثمانينات حيث أن النمو الاقتصادي وصل في عام 1984 إلى ما تحت الصفر (انظر إلى هذا الرسم البياني الذي يظهر نمو الاقتصاد السوري بين عامي 1960 و2009 حسب أرقام البنك الدولي)، وكانت الخزينة السورية حينها مفلسة كما روى الوزير مصطفى طلاس في كتابه عن تلك الحقبة، ورغم أن الوزير طلاس حمل مسؤولية الإفلاس لرئيس الوزارة حينها عبد الرؤوف الكسم إلا أن سبب الانهيار الاقتصادي كان في الحقيقة يعود لأسباب هيكلية أعمق من ذلك بكثير وهي تعود إلى فشل النهج الاقتصادي الذي كانت الدولة السورية تسير عليه في ذلك الوقت والذي كان مستمدا من نموذج الاتحاد السوفييتي.

حاول الرئيس حافظ الأسد بعد “الحركة التصحيحية” الابتعاد عن النموذج “الاشتراكي” الجاف الذي كان مطبقا في أواخر الستينات ولجأ بدلا من ذلك إلى نموذج اقتصاد الدولة المخطط، ورغم أن الاقتصاد السوري حقق نموا كبيرا في السبعينات إلا أن هذا النمو سرعان ما أثبت أنه غير مستدام في أوائل الثمانينات، وأسباب ذلك هي في الأساس داخلية هيكلية وليست خارجية (انظر دراسة Volker Perthes). لقد توصلت الحكومة السورية في أواخر الثمانينات إلى قناعة بحتمية الإصلاح الاقتصادي للخروج من حالة العجز والانكماش المستمر، ولكن ارتفاع إنتاج النفط السوري في تلك الفترة كان له تأثير سلبي حيث أن الدولة لجأت إلى عائداته لتغطية العجز وترقيع الاقتصاد المهترئ بدلا من الشروع في إصلاح اقتصادي جدي وعميق، ولذلك تحولت عملية الإصلاح الاقتصادي في التسعينات إلى مجرد شعار لم ينعكس على أرض الواقع إلا بخطوات بسيطة وشكلية لم تسمن ولم تغن من جوع، فاستمر الاقتصاد متخبطا في ركوده وأزماته إلى أن جاءت حكومة السيد ناجي عطري في عام 2003 وبدأ الإصلاح الاقتصادي يأخذ طابعا أكثر جدية.

لا شك أن للإصلاح الاقتصادي في سورية ثمنا سياسيا سيضطر من هو في سدة الحكم لدفعه، فالانتقال بمجتمع من نمط حياة سوفييتي إلى نمط حياة ليبرالي هو عملية ليست بالبسيطة وتنطوي على خسارة سياسية لمن يقوم بها، فلا أحد يحب أن يكون في سدة الحكم حينما تأخذ الحكومة قرارات غير شعبية من قبيل رفع أسعار المحروقات وإلغاء مجانية التعليم والاستشفاء وغير ذلك، خاصة وأن هكذا قرارات يصعب تبريرها وتوضيح الغاية منها أمام مجتمع نشأ وتربى على الشعارات السوفييتية البالية، ولهذا السبب فإن الحكومة السورية تلكأت لعقدين من الزمن عن الشروع الجدي في الإصلاح وفضلت بدلا من ذلك الاعتماد على عائدات النفط كـ”حل سحري” يقيها من التبعات السياسية لأي عملية إصلاح جدية، وهذه السياسة الهروبية أدت فقط إلى تفاقم المشكلة الهيكلية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد السوري وجعلت الإصلاح الاقتصادي أصعب وتبعاته الشعبية أكبر.

بعد مجيء الرئيس بشار الأسد إلى الحكم وتبنيه للإصلاح الاقتصادي حدث تغير في نهج الدولة السورية. لا شك أن ما تردد عن قرب نضوب النفط السوري في العقدين القادمين كان له دور ضاغط على المسؤولين السوريين للمضي قدما في عملية الإصلاح بشكل جدي، لأن الاعتماد على عائدات النفط لتغطية العجز والاهتراء هو أمر قد ينجح في تأجيل القدر المحتوم لفترة من الزمن ولكن تلك الفترة لن تكون بالطويلة.

لقد أحس المواطن السوري بـ “حرارة” الإصلاح الاقتصادي لأول مرة في عام 2007 عندما قررت الحكومة السورية رفع أسعار المازوت بعد تدبر وتأمل استمر لأشهر طويلة، وما حسم هذا التردد الطويل لم يكن في الحقيقة شجاعة الحكومة بقدر ما كان الارتفاع غير المسبوق لأسعار المحروقات عالميا في تلك الفترة والذي أجبر الحكومة إجبارا على رفع أسعار المحروقات لتفادي الإفلاس، ولكن رب ضارة نافعة، فكما أن ارتفاع الإنتاج النفطي في أواخر الثمانينات كان سببا لتعطيل الإصلاح وإضاعة عقدين من الزمن على سورية فإن ارتفاع أسعار النفط غير المسبوق في العقد الأخير والذي وصل إلى رقم قياسي هو 147$ للبرميل في تموز 2008 كان “النقرة” التي حفزت الحكومة السورية أخيرا لكي تسرع في تطبيق برنامجها الإصلاحي بشكل جدي.

ما يلي مقال ممتاز للسيد إيلي الحج عن أهم العقبات التي تواجه الاقتصاد السوري في المرحلة المقبلة:

http://www.joshualandis.com/blog/?p=7710