الدماغ البشري (12)

في المقال الأخير من هذه السلسلة تحدثت عن أنواع الحركة الانتقالية locomotion لدى الحيوانات، وبينت أن نوع الحركة الانتقالية الذي كان سائدا لدى الفقاريات البدائية هو الحركة التموجية undulatory locomotion. عندما ظهرت الفقاريات رباعية الأرجل tetrapods ظهر نوع جديد من الحركة الانتقالية يعتمد على الأطراف المُمَفْصلة jointed limbs. الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة تشمل مثلا حركات المشي والركض والقفز والخفق بالأجنحة.

تنفيذ الحركة الانتقالية التموجية يعتمد على العضلات الباسطة المحوريةaxial extensor muscles  التي يؤدي تقليصها إلى بسط الجسم. في مقالات سابقة بينت أن هناك أنوية في التشكل الشبكي reticular formation في الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon يؤدي تنشيطها إلى تقليص أو إرخاء العضلات الباسطة المحورية. هذه الأنوية هي ما يلي:

  • النواة الشبكية عملاقة الخلايا gigantocellular reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • النواة الشبكية الجسرية الذيلية caudal pontine reticular nucleus (في الجسر الذيلي)
  • النواة الشبكية الجسرية الفموية oral pontine reticular nucleus (في الجسر المنقاري)

هذه الأنوية ترسل أليافا نازلة نحو القرنين البطنيين للحبل الشوكي عبر الطريق الشبكي-الشوكي reticulospinal tract. من خلال هذه الألياف يمكن لهذه الأنوية أن تثير أو تثبط الخلايا المحركة الجسمانية somatic motor المسؤولة عن تقليص العضلات الباسطة المحورية.

reticular formation

في المقال الأخير تحدثت عن النواة الحمراء كبيرة الخلايا magnocellular red nucleus الموجودة في القسم المنقاري من الدماغ الأوسط rostral midbrain. هذه النواة ترسل أليافا نازلة نحو القرنين البطنيين للحبل الشوكي عبر الطريق الأحمر-الشوكي rubrospinal tract. هذه الألياف تصل لدى القطط (وغيرها من الثدييات) نحو القسم القَطَني lumbar من الحبل الشوكي حيث توجد الخلايا المحركة الجسمانية المسؤولة عن تقليص عضلات الطرفين الخلفيين (الرجلين)، ولكنها لدى البشر لا تنزل أبعد من القسم الرَقَبيcervical  من الحبل الشوكي حيث توجد الخلايا المحركة الجسمانية المسؤولة عن تقليص عضلات الطرفين الأماميين أو العلويين (الذراعين). بعض الباحثين يعتقدون أن النواة الحمراء كبيرة الخلايا هي مسؤولة عن الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة. الضمور الذي أصاب هذه النواة وأليافَها لدى البشر ربما يعود إلى تغير طريقة الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة لدى البشر: البشر يعتمدون على المشية ثنائية القدم bipedal وليس المشية رباعية القدمquadrupedal  كبقية الفقاريات رباعية الأرجل (للمزيد من المعلومات حول النواة الحمراء راجع المقال السابق).

إيقاع الحركة الانتقالية

أحد العناصر المهمة للحركة الانتقالية لدى الفقاريات هو الإيقاع rhythm. من يراقب الحركة الانتقالية التموجية أو الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة سوف يلاحظ أن هذه الحركات هي حركات إيقاعية rhythmic، بمعنى أنها تتكون من حركات تتكرر باستمرار.

الحركة التموجية هي عبارة عن تكرار لحركة شبيهة بالموجة الجيبية sine wave (ومن هنا جاءت تسميتها بالحركة التموجية).

موجة جيبية

تردد الموجة الجيبية frequency يساوي حاصل قسمة السرعة التي تنتقل بها الموجة (سرعة الطور phase velocity) على طول الموجة wavelength.

حركة المشي هي عبارة عن تكرار لحركة تسمى الخطوة step. الباحثون يقسمون “حلقة الخطو” step cycle إلى طورين:

  • طور الوقوف stance phase أو طور البسط extension phase (عندما تكون القدم ملامسة للأرض)
  • طور التأرجح swing phase أو طور الثني flexion phase (عندما تكون القدم غير ملامسة للأرض)

هذه الصورة المتحركة تبين حركة المشي لدى الفيل:

الباحثون يقيسون حركة المشي في العادة بناء على حركة الطرف الخلفي الأيسر. عندما يكمل الطرف الخلفي الأيسر حلقة الخطو (طور الوقوف + طور التأرجح) فإن هذه تعتبر مشية كاملة. إذن لو أردنا أن نقيس تردد المشي لدى كائن ما فيجب علينا أن نقيس الزمن الذي تستغرقه حلقة الخطو للطرف الخلفي الأيسر.

الباحثون لاحظوا أن تردد أو سرعة المشي يعتمد في الأساس على الفترة الزمنية التي يستغرقها طور الوقوف. طور التأرجح هو عموما ثابت ولا يتغير كثيرا سواء كانت المشية سريعة أم بطيئة. ما يتغير في الأساس هو طور الوقوف. المشي السريع أو الركض يتم عبر تقليص الفترة الزمنية التي يستغرقها طور الوقوف.

الحركة الانتقالية الشوكية

الباحثون لاحظوا منذ القرن 19 أن الحبل الشوكي هو قادر بمفرده على إنتاج حركة المشي، دون تدخل من الدماغ.

هذا الاكتشاف ظهر من التجارب على الحيوانات “المُشَوَّكة” spinalized. المقصود بكلمة “التشويك” spinalization هو فصل الدماغ عن الحبل الشوكي. الحيوان الذي تم قطع دماغه بالكامل بحيث لم يبق من جهازه العصبي المركزي سوى الحبل الشوكي يسمى حيوانا مُشَوَّكًا spinalized.

الباحثون لاحظوا أن الحيوانات المشوكة تستطيع أن تمشي. هم حفزوا الأطراف الخلفية لحيوانات مشوكة وهذا أدى لتحركها على نحو شبيه بالمشي. لهذا السبب الباحثون رأوا أن حركة المشي هي منعكس شوكي.

الكلام التالي مأخوذ من كتاب نشر في عام 1879 للمؤلف Michael Foster:

. . . the [spinal] cord contains a number of more or less complicated mechanisms capable of producing, as reflex results, co-ordinated movements(?) altogether similar to those which are called forth by the will. Now it must be an economy to the body, that the will should make use of these mechanisms already present, by acting directly on their centers, rather than it should have recourse to a special apparatus of its own of a similar kind.

Cited in Wilfrid Jänig (2006), The Integrative Action of the Autonomic Nervous System

في القرن العشرين تبين أن الحركة التموجية للفقاريات البدائية (مثلا سمكة اللامبري lamprey) يمكن أيضا أن تنتج من الحبل الشوكي دون تدخل الدماغ. التجارب على سمكة اللامبري “المُشَوَّكة” أثبتت ذلك.

إذن حركتا التموج والمشي هما مزروعتان في الحبل الشوكي على نحو شبيه بالمنعكسات الشوكية، ولكن الباحثين حاليا (حسب علمي) لا يصنفون هاتين الحركتين ضمن المنعكسات الشوكية. السبب الأساسي لذلك هو أن هاتين الحركتين هما حركتان إيقاعيتان بخلاف المنعكسات الشوكية البسيطة.

spinal reflex

المنعكس الشوكي البسيط هو عبارة عن دارة circuit. لكي يحدث رد الفعل لا بد من أن يكون هناك فعل. الفعل الواحد ينتج رد فعل واحدا. لكي يتكرر رد الفعل لا بد من تكرار الفعل.

منعكسا التموج والمشي لا يعملان بهذه الطريقة. لو قمنا بتنشيط هذين المنعكسين فإنهما سيظلان ناشطين بعد انقطاع المؤثر الحسي الذي أدى لتنشيطهما. هذا يدل على وجود إيقاع ذاتي أو أوتوماتيكي لهذين المنعكسين.

الباحثون حاليا يعتقدون أن هناك شبكات عصبية في الحبل الشوكي (مكونة من خلايا ربطية interneurons) تقوم بتوليد إيقاع التموج والمشي. هذه الشبكات لا تحتاج لمؤثر حسي لكي تستمر في العمل، أي أنها تولد الإيقاع بشكل ذاتي أو أوتوماتيكي.

بعض المؤلفين (Wilfrid Jänig) أطلقوا على هذه الشبكات مسمى “البرامج المحرّكة الشبكية” spinal motor programs، ولكن التسمية التي ترد في غالبية المصادر هي “مولدات النمط المركزية” central pattern generators.

المقصود بمولد النمط المركزي هو شبكة عصبية قادرة على توليد إيقاع تلقائي دون الحاجة لمؤثر حسي. أهم مولدات النمط المركزية لدى الفقاريات هي ما يلي:

  • مولدات نمط الحركة الانتقالية locomotion pattern generators (في الحبل الشوكي)
  • مولدات نمط التنفس respiration pattern generators (في النخاع المستطيل)
  • مولدات نمط البلع swallowing pattern generators (في النخاع المستطيل)

مولدات نمط الحركة الانتقالية هي ممتدة على طول الحبل الشوكي لدى سمكة اللامبري، ولكنها لدى الحيوانات رباعية الأرجل تتركز في المنطقتين الرقبية cervical والقطنية lumbar. المنطقة الرقبية من الحبل الشوكي تحوي الخلايا المحركة المسؤولة عن قبض وبسط الطرفين الأماميين، والمنطقة القطنية تحوي الخلايا المحركة المسؤولة عن قبض وبسط الطرفين الخلفيين.

مولدات نمط الحركة الانتقالية الموجودة في المنطقة القطنية هي التي تحدد إيقاع المشي لدى الحيوانات ذات المشية رباعية القدمquadruped . هناك ألياف صادرة من مولدات النمط الموجودة في المنطقة القطنية نحو مولدات النمط الموجودة في المنطقة الرقبية، ولكن ليس العكس. هذا يعني أن مولدات النمط الرقبية تتبع في إيقاعها مولدات النمط القطنية.

الخلايا المكونة لمولدات نمط الحركة الانتقالية هي خلايا ربطية interneurons من نوعين:

  • خلايا إثارية excitatory مفرزة للـ glutamate
  • خلايا تثبيطية inhibitory مفرزة للـ glycine

هذه الخلايا تتلقى أليافا واردة من مصدرين:

  • ألياف محيطية واردة من المستقبلات الحسية في الجلد والعضلات الهيكلية والمفاصل.
  • ألياف مركزية واردة من الدماغ (عبر الطريق القشري-الشوكي corticospinal والطريق الشبكي-الشوكيreticulospinal  والطريق الدهليزي-الشوكيvestibulospinal  والطريق الأحمر-الشوكي rubrospinal).

الألياف المحيطية الحسية تلعب دورا هاما في تنظيم عمل مولدات نمط المشي. مثلا لو مشت الأقدام على أرض مغطاة بالحصى فهذا سينشط المستقبلات الحسية الموجودة في الجلد، والإشارات الواردة من هذه المستقبلات ستؤدي إلى تعديل المشية. أيضا إشارات الحس الذاتي proprioception الواردة من المستقبلات الحسية في العضلات الهيكلية والمفاصل تؤدي إلى تعديل سرعة وشدة تقلص عضلات الأطراف بهدف المحافظة على ثبات واتزان المشية.

المشي هو في الحقيقة منعكس مركب من مجموعة كبيرة من المنعكسات المتداخلة والمتراكبة (على غرار منعكسي التنفس والبلع وغيرهما من المنعكسات المركبة). من الأمور اللافتة أن خلايا مولدات نمط المشي تؤدي وظائف أخرى إلى جانب وظيفة توليد نمط المشي:

[The] spinal motor programs [=central pattern generators] are not static in the sense that one population of interneuron is involved in only one motor program (e.g., spinal locomotion), but rather is dynamic. Thus, individual groups of interneurons may be part of several spinal motor programs depending on the synaptic afferent inputs and on the behavioral state of the organism.

Wilfrid Jänig (2006), The Integrative Action of the Autonomic Nervous System p. 364

المقصود بهذا الكلام هو أن مجموعات معينة من الخلايا المولدة لنمط المشي يمكن أن تساهم في توليد أنماط أخرى من الحركة. هذا يدل على أن “نمط المشي” هو في الحقيقة مجموعة من الأنماط الحركية المتداخلة وليس نمطا واحدا.

بعض الباحثين حاليا يشطرون مولدات نمط المشي إلى مجموعة كبيرة من مولدات النمط الصغيرة. هم أولا يميزون بين مولدات نمط المشي الخاصة بكل طرف من الأطراف الأربعة. مثلا هم يعتبرون أن هناك مولدات نمط خاصة بالطرف الخلفي الأيمن وأخرى خاصة بالطرف الخلفي الأيسر وهكذا. هذا التمييز يفسر الطابع التناوبي alternating المشاهد في حركة الأطراف أثناء المشي. مثلا لو نظرنا إلى الأطراف الخلفية أثناء المشي فسنجد أن الطرف الأيمن يكون في طور الوقوف أو البسط عندما يكون الطرف الأيسر في طور التأرجح أو الثني، والعكس صحيح. هذا الأمر يمكن تفسيره لو أننا افترضنا أن هناك مولدات نمط منفصلة لكل من الطرفين.

الباحثون وجدوا أن بعض الخلايا الربطية التثبيطية في النصف الأيمن من الحبل الشوكي تصدر أليافا نحو النصف الأيسر من الحبل الشوكي، والعكس صحيح. بناء على ذلك هم يفترضون أن تنشيط مولدات نمط المشي الخاصة بالطرف الأيمن يؤدي إلى تثبيط مولدات نمط المشي الخاصة بالطرف الأيسر، والعكس صحيح. هذه النظرية تفسر الحركة التناوبية للأطراف أثناء المشي.

بعض الباحثين يشطرون مولدات النمط الخاصة بكل طرف من الأطراف إلى مجموعات حسب المفاصل أو الكتل العضلية المختلفة في الطرف. مثلا هم يميزون بين مولد النمط المسؤول عن ثني مفصل الورك، ومولد النمط المسؤول عن بسط مفصل الورك، ومولد النمط المسؤول عن ثني مفصل الركبة، ومولد النمط المسؤول عن بسط مفصل الركبة، إلخ.

وفق هذه الرؤية فإن حركة المشي هي عبارة عن شبكة من المنعكسات الإيقاعية التي تعمل بتناغم فيما بينها، ونفس الأمر ينطبق طبعا على حركة التموج والحركات الإيقاعية الأخرى التي تتولد من الحبل الشوكي والجهاز العصبي المركزي بشكل عام.

الرسم التالي يعبر عن آلية التحكم بالحركة التموجية لدى سمك اللامبري (مصدر الرسم):

central pattern generators locomotion lamprey

الخلايا الموجودة داخل المستطيلين الأسودين تعبر عن مولدات نمط حركة التموج. الخلايا التي تحمل الرمز E هي خلايا ربطية إثارية excitatory interneurons. الخلايا التي تحمل الرمز I هي خلايا ربطية تثبيطية inhibitory interneurons. الخلايا التي تحمل الرمز M هي الخلايا المحركة motor neurons. الخلايا الربطية الإثارية تثير كل أنواع الخلايا الموجودة على نفس جهتها، والخلايا الربطية التثبيطية تثبط كل أنواع الخلايا الموجودة في الجهة المقابلة. الرمز SR-E يعني المستقبلات الحسية الإثارية، والرمز SR-I يعني المستقبلات الحسية التثبيطية. المستقبلات الحسية الإثارية تثير الخلايا الموجودة على نفس جهتها، والمستقبلات الحسية التثبيطية تثبط الخلايا الموجودة على الجهة المقابلة. مولدات النمط تخضع لتأثير ألياف دماغية مفرزة للـ serotonin (اختصاره 5-HT) وألياف دماغية مفرزة للـ GABA وألياف دماغية مفرزة للـ norepinephrine نازلة من الموضع الأزرق locus coeruleus (الألياف الأخيرة غير مبينة على الرسم). الرمز RS يعني خلايا التشكل الشبكي التي تصدر الألياف الشبكية-الشوكية reticulospinal (خلايا إثارية مفرزة للـ glutamate). تنشيط هذه الخلايا يؤدي إلى تنشيط خلايا مولدات النمط في الحبل الشوكي. هذه الخلايا هي واقعة تحت تأثير مركز الحركة الانتقالية في الدماغ الأوسط mesencephalic locomotor region (يحمل الرمز MLR على الرسم) ومركز الحركة الانتقالية في الدماغ البيني diencephalic locomotor region (يحمل الرمز DLR على الرسم). هذان المركزان هما بدورهما خاضعان لتأثير تثبيطي أو كابح من العقد القاعدية basal ganglia.

هذا الرسم التخطيطي يلخص الآلية العصبية المسؤولة عن الحركة الانتقالية لدى سمك اللامبري، الذي هو أحد أكثر الفقاريات بدائية. قشرة المخ المحركة motor cortex لا تظهر في هذا الرسم. السبب هو أن هذه القشرة هي تطور حديث ظهر لأول مرة مع ظهور الثدييات المشيمية placental mammals قبل حوالي 150 مليون عام.

تحكم الدماغ بالحركات العضلية

مما سبق يتبين أمر هام وهو أن الدماغ ليس مسؤولا عن توليد حركة المشي (والركض والقفز والطيران إلخ)، ولكن الدماغ يتحكم بهذه الحركات.

حركة المشي تنتج من تآزر مجموعة من المنعكسات الشوكية. في الحقيقة كل حركات الجسم الفقاري تنتج من تآزر منعكسات شوكية أو بصلية. تنسيق منعكسات المشي وغيرها من المنعكسات يتم أساسا بشكل محلي في القطع العصبية التي تنتج هذه المنعكسات. ما تقوم به المراكز الدماغية العليا هو مؤازرة القطع العصبية الشوكية والبصلية في إنتاج وتنسيق منعكساتها، ولكن المراكز الدماغية العليا لا تتولى بنفسها إنتاج أو تنسيق المنعكسات الشوكية والبصلية.

الآلية المركزية التي تنص على أن تتولى جهة إدارية عليا الإنتاج وتنسيقه هي غير موجودة في عالم الحيوان ولا في الطبيعة بشكل عام. هذه الآلية هي موجودة فقط في بعض المجتمعات البشرية. هذه الآلية لا يمكن أبدا أن تصلح لإدارة أنظمة معقدة كالأنظمة الموجودة في الطبيعة، ولكن كثيرا من البشر لا يفهمون ذلك، لأن القدرات العقلية للبشر محدودة. بعض البشر (الأذكياء) يفهمون حدود وقدرات عقلهم وتفكيرهم، ولكن هناك بشر (أغبياء) لا يفهمون حدود وقدرات عقلهم وتفكيرهم. هؤلاء الأغبياء يميلون دائما إلى إقامة الأنظمة المركزية الصارمة القائمة على منطق تحكم الإدارة العليا بكل صغيرة وكبيرة.

أنا تحدثت عن هذه القضية سابقا وأشرت إلى الحضارة السومرية القديمة التي انهارت بسبب إفراطها في المركزية الإدارية والاقتصادية. الاتحاد السوفييتي هو مثال آخر على فشل الأنظمة المركزية الصارمة. كثير من الناس في زماننا باتوا يفهمون أن الأنظمة الإدارية القائمة على المركزية الصارمة هي أنظمة مناقضة للطبيعة ولا يمكنها أن تنجح، ولكن هناك بعض الناس الذين ما زالوا حتى يومنا هذا يؤمنون بالأنظمة المركزية الصارمة. من هؤلاء مثلا النظام السوري الذي دمر سورية عدة مرات (وليس مرة واحدة) خلال العقود الخمسة الماضية، ولكنه ما زال رغم ذلك يصر على البقاء في السلطة، والمصيبة الأكبر هي أنه يصر على الاستمرار في نفس النهج المركزي التسلطي الفاشل. هذا النظام ما زال يريد أن يتحكم بكل كلمة يتفوه بها كل إنسان في سورية. رئيس هذا النظام (بشار الأسد) ما زال يريد أن يفكر بنفسه عوضا عن الـ 23 مليون إنسان في سورية.

أعتذر عن خلط السياسة بموضوع بعيد عن السياسة.

العلاقة بين الدماغ والحركة الانتقالية هي موضوع إشكالي.

الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة تتم عبر تقليص عدد هائل من الألياف العضلية بواسطة عدد هائل من الألياف العصبية المحركة. مثلا لو نظرنا إلى الرِجلين فسنجد أنهما تحويان عددا هائلا من الألياف العضلية، وهناك أيضا عظام متعددة ومفاصل متعددة في كل من الرجلين. التحكم بالأطراف يبدو أمرا معقدا للغاية. وهناك مشكلة إضافية أشار إليها في النصف الأول من القرن العشرين باحث روسي اسمه Nikolai Bernstein. هذه المشكلة هي مشكلة درجات الحرية degrees of freedom problem في التحكم العضلي.

المقصود بمشكلة درجات الحرية هو ما يلي باختصار: الأطراف الأربعة تحوي عددا هائلا من الألياف العضلية والأوتار والعظام والمفاصل، وهذا العدد الهائل هو زائد عن الحاجة وليس ضروريا لتحريك الأطراف.

لنفرض أنني أريد أن أرسل شخصا إلى المتجر لكي يشتري لي علبة من العصير، ولنفرض أنني لا أستطيع أن أرسل شخصا واحدا فقط ولكنني مضطر لإرسال ألف شخص في آن واحد لكي ينفذوا هذه المهمة. عندما أريد أن أرسل هؤلاء الأشخاص الألف فإنني مضطر لإعطائهم تعليمات. المشكلة هي أن المهمة المطلوبة منهم هي مهمة تافهة ولا تستحق إعطاء تعليمات لألف شخص. لو أنني أعطيت التعليمات لشخص واحد فقط (أحضر لي العصير من المتجر) فإن هذا سيفي بالغرض، ولكنني مضطر لإرسالهم جميعا، وبالتالي لا بد أن يحصلوا جميعا على تعليمات.

التعليمات التي سأعطيها لهم هي مجرد مضيعة للوقت والجهد وليس لها فائدة عملية. يكفي أن أقول لشخص واحد منهم “أحضر لي العصير من المتجر” حتى أضمن تنفيذ المهمة، وأما الكلام الذي سأقوله للأشخاص الـ 999 الآخرين فهو مجرد كلام زائد.

هذا المثال يشبه مشكلة “درجات الحرية” التي طرحها Nikolai Bernstein. من الناحية النظرية الإنسان يمكنه أن يحرك أطرافه بواسطة عدد قليل من الإشارات العصبية، ولكننا نعلم أن هناك في الأطراف عددا هائلا من الألياف العضلية التي تستقبل عددا هائلا من الألياف العصبية. كيف يمكن للدماغ البشري أن يتعامل مع هذا العدد الزائد من الألياف العضلية والألياف العصبية؟

هناك نظريات عديدة طرحت للإجابة على مشكلة “درجات الحرية”. Bernstein نفسه طرح نظرية “تآزر العمل العضلي” muscle synergies. حسب هذه النظرية فإن كل إشارة عصبية تخرج من الدماغ تذهب إلى عدد كبير من الألياف العضلية وليس إلى ليف واحد، وهذا يوفر الجهد على الدماغ ويقلل من “درجات الحرية” الفائضة.

نظرية “تآزر العمل العضلي” لم تتوافق مع بعض التجارب العملية. في الآونة الأخيرة طرحت نظرية جديدة تبدو أفضل. النظرية الجديدة تنص على أن الدماغ لا يرسل إشارات عصبية نحو كل الألياف العضلية ولكنه يرسل إشارات عصبية نحو بعض الألياف العضلية. مثلا لنفرض أنني أقف أمام باب وأنني أريد أن أمد يدي نحو مقبض الباب. عندما أبدأ في مد يدي نحو مقبض الباب فإن دماغي يرسل إشارات عصبية نحو بعض الألياف العضلية في ذراعي وليس كل الألياف. الألياف التي يرسل دماغي الإشارات إليها هي الألياف المهمة التي من شأن التأثير فيها أن يحسن من كفاءة الحركة الإجمالية.

لنعد مجددا إلى مثال العصير. Bernstein افترض أنني يجب أن أعطي التعليمات لكل شخص من الأشخاص الألف الذين أرسلتهم لشراء العصير، ولكن في الحقيقة أنا لست مضطرا لإعطائهم التعليمات جميعا. لو أنني كنت أحكم دولة مركزية صارمة (على غرار الاتحاد السوفييتي الذي عاش فيه Bernstein) فإنني كنت سأضطر لإعطاء التعليمات لكل شخص من الأشخاص الألف، ولكنني لا أحكم دولة مركزية صارمة، وبالتالي أنا لست مضطرا لأن أعطي التعليمات للأشخاص الألف. ما سأفعله هو ما يلي: أنا سأستدعي شخصا واحدا أعلم (من تجاربي السابقة) أنه الأقدر على إحضار العصير، وسأطلب من هذا الشخص أن يحضر لي العصير، وبالنسبة للأشخاص الـ 999 الآخرين فأنا لن أقول لهم شيئا وسأتركهم يتصرفون على سجيتهم، لأن تصرفاتهم لن تؤثر على نجاح المهمة. هذا المثال يعبر ربما عن الطريقة التي يتعامل بها الدماغ مع الحركات العضلية.

تنسيق حركة الأطراف لا يحتاج لأوامر من الدماغ، لأن الحبل الشوكي يحوي منعكسات قادرة على تنسيق حركة الأطراف محليا ودون تدخل من المراكز العليا. ما يقوم به الدماغ هو أنه يتحكم ببعض عضلات الأطراف بهدف زيادة تنسيق الحركة أو تحسينها. الدماغ لا يولد الحركة ولا ينسقها ولكنه يحسنها، وهو لا يتدخل في عمل جميع الألياف العضلية ولكنه يتدخل في عمل جزء منها.

كل ليف عضلي هو مهم بالنسبة لحركة معينة. الدماغ يحفظ الألياف العضلية المهمة بالنسبة لكل حركة من الحركات، وعندما يقرر الدماغ تنفيذ حركة معينة فإنه يرسل إشارات عصبية نحو الألياف المهمة بالنسبة لتلك الحركة.

الدماغ البشري (11)

كثير من الكائنات الحية تملك القدرة على الحركة. بعض الكائنات الحية تستطيع أن تحرك أجزاء من جسمها، وبعضها تستطيع أن تنقل جسمها بكامله من مكان إلى آخر. الحركة التي تؤدي لنقل الجسم بكامله من مكان إلى آخر تسمى الحركة الانتقالية locomotion.الحركة الانتقالية هي خاصية بيولوجية بدائية جدا، بدليل انتشارها الواسع لدى الكائنات الحية أحادية الخلية حقيقية النواة eukaryotes.الباحث السويدي Carolus Linnaeus (في القرن 18) قسم الكائنات الحية إلى مملكتين:

  • مملكة الحيوان Regnum Animale
  • مملكة النبات Regnum Vegetabile

هذا التقسيم لم يفرد مملكة خاصة للكائنات الحية المجهرية أحادية الخلية التي اكتشفها الهولندي Antonie van Leeuwenhoek في نهاية القرن 17. باحثو البيولوجيا ظلوا حتى القرن 19 يصنفون الكائنات الحية أحادية الخلية ضمن المملكتين الحيوانية والنباتية.

في القرن 19 ظهر المصطلحان التاليان:

  • الحيوانات البدائية protozoans (مشتق من كلمة (zō̃ion) ζῷον التي تعني “حيوان”)
  • النباتات البدائية protophytes (مشتق من كلمة (phytόn) φυτόν التي تعني “نبات”)

هذان المصطلحان يغطيان الكائنات الحية أحادية الخلية. “الحيوانات البدائية” protozoans هي تسمية أطلقت على الكائنات أحادية الخلية التي “تشبه الحيوانات” (من حيث امتلاكها القدرة على الحركةmotility ، ومن حيث اعتمادها على الكائنات الحية الأخرى في الغذاء heterotrophy). “النباتات البدائية” protophytes هي تسمية أطلقت على الكائنات أحادية الخلية التي “تشبه النباتات” (من حيث قدرتها على صنع غذائها بنفسها autotrophy عبر التركيب الضوئي photosynthesis).

في أواسط القرن 19 كثير من الباحثين صاروا يشعرون أن تقسيم الكائنات أحادية الخلية إلى حيوانات ونباتات هو تقسيم اعتباطي وغير علمي: هناك كائنات أحادية الخلية لا يمكن تصنيفها على أنها حيوان أو نبات. لهذا السبب اقترح الباحث الألمانيErnst Haeckel في عام 1866 إنشاء مملكة جديدة هي “مملكة الطلائعيات” Regnum Protista (المعنى الحرفي لكلمة protista هو “الأكثر بدائية”، ولكنني ترجمتها إلى “طلائعيات” لأن هذه هي الترجمة الشائعة). مملكة الطلائعيات كانت تضم “الكائنات المحايدة”، أي الكائنات التي ليست حيوانات ولا نباتات. لاحقا Haeckel عدّل تعريف هذه المملكة بحيث صارت تضم كل الكائنات وحيدة الخلية.

خلاصة تصنيفHaeckel هي ما يلي:

  • مملكة الطلائعيات Regnum Protista (الكائنات وحيدة الخلية unicellular organisms)
  • مملكة النباتات Regnum Plantae
  • مملكة الحيوانات Regnum Animalia

في القرن العشرين ظهر اختراع مهم هو الميكروسكوب الإلكتروني electron microscope. هذا الميكروسكوب كشف أن الكائنات أحادية الخلية هي في الحقيقة صنفان مختلفان:

  • كائنات بدائية النواة prokaryotes
  • كائنات حقيقية النواة eukaryotes

الكائنات “حقيقية النواة” لها تركيب مشابه لتركيب الخلايا الحيوانية والنباتية، وأما الكائنات “بدائية النواة” فهي تتميز بتركيب أكثر بدائية. لهذا السبب الباحثون في أواسط القرن العشرين صاروا يرون أن الكائنات بدائية النواة هي الأقدم تطوريا. حسب النظرة الجديدة فإن الكائنات حقيقية النواة تطورت من الكائنات بدائية النواة، والكائنات متعددة الخلايا multicellular organisms (الحيوانات والنباتات) تطورت من الكائنات حقيقية النواة.

بناء ذلك ظهر تصنيف جديد يقسم الكائنات الحية إلى مجموعتين كبيرتين:

  • إمبراطورية بدائيات النواة Imperium Prokaryota
  • إمبراطورية حقيقيات النواة Imperium Eukaryota

الإمبراطورية الثانية تنقسم إلى ثلاث ممالك هي الطلائعيات والنباتات والحيوانات، وأما الإمبراطورية الأولى فهي أنتجت مملكة واحدة هي “مملكة الأحاديات” Regnum Monera.

مملكة النباتات حسب التصنيف التقليدي تضم الفطريات Fungi، ولكن هذا التصنيف هو تصنيف اعتباطي وليس تصنيفا علميا. Ernst Haeckel أدرك ذلك، ولهذا السبب هو أخرج الفطريات من مملكة النباتات وألحقها بمملكة الطلائعيات، ولكن معاصريه تجاهلوا ذلك وظلوا يصنفون الفطريات مع النباتات. في عام 1969 اقترح الباحث الأميركي Robert Whittaker إنشاء مملكة جديدة ضمن إمبراطورية حقيقيات النواة هي “مملكة الفطريات” Regnum Fungi. هذا الاقتراح لقي قبولا واسعا (على الأقل في أميركا) وبناء عليه صار تصنيف الكائنات الحية هو كما يلي:

  • إمبراطورية بدائيات النواة Imperium Prokaryota
    • مملكة الأحاديات Regnum Monera
  • إمبراطورية حقيقيات النواة Imperium Eukaryota
    • مملكة الطلائعيات Regnum Protista
    • مملكة الفطريات Regnum Fungi
    • مملكة النباتات Regnum Plantae
    • مملكة الحيوانات Regnum Animalia

خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين برز دور الدراسات الجزيئية والجينية. هذه الدراسات دمرت تماما التصنيفات التقليدية التي سردناها في الأعلى.

أول نتيجة للدراسات الجزيئية هي تقسيم الكائنات بدائية النواة prokaryotes إلى مجموعتين مستقلتين:

  • البكتيريا Bacteria
  • العتيقات Archaea
Eubacteria و Archaebacteria هما تسميتان قديمتان لـ Bacteria و Archaea على التوالي

من غير المعروف أي المجموعتين هي الأقدم، ومن غير المعروف ما هي العلاقة بين هاتين المجموعتين وبين مجموعة حقيقيات النواة eukaryotes. الشيء الوحيد الذي يتفق عليه كثير من الباحثين حاليا هو أن الكائنات الحية تتوزع ضمن المجموعات الثلاث الظاهرة في الرسم التالي:

كل مجموعة من هذه المجموعات تسمى domain. المعنى الحرفي لهذه الكلمة هو “أرض سيّد” (land) belonging to a lord.

هناك نظرية ترى أن الأراضي الثلاث (bacteria و archaea و eukaryota) هي متحدرة من أصل مشترك كان موجودا في العصر السابق لظهور الخلايا.

الخلايا cells هي بنى معقدة، والباحثون لا يعتقدون أن الخلايا هي أقدم أشكال الحياة. هم يرون أن هناك أشكالا حية أكثر بدائية من الخلايا كانت موجودة قبل ظهور الخلايا، ولكن معلوماتهم عن هذه الأشكال الحية البدائية هي محدودة للغاية.

بالنسبة لمجموعة حقيقيات النواة eukaryotes فهناك حاليا جدل كبير حول تصنيف الكائنات المنضوية تحتها.

بعض الدراسات الحديثة تقسم حقيقيات النواة إلى مجموعتين كبيرتين:

  • ثنائيات المجداف bikonts
  • أحاديات المجداف unikonts

كلمة (kontós) κοντός تعني بالإنكليزية punting-pole (انظر القاموس). معنى punting-pole هو المجداف الذي يستخدم لتحريك قارب شبيه بالطوف يسمى punt (هذه صورته). إذن كلمتا bikonts و unikonts تعنيان حرفيا “ثنائيات المجداف” و”أحاديات المجداف”. المقصود بثنائيات المجداف هو الخلايا التي تملك سوطين two flagella، والمقصود بأحاديات المجداف هو الخلايا التي تملك سوطا واحدا one flagellum.

تصنيف ثنائيات المجداف يضم النباتات، وتصنيف أحاديات المجداف يضم الفطريات والحيوانات. بالنسبة للكائنات وحيدة الخلية فهي تتوزع بين التصنيفين.

بعض الدراسات ترى أن الكائنات ثنائية المجداف هي الأقدم تطوريا، وأن الكائنات أحادية المجداف هي مشتقة من كائن ثنائي المجداف.

كثير من الدراسات ترى أن الكائنات الأكثر بدائية بين ثنائيات المجداف (وبالتالي بين حقيقيات النواة) هي الكائنات المسماة excavates. هذا التصنيف يضم الكائن المسمى Euglena بالإضافة إلى عدد من الطفيليات المشهورة طبيا من قبيل Trypanosoma و Naegleria و Giardia و Trichomonas.

الـ euglena تملك سوطين، أحدهما قصير لا يبرز من الخلية والآخر طويل يبرز من الخلية

حسب بعض الدراسات فإن أقرب الكائنات إلى الـ excavates هي النباتات. هذا يوحي ربما بأن النباتات هي أكثر بدائية من الحيوانات والفطريات.

تصنيف النباتات حاليا هو محل جدل. بعض الدراسات تشطر المملكة التي كانت معروفة سابقا باسم مملكة النباتات إلى عدد كبير من المجموعات المستقلة، وبعض الدراسات تشطر مملكة النباتات إلى مجموعتين فقط:

  • chromalveolates (“المجوّفات الصبغية”)
  • archaeplastidans (“البلاستيديات العتيقة”)

المجموعة الثانية (archaeplastidans) تضم النباتات الحقيقية، وأما المجموعة الأولى فهي تضم أجناسا من الطحالب.

مجموعة الكائنات أحادية المجداف unikonts تقسم إلى مجموعتين:

  • الحيوانات الأميبية amoebozoans
  • خلفيات المجداف opisthokonts

مجموعة “الحيوانات الأميبية” amoebozoans هي جزء من المجموعة التي كانت تسمى سابقا “الأميبا” amoeba أو “شبيهات الأميبا” amoeboids. الجزء الآخر من مجموعة الأميبا يسمى rhizarians وهو ينتمي لمجموعة chromalveolates التي ذكرناها في الأعلى.

خلفيات المجداف opisthokonts هي المجموعة التي أنتجت الفطريات والحيوانات. بعض الدراسات تشطر هذه المجموعة إلى شطرين: شطر أنتج الفطريات وشطر آخر أنتج الحيوانات. الشطر الذي أنتج الحيوانات يسمى أحيانا holozoans (“الحيوانات الكاملة”). هذا الشطر أنتج مجموعة من الكائنات تسمى filozoans (“الحيوانات الخيطية”)، وهذه بدورها أنتجت مملكة الحيوانات التي تسمى أيضا metazoans (“الحيوانات التالية”).

أكثر الكائنات بدائية ضمن مملكة الحيوانات هي الإسفنجيات poriferans و”الحيوانات الصفيحية” placozoans. هذه الكائنات تصنف تحت عنوان “جانب الحيوانات” parazoans. بقية أعضاء مملكة الحيوانات تصنف تحت عنوان “الحيوانات التالية الحقيقية” eumetazoans.

poriferans
poriferans
placozoan

الحيوانات التالية الحقيقية eumetazoans تنقسم إلى “الشعاعيات” radiates وثنائيات الجانب bilaterians.

الشعاعيات تضم المِشْطِيات ctenophores واللاسعات cnidarians. أجسام هذه الكائنات تتميز بالتناظر الشعاعي radial symmetry، بخلاف أجسام ثنائيات الجانب التي تتميز بالتناظر ثنائي الجانب bilateral symmetry. الفرق بين هذين النوعين من التناظر هو مذكور في هذا المقال.

ctenophore
cnidarians

مجموعة الحيوانات ثنائية الجانب bilaterians تضم عددا كبيرا جدا من الفروع. معظم هذه الفروع تدخل تحت مسمى الديدان worms (هذا المسمى هو مجرد تصنيف شعبي وليس تصنيفا علميا). إلى جانب الديدان مجموعة ثنائيات الجانب تضم أيضا مفصليات الأرجل arthropods وشوكيات الجلد echinoderms والحبليات chordates.

arthropods
echinoderms

أبسط أنواع الحبليات chordates هي ربما “الحبليات الرأسية” cephalochordates المتمثلة بحيوان lancelet أو amphioxus (تحدثنا عنه في مقالات سابقة). الفقاريات vertebrates هي فرع من الحبليات. أنا تحدثت عن تطور الفقاريات في هذا المقال.

حيوان حبلي بدائي

الحركة الانتقالية لدى الكائنات وحيدة الخلية

ما سبق هو عرض موجز لتطور الحيوانات. من هذا العرض يتبين أن الحيوانات هي فرع من حقيقيات النواة eukaryotes. اللافت هو أن خاصية الحركة motility هي على ما يبدو خاصية عتيقة جدا في حقيقيات النواة، بدليل أن الباحثين حاليا يصنفون حقيقيات النواة حسب عدد أسواطها إلى ثنائيات مجداف bikonts وأحاديات مجداف unikonts. حسب علمي فإن الوظيفة الأساسية للأسواط flagella هي الحركة الانتقالية locomotion. هذه الوظيفة تظهر واضحة لدى حقيقيات النواة البدائية المسماة excavates. هذه الكائنات تستخدم الأسواط للحركة الانتقالية.

بعض حقيقيات النواة تستخدم وسيلة أخرى للحركة الانتقالية هي الأهداب المتحركة motile cilia. الفرق بين عمل الأهداب المتحركة وبين عمل الأسواط هو طفيف.

هناك طريقة ثالثة للحركة الانتقالية لدى حقيقيات النواة هي “الأقدام الزائفة” pseudopodia التي تستخدمها الأميبا amoeba.

من الناحية التطورية الأسواطflagella هي ربما الأقدم. الأسواط هي موجودة لدى بدائيات النواة prokaryotes، ولكن الأهداب cilia والأقدام الزائفة pseudopodia هي غير موجودة لدى بدائيات النواة. أيضا لو نظرنا في مجموعة حقيقيات النواة فسنرى أن الـ excavates (التي هي الأكثر بدائية بين حقيقيات النواة) تعتمد على الأسواط وليس الأهداب أو الأقدام الزائفة.

بقايا الحركة السوطية والهدبية والقدمية الزائفة لدى البشر

أنماط الحركة التي سردناها في الأعلى ما زالت موجودة في أجسام البشر. بالنسبة للحركة عبر الأسواط فهي مثلا الطريقة التي يتحرك بواسطتها الحيوان المنوي sperm:

الحركة الهدبية هي موجودة لدى البشر في الخلايا ذات الأهداب المبطنة للقنوات التنفسية والتناسلية. حركة أهداب هذه الخلايا لا تؤدي لتحريك الخلايا ولكنها تؤدي لتحريك المفرزات الموجودة داخل القنوات التنفسية والتناسلية.

الحركة عبر الأقدام الزائفة هي الطريقة التي تتحرك بها خلايا الدم البيضاء:

الحركة الانتقالية لدى ثنائيات الجانب

بعض الحيوانات ثنائية الجانب ما زالت تعتمد على الأهداب المتحركة في حركتها الانتقالية. مثلا الديدان المسطحة platyhelminthes تعتمد على الأهداب المتحركة في حركتها الانتقالية، ولهذا السبب هي تتحرك ببطء شديد.

platyhelminth
دودة مسطحة

كثير من الديدان الأخرى تعتمد على نمط من الحركة يسمى التموّج undulation. هذا النمط من الحركة هو المشاهد لدى الديدان السهمية arrow worms والديدان المدورة roundworms وغيرها. هذا النمط من الحركة هو المشاهد أيضا لدى الحبليات والفقاريات البدائية.

Arrow Worms
ديدان سهمية
دودة مدورة

تطور الحركة لدى ثنائيات الجانب هو مرتبط بظهور خاصية “التقطع المتتالي” metamerism في أجسامها.

بعض النظريات ترى أن التقطع المتتالي إنما ظهر بهدف تحسين الحركة. الجسم غير المقطع تقطيعا متتاليا هو عمليا أشبه بكتلة صخرية، لأن جوف الجسم coelom هو مملوء بالماء، والماء ينقل الضغط ويوزعه بشكل متساوي في جميع أنحاء الجسم. لو تقلصت إحدى عضلات جدار الجسم فستنتقل القوة الناتجة عن هذا التقلص عبر ماء الجوف نحو جميع مناطق الجسم. هذا الوضع يجعل من الصعب توجيه قوة التقلص العضلي نحو جزء محدد من الجسم، بالتالي الحيوان لا يمكنه أن يحرك جزءا محددا من جسمه ولكنه مضطر دائما للتحرك ككتلة واحدة.

الجسم المقطع إلى قطع متتالية metameres لا يعاني من هذه الصعوبة، لأن الحواجز التي تفصل بين القطع المتتالية تمنع انتقال الضغط عبر ماء الجوف من قطعة متتالية إلى أخرى. بالتالي الحيوان يمكنه أن يحرك كل قطعة متتالية على حدة. هذا يجعل جسم الحيوان مفصّلا hinged (بمعنى أنه يحوي مفاصل)، وبالتالي يحسن قدرة الحيوان على تحريك جسمه.

إذن التقطع المتتالي يعطي الحيوان القدرة على تنفيذ الحركات بدقة أكبر، ولكنه في نفس الوقت يخلق مشكلة جديدة هي ضرورة التنسيق الحركي motor coordination بين القطع المتتالية. تحريك قطعة واحدة لا يحتاج لتنسيق، ولكن تحريك عدد كبير من القطع هو بحاجة لتنسيق حتى لا تتعارض حركات القطع مع بعضها. تنسيق حركات القطع المتتالية يتم عبر الجهاز العصبي المركزي. هذا الجهاز يتكون لدى الديدان الحلقية annelids من حبلين بطنيين ventral cords وعقدتين دماغيتين cerebral ganglia. تكوين الجهاز العصبي المركزي لدى مفصليات الأرجل arthropods والحبليات chordates هو شبيه بتكوين الجهاز العصبي المركزي لدى الديدان الحلقية (كما بينا في مقالات سابقة).

الحركة التمعجية

معظم الديدان تعتمد على التموج undulation في حركتها الانتقالية، ولكن دودة الأرض earthworm (من الديدان الحلقية) طورت نوعا مميزا من الحركة الانتقالية يسمى peristalsis (“التَّمَعُّج”). المقطع التالي يبين هذه الحركة:

حركة “التمعج” هي موجودة لدى البشر ضمن القناة الهضمية، خاصة في المريء والأمعاء. حركة المريء والأمعاء لدى البشر تشبه حركة دودة الأرض الظاهرة في المقطع أعلاه، ولكنها ليست حركة انتقالية وإنما حركة تهدف لنقل الغذاء عبر القناة الهضمية.

الحركة التموجية لدى الفقاريات

الحركة التموجية undulation هي شائعة لدى ثنائيات الجانب البدائية. كثير من أنواع الديدان تتحرك بهذه الطريقة، وأيضا الحبليات والفقاريات البدائية تتحرك بهذه الطريقة.

المقصود بـ”الفقاريات البدائية” هو الأسماك، وخاصة الأسماك بلا فكين jawless fish كسمكة اللامبري lamprey. ما يلي مقطع يظهر حركة التموج لدى سمكة اللامبري:

حركة التموج الانتقالية هي موجودة أيضا لدى الأفاعي:

الأفاعي هي من الزواحف، ولكنها تعرضت لطفرة جينية جعلتها تفقد أطرافها limbs. لهذا السبب هي ارتدت نحو الحركة التموجية المميزة للفقاريات البدائية.

بقايا الحركة التموجية لدى الإنسان

في مقال سابق تحدثت عن بقايا الحركة التموجية لدى الإنسان. عضلات الجسم المسؤولة عن تنفيذ الحركة التموجية هي العضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles. هذه العضلات هي مسؤولة عن بسط أو ثني العمود الفقري، وبالتالي هي مسؤولة عن الحركة التموجية. في الدماغ البشري هناك أنوية مسؤولة عن التحكم بهذه العضلات تقع في الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon، وتحديدا في التشكل الشبكي reticular formation. هذه الأنوية هي مسؤولة لدى البشر عن عدد من المنعكسات البدائية التي تظهر خلال مرحلة الطفولة الباكرة. هذه المنعكسات ليس لها فائدة بالنسبة للبشر، ولهذا السبب يتم تثبيطها بشكل نهائي خلال مرحلة الطفولة، ولكن من الممكن أن هذه المنعكسات هي بقايا تطورية من زمن الفقاريات الباكرة، أي أن لها علاقة بالحركة الانتقالية التموجية.

الأنوية المسؤولة عن تقليص وإرخاء العضلات الباسطة المحورية (والتي كانت في السابق مسؤولة عن الحركة التموجية) اكتسبت لدى البشر وظيفة جديدة هي التحكم بالتوتر العضلي muscle tone للعضلات الباسطة المحورية. التوتر العضلي للعضلات الباسطة المحورية هو ضروري للمحافظة على استقرار الهيكل العظمي ومنع السقوط؛ لهذا السبب العضلات الباسطة المحورية تسمى لدى البشر باسم “العضلات المضادة للجاذبية” anti-gravity muscles.

الحركة بواسطة الأطراف الممفصلة

الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة jointed limbs (الأطراف ذات المفاصل) هي شكل متطور من الحركة الانتقالية يميز نوعين من الحيوانات التي تعيش خارج الماء هما مفصليات الأرجل arthropods ورباعيات الأرجل tetrapods (رباعيات الأرجل هي فرع من الفقاريات يشمل الفقاريات التي تملك أربعة أطراف).

الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف الممفصلة تشمل حركات المشي والركض والقفز والطيران بالأجنحة.

هذا الشكل من الحركة الانتقالية يتطلب وجود الأطراف الممفصلة ويتطلب القدرة على التحكم بها بشكل إيقاعي.

النواة الحمراء

أشرت في مقال سابق إلى النواة الحمراء red nucleus (باللاتينية: nucleus ruber). هذه النواة تظهر في مقطع الدماغ الأوسط المنقاري rostral midbrain عند مستوى التليلتين العلويتين superior colliculi:

rostral midbrain

وظيفة النواة الحمراء مجهولة، ولكن هناك بعض النظريات حولها.

النواة الحمراء هي في الحقيقة نواتان اثنتان:

  • النواة الحمراء كبيرة الخلايا magnocellular red nucleus (اختصارا RNm)
  • النواة الحمراء صغيرة الخلايا parvocellular red nucleus (اختصارا RNp)

النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm تمثل القسم الذيلي من النواة الحمراء، والنواة الحمراء صغيرة الخلايا RNp تمثل القسم المنقاري من النواة الحمراء.

بعض الطروحات الحديثة ترى أن الوظيفة الأصلية للنواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm هي تحريك عضلات الأطراف.

النقر للوصول إلى 001_003.pdf

Although the RN can be differentiated in some fishes and limbless reptiles, a rubrospinal tract has so far been demonstrated only in rays which use their pectoral fins for locomotion [1]. The fins of the ray are likely precursors to the limbs of terrestrial vertebrates [7]. Rubrospinal tracts are also absent in boid snakes and sharks who use axial movements for locomotion rather than limbs [9]. Such data further implicates RNm and the corresponding rubrospinal tract in limb movement.

النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm هي مصدر لطريق عصبي نازل نحو الحبل الشوكي يسمى “الطريق الأحمر-الشوكي” rubrospinal tract. هذا الطريق هو غير موجود لدى “الفقاريات السفلى” (أي الأسماك)، باستثناء نوع من الأسماك الغضروفية يسمى rays (الاسم العلمي batoids). هذا النوع من الأسماك يتميز عن غيره بأنه يستخدم زعانفه للحركة الانتقالية locomotion.

الصور التالية تبين سمك الـ ray:

هناك اعتقاد بأن زعانف سمك الـ ray لها نفس أصل أطراف الفقاريات رباعية الأرجل.

الطريق الأحمر-الشوكي هو موجود لدى الزواحف باستثناء الأفاعي (التي تفتقد للأطراف).

الملاحظات السابقة تدعم الرأي القائل بأن وظيفة الطريق الأحمر-الشوكي هي تحريك الأطراف. هذا الطريق هو موجود حصرا لدى الفقاريات التي تتحرك بواسطة الأطراف.

النواة الحمراء صغيرة الخلايا RNp هي على ما يبدو غائبة لدى الأسماك والبرمائيات، وهي هامشية لدى بقية الفقاريات باستثناء الرئيسيات primates. اللافت هو أن نمو الـ RNp لدى الرئيسيات ترافق مع اضمحلال وضمور الـ RNm والطريق الأحمر-الشوكي النازل منها.

النقر للوصول إلى 001_003.pdf

Studies of the mammalian red nucleus demonstrate that larger cells are found in RNm, whereas medium and small cells are typically found in RNp [3]. The volume of the nucleus taken up by these parts becomes reversed over the course of time and across species. In reptiles and birds the nucleus is composed almost entirely of large cells [4]. This large-celled RNm is the most likely source of the contralateral projections of the rubrospinal tract prominent in early vertebrates [1]. Yet as the rubrospinal tract has regressed in primates so has the histological presence of RNm. The number of large cells in the RN seems to diminish progressively as one passes from carnivores to baboons to anthropoids to man [2]. Morphological studies in humans show an increased development of the RNp – enough that RNm and RNp are completely independent of each other in humans [5].

[…]

The rubrospinal pathway and its cell bodies in RNm have progressively declined from lower mammals to primates [4]. Some researchers note that the RNm, initially involved in the automatic execution of learned motor skills, has been progressively replaced by the pyramidal system [1].

النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm اضمحلت بشكل تدريجي لدى الرئيسيات حتى وصلت إلى أقصى درجات اضمحلالها لدى البشر. الطريق الأحمر-الشوكي لدى البشر يصل فقط نحو القسم الرقبي cervical من الحبل الشوكي الذي يتحكم بالطرفين العلويين (الذراعان)، ولكنه لا يصل نحو القسم القَطَني lumbar من الحبل الشوكي الذي يتحكم بالطرفين السفليين (الرجلان). لدى بقية الثدييات (مثلا القطط) الطريق الأحمر-الشوكي يصل نحو القسم القطني من الحبل الشوكي.

في المقابل النواة الحمراء صغيرة الخلايا RNp نمت بشكل تدريجي لدى الرئيسيات حتى وصلت إلى أقصى درجات نموها لدى البشر. هذه النواة هي مصدر ألياف الطريق الأحمر-الزيتوني rubro-olivary tract الذي يصل نحو الزيتونة السفلية inferior olive.

الـ RNp تتلقى أليافا نازلة من قشرة المخ الحسية والمحركة والقشرة أمام الجبهية prefrontal (المسؤولة عن المعالجة المنطقية أو ما يسمى “الوظائف التنفيذية” executive functions). الـ RNp تتلقى أيضا أليافا من النواة المسننة في المخيخ dentate nucleus. اتصالات الـ RNp تشبه اتصالات قشرة المخ المحركة، ولهذا السبب بعض الباحثين يرون أن الـ RNp هي جزء من منظومة “الجهاز الهرمي” pyramidal system. هم يرون أن نمو الـ RNp ترافق مع نمو الجهاز الهرمي لدى الرئيسيات وهيمنة هذا الجهاز على “الجهاز خارج الهرمي” extrapyramidal system.

المقصود بالجهاز الهرمي هو المنظومة التحريكية التي تديرها قشرة المخ (المنظومة التحريكية الواعية)، والمقصود بالجهاز خارج الهرمي هو المنظومة التحريكية التي يديرها جذع الدماغ (المنظومة التحريكية غير الواعية). نحن عددنا طرق الجهاز الهرمي في مقالات سابقة (منها مثلا الطريق القشري-الشوكي corticospinal tract والطريق القشري-البصلي corticobulbar tract). أيضا نحن تحدثنا عن بعض طرق الجهاز خارج الهرمي في مقالات سابقة (منها الطريق الشبكي-الشوكي reticulospinal tract والطريق الدهليزي-الشوكي vestibulospinal tract).

النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm تستقبل أليافا نازلة من قشرة المخ المحركة، وتستقبل أليافا صاعدة من الحبل الشوكي تسمى الطريق الشوكي-الأحمر spinorubral tract. هذا الطريق يشبه الطريق الشوكي-الشبكي spinoreticular tract والطريق الشوكي-الدهليزي spinovestibular tract. اتصالات الـ RNm تتناسب مع كونها جزءا من الجهاز خارج الهرمي extrapyramidal system.

الـ RNm تتلقى أليافا من نواة مخيخية تسمى “النواة المتوسطة” interposed nucleus. على الأغلب أن وظيفة هذه النواة لها علاقة بتحريك الأطراف. النواة المسننة dentate nucleus (التي ترسل أليافا نحو الـ RNp ونحو قشرة المخ المحركة) هي مرتبطة بالجهاز الهرمي. هناك نواة مخيخية ثالثة هي “النواة الأَوْجِية” fastigial nucleus. هذه النواة هي أقدم الأنوية المخيخية وهي ترسل أليافا نحو الأنوية الدهليزية. على الأغلب أن وظيفة النواة الأوجية لها علاقة بتحريك العضلات الباسطة المحورية للجسم (تشرف على تنظيم وضعية الجسم posture عبر التحكم بالتوتر العضلي muscle tone).

الوضعية مزالة القشرة

هناك حالة طبية تسمى “الوضعية مزالة الدماغ” decerebrate posture. هذه الوضعية تظهر لدى الأشخاص المصابين بأذية كبيرة في جذع الدماغ تحت مستوى النواة الحمراء.

decerebrate posture

في هذه الوضعية هناك تقلص عام للعضلات الباسطة المحورية (وهو ما يؤدي إلى انبساط أو انتصاب الجسم).

ما هو سبب هذه الوضعية؟

السبب هو انقطاع الألياف النازلة من قشرة المخ نحو التشكل الشبكي والأنوية الدهليزية. هذه الألياف تمارس تأثيرا مثبطا أو منظما للأنوية الشبكية والدهليزية المسؤولة عن تقليص العضلات الباسطة المحورية (عبر الطريق الشبكي-الشوكي reticulospinal tract والطريق الدهليزي-الشوكي vestibulospinal tract).

هناك وضعية أخرى ملفتة أكثر من الوضعية سالفة الذكر تسمى “الوضعية مزالة القشرة” decorticate posture. هذه الوضعية تظهر لدى الأشخاص المصابين بأذية فوق مستوى النواة الحمراء.

decorticate posture

هذه الوضعية تشبه وضعية المومياء المصرية. في هذه الوضعية هناك انبساط في عضلات الجسم ما عدا عضلات الطرفيين العلويين التي هي في حالة انقباض أو ثني.

تفسير هذه الوضعية هو أن الأذية فوق مستوى النواة الحمراء تزيل التثبيط القشري عن النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm، وهذا يؤدي إلى تنشيط الطريق الأحمر-الشوكي rubrospinal tract الذي يؤثر في الطرفين العلويين دون الطرفين السفليين (لأن أليافه لدى البشر لا تنزل نحو القسم القطني lumbar من الحبل الشوكي).

الوضعية مزالة القشرةdecorticate توحي بأن الطريق الأحمر-الشوكي يمارس تأثيرا مقبضا لعضلات الأطراف. هذا التأثير يهدف في الأصل لتحريك الأطراف.

وظيفة النواة الحمراء كبيرة الخلايا

في الأعلى قلنا أن وظيفة النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm هي على الأغلب تحريك الأطراف بهدف الحركة الانتقالية locomotion. نشوء هذه النواة هو مرتبط بظهور الحركة الانتقالية عبر تحريك الأطراف.

السؤال هو لماذا ضمرت هذه النواة لدى الرئيسيات عموما والبشر خصوصا؟

الميزة الأساسية التي تميز الرئيسيات عن بقية الحيوانات هي المهارة اليدوية. الطرف limb لدى الرئيسيات لم يعد مجرد أداة للحركة الانتقالية على غرار السوط flagellum أو الهدب المتحرك motile cilium أو القدم الزائفة pseudopodium، ولكنه تحول تدريجيا إلى عضو للإمساك بالأشياء وتفحصها والتأثير فيها.

هذا التغير في وظيفة الأطراف يظهر بشكل جلي لدى البشر. الطرفان العلويان لدى البشر لم يعد لهما علاقة تذكر بتحريك الجسم، أي أن وظيفتهما الأصلية تلاشت تماما.

بالنسبة للطرفين السفليين فهما ما زالا يؤديان وظيفة تحريك الجسم، ولكن الطريقة التي يؤديان بها هذه الوظيفة تغيرت كثيرا. الطريقة التي يمشي بها البشر لا تكاد تشبه الطريقة التي تمشي بها غالبية الثدييات. البشر يعتمدون المشية ثنائية القدم bipedal وليس المشية رباعية القدم quadrupedal التي تميز غالبية رباعيات الأرجل tetrapods. هناك اختلافات كبيرة بين المشيتين. مثلا البشر لا يكادون يثنون أرجلهم عند المشي، وحتى عند الوقوف أو النوم هم في الغالب لا يثنون أرجلهم. في الحقيقة البشر يبقون أرجلهم منبسطة في أغلب الأوقات. هذا يختلف عن الحال لدى الحيوانات ذات المشية رباعية الأرجل. تلك الحيوانات تبقي أرجلها مثنية في أغلب الأوقات. بما أن وظيفة الـ RNm هي ثني الأطراف فليس مستغربا أن هذه النواة فقدت تأثيرها على الطرفيين السفليين لدى البشر. تأثير هذه النواة على الطرفيين السفليين لم يعد مفيدا للبشر.

إذن النواة الحمراء كبيرة الخلايا RNm أصبحت قليلة الفائدة للبشر، لأن البشر ما عادوا يثنون أطرافهم الخلفية إلا فيما ندر. هم ما زالوا يثنون أطرافهم الأمامية، ولكنهم لا يمشون على هذه الأطراف. هذه الأطراف صارت تستخدم في الأساس للإمساك بالأشياء والتأثير فيها. وظيفة الإمساك بالأشياء والتأثير فيها تتم عبر أصابع اليدين. التحكم بأصابع اليدين يتم عبر الجهاز الدهليزي (قشرة المخ). لهذا السبب الـ RNm لم تعد عضوا مهما ولكنها صارت عضوا شبه أثري vestigial.

صفحة ويكيبيديا تقول أن النواة الحمراء تتحكم بحركة الزحف crawling لدى الأطفال الرضع، وأنها مسؤولة عن أرجحة الذراعين أثناء المشي، ولكن مصدر هذه المعلومات غير مذكور.

وظيفة النواة الحمراء صغيرة الخلايا

وظيفة النواة الحمراء صغيرة الخلايا RNp هي أقل وضوحا من وظيفة نظيرتها كبيرة الخلايا RNm. كما قلنا في الأعلى فإن اتصالات هذه النواة أوحت للباحثين أنها جزء من الجهاز الهرمي. الجهاز الهرمي هو مسؤول عن الحركات المعقدة التي تميز البشر من قبيل تحريك الأصابع والكلام. هذه الدراسة مثلا تربط بين نمو الـ RNp لدى البشر وبين تطور المهارات اليدوية والكلامية لديهم.

حسب ما فهمت فإن الـ RNp لا ترسل أية ألياف نازلة نحو الحبل الشوكي. هذه النواة هي في الأصل نواة حسية (صغيرة الخلايا parvocellular) وليست نواة تحريكية.

في الحقيقة اتصالات الـ RNp هي شبيهة باتصالات النواة الزيتونية السفلية inferior olivary nucleus، وهناك حتى اتصال مباشر بين النواتين عبر الطريق الأحمر-الزيتوني rubro-olivary tract. النواة الزيتونية السفلية (كالـ RNp) تتلقى أليافا من نواة المخيخ المسننة dentate nucleus.

بناء على التشابه في الأصل التكويني والاتصالات العصبية بين الـ RNp والنواة الزيتونية السفلية أنا أشعر بأن هاتين النواتين هما مكملتان لبعضهما ومن الممكن أنهما تؤديان نفس الوظيفة (تحديث معلومات المخيخ). النواة الزيتونية السفلية تستقبل بيانات قادمة من الحبل الشوكي، والـ RNp تستقبل بيانات قادمة من قشرة المخ. التجميع النهائي لهذه البيانات يتم في النواة الزيتونية السفلية، ومن هناك يتم إرسال إشارات التحديث أو التصحيح نحو المخيخ (والله أعلم).

في المقال القادم سأكمل الحديث في موضوع الحركة الانتقالية بواسطة الأطراف.

الدماغ البشري (10)

caudal midbrain
مقطع في الدماغ الأوسط الذيلي (عند مستوى التليلتين السفليتين inferior colliculi)

في المقال الأخير من هذه السلسلة بدأنا الحديث عن مقطع الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon وتحدثنا عن ساقي المخ crura cerebri وبدأنا الحديث عن الغطاء tegmentum.

في ذلك المقال تحدثنا عن “المنطقة الغطائية المركزية” central tegmental area التي تضم التشكل الشبكي reticular formation، وبينا أن بعض أنوية التشكل الشبكي هي في الحقيقة متسربة إلى خارج هذه المنطقة.

أنوية الرفاء raphe nuclei هي من أنوية التشكل الشبكي ولكنها تقع على الجهة الإنسية medial للطرق العصبية الصاعدة التي تحد المنطقة الغطائية المركزية من الجهة البطنية (مثل الطريق المسنّن-الثلمي dentatothalamic tract والشريط الإنسي medial lemniscus).

النواة بين السويقية

على الجهة البطنية لأنوية الرفاء توجد نواة تسمى “النواة بين السويقية” interpeduncular nucleus. هذه النواة هي مكونة بمعظمها من خلايا تثبيطية مفرزة للـ GABA. هذه النواة هي مرتبطة وظيفيا بجزء من الدماغ البيني diencephalon يسمى “العُنَيِّن” habenula (العُنَيِّن يقع على الجهة الإنسية الظهرية للثلم thalamus بالقرب من الغدة الصنوبرية pineal gland).

الدراسات بينت أن العنين يلعب دورا هاما في تنظيم السلوك والتفكير. سوف نؤجل الحديث عن وظيفة العنين إلى وقت لاحق، ولكن الآن سنقول باختصار ما يلي: منظومة العنين هي مثبطة للسلوك والتفكير، أي أنها تؤدي دورا معاكسا لدور المنظومات المفرزة للنواقل أحادية الأمين monoamines والـ acetylcholine (النواقل أحادية الأمين تشمل الـ norepinephrine والـ dopamine والـ serotonin).

النواة بين السويقية تتلقى أليافا نازلة من نواة “العنين الإنسيmedial habenula “. بعض الباحثين أتلفوا نواة العنين الإنسي لدى فئران المختبر، والنتيجة كانت أن هذه الفئران أصبحت ذات نشاط زائد hyperactive، ومندفعة impulsive/compulsive (بسبب النشاط الزائد لمنظومة الـ dopamine)، وزائدة القلق anxiety (بسبب النشاط الزائد لمنظومة norepinephrine)، وأصبحت تتخذ قرارات متسرعة وغير حكيمة delay discounting (بسبب النشاط الزائد لمنظومة الـ norepinephrine)، كما أنها عانت من مشاكل في عمل الذاكرة طويلة الأجل long-term memory (ربما بسبب الخلل في عمل منظومة الـ serotonin). هذه النتائج تدل على وظيفة النواة بين السويقية—هذه النواة هي مثبطة للأنظمة التنشيطية الموجودة في الدماغ الأوسط.

المادة السوداء

على الجهة الوحشية lateral للنواة بين السويقية هناك نواة عريضة تسمى “المادة السوداء” substantia nigra. هذه النواة هي في الحقيقة نواتان اثنتان وليست نواة واحدة؛ القسم البطني من المادة السوداء يسمى “القسم الشبكي” pars reticulata وهو مكون من خلايا تثبيطية مفرزة للـ GABA. القسم الظهري من المادة السوداء يسمى “القسم المضغوط” pars compacta وهو مكون من خلايا مفرزة للـ dopamine.

وظيفة القسمين الشبكي والمضغوط هي متناقضة. القسم المضغوط هو أحد مواقع المنظومة الدوبامينية (الطرق المفرزة للدوبامين dopaminergic pathways) المسؤولة عن توليد الرغبة أو الشهية أو الإرادة أو الحاجة إلخ (كل هذه الألفاظ استخدمت في وصف عمل الطرق الدوبامينية). القسم المضغوط من المادة السوداء ينتمي لمنظومة دماغية تسمى “العقد القاعدية” basal ganglia. هذه المنظومة تضم عددا من الأنوية والعقد المسؤولة عن اختيار السلوك المناسب للإنسان أو الحيوان بناء على تجاربه السابقة. القسم المضغوط يلعب في هذه المنظومة دورا محفزا للسلوك.

القسم الشبكي من المادة السوداء ينتمي أيضا لمنظومة العقد القاعدية، ولكنه يلعب في هذه المنظومة دورا مثبطا للسلوك (إلى جانب أنوية تثبيطية أخرى من قبيل القسم الداخلي من الكرة الشاحبة internal globus pallidus والنواة تحت الثلمية subthalamic nucleus).

إذن وظيفة القسم الشبكي هي معاكسة لوظيفة القسم المضغوط؛ وظيفة القسم الشبكي تشبه وظيفة النواة بين السويقية التي أشرنا إليها في الأعلى: كلتا هاتين النواتين هما تثبيطيتان مفرزتان للـ GABA، ولكن الفرق بينهما هو أن القسم الشبكي من المادة السوداء يثبط السلوك ولا يؤثر كثيرا على التفكير (حسب علمي). أيضا القسم المضغوط من المادة السوداء هو محفز للسلوك ولا يؤثر كثيرا على التفكير (حسب علمي).

في المستقبل سوف أتحدث عن عمل هذه المنظومات بتوضيح أكثر.

المنطقة الغطائية البطنية

المقطع التالي هو للدماغ الأوسط عند مستوى التليلتين العلويتين superior colliculi:

rostral midbrain
مقطع في الدماغ الأوسط المنقاري (عند مستوى التليلتين العلويتين superior colliculi)

هذا المقطع لا يختلف جوهريا عن مقطع الدماغ الأوسط الذيلي سوى في أمرين:

  • ظهور النواة الحمراء red nucleus في القسم البطني من الغطاء
  • ظهور المنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area

بالنسبة للجسم الركبي الإنسي medial geniculate body فهو يقع في مؤخرة الثلم thalamus وليس جزءا من الدماغ الأوسط (رغم ظهوره في هذا المقطع).

المنطقة المسماة “المنطقة الغطائية البطنية” ventral tegmental area (اختصارا VTA) تحوي نسبة عالية (50-60%) من الخلايا المفرزة للـ dopamine، وتحوي أيضا خلايا مفرزة للـ GABA، أي أن تكوينها يشبه تكوين المادة السوداء، وهي في الحقيقة تشترك في الأصل الجنيني مع المادة السوداء. منطقة VTA هي إحدى أهم مواقع المنظومة الدوبامينية في الدماغ البشري. الخلايا المفرزة للـ dopamine في VTA هي محفزة للتفكير، ودورها تحديدا هو تحفيز الرغبة أو الشهية أو الإرادة أو الحاجة إلخ.

الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من القسم المضغوط من المادة السوداء تذهب نحو “المُخطَّط” striatum، الذي هو جزء من العقد القاعدية basal ganglia يقع في قلب نصف الكرة المخية، وأما الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA فهي تذهب إلى بقية مناطق الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon.

الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA توصف بأنها محفزة للرغبة والشهية ونحو ذلك، ولكن بناء على نتائج الدراسات الحديثة أنا أظن أن الوظيفة الدقيقة لهذه الألياف هي تحفيز الخيال والتفكير القائم على الخيال.

الدراسات الحديثة بينت أن الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA هي على ما يبدو مسؤولة عن الخيال بكل أشكاله. كلمة “الخيال” بمعناها الواسع يمكن أن تشمل الهلوسات، وأيضا الأحلام التي يراها الإنسان أثناء نومه. الألياف المفرزة للـ dopamine المسؤولة عن تحفيز الهلوسات والأحلام تسمى “الطريق الأوسط-الحَوْفي” mesolimbic pathway. النشاط الزائد في هذا الطريق هو ربما سبب الهلوسات التي يراها المصابون بمرض schizophrenia.

عبارة “التفكير القائم على الخيال” تشمل نوعين من التفكير على الأقل:

  • التفكير الرغبوي (تخيل الإنسان للأشياء التي يريدها)
  • التفكير الإبداعي (تخيل الإنسان لكيفية الوصول إلى الأشياء التي يريدها)

هذان النوعان من التفكير يحصلان في القشرة أمام الجبهية prefrontal cortex، التي هي مقر “ذاكرة العمل” working memory. الألياف المفرزة للـ dopamine التي تغذي القشرة أمام الجبهية تسمى “الطريق الأوسط-القشري” mesocortical pathway.

النظريات الحديثة حول مرض schizophrenia (السكيزوفرينيا أو الشيزوفرينيا) ترى أن من أسباب هذا المرض انقطاع التواصل العصبي بين المناطق المخّية المولدة للخيال (التي يغذيها الطريق الأوسط-الحَوْفي mesolimbic pathway) والمناطق المخّية المسؤولة عن معالجة الخيال (التي يغذيها الطريق الأوسط-القشري mesocortical pathway). انقطاع التواصل بين هاتين المنظومتين (أو بالأحرى وجود خلل في هذا التواصل) يجعل الإنسان عاجزا عن إدراك حقيقة خيالاته: هو يتصور أنها مدركات حسية نابعة من العالم الخارجي ولا يدري أنها خيالات نابعة من مناطق أخرى في مخه.

ما سبق هو تلخيص بسيط يدل على أهمية الخلايا المفرزة للـ dopamine في التفكير البشري. في مقالات قادمة سوف أتحدث بمزيد من التفصيل عن هذه القضايا الهامة.

أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine

في الأعلى استعرضنا أهم الأنوية المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأوسط (القسم المضغوط pars compacta من المادة السوداء substantia nigra، والمنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area)، واستعرضنا بعض الأنوية المثبطة لهذه الأنوية (القسم الشبكي pars reticulata من المادة السوداء الذي يعاكس القسم المضغوط، والنواة بين السويقية interpeduncular nucleus التي تعاكس المنطقة الغطائية البطنية وأنوية الرفاء raphe nuclei وغير ذلك).

ذكرنا في الأعلى أن المادة السوداء والمنطقة الغطائية البطنية لهما أصل جنيني واحد، بمعنى أنهما في المرحلة الجنينية تَكُونان نواة واحدة وبعد ذلك هذه النواة تنقسم إلى نواتين. أنا أظن أن أصل هذه النواة يعود إلى القسم الإنسي medial من التشكل الشبكي، ربما في نفس موقع النواة بين السويقية interpeduncular nucleus.

النواة بين السويقية ربما تعود إلى نفس هذا الأصل المشترك. المادة السوداء تحوي خلايا مفرزة للـ GABA في قسمها الشبكي، والمنطقة الغطائية البطنية تحوي أيضا خلايا مفرزة للـ GABA كما ذكرنا في الأعلى. من الممكن أن نتخيل أن كل هذه الأنوية تتحدر من أصل واحد كان يحوي خلايا مفرزة للـ dopamine وأخرى مفرزة للـ GABA. هذا الأصل المشترك كان يقع ربما على الجهة البطنية لأنوية الرفاء.

أشرت في مقال سابق إلى الدراسة التي بحثت تواجد الخلايا المفرزة للـ serotonin في الحيوانات ثنائية الجانب bilaterians. حسب تلك الدراسة فإن الخلايا المفرزة للـ serotonin كانت توجد في وسط الجهاز العصبي لثنائيات الجانب الأولى urbilaterians.

مقارنة بين الجهاز العصبي لدودة حلقية (على اليسار) والجهاز العصبي لفأر (على اليمين). الخلايا المفرزة للـ serotonin تظهر باللون الأحمر، الخلايا المفرزة للـacetylcholine تظهر باللون البنفسجي، الخلايا الربطية interneurons تظهر باللون الوردي، الخلايا الحسية الجذعية تظهر باللون الأزرق الفاتح، الخلايا المفرزة للـ vasotocin تظهر باللون البرتقالي، خلايا “الساعة الجزيئية” molecular clock تظهر باللون الأخضر، الخلايا الحسية المستقبلة للضوء photoreceptors تظهر باللونين الأبيض والأصفر (نوعان مختلفان)

حسب هذه الدراسة فإن جميع أنظمة الناقلات أحادية الأمينmonoamine (التي تشمل الـ norepinephrine والـ dopamine والـ serotonin) هي متحدرة من أصل واحد:

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3070214/

Many of the molecular components of DA [dopamine] systems, such as biosynthetic enzymes, transporters, and receptors, are shared with those of other monoamine systems, suggesting the common origin of these systems.

هذه الدراسة بحثت تحديدا في تطور أنظمة الـ dopamine في الحيوانات الحبلية chordates. الخلايا المفرزة للـ dopamine لدى الحيوانات الحبلية توجد في أربعة مواقع:

  • البصلة الشمية olfactory bulb
  • شبكية العين retina
  • الدماغ البيني diencephalon (لدى الثدييات في “ما تحت الثلم” hypothalamus)
  • الدماغ الأوسط mesencephalon

الباحثون يقسمون الخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ إلى مجموعات مرقمة. الرسم التالي يظهر هذه المجموعات في الدماغ البشري:

المجموعتان A8 و A9 توجدان في القسم المضغوط من المادة السوداء. المجموعة A10 توجد في المنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area. المجموعات الملونة باللون الأزرق توجد في ما تحت الثلم hypothalamus

حسب الدراسة المشار إليها فإن أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine يعود إلى الدماغ الأمامي prosencephalon. مؤلفا الدراسة يريان أن الخلايا المفرزة للـ dopamine كانت لدى الحبليات الباكرة موجودة حول القسم الأمامي من تجويف الأنبوب العصبي ضمن منطقة مكونة من نوعين من الخلايا:

  • خلايا عصبية-هرمونية neuroendocrine cells (خلايا عصبية تفرز الهرمونات في الدم)
  • خلايا مستقبلة للضوء photoreceptor cells

الرسم التالي (مصدره نفس الدراسة) يوضح المنطقة التي نتحدث عنها (في الكائن الموجود على جهة اليسار):

RVB de base

الكائن (البدائي) الموجود على جهة اليسار يحوي في دماغه الأمامي منطقة مكونة من نوعين متداخلين من الخلايا: خلايا عصبية-هرمونية تظهر باللون الأحمر، وخلايا مستقبلة للضوء تظهر باللون الأزرق. حسب الدراسة فإن بعض الخلايا العصبية-الهرمونية كانت مفرزة للـ dopamine وبعضها الآخر كانت مفرزة لهرمونات أخرى (من قبيل الهرمون الحيواني المسمى vasotocin). وظيفة الخلايا العصبية-الهرمونية كانت إفراز الهرمونات بناء على الإشارات الواردة من الخلايا المستقبلة للضوء المتداخلة معها.

إذن الدراسة تعتبر أن الخلايا المفرزة للـ dopamine هي من الخلايا العصبية-الهرمونية neuroendocrine cells. أنا أشك في صحة هذا التصنيف، لأن الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ البشري (والحيواني أيضا على الأغلب) لا تطرح الـ dopamine في الدم. الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في ما تحت الثلم hypothalamus تتحكم بإفراز الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية (الحقيقية)، ولكنها لا تطرح أية هرمونات في الدم بشكل مباشر. إذن هذه الخلايا هي مجرد خلايا عصبية ربطية وليست خلايا عصبية-هرمونية.

الملفت هو أن مؤلفي الدراسة لم يذكرا شيئا حول الخلايا المستقبلة لحس الشم. نفس الأمر لاحظته في الدراسة المتعلقة بثنائيات الجانب التي أشرت لها في مقال سابق. كلتا الدراستين أشارتا إلى وجود مستقبلات ضوئية في الدماغ الأمامي للحبليات الباكرة وثنائيات الجانب الباكرة، ولكنهما لم تذكرا شيئا عن المستقبلات الشمية.

حسب هذه الدراسة فإن جينات المستقبلات الشمية (OR) olfactory receptor هي قديمة وتعود إلى زمن الحبليات الأولى. أنا أشرت في مقال سابق إلى حيوان حبلي بدائي التكوين يسمى lancelet أو amphioxus، وقلت وقتها أن هذا الحيوان هو ربما الأكثر شبها بالحيوانات الحبلية الأولى. حسب الدراسة المشار إليها فإن جينات المستقبلات الشمية OR هي موجودة لدى هذا الحيوان:

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2817399/

Amphioxus is called an “acraniate,” meaning a headless organism. It lacks an identifiable olfactory organ, and almost nothing is known of its sensitivity to chemical stimuli (Lacalli 2004). Nevertheless, many vertebrate-type OR-like genes were found in the amphioxus genome. Therefore, the origin of vertebrate-type OR genes can be traced back to the common ancestor of chordates. (Recently, Grus and Zhang [2009] suggested the same time for the origin of the OR gene family.) Satoh (2005) reported that at least one OR-like gene is broadly expressed in bipolar neurons embedded within the rostral epithelium of adult amphioxus. Further studies will be necessary to examine the cell types in which amphioxus OR genes are expressed.

بناء على هذا الكلام فإن حيوان الـ lancelet يملك جينات المستقبلات الشمية، ومؤخرا عُثر في هذا الحيوان على مستقبلات شمية مطمورة بين خلايا جلده المنقاري rostral epithelium. إذن المستقبلات الشمية كانت موجودة لدى الحبليات الباكرة وكانت تقع في الجهة المنقارية.

السؤال هو ما العلاقة بين المستقبلات الشمية وبين الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine التي كانت تقع في الدماغ الأمامي؟ الدراسات لم تذكر شيئا حول هذا الموضوع، ولكن على الأغلب أن هناك علاقة. لو نظرنا إلى عالم الحيوانات الفقارية فسنجد ظاهرة فيزيولوجية مهمة هي الفرمونات pheromones. الفرمونات هي جزيئات كيميائية شبيهة بالهرمونات ولكنها تفرز في الهواء وتنتقل من حيوان إلى حيوان آخر. الحيوان يستقبل الفرمونات عبر المستقبلات الشمية. استقبال الفرمونات يولد في الدماغ إشارات عصبية تؤثر في السلوك “الغريزي” المرتبط بمنطقة ما تحت الثلم hypothalamus (كالسلوك الجنسي مثلا)، وبالتالي الفرمونات هي وسيلة للتواصل بين الحيوانات المختلفة التي تنتمي إلى نفس النوع species.

الدراسة المتعلقة بتطور أنظمة الـ dopamine التي أشرنا إليها في الأعلى تجاهلت المستقبلات الشمية. حسب تلك الدراسة فإن منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي كانت “منطقة استقبال ضوئي”photoreceptive territory :

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3070214/#s4

[…] DA cells in the ancestral chordate were located in a photoreceptive territory of the anterior neural tube, which is homologous to both retina and hypothalamic region […] These DA cells were probably multifunctional and able to modulate neural functions such as sensory input, motor control, and hormonal regulation.

[…]

Recent data about the DA systems of ascidia suggest that DA cells of the sensory vesicle on the one hand, and DA cells of the hypothalamus and the retina of vertebrates on the other hand, may have originated from a common neuroendocrine, photoreceptive territory surrounding the ventricle of the neural tube in ancestral chordates.

هذه الدراسة تقول أن منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine (“منطقة الاستقبال الضوئي”) تمايزت لاحقا وأنتجت ما تحت الثلم hypothalamus والحويصلات البصرية (وهذه بدورها أنتجت شبكيتي العينين). الدراسة لا تذكر شيئا عن أصل البصلتين الشميتين olfactory bulbs، ولكن الملفت هو أن الدراسة تعيد أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في البصلتين الشميتين إلى نفس منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine التي كانت تقع حول القسم الأمامي للأنبوب العصبي:

Neural precursors of the DA cells of the olfactory bulb arise from the subventricular zone of the telencephalon and migrate to the olfactory bulb by the rostral migratory stream. This neurogenesis persists all life long in all vertebrates studied so far, and it is strongly affected by activity (Lazarini and Lledo, 2011).

منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي للحبليات الباكرة كانت على ما أظن تتعامل مع حس الشم إلى جانب حس البصر، ولكن من الممكن أن حس الشم كان هامشيا مقارنة مع حس البصر. الدراسة المتعلقة بحس الشم التي أشرنا إليها في الأعلى ذكرت أن حس الشم لدى حيوان lancelet هو هامشي أو غير واضح. إذن يمكننا أن نتخيل أن حس الشم لدى الحبليات الباكرة كان هامشيا مقارنة مع حس البصر، ولكنه كان موجودا.

منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي تمايزت لاحقا وأنتجت الأعضاء الحسية التالية:

  • البصلتان الشميتان olfactory bulbs (في الدماغ النهائي telencephalon)
  • الحويصلان البصريان optic vesicles (ولاحقا الشبكيتان retinae) (في الدماغ البيني diencephalon)

هذه الأعضاء هي ليست كل الأعضاء الحسية التي نشأت من الدماغ الأمامي؛ هناك أعضاء أخرى أقل أهمية أو أقل شهرة. من هذه الأعضاء “العين الثالثة” أو “العين الجدارية” التي توجد لدى بعض الحيوانات الفقارية (والتي أشرت إليها في مقال سابق). الحيوانات الفقارية تملك أيضا بصلتين شميتين إضافيتين تسميان “البصلتين الشميتين الملحقتين” accessory olfactory bulbs. هاتان البصلتان تقعان فوق البصلتين الشميتين الرئيسيتين وهما تتصلان مع مستقبلات حسية خاصة توجد ضمن عضوين أنفيين يسميان (VNO) vomeronasal organ.

لو أردنا الحديث بشكل دقيق فإن الأعضاء الحسية التي نشأت من الدماغ الأمامي هي ما يلي:

  • 4 بصلات شمية من الدماغ النهائي (بصلتان أساسيتان وبصلتان ملحقتان)
  • 3 حويصلات بصرية من الدماغ البيني (العينان الجانبيتان والعين الجدارية)

هذه الأعضاء الحسية تحوي خلايا عصبية وعصبية-هرمونية مشتقة من خلايا المنطقة البدائية التي كانت تقع حول مقدمة تجويف الأنبوب العصبي. الخلايا التي بقيت حول مقدمة تجويف الأنبوب العصبي أنتجت لدى الفقاريات المتأخرة ما يسمى بالدماغ البيني diencephalon، وخاصة الجزء المسمى “ما تحت الثلم” hypothalamus. هناك قسم من هذه الخلايا تمدد أيضا نحو الدماغ الأوسط وأنتج الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأوسط.

مما سبق يتبين أن أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine يعود ربما إلى منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي (لدى الثدييات هي موجودة في ما تحت الثلم hypothalamus).

لو نظرنا إلى الرسم التالي فسنرى أن الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي هي استمرار منقاري لأنوية الرفاء:

أنوية الرفاء (الخلايا المفرزة للـ serotonin) تظهر على هذا الرسم باللون الأحمر. على الجهة المنقارية لهذه الخلايا توجد الخلايا العصبية-الهرمونية neuroendocrine التي تظهر باللون البرتقالي (هذه الخلايا توجد لدى الثدييات في ما تحت الثلم hypothalamus). بناء على كلام الدراسة التي أشرنا إليها في الأعلى فإن الخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي هي متداخلة مع الخلايا العصبية-الهرمونية، أي أنها جزء من الخلايا ذات اللون البرتقالي. الخلايا ذات اللون الأخضر هي خلايا “الساعة اليومية” circadian clock (توجد لدى الثدييات في النواتين فوق التصالبيتين suprachiasmatic nuclei في القسم المنقاري من ما تحت الثلم hypothalamus). الخلايا ذات اللونين الأبيض والأصفر هي مستقبلات ضوئية.

بما أن الخلايا المفرزة للـ dopamine هي على ما يبدو مجرد امتداد منقاري (في الدماغ الأمامي) للخلايا المفرزة للـ serotonin فهذا يطرح احتمالية الأصل المشترك لهذه الخلايا. هذه الاحتمالية هي واردة كما قالت الدراسة التي نقلت منها في الأعلى. الـ dopamine والـ serotonin هما جزيئان متشابهان كيميائيا: كلاهما ينتميان إلى أحاديات الأمين monoamines. الـ dopamine هو مشتق كيميائيا من حمض أميني يسمى tyrosine، والـ serotonin هو مشتق من حمض أميني يسمى tryptophan.

أصل الخلايا المفرزة للـ norepinephrine

في الدماغ الأوسط توجد خلايا مفرزة لناقل آخر من أحاديات الأمين هو الـ norepinephrine. لو نظرنا في المقطعين C و D من الشكل التالي فسنرى أن الموضع الأزرق locus coeruleus (المفرز للـ norepinephrine) يقع على الجهة الظهرية لأنوية الرفاء:

أنا بصراحة لم أقرأ أي شيء مفيد حول أصل الخلايا المفرزة للـ norepinephrine، ولذلك ما سأقوله الآن هو ليس أكثر من اجتهادات أو تخرصات شخصية.

الـ norepinephrine هو من الناحية الكيميائية شديد الشبه بالـ dopamine. كلا هذين الجزيئين ينتميان إلى تصنيف كيميائي يسمى catecholamines (هذا التصنيف يضم أيضا الـ epinephrine الذي هو مشتق كيميائيا من الـ norepinephrine). الـ dopamine هو مصدر الـ norepinephrine في الجسم البشري. تحويل الـ dopamine إلى norepinephrine يتم عبر تفاعل كيميائي بسيط ينفذه أنزيم واحد كما يظهر في الرسم التالي:

هذا الرسم يوحي بوجود صلة قرابة وثيقة بين الـ dopamine والـ norepinephrine. من الممكن أن هذين الناقلين يتحدران من أصل مشترك حديث نسبيا.

حسب ما فهمت من بعض المصادر فإن الـ norepinephrine هو غير موجود لدى الحيوانات غير الفقارية. الحيوانات غير الفقارية تملك ناقلا آخر يسمى (OA) octopamine. هذا الناقل يؤدي نفس الوظائف التي يؤديها الـ norepinephrine لدى الحيوانات الفقارية. بعض الباحثين حقنوا حيوان الـ lobster بالـ serotonin، فكانت النتيجة أن الحيوان صار يتصرف وكأنه الزعيم في مجتمعه، ولكنهم عندما حقنوه بالـ octopamine تغير سلوكه وصار يتصرف وكأنه فرد حقير في مجتمعه. إذن من الممكن أن الـ octopamine هو مولد للخوف أو القلق، وهي نفس وظيفة الـ norepinephrine لدى الفقاريات.

الـ octopamine هو جزيء أحادي الأمين مشتق من الـ tyrosine، ولكنه ليس مشتقا من الـ dopamine.

على ما يبدو فإن ظهور الفقاريات (أو ربما الحبليات) ترافق مع التخلي عن الـ octopamine والانتقال نحو الـ norepinephrine، ولكن السؤال هو ما سبب هذا التغيير؟

أنا بصراحة لا أعرف ما هو السبب، ولكن إحدى الأفكار التي طُرحت هي أن الانتقال نحو الـ norepinephrine هدفه الربط بين إنتاج الـ norepinephrine وإنتاج الـ dopamine.

إنتاج الـ octopamine في الجسم يتم بمعزل عن إنتاج الـ dopamine، وبالتالي من الممكن نظريا أن يكون هناك حيوان يملك في جهازه العصبي كمية كبيرة من الـ octopamine وكمية منخفضة من الـ dopamine. في المقابل إنتاج الـ norepinephrine هو مرتبط بإنتاج الـ dopamine، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك حيوان يملك في جهازه العصبي كمية كبيرة من الـ norepinephrine وكمية منخفضة من الـ dopamine، لأن إنتاج الـ norepinephrine يمر عبر إنتاج الـ dopamine.

أنا ذكرت سابقا أن الـ norepinephrine هو مسؤول عن اتخاذ القرارات، وأما الـ dopamine فهو مسؤول عن تشغيل منظومة العقد القاعدية basal ganglia التي تنظم السلوك بناء على التجارب السابقة التي مر بها الحيوان. الحيوان الذي يعتمد على منظومة العقد القاعدية في اتخاذ قراراته هو أكثر أمانا من غيره، لأنه يعتمد على خبراته وتجاربه المتراكمة (مثلا هو يعلم ما هي الأشياء الخطيرة حتى يتجنبها وما هي الأشياء الجيدة حتى يطلبها). الحيوان الذي لا يستخدم منظومة العقد القاعدية هو عمليا يتصرف وكأنه حشرة، بمعنى أنه يتحرك في بيئته دون أية معرفة مسبقة بالأشياء الخطيرة والأشياء غير الخطيرة. هذا الحيوان هو معرض للأذى أكثر من الحيوان الذي يستفيد من تجاربه السابقة.

لو فرضنا أن هناك حيوانا فقاريا لديه نسبة عالية من الـ octopamine ونسبة منخفضة من الـ dopamine فما هو السلوك المتوقع لهذا الحيوان؟ هذا الحيوان سوف يتخذ قراراته بسرعة زائدة ودون اعتماد كبير على منظومة العقد القاعدية، أي أنه سوف يكون حيوانا متسرعا ومتهورا، وبالتالي مهددا بالفناء.

ربما يكون هذا هو السبب الذي أدى لانقراض الحيوانات الفقارية المعتمدة على الـ octopamine. هذه الحيوانات انقرضت لأنها كانت تتصرف على نحو متهور ودون استفادة من تجاربها السابقة. وجود نسبة عالية من الـ octopamine ونسبة منخفضة من الـ dopamine يقلل مناسبة fitness الحيوان (وفق مفاهيم نظرية التطور evolution فإن الحيوان غير المناسب unfit هو معرض للانقراض أكثر من الحيوان المناسب fit).

بناء على هذه النظرية (التي هي نظرية شخصية من عندي ولم أقرأها في أي مكان) فإن التخلى عن الـ octopamine ترافق مع ظهور منظومة العقد القاعدية basal ganglia لدى الحيوانات الفقارية الباكرة. الحيوانات الفقارية التي استفادت من منظومة العقد القاعدية هي التي بقيت وتكاثرت، وأما الحيوانات الفقارية التي لم تستفد من هذا الاختراع الجديد وظلت تتصرف كما لو أنها حيوانات غير فقارية فكان مصيرها الانقراض والفناء.

الاستفادة من منظومة العقد القاعدية تعني حكما الاعتماد الكبير على الـ dopamine، لأن هذا الناقل هو الذي يشغّل منظومة العقد القاعدية. الفقاريات الموجودة حاليا لا تتخذ أي قرار دون مشاورة العقد القاعدية، ولهذا السبب هذه الحيوانات تعتمد على الـ norepinephrine (المشتق من الـ dopamine) ولا تعتمد على الـ octopamine (المستقل عن الـ dopamine). الاعتماد الكامل على الـ norepinephrine في اتخاذ القرارات يعني أن تجاهل العقد القاعدية هو أمر غير ممكن، لأن الوصول إلى اتخاذ قرار عبر إفراز الـ norepinephrine يتطلب حكما إفراز الـ dopamine، وبالتالي لا يمكن لقرار أن يتخذ دون إفراز الـ dopamine.

مما سبق نستنتج أن الـ norepinephrine هو ناقل حديث نسبيا، وهو مشتق من الـ dopamine، بالتالي من الممكن أن الخلايا المفرزة للـ norepinephrine (الموضع الأزرق) كانت في الأصل مفرزة للـ dopamine. هذا يوصلنا إلى أن أصل الموضع الأزرق ربما يعود إلى الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي. طبعا هذا الكلام هو مجرد تخيلات من عندي وليس مبنيا على كلام قرأته في مصادر علمية.

أنا لا أعرف ما هي الخلايا المفرزة للـ octopamine لدى الحيوانات غير الفقارية، ولكن الـ octopamine هو من أحاديات الأمين، وبالتالي المفترض هو أنه يشترك في الأصل مع الـ serotonin والـ dopamine.

في مقال سابق أشرت إلى دراسة تحدثت عن تطور الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic nervous system لدى الفقاريات. حسب ما ورد في تلك الدراسة فإن الفقاريات البدائية لم تكن تملك عقدا محيطية مفرزة للـ norepinephrine. جميع الأعصاب الحشوية الصادرة من الحبل الشوكي لدى تلك الحيوانات كانت مفرزة للـ acetylcholine. الأعصاب المتعاطفة sympathetic المفرزة للـ norepinephrine كانت تخرج من جذع الدماغ (ربما كانت تخرج من “الحقل الغطائي الجانبي” lateral tegmental field الذي هو حسب علمي المنطقة الوحيدة المفرزة للـ norepinephrine في جذع الدماغ إلى جانب الموضع الأزرق).

إذن وجود العقد المحيطية المفرزة للـ norepinephrine هو ظاهرة حديثة نسبيا.

أحاديات أمين أخرى

في الأعلى أنا تحدثت عن ناقلين مهمين من أحاديات الأمين هما الـ dopamine والـ norepinephrine. بناء على ما ورد في الأعلى فإن أصل الخلايا المفرزة لهذين الناقلين ربما يعود إلى الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي prosencephalon.

في الدماغ البشري توجد نواقل أخرى من أحاديات الأمين؛ من هذه النواقل مثلا الناقل المسمى melatonin. هذا الناقل يفرز من خلايا الغدة الصنوبرية pineal gland الموجودة في مؤخرة الثلم thalamus والتي تشكل جزءا من منظومة تسمى “ما فوق الثلم” epithalamus. منظومة “ما فوق الثلم” هي مرتبطة تطوريا بالعين الثالثة أو العين الجدارية parietal eye التي أشرنا إليها آنفا.

الـ melatonin من الناحية الكيميائية هو وثيق الصلة بالـ serotonin. العلاقة بين الـ serotonin والـ melatonin تشبه العلاقة بين الـ dopamine والـ norepinephrine.

melatonin serotonin

وجود خلايا مفرزة للـ melatonin ضمن الغدة الصنوبرية (وثيقة الصلة بالعين الجدارية) يتوافق مع النظرية التي ذكرناها في الأعلى حول الدور الأصلي للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ الأمامي: هذه الخلايا كانت في الأصل مسؤولة عن التعامل مع المستقبلات الضوئية (وربما أيضا مع المستقبلات الشمية).

على ما أظن فإن وجود الـ melatonin ضمن خلايا الدماغ الأمامي المفرزة لأحاديات الأمين يدعم النظرية التي تقول بوجود أصل مشترك لجميع الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين. الـ melatonin هو وثيق الصلة بالـ serotonin؛ وجود الخلايا المفرزة للـ melatonin ضمن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ الأمامي يوحي بأن بعض هذه الخلايا ربما كانت في الماضي مفرزة للـ serotonin.

في القسم الظهري من ما تحت الثلم hypothalamus (تحديدا في النواة الحدبية-الحلمية tuberomammillary nucleus) توجد خلايا مفرزة لناقل أميني يسمى histamine. هذا الناقل هو شبيه بأحاديات الأمين ولكنه لا ينتمي إليها كيميائيا. هذا الناقل يلعب دورا كبيرا خارج الجهاز العصبي (هو مهم خاصة في الجهاز المناعي، وهو يلعب دورا مهما في الاستجابة المناعية التي تسمى شعبيا “الحساسية” allergy)، ولكن وجود الـ histamine في الجهاز العصبي المركزي ينحصر في النواة الحدبية-الحلمية.

الوظيفة الأساسية للـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية هي التنشيط activation أو تحفيز اليقظة (لهذا السبب فإن “مضادات الهيستامين” antihistamines المستخدمة في علاج “الحساسية” تسبب النعاس)، وعلى ما يبدو فإن إفراز الـ histamine من النواة الحدبية-الحلمية هو مرتبط بالإيقاع اليومي circadian rhythm، أي أنه مرتبط بشدة الضوء الساقط على العينين. الـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية يساهم في تنظيم إفراز بعض الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية الموجودة في ما تحت الثلم، ويساهم في تنظيم بعض المنعكسات الحشوية المعقدة التي تدار من ما تحت الثلم.

وظائف الـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية هي الوظائف الكلاسيكية لأحاديات الأمين المفرزة من خلايا الدماغ الأمامي؛ أحاديات الأمين المفرزة من خلايا الدماغ الأمامي هي عموما منشطة أو محفزة لليقظة، وإفرازها كان في الأصل مرتبطا بشدة الضوء الساقط على المستقبلات الضوئية، وهي تساهم في تنظيم إفراز الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية الموجودة في ما تحت الثلم، وتساهم في تنظيم بعض المنعكسات الحشوية المعقدة التي تدار من ما تحت الثلم. هذه الوظائف هي الوظائف الأصلية للـ dopamine قبل أن تتمدد بعض الخلايا المفرزة له نحو الدماغ الأوسط وتكتسب وظائف جديدة من قبيل تحفيز السلوك الجيد وتحفيز التفكير الخيالي (الـ dopamine المفرز من خلايا ما تحت الثلم hypothalamus عند الإنسان هو مثبط لإفراز هرمون prolactin المسؤول عن تحفيز إفراز الحليب من الثديين، ويبدو أيضا أنه مثبط لإفراز هرمونGnRH المسؤول عن تحفيز إنتاج خلايا التكاثر الجنسي في المبيضين والخصيتين، أي أن الـ dopamine المفرز في ما تحت الثلم هو على ما يبدو مثبط للتكاثر الجنسي. هذه الوظيفة تشبه وظيفة أحاديات الأمين الأخرى: الـ serotonin والـ norepinephrine كلاهما مثبطان للرغبة الجنسية، والـ norepinephrine هو مسؤول عن الذروة الجنسية orgasm، أي أنه ينهي العملية الجنسية).

الـ histamine هو جزيء “شقيق” لأحاديات الأمين، بمعنى أنه يشبه أحاديات الأمين كيميائيا وإن كان لا ينتمي إليها، وهو يؤدي نفس الوظائف الكلاسيكية لأحاديات الأمين المفرزة في ما تحت الثلم. على ما يبدو فإن تطور هذا الناقل هو نفس تطور أحاديات الأمين المفرزة في الدماغ الأمامي: هو في الأصل كان مسؤولا عن التعامل مع مستقبل ضوئي.

الـmelatonin هو استثنائي بين أحاديات الأمين المفرزة في الدماغ الأمامي من حيث أن إفرازه يزداد في غياب الضوء، وهو يسبب النعاس. كل أحاديات الأمين الأخرى هي منشطة أو محفزة لليقظة. الـ acetylcholine هو أيضا منشط أو محفز لليقظة.

الأصل المشترك لأحاديات الأمين

تحدثنا في مقال سابق عن “التقطع المتتالي” metamerism الذي يميز أجسام الحيوانات ثنائية الجانب bilaterian، وبينا أن هذا التقطع يظهر في الجهاز العصبي، خاصة أثناء المرحلة الجنينية الباكرة. الجهاز العصبي المركزي لدى الجنين البشري (وغير البشري) يكون مقطعا إلى قطع متتالية تسمى “القطع العصبية” neuromeres. هذه القطع العصبية تتمايز لاحقا إلى ما يلي:

  • القطع النخاعية myelomeres (قطع الحبل الشوكي الذي يسمى باللاتينية “النخاع الشوكي” medulla spinalis)
  • قطع الدماغ الخلفي rhombomeres
  • قطع الدماغ الأوسط mesomeres
  • قطع الدماغ الأمامي prosomeres

بينا في مقالات سابقة أن قطع الحبل الشوكي أو القطع النخاعية myelomeres هي الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي، واقترحنا آلية تفسر التعقيد المشاهد في القطع الدماغية. هذه الآلية هي آلية “التكتل ثم التخصص”. الخلايا تتكتل في البداية بهدف زيادة طاقتها الإنتاجية الكلية، ولكنها بعد ذلك تتخصص نوعيا.

طالما أن قطع الحبل الشوكي هي الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي فهذا يعني أن دراسة هذه القطع يمكن أن تساعدنا على فهم الشكل الأصلي للقطع الدماغية، ونحن فعلنا هذا بالفعل: في البداية تحدثنا عن مقطع الحبل الشوكي وبعد ذلك بدأنا الحديث عن المقاطع الدماغية.

الملفت في مقطع الحبل الشوكي هو أنه يخلو (حسب علمي) من خلايا مفرزة لأحاديات الأمين. مقطع الحبل الشوكي يحوي في القرنين الأمامي والجانبي خلايا تأثيرية مفرزة للـ acetylcholine، ويحوي في القرن الخلفي خلايا ربطية تفرز عددا من النواقل أهمها على ما أعتقد هو الـ glutamate (بعض الخلايا الربطية في القرن الخلفي تعتبر خلايا حسية من الرتبة الثانية second-order sensory neurons).

إذا كان الحبل الشوكي يخلو من الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين فمن أين إذن أتت هذه الخلايا إلى الدماغ؟

أنا لا أظن أن هذه الخلايا ظهرت في الدماغ من العدم. على الأغلب أن هذه الخلايا كانت موجودة في الحبل الشوكي سابقا ولكنها اختفت منه لسبب تطوري. ما يدعم هذه الفرضية هو الصورة التالية:

الرسم الذي على اليسار يعبر عن الجهاز العصبي لدودة حلقية، والرسم الذي على اليمين يعبر عن الجهاز العصبي لفأر. الملفت في هذين الرسمين هو الفرق في توزع الخلايا المفرزة للـ serotonin؛ في الجهاز العصبي للدودة الحلقية هناك خلايا مفرزة للـ serotonin في كل قطعة عصبية، ولا يوجد تكتل لهذه الخلايا في الدماغ. في الجهاز العصبي للفأر لا يبدو أن هناك خلايا مفرزة للـ serotonin في الحبل الشوكي، وهناك تكتل لهذه الخلايا في الدماغ.

أنا أظن أن الجهاز العصبي للدودة الحلقية هو أقرب للوضع الأصلي الذي كان موجودا لدى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians. على ما يبدو فإن الخلايا المفرزة للـ serotonin كانت في الأصل موجودة في كل القطع العصبية المكونة للجهاز العصبي المركزي، ولكن هذه الخلايا اختفت من الحبل الشوكي عند الفقاريات (أو ربما هي ما زالت موجودة ولكن بعدد قليل جدا). في المقابل هذه الخلايا تكتلت في الدماغ وأنتجت أنوية الرفاء raphe nuclei في جذع الدماغ والخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في ما تحت الثلم hypothalamus.

ما يبدو لي هو أن الطريقة التي تطورت بها الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ تتماشى مع مبدأ “التكتل ثم التخصص”. لو نظرنا إلى جذع الدماغ فسنجد أن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي متكتلة على شكل عمود من الأنوية هو أنوية الرفاء، ولكن هذه الخلايا تفرز ناقلا واحدا هو الـ serotonin، أي أنها متكتلة ولكنها ليست متخصصة. لو صعدنا أكثر نحو الدماغ الأمامي فسنجد أن تكتل الخلايا ازداد ولكنها باتت متخصصة، بمعنى أنها لم تعد تفرز ناقلا واحدا فقط ولكنها صارت تفرز عددا من النواقل المختلفة (الـ dopamine والـ melatonin والـ histamine وربما أيضا الـ norepinephrine أو octopamine).

لو صح هذا التصور فهو قد يعني أن الخلايا المفرزة للـ serotonin هي “الأصل المشترك” للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين المختلفة، بمعنى أن الخلايا المفرزة للـ dopamine والـ histamine إلخ هي كلها متحدرة من خلايا مفرزة للـ serotonin شبيهة بالخلايا الموجودة في أنوية الرفاء. هذا الطرح هو مجرد نظرية شخصية من عندي.

الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين

ما هي الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين؟

لو قبلنا النظرية التي طرحتها في الأعلى (والتي هي من بنات أفكاري) فهذا يعني أن الخلايا المفرزة للـ serotonin هي ربما الأصل المشترك للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين. إذن لو عرفنا الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة للـ serotonin فنحن سنعرف الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين.

أنا تحدثت في مقال سابق (باختصار) عن الوظيفة الأصلية للـ serotonin لدى ثنائيات الجانب: هذا الناقل يولد في الجهاز العصبي شعور “الشبع” أو “اللذة”.

كلمة “الشبع” هي على ما أعتقد كلمة ذات معنى فلسفي معقد نسبيا ولا تصلح لوصف وظيفة فيزيولوجية في جسم حيوان بدائي. لو أردنا وصف وظيفة الـ serotonin لدى الديدان بعبارات علمية دقيقة فيجب أن نقول ما يلي: إفراز الـ serotonin في الجهاز العصبي للدودة يحصل عندما تعثر الدودة على كمية وافرة من الغذاء، وهذا الإفراز يؤدي إلى تثبيط الحركة الانتقالية inhibition of locomotion للدودة، بمعنى أن الدودة تتوقف عن الحركة الانتقالية من مكان إلى آخر.

بالإضافة إلى ذلك الـ serotonin هو محفز لليقظة (كسائر أحاديات الأمين).

المقصود بكلمة “اليقظة” arousal هو القدرة الحسية. عندما يكون الحيوان يقظا فإنه يكون أقدر على الاستقبال الحسي.

الـ acetylcholine هو أيضا محفز لليقظة، ولكنه (حسب علمي) محفز للحركة الانتقالية.

إذن الفرق الأساسي بين الـ serotonin وبين الـ acetylcholine هو أن الأول مثبط للحركة الانتقالية والثاني محفز لها.

هذا قد يكون الفرق الأصلي بين الـ serotonin والـ acetylcholine: كلا هذين الناقلين هما محفزان للاستقبال الحسي، وعلى ما أعتقد فإن كليهما محفزان للحركة الحشوية (مثلا حركة الجهاز الهضمي)، ولكن الـ serotonin هو مثبط للحركة الهيكلية أو الانتقالية، بخلاف الـ acetylcholine الذي هو محفز للحركة الهيكلية أو الانتقالية.

لو نظرنا إلى أحاديات الأمين التي يفترض أنها أحدث عمرا من الـ serotonin (كالـ dopamine والـ norepinephrine إلخ) فسنجد أنها تشترك عموما مع الـ serotonin في خاصية التحفيز الحسي أو تحفيز اليقظة، ولكن تأثيرات هذه النواقل على الحركة هي متباينة. الـ dopamine والـ norepinephrine هما محفزان للحركة الانتقالية ولكنهما مثبطان للحركة الحشوية، أي أن تأثيرهما على الحركة هو معاكس لتأثير الـ serotonin.

يرجى الانتباه إلى أن النظرية التي تقول بأن الـ serotonin هو أقدم من أحاديات الأمين الأخرى هي مجرد تخرص وأنا لا أملك دليلا عليها. من الممكن أن جميع أحاديات الأمين هي متحدرة من أصل مشترك يختلف عن الـ serotonin. لا يوجد لدي دليل على أن الـ serotonin هو أقدم من أحاديات الأمين الأخرى.

الأهم في كل ما سبق هو أن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي مرتبطة وظيفيا بالمستقبلات الحسية. أحاديات الأمين هي في الغالب محفزة للاستقبال الحسي، ولكنها أحيانا تثبطه (كما في حالة الـ melatonin الذي هو محفز للنوم). الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين تعتمد على الإشارات الحسية الواردة من المستقبلات الحسية وترسل إشارات تأثيرية متباينة نحو الغدد والخلايا العضلية الحشوية والخلايا العضلية الهيكلية. الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي إذن نوع من الخلايا العصبية الربطية التي تربط بين المستقبلات الحسية والخلايا التأثيرية (الإفرازية والتحريكية). من الممكن أن سبب تمايز الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين الموجودة في الدماغ الأمامي هو ارتباطها بنوع (أو أكثر) من المستقبلات الحسية “الخاصة” (خاصة المستقبلات الضوئية). على سبيل المثال، من الممكن أن سبب تطور الـ melatonin هو ارتباطه بالعين الجدارية، التي هي عضو حسي خاص لا يوجد مثيل له في مناطق الجسم الأخرى. أيضا من الممكن أن الـ dopamine تطور في الأصل بسبب ارتباطه بالمستقبلات الضوئية التي أصبحت موجودة لاحقا ضمن شبكيتي العينين، ومن الممكن أن الـ histamine تطور بسبب ارتباطه بنوع خاص من المستقبلات الضوئية (أو غير الضوئية).

المقصود من هذه النظرية هو أن أحاديات الأمين تكاثرت وتمايزت بسبب ارتباطها بمستقبلات حسية خاصة من أنواع مختلفة، خاصة المستقبلات الضوئية. هذه النظرية تفسر وجود الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين بكميات كبيرة وبأنواع متعددة في الدماغ الأمامي، وخاصة في الدماغ البيني الذي هو مرتبط تطوريا بحس البصر.

الدماغ البشري (8)

هذا المقال سيكون جافا نوعا ما لأنني سأتحدث فيه عن التكوين التشريحي للجسر pons ولن أتطرق كثيرا إلى الوظائف والآليات الفيزيولجية. سوف أؤجل الحديث عن الآليات والوظائف والمنعكسات إلى أن أنهي الحديث عن التكوين التشريحي لجذع الدماغ.

في الجزء السادس من هذه السلسلة تحدثت عن مقاطع النخاع المستطيل المنقاري rostral medulla oblongata. أهم ما يميز هذه المقاطع هو انتفاخ القناة المركزية central canal وتحولها إلى البطين الرابع fourth ventricle الذي يفصل بين جذع الدماغ والمخيخ cerebellum.

مصدر الصورة
مصدر الصورة
منظر ظهري-جانبي لجذع الدماغ بعد قطع المخيخ. لاحظ قعر البطين الرابع الذي يظهر بلون أسود على ظهر الجسر والنخاع المستطيل المنقاري

الآن سنتحدث عن مقطع الجسر pons. أهم ما يميز الجسر هو وجود المخيخ على ظهره. المخيخ من حيث الأصل الجنيني هو مشتق من الصفيحتين الجناحيتينalar plates  للأنبوب العصبي neural tube.

ذكرنا في السابق أن الجهاز العصبي المركزي في بداية تكوينه (لدى الجنين) يكون له شكل أنبوب يسمى “الأنبوب العصبي” neural tube. لو أخذنا مقطعا عرضيا في الأنبوب العصبي فسنجد أنه يحوي في مركزه تجويفا أو قناة (ولهذا السبب سمي أنبوبا). هذه القناة تتحول إلى “القناة المركزية” central canal التي نراها لدى الإنسان البالغ في وسط الحبل الشوكي. حول القناة المركزية توجد كتل من المادة الرمادية (أجسام الخلايا العصبية). عند الجنين هذه المادة الرمادية تقسم إلى صفائح قاعدية basal plates وصفائح جناحية alar plates.

neural tube cross section
مقطع عرضي في الأنبوب العصبي الجنيني (على اليسار) والحبل الشوكي (على اليمين)

الصفيحتان القاعديتان basal plates توجدان في الناحية البطنية ventral من الأنبوب العصبي، والصفيحتان الجناحيتان alar plates توجدان في الناحية الظهرية dorsal من الأنبوب العصبي. الصفيحتان القاعديتان تتحولان في الحبل الشوكي إلى القرنين البطنيين ventral horns (الذين يحويان خلايا تأثيرية effector)، والصفيحتان الجناحيتان تتحولان إلى القرنين الظهريين dorsal horns (الذين يحويان خلايا حسية أو استقبالية).

القناة المركزية تقترب بشكل تدريجي من الجدار الظهري للنخاع المستطيل كلما اتجهنا من الجهة الذيلية caudal نحو الجهة المنقارية rostral (أي كلما اتجهنا من الأسفل إلى الأعلى)، ونفس الأمر ينطبق أيضا على كتل المادة الرمادية (سواء كانت تأثيرية أم حسية). عندما تحدثنا عن مقاطع النخاع المستطيل بينا أن المادة الرمادية في هذه المقاطع تتكتل في الناحية الظهرية، وأما الناحية البطنية فهي مكونة بمعظمها من مادة بيضاء (طرق عصبية أو ألياف عصبية).

القناة المركزية تتسع بشكل تدريجي في النخاع المستطيل كلما اتجهنا نحو الجهة المنقارية، إلى أن تتحول في النهاية إلى البطين الرابع. الاتساع في القناة المركزية يترافق مع تغير في التوزع “الطوبوغرافي” لأنوية المادة الرمادية، بمعنى أن الأنوية التأثيرية تصبح على الجهة الإنسية medial بعدما كانت تقع على الجهة البطنية ventral في مقطع الحبل الشوكي، والأنوية الحسية تصبح على الجهة الطرفية أو الوحشية lateral بعدما كانت تقع على الجهة الظهرية dorsal في مقطع الحبل الشوكي.

gray matter spinal cord brainstem

في المقالات الأخيرة بينا الفرق بين الحس العام general والحس الخاص special، وذكرنا أن الحس الخاص هو موجود حصرا في الدماغ. من أمثلة الحس الخاص حسا الاتزان والسمع اللذين تحدثنا عنهما في المقال الأخير. أنوية هذين الحسين تقع في منطقة الاتصال بين النخاع المستطيل المنقاري والجسر. هذه الأنوية توجد في أقصى الجهة الطرفية أو الوحشية lateral للمادة الرمادية (أنوية حس السمع توجد على الجهة الوحشية لأنوية حس الاتزان). هذا يعني أن هذه الأنوية هي مشتقة جنينيا من القسم الظهري من الصفيحتين الجناحيتين alar plates.

الجسر والمخيخ هما مشتقان جنينيا من الدماغ التالي metencephalon.

الدماغ الخلفي rhombencephalon ينقسم إلى:

  • الدماغ النخاعيmyelencephalon  (يتحول إلى النخاع المستطيل)
  • الدماغ التالي metencephalon (يتحول إلى الجسر والمخيخ)

المخيخ هو مشتق من الصفيحتين الجناحيتين للدماغ التالي، وهو يقع على الجهة الظهرية للبطين الرابع.

metencephalon cross section
مقطع يبين التطور الجنيني للدماغ التالي metencephalon. الصفيحة الجناحية alar plate تعطي كلا من المخيخ cerebellum والأنوية الجسرية pontine nuclei بالإضافة طبعا إلى الأنوية الحسية للأعصاب القحفية (مصدر الصورة)

بما أن المخيخ مشتق من الناحية الظهرية للصفيحتين الجناحيتين فهذا يوحي بأن المخيخ هو عضو حسي خاص، ولكن الكتب والمراجع التقليدية تصنف المخيخ على أنه عضو تحريكي motor.

الجسر يقع على الجهة البطنية للبطين الرابع. تكوين الجسر يشبه تكوين النخاع المستطيل (الجسر هو في الحقيقة مجرد امتداد وظيفي للنخاع المستطيل). ما يلي مقطع في الجسر الذيلي:

caudal pons section

هذا المقطع يشمل كلا من الجسر والمخيخ. المناطق التي تقع فوق الخطين الأحمرين هي في المخيخ وليست في الجسر. مقطع الجسر الذيلي الذي سنتحدث عنه هو فقط المناطق الواقعة تحت الخطين الأحمرين.

تكوين مقطع الجسر يشبه تكوين مقطع النخاع المستطيل. المنطقة البطنية (السفلية) من المقطع تحوي كمية أكبر من المادة البيضاء، والمنطقة الظهرية (العلوية) من المقطع (التي تقع مباشرة تحت قعر البطين الرابع) تحوي كمية أكبر من المادة الرمادية.

الجسر القاعدي

على الوجه البطني للجسر توجد كتلتان بارزتان تشبهان الهرمين pyramids الموجودين على الوجه البطني للنخاع المستطيل ولكنهما ذواتا امتداد أعرض. هاتان الكتلتان تسميان “الجسر القاعدي” basilar pons.

الجسر القاعدي يحوي طرقا نازلة من قشرة المخ:

  • الطريق القشري الشوكي corticospinal tract (نحو قرون الحبل الشوكي)
  • الطريق القشري البصلي corticobulbar tract (نحو أنوية الأعصاب القحفية)

هذه الطرق تسمى “الطرق الهرمية” pyramidal tracts أو “الجهاز الهرمي” pyramidal system، لأنها عندما تصل إلى النخاع المستطيل تكون الهرمين pyramids. هذه الطرق هي مسؤولة عن التحكم الواعي أو الإرادي بالأعصاب الشوكية والقحفية.

إلى جانب الطرق الهرمية هناك في الجسر القاعدي ألياف نازلة أخرى تسمى الألياف القشرية الجسرية corticopontine fibers. هذه الألياف لا تصل إلى الهرمين ولكنها تتشابك مع أنوية ربطية موجودة في الجسر القاعدي تسمى الأنوية الجسرية pontine nuclei.

pons cross section
مقطع في الجسر الذيلي تظهر فيه الأنوية الجسرية (تحت مسمى deep pontine nuclei)

أصل الأنوية الجسرية pontine nuclei يشبه أصل الأنوية الزيتونية السفلية inferior olivary nuclei الموجودة داخل الزيتونتين olives الظاهرتين على جانبي الهرمين في النخاع المستطيل—الأنوية الجسرية هي مشتقة من الصفيحتين الجناحيتين alar plates للدماغ التالي metencephalon، والأنوية الزيتونية السفلية هي مشتقة من الصفيحتين الجناحيتين للدماغ النخاعي myelencephalon.

myelencephalon cross section
مقطع يبين التطور الجنيني للدماغ النخاعي myelencephalon (النخاع المستطيل medulla oblongata). الصفيحة الجناحية alar plate هي مصدر الأنوية الزيتونية السفلية inferior olivary nuclei والأنوية الحسية للأعصاب القحفية. الصفيحة القاعدية basal plate هي مصدر التشكل الشبكي reticular formation والأنوية المحركة للأعصاب القحفية (مصدر الصورة)

الأنوية الزيتونية السفلية والأنوية الجسرية هي مشتقة من الصفيحتين الجناحيتين رغم كونها تقع في الجهة البطنية من جذع الدماغ. الملفت هو أن الألياف الصادرة من الأنوية الزيتونية السفلية والأنوية الجسرية تذهب نحو المخيخ. الألياف الصادرة من الأنوية الزيتونية السفلية تسمى الألياف الزيتونية المخيخية olivocerebellar fibers وهي تذهب إلى المخيخ عبر السُّوَيقة المخيخية السفلية inferior cerebellar peduncle (التي تصدر من النخاع المستطيل المنقاري). الألياف الصادرة من الأنوية الجسرية تسمى الألياف الجسرية المخيخية pontocerebellar fibers وهي تذهب إلى المخيخ عبر السُّوَيقة المخيخية الوسطى middle cerebellar peduncle (التي تصدر من الجسر). الألياف الجسرية المخيخية تظهر بشكل معترض في مقطع الجسر. وجود هذه الألياف هو سبب الشكل العريض للجسر القاعدي مقارنة مع هرمي النخاع المستطيل.

رسم تخطيطي يبين ألياف السويقات المخيخية الثلاث cerebellar peduncles
منظر ظهري لجذع الدماغ بعد قطع المخيخ، وتظهر فيه السويقات المخيخية الثلاث

خلاصة ما سبق هي أن الجسر القاعدي basilar pons يتكون من ألياف طولانية نازلة هي الألياف القشرية الشوكيةcorticospinal  والقشرية البصلية corticobulbar والقشرية الجسرية corticopontine. الألياف القشرية الشوكية وبعض الألياف القشرية البصلية تنزل نحو النخاع المستطيل وتكون الهرمين. الألياف القشرية الجسرية تتشابك مع الأنوية الجسرية الموجود في الجسر القاعدي (أظن أنها تسمى أيضا “الأنوية الجسرية العميقة” deep pontine nuclei). الأنوية الجسرية (العميقة) تصدر أليافا معترضة تسمى الألياف الجسرية المخيخية pontocerebellar (تسمى أيضا “الألياف الجسرية المعترضة” transverse pontine fibers). هذه الألياف المعترضة تذهب نحو المخيخ عبر السُّوَيقة المخيخية الوسطى.

الغطاء

كلمة tegmentum هي تسمية تطلق على مناطق الجسر التي تقع خلف الجسر القاعدي (على جهته الظهرية)، أي أنها تشمل كل ما يقع بين الجسر القاعدي وقعر البطين الرابع.

في القاموس الطبي السوري كلمة tegmentum ترجمت إلى “السَّقِيْفَة”. أنا رجعت إلى أربعة أو خمسة قواميس لاتينية ولم أتمكن من إيجاد الأصل الذي ترجمه مخترعو اللغة الطبية السورية إلى “السقيفة”. على ما يبدو فإن هذه الترجمة لا أصل لها وهي مجرد اختراع من العدم (وهذا ليس شيئا نادرا في اللغة الطبية السورية).

كلمة tegumentum أوtegmentum  أو tegimentum هي مأخوذة من الفعل tegere الذي يعني “التغطية” to cover. الجذر *teg- أو *steg- هو هندو-أوروبي الأصل وهو مصدر الكلمة اليونانية القديمة τέγος التي تعني “سقف”. هذا الرابط فيه إحصاء للمواضع التي وردت فيها كلمة tegumentum في الكتب اللاتينية القديمة. في معظم الأحيان هذه الكلمة وردت بمعنى “غطاء” a covering, cover، ولكنها وردت أيضا بمعنى “درع” armor أو “حماية” protection.

في علم البيولوجيا (المعاصر) كلمة tegument تستخدم كمرادف لكلمة integument. معنى هاتين الكلمتين هو “طبقة خارجية تغطي جزءا من الحيوان أو النبات”. ما يلي هو تعريف الكلمة في قاموس Oxford:

tegument

Pronunciation: /ˈtɛgjʊm(ə)nt/

noun

chiefly Zoology

the integument of an organism, especially a parasitic flatworm.

Origin:

late Middle English (in the general sense ‘a covering or coating’): from Latin tegumentum, from tegere ‘to cover’

ما يلي هو تعريف كلمة integument:

integument

Pronunciation: /ɪnˈtɛgjʊm(ə)nt/

noun

a tough outer protective layer, especially that of an animal or plant:

this chemical compound is found in the integument of the seed

Origin:

early 17th century (denoting a covering or coating): from Latin integumentum, from the verb integere, from in- ‘in’ + tegere ‘to cover’

نفس التعاريف موجودة في قاموس Encarta:

tegument

teg·u·ment [téggyəmənt]

(plural teg·u·ments)

noun

integument: the protective outer covering of an organism

[15th century. < Latin tegumentum “covering” < tegere “to cover”]

________________________________________________________________________

integument

in·teg·u·ment [in téggyəmənt]

(plural in·teg·u·ments)

noun

protective layer: an outer protective layer or part of an animal or plant, e.g. a shell, rind, husk, or skin

[Early 17th century. < Latin integumentum < integere “cover up” < tegere “to cover”]

الخلاصة هي أن كلمةtegumentum  في اللغة اللاتينية الكلاسيكية (القديمة) تعني “غطاء” أو “درع” أو “حماية”، وفي اللغة اللاتينية العلمية (المعاصرة) تعني “طبقة خارجية تغطي جزءا من الحيوان أو النبات” (مثلا كالقشرة التي تغطي الديدان أو بذور النبات، أو كالصدفة التي تغطي بعض الحيوانات إلخ).

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو من أين أتى القاموس الطبي السوري بكلمة “السقيفة” كترجمة لـ tegmentum؟ هذه الترجمة ليس لها أساس في اللغة اللاتينية القديمة ولا في اللغة اللاتينية المعاصرة. هي مجرد ترجمة خاطئة. هذا مجرد مثال على الترجمات الخاطئة التي ترد في قاموس اللغة الطبية السورية.

في هذا المقال سوف أترجم كلمة tegmentum إلى “غطاء”. هذه الترجمة هي بسيطة وفي نفس الوقت صحيحة. طبعا القارئ (الجاد) يجب أن يضع في رأسه كلمة tegmentum لأن هذه الكلمة هي المصطلح العلمي الحقيقي، وأما الترجمات العربية فهي ليست مصطلحات علمية وليست قريبة من أن تكون مصطلحات علمية (إلا لدى الأشخاص الذين لا يفهمون أصلا ما هو معنى كلمة مصطلح علمي).

الغطاء tegmentum هو كما قلنا جميع مناطق الجسر التي تقع بين الجسر القاعدي وقعر البطين الرابع. القسم البطني من الغطاء يحوي عددا من الطرق العصبية الصاعدة. من هذه الطرق ما يلي:

  • الشريط الإنسي medial lemniscus الذي ينقل إشارات حس الاهتزاز والحس الذاتي من النواة النحيلة nucleus gracilis والنواة الوتدية nucleus cuneatus (في النخاع المستطيل الذيلي)، واللتان بدورهما استقبلتا هذه الأحاسيس من العمودين الظهرين dorsal columns (القادمين من الحبل الشوكي).
  • الطريق الشوكي الثلميspinothalamic tract  (أو الشريط الشوكي spinal lemniscus) الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة من الحبل الشوكي.
  • الطريق السمعي الذي يبدأ من النواتين القوقعيتين cochlear nuclei (تمتدان بين النخاع المستطيل المنقاري والجسر الذيلي) وتتشابك بعض أليافه في الجسر الذيلي مع الجسم شبه المنحرف trapezoid body والأنوية الزيتونية العلوية superior olivary nuclei، ثم تصعد هذه الألياف عبر الشريط الوحشي lateral lemniscus نحو التليلة السفليةinferior colliculus  في سقف الدماغ الأوسط midbrain tectum.
الطريق السمعي

الأنوية الزيتونية العلوية superior olivary nuclei هي غير ظاهرة في مقطعي الجسر الذيلي الذين أوردناهما في الأعلى. هذه الأنوية هي امتداد منقاري للأنوية الزيتونية السفلية، ولكنها على ما أظن ليست موجودة ضمن الزيتونتين olives لأن الزيتونتين تنتهيان عند الحدود المنقارية للنخاع المستطيل. حسب ما يرد في المصادر فإن الأصل الجنيني للأنوية الزيتونية العلوية هو من الصفيحة القاعدية basal plate (ولكن أحد المصادر القديمة نسبيا طرح احتمال أن يكون أصلها من الصفيحة الجناحية). الأنوية الزيتونية العلوية ترسل أليافا صاعدة نحو التليلة السفليةinferior colliculus  في سقف الدماغ الأوسط. إذن الأنوية الزيتونية العلوية -بخلاف الأنوية الزيتونية السفلية- هي ليست مرتبطة بشكل مباشر بالمخيخ، لا من حيث الأصل الجنيني ولا من حيث التشابك العصبي.

الغطاء tegmentum يحوي أيضا طرقا عصبية تضم أليافا صاعدة ونازلة. من هذه الطرق:

  • الطريق الغطائي المركزي central tegmental tract
  • الحزمة الطولانية الإنسية medial longitudinal fasciculus (اختصارا MLF)

هذان الطريقان يمتدان على طول جذع الدماغ (من الدماغ الأوسط midbrain وحتى النخاع المستطيل). أنا تحدثت في مقالات سابقة عن بعض الألياف التي تمر عبر هذين الطريقين. مثلا “الطريق الغطائي المركزي” يحوي ألياف “الطريق المفرد الثلمي” solitariothalamic tract الذي ينقل حس الذوق نحو الثلم thalamus من القسم المنقاري لنواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract. سوف أؤجل الحديث عن بقية الألياف المارة في هذين الطريقين إلى مقال لاحق.

بالنسبة للمادة الرمادية في الغطاء tegmentum فهي تنقسم عموما إلى ثلاثة أقسام (كما في النخاع المستطيل):

  • أنوية قحفية (أنوية الأعصاب القحفية رقم 8 و7 و6 و5)
  • أنوية شبكية (في التشكل الشبكي reticular formation)
  • أنوية ربطية (مثلا الجسم شبه المنحرف والأنوية الزيتونية العلوية)

الأنوية القحفية

منظر ظهري يبين توزع الأنوية القحفية في جذع الدماغ (الرسم تقريبي وغير دقيق)

الأنوية القحفية تتوزع من الجهة الجانبية أو الوحشية lateral إلى الجهة الإنسية medial على النحو التالي:

  • في أقصى الجهة الوحشية توجد أنوية الحس الجسماني الخاصspecial somatic ، أي الأنوية القوقعية والدهليزية التي تستقبل حسي السمع والاتزان عبر العصب القحفي رقم 8. هذه الأنوية توجد في الجسر الذيلي (ولها امتداد أيضا في النخاع المستطيل المنقاري).
  • بعد ذلك توجد نواة الحس الجسماني العام general somatic، التي هي النواة الحسية للعصب القحفي رقم 5 trigeminal sensory nucleus. هذه النواة تستقبل الحس الجسماني العام القادم من الوجه عبر العصب القحفي رقم 5 (العصب ثلاثي التوائم trigeminal nerve). هذه النواة تمتد على طول جذع الدماغ من النخاع المستطيل وحتى الدماغ الأوسط.
  • ثم تأتي نواة الحس الحشويvisceral ، التي هي نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract. القسم المنقاري من هذه النواة (موجود في الجسر الذيلي والنخاع المستطيل المنقاري) يستقبل حس الذوق (حس حشوي خاصspecial visceral ) عبر العصب القحفي رقم 7 (في الجسر الذيلي) والعصب القحفي رقم 9 (في النخاع المستطيل المنقاري).
  • على الجهة الإنسية medial للنواة السابقة توجد النواة التأثيرية الحشوية visceral effector (جانب المتعاطفة parasympathetic)، التي هي في الجسر الذيلي النواة اللعابية العلوية superior salivatory nucleus. هذه النواة هي مسؤولة عن إفراز اللعاب والدمع عبر العصب القحفي رقم 7 (العصب الوجهي facial nerve). هذه النواة يمكن اعتبارها امتدادا منقاريا للنواة اللعابية السفلية inferior salivatory nucleus الموجودة في النخاع المستطيل المنقاري والمسؤولة عن إفراز اللعاب عبر العصب القحفي رقم 9. النواة اللعابية السفلية بدورها يمكن اعتبارها امتدادا منقاريا للنواة الظهرية للعصب المبهم dorsal nucleus of the vagus nerve المسؤولة عن التعصيب جانب المتعاطف parasympathetic لكل أحشاء الجسم ما عدا القلب والأحشاء الحوضية.
  • في الجهة الإنسية توجد نواة محركة جسمانية somatic motor هي نواة العصب القحفي رقم 6 المسؤولة عن تحريك العين نحو الاتجاه الوحشي lateral. هذه النواة توجد في الجسر الذيلي.
  • النواة المحركة للعصب القحفي رقم 7 (التي تسمى “النواة المحركة الوجهية” facial motor nucleus) هي مسؤولة عن تحريك عضلات الوجه (التعابير الوجهية). هذه النواة هي “حشوية جسمانية” somatovisceral أو “تأثيرية حشوية خاصة” special visceral efferent ويمكن اعتبارها امتدادا نحو الجسر الذيلي للنواة المبهمة nucleus ambiguus الموجودة في النخاع المستطيل والمسؤولة عن تحريك عضلات الحنجرة والبلعوم عبر العصبين القحفيين رقم 9 و10. نواة العصب القحفي رقم 7 لها امتداد منقاري بعيد هو النواة المحركة للعصب القحفي رقم 5 (التي تسمى “النواة المحركة ثلاثية التوائم” trigeminal motor nucleus) الموجودة في وسط الجسر. هذه النواة هي مسؤولة عن تحريك عضلات المضغ muscles of mastication.

من يقارن توزع الأنوية القحفية في الجسر مع توزع الأنوية القحفية في النخاع المستطيل سوف يرى أن هذه الأنوية تشكل ما يشبه الأعمدة الوظيفية المتقطعة. مثلا النواة المبهمة nucleus ambiguus (في النخاع المستطيل) والنواة المحركة الوجهية facial motor nucleus (في أسفل الجسر) والنواة المحركة ثلاثية التوائم trigeminal motor nucleus (في وسط الجسر) تشكل عمودا محركا “حشويا جسمانيا” somatovisceral motor. هذا العمود هو متقطع إلى أنوية ولكن الأنوية تؤدي وظائف متشابهة. نفس الأمر ينطبق على الأنوية التأثيرية الحشوية visceral effector (جانب المتعاطفة parasympathetic)، ونفس الأمر ينطبق ربما على الأنوية المحركة الجسمانية somatic motor التي تشمل نواة العصب رقم 12 (في النخاع المستطيل) ونواة العصب القحفي رقم 6 (في الجسر) ونواتي العصبين القحفيين رقم 4 و3 (في الدماغ الأوسط).

بالنسبة للأعمدة الحسية فهي أقل تقطعا وأكثر وضوحا. نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract تعبر عن عمود حسي حشوي visceral sensory يمتد من النخاع المستطيل إلى الجسر الذيلي، والنواة الحسية للعصب القحفي رقم 5 هي عمود حسي جسماني somatic sensory يمتد على طول جذع الدماغ ويتمادى في الأسفل مع القرن الظهري للحبل الشوكي.

النواة الحسية للعصب القحفي رقم 5 هي متقطعة إلى ثلاث أنوية:

  • النواة الشوكية spinal nucleus (في النخاع المستطيل) تستقبل من الوجه حس الألم والحرارة واللمس غير الدقيق crude touch.
  • النواة الحسية الرئيسية principal sensory nucleus (في الجسر) تستقبل من الوجه حس اللمس الدقيق fine touch والاهتزاز والحس الذاتي الواعي conscious proprioception.
  • نواة الدماغ الأوسط mesencephalic nucleus (في الدماغ الأوسط) تستقبل من الوجه ربما الحس الذاتي غير الواعي unconscious proprioception.

الجدول التالي يبين جميع الأنوية القحفية الموجودة في جذع الدماغ مصنفة حسب وظائفها وحسب الأعصاب القحفية المتصلة معها. العصبان القحفيان الأول والثاني هما مستثنيان لأنهما لا يصدران من جذع الدماغ.

Effector Receptor
somatic somatovisceral visceral visceral general somatic special somatic
CN III oculomotor nucleus Edinger–Westphal nucleus
CN IV trochlear nucleus
CN V trigeminal motor nucleus trigeminal sensory nucleus
CN VI abducens nucleus
CN VII facial motor nucleus superior salivatory nucleus solitary nucleus trigeminal sensory nucleus
CN VIII vestibular nuclei cochlear nuclei
CN IX nucleus ambiguus inferior salivatory nucleus solitary nucleus trigeminal sensory nucleus
CN X nucleus ambiguus dorsal nucleus of the vagus solitary nucleus trigeminal sensory nucleus
CN XII hypoglossal nucleus

الأنوية الشبكية

توزع الأنوية الشبكية في الجسر يشبه التوزع الذي بيناه سابقا في النخاع المستطيل. الأنوية التأثيرية (كبيرة الخلاياmagnocellular ) توجد في الجهة الإنسية، والأنوية الاستقبالية (صغيرة الخلايا parvocellular) توجد في الجهة الوحشية.

reticular formation
منظر ظهري لجذع الدماغ يبين أنوية التشكل الشبكي
مقاطع عرضية في جذع الدماغ تبين أنوية التشكل الشبكي. A: النخاع المستطيل المنقاري. B: الجسر الذيلي. C: الجسر المنقاري. D: الدماغ الأوسط عند مستوى التليلتين السفليتين.

الأنوية الشبكية الاستقبالية أو الإيرادية afferent في النخاع المستطيل والجسر تشمل ما يلي (من الأسفل إلى الأعلى):

  • النواة الشبكية الجانبية lateral reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • المنطقة الشبكية صغيرة الخلايا parvocellular reticular area (في النخاع المستطيل المنقاري والجسر الذيلي)
  • المنطقة جانب الذراعية parabrachial area (في الجسر المنقاري)
  • النواة السويقية الجسرية pedunculopontine nucleus والنواة الغطائية الجانبية الظهرية laterodorsal tegmental nucleus

النواتان الأخيرتان تعتبران أحيانا نواة واحدة اسمها “النواة السويقية الجسرية” pedunculopontine nucleus. اسم هذه النواة يدل على أنها تقع في الجسر، ولكن الرسومات تظهرها في الدماغ الأوسط.

الأنوية الشبكية التأثيرية أو الإصدارية efferent في النخاع المستطيل والجسر تشمل ما يلي (من الأسفل إلى الأعلى):

  • النواة الشبكية عملاقة الخلايا gigantocellular reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • النواة الشبكية جانب المحورية paramedian reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • النواة الشبكية الجسرية الذيلية caudal pontine reticular nucleus (في الجسر الذيلي)
  • النواة الشبكية الجسرية الفموية oral pontine reticular nucleus (في الجسر المنقاري)
  • النواة الشبكية الغطائية الجسرية pontine reticulotegmental nucleus (في الجسر المنقاري)
  • الموضع الأزرق locus caeruleus (في الجسر المنقاري)

بعض الأنوية الشبكية سالفة الذكر تسمى “قبل مخيخية” precerebellar لأنها تصدر أليافا عصبية نحو المخيخ. هناك ثلاثة أنوية شبكية “قبل مخيخية” هي:

  • النواة الشبكية الجانبية lateral reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • النواة الشبكية جانب المحورية paramedian reticular nucleus (في النخاع المستطيل)
  • النواة الشبكية الغطائية الجسرية pontine reticulotegmental nucleus (في الجسر المنقاري)

النواة الشبكية الجانبية lateral reticular nucleus تشبه النواة الزيتونية السفلية inferior olivary nucleus من حيث كونها نواة استقبالية تستقبل أليافا من مصدرين:

  • ألياف صاعدة من الحبل الشوكي
  • وألياف نازلة من النواة الحمراء red nucleus في الدماغ الأوسط

النواة الشبكية الجانبية تشبه أيضا النواة الزيتونية السفلية من حيث موقعها في مقطع النخاع المستطيل، ومن حيث كونها تصدر أليافا نحو المخيخ. الفرق الأساسي بين النواتين (حسب ما يبدو لي) هو في نوعية الألياف الشوكية الصاعدة التي تستقبلها كل منهما. النواة الزيتونية السفلية تستقبل ألياف الطريق الشوكي الزيتوني spinoolivary tract التي تنقل الحس الذاتي، والنواة الشبكية الجانبية تستقبل ألياف الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract التي تنقل حس الألم والحرارة. بناء على ما سبق يمكننا أن نتخيل أن النواة الشبكية الجانبية تؤدي وظيفة مناظرة لوظيفة النواة الزيتونية السفلية (أنا لم أتحدث بعد عن وظيفة النواة الزيتونية السفلية ولكن ما يبدو من بعض الدراسات الحديثة هو أن وظيفة هذه النواة هي تصحيح أو تحديث المعلومات المخزنة في المخيخ بناء على المعطيات الحسية الواصلة إليها).

حسب ما يرد في بعض المصادر فإن النواة الشبكية الجانبية ترسل أيضا أليافا نحو الأنوية الشبكية التأثيرية الموجودة في القسم الإنسي medial من التشكل الشبكي. أنا في مقال سابق قارنت بين هذه الوظيفة وبين وظيفة الأنوية الدهليزية التي تستقبل البيانات الحسية الميكانيكية من الحبل الشوكي والأذن الداخلية وتستخدم هذه البيانات للتدخل في منعكسات التوتر العضلي muscle tone التي تديرها الأنوية الشبكية التأثيرية.

بما أن النواة الشبكية الجانبية ترسل أليافها نحو جهتين (نحو المخيخ ونحو الأنوية الشبكية التأثيرية) فهذا يوحي (مع خط تحت كلمة يوحي) بأنها تؤدي وظيفتين: الوظيفة الأولى تشبه وظيفة النواة الزيتونية السفلية (تحديث معلومات المخيخ)، والوظيفة الثانية تشبه وظيفة الأنوية الدهليزية (تعديل التوتر العضلي).

بالنسبة للنواة الشبكية جانب المحورية paramedian reticular nucleus والنواة الشبكية الغطائية الجسرية pontine reticulotegmental nucleus فهاتان النواتان لهما قصة مختلفة عن قصة النواة الشبكية الجانبية. هاتان النواتان هما على ما يبدو نواتان تأثيريتان وليستا استقباليتين، بدليل موقعهما في مقاطع جذع الدماغ: هما تقعان على الجهة الإنسية للأنوية الشبكية التأثيرية. هاتان النواتان لا تستقبلان إشارات حسية على ما يبدو ولكنهما تستقبلان إشارات قادمة (عبر الحزمة الطولانية الإنسية MLF) من سقف الدماغ الأوسط ومن الأنوية الدهليزية وتستخدمانها لتنسيق المنعكسات المركبة المتعلقة بعملية الرؤية (وربما السمع أيضا لدى بعض الحيوانات) والتي سأتحدث عن بعضها لاحقا. وظيفة هاتين النواتين إذن هي التنسيق الحركي motor coordination. هذه الوظيفة تشبه وظيفة “القشرة قبل المحركة” premotor cortex في المخ. الألياف التي تصدر من هاتين النواتين وتتجه نحو المخيخ هي ربما شبيهة بالألياف التي تنزل من القشرة قبل المحركة نحو المخيخ عبر الأنوية الجسرية pontine nuclei.

وظيفة الألياف التي تنزل نحو المخيخ من القشرة “قبل المحركة” premotor (والقشرة المحركة motor) هي ليست واضحة، ولكنني أظن (بناء على فهمي لبعض النظريات والطروحات) أن وظيفة هذه الألياف هي تحفيز المخيخ لإرسال نسخة معدلة من الإشارات التحريكية التي أرسلت إليه. المخيخ حسب بعض الطروحات الحديثة هو في الأساس عضو ذاكرة، بمعنى أنه يقوم بتخزين الإشارات العصبية الواصلة إليه في القشرة المخيخية cerebellar cortex. القشرة المخيخية تحوي على ما يبدو “خريطة تحريكية” لعضلات الجسم ضمن ما يسمى بطبقة خلايا بوركينيي Purkinje cell layer. هذه “الخريطة التحريكية” هي مرتبطة مع “خريطة حسية” موجودة ضمن الطبقات الأخرى للقشرة المخيخية. الهدف من الربط بين الخريطة التحريكية والخريطة الحسية هو زيادة دقة الخريطة التحريكية. الخلايا الدماغية التي تولد إشارات تحريكية ترسل نسخة من هذه الإشارات إلى المخيخ بهدف تعديلها بناء على الخريطة التحريكية الموجودة فيه.

الوظائف التحريكية للأنوية الشبكية

الأنوية الشبكية هي مسؤولة عن وظائف أو منعكسات عديدة. في مقال سابق تحدثنا عن إحدى الوظائف التحريكية البدائية لهذه الأنوية وهي وظيفة تقليص وإرخاء العضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles (العضلات المضادة للجاذبية anti-gravity muscles). هذه الوظيفة كانت في الأصل تهدف (على ما أظن) لتحريك الجسم، ولكنها لاحقا أصبحت تهدف للحفاظ على انتصاب وتوازن الجسم (ما يسمى posture) بالاعتماد على ما يسمى بالتوتر العضلي muscle tone. حسب كثير من المصادر فإن الأنوية الشبكية المسؤولة عن هذه الوظيفة هي أساسا الأنوية الموجودة في النخاع المستطيل (تثبيطية) وفي الجسر (إثارية).

الوظيفة التحريكية الثانية للأنوية الشبكية التي تحدثنا عنها هي وظيفة التحكم بحركة العينين بهدف تحسين جودة الاستقبال الحسي عبرهما. سوف أذكر المزيد عن هذه الوظيفة في مقال لاحق (بعد أن أتحدث عن تكوين الدماغ الأوسط).

هناك وظيفة تحريكية ثالثة تحدثنا عنها (في هذا المقال) هي وظيفة تنظيم التنفس وإيقاعه. الأنوية الشبكية المحفزة للشهيق والزفير توجد في النخاع المستطيل، والأنوية المنظمة لإيقاع التنفس respiratory rhythm توجد ربما في الجسر.

respiration reticular formation

أحد المراكز الذي يعتقد أنه مسؤول عن تنظيم إيقاع التنفس هو المركز المسمى “المركز المنظم للتنفس” pneumotaxic center (كلمة (táxis) τάξις في اليونانية تعني “تنظيم”) أو “المجموعة التنفسية الجسرية” pontine respiratory group. هذا المركز هو موجود ضمن الأنوية الشبكية التي تسمى “المجمّع جانب الذراعي” parabrachial complex. هذا المجمع هو موجود في الجسر المنقاري بجانب السويقة المخيخية العلوية (السويقة المخيخية العلوية تسمى أيضا “الذراع الضامة” brachium conjunctivum، ومن هنا جاءت تسمية المجمّع جانب الذراعي). أنوية المجمع جانب الذراعي هي متصلة مع نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract عبر العديد من الألياف العصبية، وهذا يفسر دور المجمع في تنظيم إيقاع التنفس. المجمع يستقبل أيضا ألياف حس الذوق من القسم المنقاري لنواة الطريق المفرد ويوصل هذا الحس إلى الثلم thalamus عبر ألياف صاعدة.

الخلاصة هي أن “المجمّع جانب الذراعي” parabrachial complex هو على ما يبدو مسؤول عن تنظيم عدد من المنعكسات أو الوظائف المتعلقة بالحس الحشوي visceral الوارد إلى نواة الطريق المفرد.

النواة الاستقبالية المسماة “النواة الشبكية صغيرة الخلايا” parvocellular reticular nucleus تلعب أيضا دورا في التنفس. تحفيز القسم الذيلي من هذه النواة يحفز الزفير، وهناك اتصالات بين قسمها المنقاري وبين المجمع جانب الذراعي. هناك أيضا اتصالات بين هذه النواة وبين النواة ثلاثية التوائم في الدماغ الأوسط mesencephalic trigeminal nucleus التي تستقبل الحس الذاتي (غير الواعي؟) من العصب القحفي الخامس. النواة الشبكية صغيرة الخلايا هي متصلة أيضا مع نواة العصب القحفي السابع (العصب الوجهي facial) المسؤول عن تحريك عضلات الوجه، ومع نواة العصب القحفي الثاني عشر (العصب تحت اللساني hypoglossal) المسؤول عن تحريك اللسان. هذه الاتصالات توحي بأن النواة الشبكية صغيرة الخلايا تستقبل حسا جسمانيا وتساهم في تنظيم منعكسات جسمانية أو “جسمانية حشوية”.

بالنسبة للموضع الأزرق locus caeruleus والنواة السويقية الجسرية pedunculopontine nucleus والأنوية الشبكية الموجودة في الدماغ الأوسط فهذه كلها تلعب دورا في تنظيم اليقظة arousal أو التنشيط activation. هناك اعتقاد لدى بعض الباحثين بأن هذه الأنوية هي مسؤولة أيضا عن توليد بعض المنعكسات الحركية الإيقاعية (كالمشي والركض)، ولكن هذا الاعتقاد هو محل جدل.

في المقال القادم سوف أتحدث عن تكوين الدماغ الأوسط، وسوف أتحدث عن بعض المنعكسات والآليات التي ينظمها هذا الدماغ.

الدماغ البشري (7)

عندما تحدثنا عن أحاسيس الحبل الشوكي ذكرنا أن بعض هذه الأحاسيس هو واع وبعضها الآخر غير واع. ما يحدد الوعي من عدمه هو الاتصال مع قشرة المخ. أهم الطرق الصاعدة التي تربط أحاسيس الحبل الشوكي مع قشرة المخ هما طريقان:

  • الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract (ينقل إشارات حس الألم والحرارة)
  • طريق العمودين الظهريين dorsal columns والشريط الإنسي medial lemniscus (ينقل إشارات حس الاهتزاز والحس الذاتي)

هناك أيضا طرق صاعدة “غير واعية” ذكرت بعضها في مقال سابق.

من الطرق الصاعدة غير الواعية التي تنقل حس الاهتزاز والحس الذاتي ما يلي:

  • الطريق الشوكي المخيخي spinocerebellar tract
  • الطريق الشوكي الزيتوني spinoolivary tract
  • الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (يصل إلى النواة الدهليزية الوحشية lateral vestibular nucleus)

من الطرق غير الواعية التي تنقل حس الألم وحس الحرارة ما يلي:

  • الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (يصل إلى التشكل الشبكي reticular formation)
  • الطريق الشوكي السقفي spinotectal tract (يصل إلى سقف الدماغ الأوسط midbrain tectum)
  • الطريق الشوكي ما تحت الثلمي spinohypothalamic tract (يصل إلى ما تحت الثلم hypothalamus)

كل الطرق سالفة الذكر تنقل “أحاسيس عامة” general senses.

“الأحاسيس الخاصة” special senses تنقسم أيضا إلى أحاسيس واعية وأحاسيس غير واعية. المبدأ هو نفس مبدأ الأحاسيس العامة: الأحاسيس الخاصة التي تصل إشاراتها إلى قشرة المخ هي أحاسيس واعية.

الإبصار غير الواعي

في مقال سابق أشرت إلى الطريق البصري optic tract (الذي هو استمرار للعصب البصري optic nerve بعد التصالب البصري optic chiasma). الطريق البصري يتفرع إلى عدة فروع:

  • فرع أساسي يتشابك مع أنوية تقع في مؤخرة الثلم thalamus (في الجسم الركبي الوحشي lateral geniculate body والوسادة pulvinar)
  • فرع يذهب إلى ما تحت الثلم hypothalamus
  • فرع يذهب إلى “ما أمام سقف”pretectum الدماغ الأوسط
  • فرع يذهب إلى التليلة العلوية superior colliculus في سقف tectum الدماغ الأوسط

brain_optic

 

الجسم الركبي الوحشي والوسادة يتصلان بواسطة “الإشعاع البصري” optic radiation مع القشرة البصرية الأولية primary visual cortex (تسمى أيضا “القشرة ذات الأخاديد” striate cortex). لهذا السبب الطريق البصري الذي يتصل مع الجسم الركبي الوحشي والوسادة هو طريق واع.

الطرق البصرية الأخرى التي تذهب إلى ما تحت الثلم والدماغ الأوسط هي طرق غير واعية. الطريق الذي يذهب إلى ما تحت الثلم hypothalamus هو مسؤول عما يسمى بالإيقاع اليومي circadian rhythm (أو “الساعة البيولوجية” حسب التسمية الإعلامية). الإيقاع اليومي يدير مجموعة من المنعكسات الإفرازية التي تنظم الـ homeostasis، أي أنه مسألة غير واعية. الطريق الذي يذهب إلى “ما أمام سقف” pretectum الدماغ الأوسط هو مسؤول عن عدد من المنعكسات غير الواعية. الطريق الذي يذهب إلى التليلة العلوية superior colliculus هو مسؤول عن ظاهرة “الرؤية العمياء” blindsight التي تحدثت عنها في مقال سابق.

الخلاصة هي أن حس البصر له فرع واع وفروع أخرى غير واعية.

الشم والذوق غير الواعي

هناك دراسات تزعم وجود تأثير غير واع لبعض الروائح (تحديدا لما يسمى بالفرمونات pheromones) على سلوك البشر. الفرمونات هي شيء مهم لدى الحيوانات، ولو صح وجود تأثير للفرمونات على سلوك البشر فهذا يعني أن هناك اتصالا غير واع بين البصلة الشمية olfactory bulb وبين ما تحت الثلم hypothalamus.

بالنسبة لحس الذوق فهو يصل إلى القسم المنقاري (العلوي) من نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract عن طريق الأعصاب القحفية رقم 7 و 9 و 10، ومن هناك تنتقل إشارات الحس عبر “الطريق المفرد الثلمي” solitariothalamic tract نحو الثلم thalamus، ومن هناك إلى القشرة الذوقية gustatory cortex.

حسب ما أعلم فإن هناك منعكسا غريزيا أو فطريا لدى البشر يجعلهم يتقيؤون بشكل لا إرادي إذا أكلوا مادة ذات طعم مر. الوظيفة الأصلية لهذا المنعكس هي ربما الحماية من التسمم، لأن كثيرا من المواد السامة هي ذات طعم مر.

هذا المنعكس هو موجود لدى الأطفال حديثي الولادة، ما يوحي بأنه منعكس غير واع.

من الممكن أن هذا المنعكس يحدث بسبب دارة عصبية في جذع الدماغ دون تدخل من المناطق الدماغية العليا. مثلا من الممكن أن الإشارات العصبية تنتقل من القسم المنقاري من نواة الطريق المفرد إلى الأنوية المحركة للعصب القحفي العاشر لتحفيز الإقياء بشكل انعكاسي.

لو صح هذا التصور فهو يعني أن حس الذوق له فرع غير واع. المشكلة هي أنني لم أقرأ هذا الكلام في أي مكان ولكنني فقط أستنتج بنفسي.

الاتزان غير الواعي

الحسان الميكانيكيان “الخاصان” (حس الاتزان وحس السمع) ينتقلان في الدماغ عبر ألياف عصبية واعية وألياف أخرى غير واعية.

الألياف الواعية لحس الاتزان تنقل الإشارات العصبية من الأنوية الدهليزية vestibular nuclei إلى الثلم thalamus ومنه إلى القشرة المخية. هذه الألياف لا تشكل سوى قسم ضئيل من ألياف حس الاتزان. هناك الكثير من الطرق غير الواعية لحس الاتزان في الجهاز العصبي المركزي.

إحدى أهم وظائف الجهاز الدهليزي غير الواعية هي تعديل “التوتر العضلي” muscle tone بما يحافظ على توازن الجسم ويمنع سقوطه على الأرض.

الجسم يستند على الهيكل العظمي المكون من 206 عظام. التحكم بكل هذه العظام وإبقاء الجسم في حالة توازن دائم هو ليس أمرا سهلا.

لو حاولت أن تبني بيتا من 206 ورقة لعب فربما تنجح في ذلك، ولكن هل يا ترى تستطيع أن تحرك هذا البيت دون أن يتداعى؟

هيكل الجسم البشري مكون من 206 عظام، ولكن هذا الهيكل هو مستقر دائما ولا يتداعى.

السبب الأساسي لذلك هو ما يسمى “التوتر العضلي” muscle tone.

العضلات المغطية للهيكل العظمي (العضلات الهيكلية) هي متقلصة بشكل دائم لكي تبقى الهيكل العظمي مشدودا ومنتصبا. هذا التقلص الدائم للعضلات الهيكلية يسمى “التوتر العضلي” muscle tone، وهو نابع من الخلايا المحركة الجسمانية في القرنين الأماميين للحبل الشوكي.

فكرة التوتر العضلي تشبه فكرة الحبال المشدودة التي تنصب عمود الخيمة.

pole ropes pegs

في هذه الصورة يظهر عمود منتصب بسبب الحبال التي تشده إلى الأوتاد. العضلات الهيكلية في الجسم الحيواني والبشري تلعب دورا شبيها بدور هذه الحبال.

العضلات الهيكلية المسؤولة عن انتصاب الجسم هي تحديدا العضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles (تغطي الجذع trunk ومناطق الأطراف القريبة من الجذع proximal limb muscles). هذه العضلات تسمى “العضلات المضادة للجاذبية” anti-gravity muscles لأن تقلصها يؤدي لانتصاب الجسم أو الوقوف. العضلات التي تقع في نهايات الأطراف distal limb muscles هي ليست مهمة لموضوع انتصاب الجسم (مثلا تقليص عضلات اليدين والأصابع لا يؤثر على انتصاب الجسم: أنت ستظل واقفا سواء كانت أصابع يديك مبسوطة أم مضمومة).

قوة الشد في الحبال التي تنصب العمود تعادل “التوتر العضلي” في عضلات الجسم المضادة للجاذبية.

التوتر العضلي يمكن أن يزداد أو ينقص بناء على منعكسات يديرها التشكل الشبكي reticular formation في جذع الدماغ.

أنوية التشكل الشبكي التي تتحكم بالتوتر العضلي تقع في المنطقة الإنسية medial من التشكل الشبكي.

التوزع الوظيفي لأنوية التشكل الشبكي يشبه التوزع الوظيفي لأنوية الأعصاب القحفية الذي ذكرناه سابقا:

  • المنطقة الجانبية أو الوحشية lateral من التشكل الشبكي تحوي أنوية استقبالية ذات خلايا صغيرة الحجم تسمى “الأنوية صغيرة الخلايا” parvocellular nuclei.
  • المنطقة الإنسية medial من التشكل الشبكي تحوي أنوية تأثيرية ذات خلايا كبيرة الحجم تسمى “الأنوية كبيرة الخلايا” magnocellular nuclei.
reticular formation
منظر ظهري لجذع الدماغ يبين أنوية التشكل الشبكي

الطريق الحسي الصاعد من الحبل الشوكي نحو التشكل الشبكي (الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract) يتشابك مع “النواة الشبكية الجانبية” lateral reticular nucleus. هذه النواة ترسل أليافا أفقية نحو الأنوية كبيرة الخلايا المحاذية لها:

  • في النخاع المستطيل نحو “النواة الشبكية عملاقة الخلايا” gigantocellular reticular nucleus
  • في الجسر الذيلي نحو “النواة الشبكية الجسرية الذيلية” caudal pontine reticular nucleus
  • في الجسر المنقاري نحو “النواة الشبكية الجسرية الفموية” oral pontine reticular nucleus

هذه الأنوية الثلاث ترسل أليافا محركة جسمانية نازلة نحو خلايا القرنين الأماميين للحبل الشوكي. هذه الألياف تسير في “الطريق الشبكي الشوكي” reticulospinal tract (هذا الطريق يضم أيضا أليافا تأثيرية حشوية نازلة من “المركز القلبي الوعائي” في “النخاع المستطيل البطني الوحشي” ventrolateral medulla oblongata إلى القرنين الجانبيين للحبل الشوكي، ويضم أيضا الألياف المحركة الجسمانية النازلة من “مركز التنفس” في النخاخ المستطيل إلى القرنين الأماميين للحبل الشوكي).

هذه الأنوية الشبكية الثلاث هي المسؤولة عن المنعكسات الشبكية المتعلقة بالتوتر العضلي muscle tone.

آلية تحكم هذه الأنوية بالتوتر العضلي هي غير واضحة. كثير من المصادر تقول أن النواتين الموجودتين في الجسر (“النواة الشبكية الجسرية الذيلية” و”النواة الشبكية الجسرية الفموية”) تقومان بزيادة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية عبر إرسال إشارات إثارية إلى خلايا القرنين الأماميين للحبل الشوكي، وأن النواة الموجودة في النخاع المستطيل (“النواة الشبكية عملاقة الخلايا”) تقوم بتثبيط النواتين الموجودتين في الجسر وبالتالي تثبيط التوتر العضلي. في المقابل هناك مصادر تزعم أن النواتين الموجودتين في الجسر لهما تأثير مثبط للتوتر العضلي.

في كل الأحوال المهم هو أن الأنوية كبيرة الخلايا في التشكل الشبكي الإنسي تتحكم بالتوتر العضلي.

طبيعة المنعكسات التي تشرف عليها هذه الأنوية هي غير معروفة جيدا بالنسبة لي. بما أن التشكل الشبكي الوحشي يستقبل إشارات حسية قادمة عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة) فمن الممكن أن الأنوية كبيرة الخلايا كانت في الأصل تقوم بتحريك الجسم وفق المعطيات الحسية القادمة عبر هذا الطريق (على سبيل المثال: تحريك الجسم بعيدا عن مصدر الألم). طبعا بالنسبة للبشر تنشيط هذه الأنوية هو ليس الوسيلة الأنسب لتحريك الجسم، لأن هذه الأنوية لا تتحكم سوى بالعضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles (المضادة للجاذبية). تقليص وإرخاء هذه العضلات يؤدي لتحريك الإنسان على نحو شبيه بسمكة اللامبري lamprey، كما تظهر مثلا في المقطع التالي:

سمكة اللامبري تعيش في الماء ولا تملك الأطراف الأربعة (الذراعان والرجلان)، لهذا السبب تحريكها هو ممكن عبر تحريك العضلات المحورية، ولكن بالنسبة للإنسان هذا النمط من الحركة يعتبر نمطا بدائيا.

من الممكن أن التشكل الشبكي كان في الأصل مسؤولا عن تحريك جسم شبيه بجسم سمكة اللامبري، أي أنه كان مسؤولا عن تحريك جسم يعيش في الماء ويفتقد للأطراف الأربعة (كأجسام الفقاريات البدائية أو الأسماك). عندما ظهرت الكائنات التي تعيش خارج الماء وتملك أطرافا أربعة بدأت وظيفة التشكل الشبكي بالتغير إلى وظيفة جديدة هي المحافظة على انتصاب الجسم أو “مقاومة الجاذبية” عبر توفير “التوتر العضلي”.

هناك أنوية أخرى في جذع الدماغ مسؤولة عن نفس وظيفة التشكل الشبكي آنفة الذكر، هذه الأنوية هي الأنوية الدهليزية vestibular nuclei.

SVN: superior vestibular nucleus; LVN: lateral vestibular nucleus; MVN: medial vestibular nucleus; IVN: inferior vestibular nucleus; MLF: medial longitudinal fasciculus; abducens nucleus = nucleus of CN VI; trochlear nucleus = nucleus of CN IV; oculomotor nucleus = nucleus of CN III

الأنوية الدهليزية تعدل التوتر العضلي للعضلات الباسطة المحورية (العضلات المضادة للجاذبية) بناء على بيانات حس الاتزان القادمة من دهليز الأذن الداخلية.

لتوضيح ما تقوم به الأنوية الدهليزية سوف نعود مجددا إلى صورة العمود المشدود بالحبال.

pole ropes pegs

لو أننا حاولنا إمالة العمود الظاهر في الصورة نحو اليمين فما الذي سيحصل؟

لو كانت الحبال مشدودة بقوة فإمالة العمود ستكون صعبة أو متعذرة، ولو أرخينا الحبال أو أحدها فسيتداعى العمود وسيقع على الأرض.

ولكن الهيكل العظمي البشري عندما يميل نحو اليمين أو اليسار فإنه لا يقع على الأرض.

السبب هو المنعكس الذي تنظمه الأنوية الدهليزية عبر الطريق الدهليزي الشوكي vestibulospinal tract. هذا المنعكس يعدل شدة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية حسب اتجاه حركة الجسم في الفراغ. مثلا عندما يميل الجسم نحو اليمين فإن الجهاز الدهليزي في الأذنين يحس بذلك ويرسل إشارات إلى الأنوية الدهليزية؛ الأنوية الدهليزية ترسل عبر الطريق الدهليزي الشوكي إشارات إلى الخلايا المحركة الجسمانية في القرنين الأماميين للحبل الشوكي؛ هذه الإشارات تؤدي إلى زيادة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية على الجهة اليسرى من الجسم وتقليله في عضلات الجهة اليمنى من الجسم. بهذه الطريقة يحافظ الجسم على توازنه ولا يسقط نحو الجهة اليمنى.

في الحقيقة الأنوية الدهليزية لا تتعامل فقط مع حس الاتزان القادم من دهليز الأذن الداخلية، ولكنها تستقبل أيضا الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract الذي يحمل إليها الحس الذاتي proprioception من الحبل الشوكي.

الحس الذاتي هو الإحساس بشدة وسرعة تقلص العضلات الهيكلية. هذا الحس هو نشط حتى عندما تكون العضلات ساكنة وغير متحركة. إذا كنت تعرف مدى تقلص عضلاتك الهيكلية فأنت تستطيع أن تعرف ما هو موقع أجزاء جسمك في الفراغ. مثلا إذا كنت تعرف ما هو مقدار تقلص عضلات ذراعك فأنت ستعرف إن كانت ذراعك ممدودة أم مضمومة، وستعرف بالضبط ما هو موقع ذراعك بالنسبة لبقية جسمك. إن كانت ذراعك تتحرك فإن معرفتك بالسرعة التي تتقلص أو تتمدد بها عضلات ذراعك ستسمح لك بأن تتنبأ بالموضع الذي ستصل إليه ذراعك بعد فترة زمنية معينة.

هذه الحسابات لا تتم في “العقل الواعي” ولكنها تتم في “العقل غير الواعي”. الأنوية الدهليزية هي إحدى المراكز الدماغية التي تجري مثل هذه الحسابات. ما تقوم به الأنوية الدهليزية هو أنها تربط بيانات الحس الذاتي مع بيانات حس الاتزان القادمة من دهليز الأذن الداخلية. ربط هذه البيانات مع بعضها يزيد من دقة معلومات الأنوية الدهليزية حول وضعية الجسم في الفراغ.

الجهة التي تعتمد على مصدرين مختلفين للحصول على معلوماتها حول شيء معين هي حتما في وضع أفضل من الجهة التي تعتمد على مصدر واحد فقط. اعتماد الأنوية الدهليزية على مصدرين مختلفين للبيانات الحسية الفراغية (حس الاتزان والحس الذاتي) يزيد من جودة المعلومات الموجودة لديها.

في الأعلى افترضنا أن التشكل الشبكي يعدل التوتر العضلي بناء على البيانات الواردة إلى النواة الشبكية الجانبية lateral reticular nucleus عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract. حسب ما أعلم فإن هذا الطريق ينقل في الأساس بيانات حس الحرارة وحس الألم. الأنوية الدهليزية تعدل التوتر العضلي بناء على بيانات دهليز الأذن الداخلية وبناء على بيانات الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (الذي ينقل الحس الذاتي حسب ما ورد في بعض المصادر). إذن هناك تشابه في الوظيفة التي يؤديها التشكل الشبكي والأنوية الدهليزية. الفرق ربما هو في نوعية البيانات الحسية التي يعتمد عليها كل من هذين النظامين. بما أن حس الاتزان هو أحدث تطوريا من الحس الذاتي فأنا سوف أتخيل ما يلي: في الأصل الأنوية الدهليزية كانت تعدل التوتر العضلي بناء على الحس الذاتي، ولاحقا صارت تعتمد أيضا على حس الاتزان. هذه الفرضية توصلنا إلى ما يلي: في الأصل الأنوية الدهليزية كانت جزءا من منظومة التشكل الشبكي، ولكنها كانت متخصصة في استقبال الحس الذاتي وحس الاهتزاز ونحو ذلك من الأحاسيس الميكانيكية “العامة”، وأما النواة الشبكية الجانبية فكانت متخصصة في استقبال حس الحرارة وحس الألم، أي أن الفرق بين منظومة الأنوية الدهليزية ومنظومة التشكل الشبكي كان لا يختلف عن التخصص الوظيفي المشاهد في القرنين الخلفيين للحبل الشوكي.

الرأس هو الأهم

هناك أمر لافت في منظومة الأنوية الدهليزية وهو أن هذه المنظومة تسخر قسما كبيرا من طاقتها للحفاظ على توازن الرأس.

هناك نواتان دهليزيتان مسؤولتان عن التحكم بالتوتر العضلي للعضلات الباسطة المحورية (راجع الرسم التخطيطي في الأعلى):

  • النواة الدهليزية الإنسية medial vestibular nucleus (مسؤولة عن توازن الرأس)
  • النواة الدهليزية الوحشية lateral vestibular nucleus (مسؤولة عن توازن الجسم أسفل الرأس)

النواة الدهليزية الإنسية هي مسخّرة للتحكم بالعصب القحفي رقم 11 الذي يصدر من الحبل الشوكي الرقبي والمسؤول عن إدارة الرأس ورفع الكتفين. النواة الدهليزية الوحشية تتحكم بكل العضلات الباسطة المحورية الأخرى.

القسم الأكبر من ألياف الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (الذي ينقل إشارات الحس الذاتي إلى الأنوية الدهليزية) هو صادر من الحبل الشوكي الرقبي.

ما سبق يعني أن قسما كبيرا من طاقة المنظومة الدهليزية هو مسخّر للحفاظ على توازن الرأس.

في الحقيقة المصادر تميز بين منعكسين مختلفين:

  • المنعكس الدهليزي الرقبي vestibulocollic reflex (مسؤول عن الحفاظ على توازن الرأس)
  • المنعكس الدهليزي الشوكي vestibulospinal reflex (مسؤول عن الحفاظ على توازن الجسم أسفل الرأس)

كلا المنعكسين لهما نفس الآلية على ما أظن، ولكن المنعكس الأول مسؤول عن توازن الرأس والمنعكس الثاني مسؤول عن توازن بقية الجسم أسفل الرأس.

ما هو سبب الأهمية الكبيرة لتوازن الرأس؟

السبب يتعلق بعمل أعضاء “الحس الخاص” special senses، خاصة حس البصر. تثبيت الرأس هو أمر ضروري للمحافظة على جودة الاستقبال الحسي عبر أعضاء الحس الخاص. على سبيل المثال، تثبيت الرأس هو أمر ضروري للرؤية الجيدة عبر العينين. لو كان الرأس يترنح ويتمايل فإن الرؤية عبر العينين ستصبح أصعب وذات جودة أقل.

منعكسات شبكية-دهليزية بدائية

المنعكسات التي وصفناها في الأعلى والتي يؤدي تنشيطها إلى تقلص أو إرخاء عضلات الجسم المحورية الباسطة هي بلا شك منعكسات بدائية. لا أدري ما هو تاريخ هذه المنعكسات (هل هي من زمن الفقاريات أم الحبليات أم ثنائيات الجانب؟) ولكن من الواضح أنها ذات أصل قديم للغاية. رغم ذلك فإن بعض هذه المنعكسات هو مفيد وضروري لحياة البشر.

في المقابل هناك منعكسات من هذا النوع لا يستفيد منها البشر بشيء، بل هي تتعارض مع حياة البشر، ولهذا السبب يتم تثبيطها بشكل نهائي خلال مرحلة الطفولة.

من هذه المنعكسات مثلا المنعكس المسمى “المنعكس التيهي التوتري” tonic labyrinthine reflex. هذا المنعكس يختفي من عند أطفال البشر قبل أن يبلغوا الرابعة من العمر. هذا المنعكس يتنشط بتحريك الرأس: إذا حُرّك الرأس نحو الخلف فإن الجسم يتقوس نحو الخلف، وإذا حُرّك الرأس نحو الأمام فإن الجسم يتقوس نحو الأمام.

tonic labyrinthine reflex

هذا المنعكس قد يفيد سمكة اللامبري ونحوها، ولكنه لا يتناسب مع حياة البشر. لهذا السبب القشرة المخية تقوم بتثبيطه نهائيا قبل السنة الرابعة من العمر.

هناك منعكس شبيه يسمى “منعكس الرقبة التوتري غير التناظري” asymmetrical tonic neck reflex. في هذا المنعكس إذا أدرنا الرأس نحو اليمين فإن الطرف الأيمن من الجسم ينبسط (يتمدد)، والطرف الأيسر ينقبض (ينكمش)، ولو أدرنا الرأس نحو اليسار يحصل العكس.

فكرة هذا المنعكس تشبه فكرة المنعكس السابق، ولكن الفرق هو في الاتجاه. لو فرضنا أن البشر يسبحون في الماء كحيوان اللامبري فإن وظيفة المنعكس السابق هي تحريك الجسم نحو الأمام أو الخلف، ووظيفة هذا المنعكس هي تحريك الجسم نحو اليمين أو اليسار. هذه المنعكسات هي مفيدة لحيوان شبيه بحيوان اللامبري، ولكنها ليست مفيدة للبشر. هذا المنعكس يتثبط لدى أطفال البشر قبل نهاية السنة الأولى من العمر.

بعض الباحثين يعتقدون أن المنعكسين سابقي الذكر يحصلان بتآزر الأنوية الدهليزية وأنوية القسم الإنسي من التشكل الشبكي. مثلا في منعكس الرقبة التوتري غير التناظري ما يحصل هو أن الأنوية الدهليزية تثير العضلات الباسطة على أحد جانبي الجسم، والأنوية الشبكية تقوم بتثبيط العضلات الباسطة على الجانب الآخر.

هناك منعكس شهير في طب الأطفال يسمى “منعكس مورو” Moro reflex. هذا المنعكس يختفي قبل بلوغ الطفل البشري (الطبيعي) الشهر السادس من عمره. هذا المنعكس يتنشط مثلا عندما نرفع رأس الطفل ثم نفلته ونتركه يسقط. ما يحدث هو أن الطفل سوف يبسط القسم العلوي من جسمه (الرأس والصدر والذراعين) وبعد ذلك سوف يضمه مجددا.

moro_reflex

 

 

المهم في هذا المنعكس هو حركة بسط القسم العلوي من الجسم. هذه الحركة تحدث بسبب تحفيز العضلات الباسطة. عندما نسقط رأس الطفل فإن هذا ينشط الجهاز الدهليزي والنتيجة تكون تنشيط العضلات الباسطة. حسب المعلومات الواردة في هذا المقال فإن منعكس مورو يظل موجودا حتى في غياب المناطق الدماغية التي تقع أعلى الجسر pons. هذا يعني أن آلية إنتاج هذا المنعكس هي آلية شبكية-دهليزية بحتة.

اللافت في معلومات المقال المذكور هو أن منعكس مورو يمكن أن يتنشط بمجرد وضع جسم ساخن أو بارد على صدر أو بطن الطفل. هذا يوحي لي بأن المنعكس يمكن أن يتنشط عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract الذي ينقل حس الحرارة إلى التشكل الشبكي. هذا الكلام يتوافق مع الفكرة التي ذكرتها في الأعلى وهي أن تنشيط أحاسيس الحرارة أو الألم يمكن أن يؤدي إلى تنشيط منعكس نصب الجسم عبر التشكل الشبكي. هذا المنعكس ليس له معنى واضح لدى البشر، ولكنه في رأيي ذو معنى لو أننا تخيلناه لدى حيوان اللامبري. لو أنك آذيت حيوان اللامبري في صدره فإن مصلحته هي أن يسبح نحو الخلف لكي يبتعد عنك. هذه في رأيي قد تكون الوظيفة الأصلية لمنعكس مورو (طبعا الباحثون حسب علمي لا يعلمون ما هي وظيفة منعكس مورو وبالتالي هذا الكلام هو رأيي الشخصي).

رأيي الشخصي هو أن كل المنعكسات التي سردناها حتى الآن تعود إلى زمن الفقاريات البدائية التي كانت تسبح في الماء وتفتقد للأطراف الأربعة. بدون هذه الفرضية فإن هذه المنعكسات لا يمكن فهمها. هذه المنعكسات كانت في الأصل تساعد حيوانا يسبح في الماء على تجنب الاصطدام وعلى تجنب مصادر الأذى.

المنعكس البدائي الأخير الذي سأذكره هو “منعكس التصحيح” righting reflex. هذا المنعكس يهدف إلى تصحيح وضعية الجسم في الفراغ. هذا المنعكس يظهر بوضوح لدى القطط. عندما تسقط القطة من مكان عال فإنها تقوم دوما بتصحيح وضعية جسمها لكي تسقط على أقدامها.

هذا المنعكس يعتمد بشكل كبير على حس الاتزان الدهليزي، ويعتمد أيضا على حس البصر. لهذه الأسباب أنا أظن أنه أحدث من المنعكسات سالفة الذكر.

المنعكس الدهليزي العيني

المنعكسات الدهليزية التي ذكرت في الأعلى ترتكز كلها على مبدأ واحد هو تقليص أو إرخاء العضلات المحورية الباسطة (العضلات المضادة للجاذبية). هذه الوظيفة البدائية هي أصلا وظيفة التشكل الشبكي. تدخل الجهاز الدهليزي في هذا الموضوع هو تطور لاحق.

الجهاز الدهليزي تدخل أيضا في منعكسات بدائية أخرى. أهم هذه المنعكسات هو ما يسمى “المنعكس الدهليزي العيني” vestibulo-ocular reflex (أو “المنعكس العيني الرأسي” oculocephalic reflex).

هذا المنعكس يتعلق بحركة مقلتي العينين.

vestibulo-ocular-reflex

مبدأ هذا المنعكس هو شبيه نوعا ما بمبدأ المنعكس الدهليزي الرقبي الذي ذكر في الأعلى. هذا المنعكس يحرك العينين في اتجاه معاكس لاتجاه حركة الرأس بهدف الحفاظ على ثبات الصورة التي تراها العينان. لو تحركت العينان بشكل حر مع اهتزازات وترنحات الرأس فهذا كان سيؤدي لاهتزاز وتشوش الصورة التي تراها العينان.

تحريك مقلة العين يتم عبر العصبين القحفيين رقم 3 و 4 (في الدماغ الأوسط) والعصب القحفي رقم 6 (في الجسر). العصب القحفي رقم 6 (الذي يسمى “العصب المبعد” abducens nerve) هو مسؤول عن تحريك مقلة العين نحو الخارج (نحو الجهة الوحشية lateral). العصبان القحفيان رقم 3 و 4 هما مسؤولان عن تحريك مقلة العين نحو كل الاتجاهات الأخرى. العصب رقم 4 (الذي يسمى “العصب البكري” trochlear nerve) له دور هامشي، والعصب رقم 3 (الذي يسمى “العصب المحرك العيني” oculomotor nerve) هو فعليا الذي يحرك العين في كل الاتجاهات ما عدا الاتجاه الخارجي أو الوحشي.

SVN: superior vestibular nucleus; LVN: lateral vestibular nucleus; MVN: medial vestibular nucleus; IVN: inferior vestibular nucleus; MLF: medial longitudinal fasciculus; abducens nucleus = nucleus of CN VI; trochlear nucleus = nucleus of CN IV; oculomotor nucleus = nucleus of CN III

تحريك مقلتي العينين هو ليس مسألة سهلة لأنه يتطلب دقة وتنسيقا كبيرا بين الأنوية المحركة لكل من المقلتين. العينان يجب أن تنظرا إلى نفس النقطة لكي تكون الرؤية صحيحة.

أبسط حركات العينين هي الحركات الأساسية التالية:

  • التحديق العمودي vertical gaze (تحريك مقلتي العينين إلى الأعلى أو الأسفل)
  • التحديق الجانبي lateral gaze (تحريك مقلتي العينين إلى اليمين أو اليسار)
  • المقاربة convergence (تحريك مقلتي العينين إلى الداخل)

ocular movements eyeتنسيق كل حركة من هذه الحركات يتم عبر أنوية خاصة في التشكل الشبكي.

حركتا التحديق العمودي vertical gaze والمقاربة convergence لا تحتاجان تحريك العين نحو الخارج (نحو الجهة الوحشية lateral). لهذا السبب هاتان الحركتان لا تتطلبان تدخل العصب القحفي رقم 6 وتنسيقهما يتم في الدماغ الأوسط.

تنسيق حركة التحديق العمودي يتم عبر نواتين هما rostral interstitial nucleus of medial longitudinal fasciculus (اختصارا riMLF) و interstitial nucleus of Cajal (اختصارا INC). تنسيق حركة المقاربة يتم عبر نواة تسمى supraoculomotor nucleus. جميع هذه الأنوية تقع في الدماغ الأوسط بجوار نواة العصب القحفي رقم 3 من الجهة المنقارية (العلوية).

brain-stem-eye-movement

حركة التحديق الجانبي lateral gaze تتطلب تحريك إحدى العينين نحو الجهة الوحشية، لهذا السبب هذه الحركة تتطلب تدخل نواة العصب القحفي رقم 6 الموجودة في الجسر pons. النواة الشبكية المسؤولة عن تنسيق حركة التحديق الجانبي توجد في الجسر بجوار نواة العصب رقم 6 (تحديدا في المنطقة المسماة paramedian pontine reticular formation).

تحريك العينين في الظروف الطبيعية يتطلب مشاركة كل الحركات سالفة الذكر بشكل متزامن ومتناسق. هذا الأمر يتطلب وجود اتصال بين الأنوية التي ذكرت. هذا الاتصال هو متوفر عبر الطريق العصبي المسمى “الحزمة الطولية الإنسية” medial longitudinal fasciculus (اختصارا MLF).

الأنوية الدهليزية تستفيد من طريق الحزمة الطولية الإنسية لتنسيق المنعكس الدهليزي العيني vestibulo-ocular reflex الذي ذكرناه آنفا. عندما تشعر الأنوية الدهليزية بأن الرأس يتحرك في اتجاه معين فإنها ترسل إشارات عبر الحزمة الطولية الإنسية إلى الأنوية التي ذكرناها بهدف تحريك العينين في اتجاه معاكس لاتجاه حركة الرأس.

داء الحركة

أحد المنعكسات الدهليزية المهمة هو المنعكس الذي يسمى “داء الحركة” motion sicknes (أو “داء السفر” travel sickness). هذا المنعكس يتنشط مثلا عندما يكون الإنسان راكبا في سفينة. تحرك السفينة صعودا ونزولا يؤثر في الجهاز الدهليزي في الأذن الداخلية، ولكن العينين لا تتأثران لأنهما لا تريان أية حركة. التضارب في البيانات الحسية بين الجهاز الدهليزي والعينين يؤدي إلى تنشيط منعكس الإقياء. الباحثون يرون أن تنشيط منعكس الإقياء في هذه الحالة يهدف لحماية الجسم من الطعام السام أو الفاسد. عندما يشعر الإنسان في دهليز أذنه بحركة لا تراها عيناه فهذا ربما يكون دوارا ناتجا عن تناول طعام سام أو فاسد.

طبعا هذا المنعكس هو ليس دهليزيا فقط ولكنه دهليزي-بصري. هو ناتج من الربط بين البيانات الدهليزية والبصرية في جذع الدماغ.

ما سبق هو تلخيص لبعض المنعكسات والاتصالات “غير الواعية” بين الأنوية الدهليزية ومناطق مختلفة في الجهاز العصبي المركزي. من هذا العرض يتبين أن الأنوية الدهليزية تلعب دورا مهما في الدماغ البشري والجسم البشري.

طبعا معظم المنعكسات الدهليزية التي تحدثنا عنها هي في الحقيقة “تحت واعية” subconscious وليست “غير واعية” unconscious (وفق التصنيف الذي اقترحته في مقال سابق)، لأن العقل الواعي يمكنه أن يتدخل في هذه المنعكسات ويمكنه أن يثبطها، كما يحدث مثلا عندما يُسقط الإنسان نفسه على الأرض، أو عندما يحرك الإنسان عينيه بعيدا عن شيء كان يحدق فيه.

قشرة المخ المحركة ترسل أليافا نازلة نحو كل الأنوية المحركة الجسمانية في جذع الدماغ، سواء كانت هذه الأنوية قحفية أم شبكية أم دهليزية أم غير ذلك. الألياف القشرية النازلة نحو الأنوية القحفية المحركة تسمى “الطريق القشري البصلي” corticobulbar tract (“البصلة الدماغية” cerebral bulb هي تسمية قديمة للنخاع المستطيل). الألياف القشرية النازلة نحو الأنوية المحركة (كبيرة الخلايا magnocellular) في التشكل الشبكي تسمى “الطريق القشري الشبكي” corticoreticular tract. هناك أيضا ألياف نازلة من قشرة المخ نحو الأنوية الدهليزية. عن طريق هذه الألياف النازلة يمكن لقشرة المخ (العقل الواعي) أن تتحكم بالأنوية المحركة الجسمانية في جذع الدماغ.

هناك منعكسات دهليزية حشوية لم أتطرق لها في الأعلى. هذه المنعكسات تربط الأنوية الدهليزية مع أنوية تأثيرية حشوية في النخاع المستطيل. مثلا هناك منعكسات دهليزية تقوم بتعديل ضغط الدم والتنفس بناء على وضعية الجسم في الفراغ. هذه المنعكسات هي “غير واعية” وليست “تحت واعية”، لأن قشرة المخ لا يمكن أن تتحكم بها (حسب علمي).

الجهاز السمعي

الجهاز السمعي (حسب ما أعلم) هو مسؤول عن عدد قليل نسبيا من المنعكسات تحت الواعية مقارنة مع الجهاز الدهليزي. السبب ربما هو أن الجهاز السمعي هو أحدث من الجهاز الدهليزي (كما بينا سابقا).

الطريق العصبي المسؤول عن نقل حس السمع نحو قشرة المخ هو طريق طويل ومعقد. هذا الطريق يبدأ من النواتين القوقعتين البطنية والظهرية ventral and dorsal cochlear nuclei. الألياف الصاعدة من النواة القوقعية الظهرية تصل مباشرة إلى “التليلة السفلية” inferior colliculus في سقف الدماغ الأوسط. الألياف الصاعدة من النواة القوقعية البطنية تتشابك في الجسر مع “الجسم شبه المنحرف” trapezoid body، ثم مع “الأنوية الزيتونية العلوية” superior olivary nuclei، ثم تصعد عبر “الشريط الوحشي” lateral lemniscus نحو التليلة السفلية في سقف الدماغ الأوسط. التليلة السفلية ترسل طريقا صاعدا نحو “الجسم الركبي الإنسي” medial geniculate body في مؤخرة الثلم thalamus، وهذا بدوره يرسل طريقا نحو قشرة المخ السمعية الأولية primary auditory cortex.

من هذا الطريق يتبين أن إشارات حس السمع تتوقف في محطات عديدة قبل أن تصل إلى قشرة المخ. هذه المحطات تلعب دورا في معالجة حس السمع (بشكل غير واعي).

الأنوية الزيتونية العلوية superior olivary nuclei تقارن بين الأصوات الواردة إلى الأذنين اليمنى واليسرى، وبناء على هذه المقارنة تقوم بتحديد اتجاه مصدر الصوت على المحاور الأفقية (ما يسمى سمت الصوت azimuth). المقصود هو أن هذه الأنوية تحدد ما إذا كان الصوت قادما من الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار.

النواة الزيتونية العليا الإنسية medial superior olive تقيس الفارق الزمني بين وصول الصوت إلى الأذنين اليمنى اليسرى، وهذا يفيد في تحديد مصدر الصوت (مثلا إذا وصل الصوت إلى الأذن اليمنى قبل وصوله إلى الأذن اليسرى فهذا يعني أن مصدر الصوت يقع على جهة اليمين). النواة الزيتونية العليا الوحشية lateral superior olive تقيس الفارق في شدة الصوت الواصل إلى الأذنين اليمنى اليسرى، وهذا أيضا يفيد في تحديد مصدر الصوت (مثلا إذا كانت شدة الصوت أعلى في الأذن اليمنى فهذا يعني أن مصدر الصوت يقع على جهة اليمين).

بناء على النتائج التي تتوصل لها الأنوية الزيتونية العلوية يمكن تحديد اتجاه الصوت على المحاور الأفقية.

النواة القوقعية الظهرية dorsal cochlear nucleus تحدد اتجاه الصوت على المحور العمودي (أعلى أو أسفل).

كل هذه المعطيات تتجمع في “التليلتين السفليتين” inferior colliculi، وبناء على ذلك يمكن تحديد مصدر الصوت في الفراغ ثلاثي الأبعاد المحيط بالجسم.

التليلتان السفليتان تحويان “خريطة ثلاثية الأبعاد” تحدد مصادر الأصوات الواردة إلى الأذنين. هذه الخريطة تشبه الخريطة البصرية الموجودة في التليلتين العلويتين. جمع معلومات الخريطة الصوتية (التليلتين السفليتين) مع الخريطة البصرية (التليلتين العلويتين) يزيد معرفة الإنسان أو الحيوان بمواقع الأجسام المحيطة به.

الدماغ الأوسط يستخدم معلومات الخريطة المجمّعة الصوتية-البصرية (الواردة من التليلات colliculi الموجودة في السقفtectum ) لتنفيذ عدد كبير من المنعكسات الحركية. المعلومات الصوتية-البصرية ترسل أيضا من التليلات إلى المخيخ (عبر الأنوية الجسرية pontine nuclei والسُّوَيقة المخيخية الوسطى middle cerebellar peduncl) الذي يجمعها مع البيانات الحسية الواردة من الأنوية الدهليزية (عبر السُّوَيقة المخيخية السفلية inferior cerebellar peduncle) ومن الحبل الشوكي (عبر السُّوَيقتين المخيخيتين السفلية والعلوية) لتوليد خريطة حسية متكاملة تعتمد على بيانات المستقبلات الحسية الميكانيكية والبصرية. هذه الخريطة الحسية المتكاملة الموجودة في المخيخ لا تستخدم فقط في تحريك الجسم ولكنها تستخدم أيضا في بعض الوظائف المعرفية cognitive.

الدماغ البشري (6)

في المقالين الأخيرين من هذه السلسلة بدأت الحديث عن جذع الدماغ brainstem وعن تركيبه ووظائفه.

في أحد هذين المقالين تحدثت عن توزع المادتين الرمادية والبيضاء في مقطع النخاع المستطيل الذيلي (السفلي) caudal (inferior) medulla oblongata. قبل أن أكمل الحديث عن وظائف جذع الدماغ سأتحدث قليلا عن توزع المادتين الرمادية والبيضاء في بقية مقاطع جذع الدماغ.

النخاع المستطيل المنقاري

المقصود بالنخاع المستطيل الذيلي caudal medulla oblongata هو القسم السفلي من النخاع المستطيل الذي يقع أعلى الحبل الشوكي spinal cord. المقصود بالنخاع المستطيل المنقاري rostral medulla oblongata هو القسم العلوي من النخاع المستطيل الذي يقع أسفل الجسر pons.

الفرق الأساسي بين النخاعين الذيلي والمنقاري هو وجود المخيخ cerebellum على ظهر النخاع المنقاري. المخيخ موجود أيضا على ظهر الجسر.

بين المخيخ وجذع الدماغ يوجد تجويف مملوء بالسائل الدماغي الشوكي cerebrospinal fluid. هذا التجويف يسمى “البطين الرابع” fourth ventricle. هذا التجويف هو عبارة عن توسع في القناة المركزية central canal الموجودة في وسط الحبل الشوكي والنخاع الذيلي.

منظر ظهري لجذع الدماغ بعد قطع المخيخ. لاحظ قعر البطين الرابع fourth ventricle الذي يظهر بلون أسود على ظهر الجسر والنخاع المستطيل المنقاري

الصورة التالية هي لمقطع في النخاع المستطيل الذيلي:

caudal medulla section

هذا المقطع تحدثنا عنه سابقا. لاحظ في هذا المقطع وجود القناة المركزية central canal كما في مقطع الحبل الشوكي.

الصورة التالية هي لمقطع في النخاع المستطيل المنقاري:

rostral medulla section 1

لاحظ في هذا المقطع أن القناة المركزية انفتحت من الجهة الظهرية وكونت تجويفا كبيرا. هذا التجويف هو قعر البطين الرابع fourth ventricle. الأنوية الرمادية التي كانت تحيط بالقناة المركزية في المقطع السابق صارت تقع أسفل قعر البطين الرابع، وهذا أدى إلى تغيير التوزع الوظيفي: الأنوية المحركة الجسمانية somatic motor (مثلا نواة العصب القحفي تحت اللساني hypoglossal nucleus) صارت تقع في الجهة الداخلية أو الإنسية medial للأنوية الرمادية (بعدما كانت تقع في الجهة البطنية ventral)، والأنوية التأثيرية الحشوية visceral effector (مثلا النواة الظهرية للعصب القحفي dorsal nucleus of vagus nerve) صارت تقع على الجهة الخارجية أو الوحشية lateral للأنوية المحركة الجسمانية (بعدما كانت تقع على جهتها الظهرية dorsal). الأنوية الحسية الحشوية visceral sensory (مثلا نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract) والأنوية الحسية الجسمانية somatic sensory صارت تقع في الجهة الخارجية أو الوحشية lateral للأنوية الرمادية (بعدما كانت تقع في الجهة الظهرية dorsal).

الشكل التالي يوضح التغير في مواقع الأنوية الرمادية:

gray matter spinal cord brainstem

النواتان الحسيتان الجسمانيتان المسماتان “النواة النحيلة” nucleus gracilis و”النواة وتدية الشكل” nucleus cuneatus لم تعودا موجودتين في مقطع النخاع المستطيل المنقاري. بدلا منهما ظهرت أنوية تحمل مسمى الأنوية الدهليزية vestibular nuclei (في المقطع هناك نواتان دهليزيتان ظاهرتان، ولكنهما ليستا ملونتين باللون الرمادي ولا أدري لماذا).

لو صعدنا أكثر نحو منطقة اتصال النخاع المستطيل مع الجسر فستظهر أيضا النواتان القوقعيتان cochlear nuclei على الجانب الوحشي (الخارجي) للأنوية الدهليزية. المقطع التالي يبين هذه الأنوية.

rostral medulla section 2

في هذا المقطع تظهر نواتان دهليزيتان. العدد الكلي للأنوية الدهليزية هو أربع (إنسية ووحشية وسفلية وعلوية). العدد الكلي للأنوية القوقعية هو اثنتان (ظهرية وبطنية). الأنوية الدهليزية تستقبل ألياف حس الاتزان balance القادمة من الأذن الداخلية inner ear عبر العصب الدهليزي vestibular nerve، والنواتان القوقعيتان تستقبلان ألياف حس السمع القادمة من الأذن الداخلية عبر العصب القوقعي cochlear nerve. مجموع العصبين الدهليزي والقوقعي يسمى العصب الدهليزي القوقعي vestibulocochlear nerve (العصب القحفي الثامن).

الأذن الداخلية تتكون من القوقعة cochlea والكُيَيْس saccule والقُرَيْبة utricle والأقنية نصف الدائرية semicircular canals. الكُيَيْس والقُرَيبة يوجدان داخل تجويف عظمي يسمى الدهليز vestibule. القوقعة تستشعر حس السمع وتنقله عبر العصب القوقعي cochlear nerve إلى النواتين القوقعيتين cochlear nuclei. الكُيَيْس والقُرَيبة يستشعران التسارع الخطي linear acceleration، والأقنية نصف الدائرية تستشعر التسارع الزاوي angular acceleration. إشارات الكُيَيْس والقُرَيبة والأقنية نصف الدائرية تنتقل عبر العصب الدهليزي vestibular nerve إلى الأنوية الدهليزية vestibular nuclei

وظيفة القوقعة هي استشعار اهتزازت الهواء التي تصل إلى طبلة الأذن على شكل موجة هوائية ثم تنتقل عبر عظام الأذن الوسطى إلى الأذن الداخلية. القوقعة تميز بين اهتزازات الهواء المختلفة حسب ترددها frequency، وهذا هو ما يعطي البشر القدرة على التمييز بين الأصوات “الحادة” (عالية التردد) والأصوات “الغليظة” (منخفضة التردد).

وظيفة الدهليز هي استشعار التسارع الخطي linear acceleration، أي أنه يستشعر حركة الرأس بشكل مستقيم في أي اتجاه. وظيفة الأقنية نصف الدائرية هي استشعار التسارع الزاوي angular acceleration، أي أنها تستشعر حركة الرأس بشكل دائري في أي اتجاه. إذن وظيفة الدهليز والأقنية نصف الدائرية هي استشعار حركة الرأس.

الأسهم تعبر عن اتجاه الحركات التي تستشعرها الأقنية نصف الدائرية

حس السمع وحس الاتزان هما من “الأحاسيس الخاصة” special senses. عبارة “الأحاسيس الخاصة” يستخدمها الباحثون لوصف الأحاسيس التي توجد ضمن أعضاء معينة وليس في جميع أنحاء الجسم. الأحاسيس الخاصة عند الفقاريات توجد في الرأس دون بقية الجسم (الشم والبصر والسمع والاتزان والذوق). الأحاسيس التي توجد في جميع أنحاء الجسم تسمى “الأحاسيس العامة” general senses (مثلا حس الألم والحرارة والاهتزاز والحس الذاتي proprioception إلخ).

الألياف العصبية التي تنقل أحاسيس البصر والسمع والاتزان تعتبر أليافا جسمانية somatic، والألياف التي تنقل حسي الشم والذوق تعتبر أليافا حشوية visceral.

على ما أظن فإن الأحاسيس الخاصة كانت في الأصل أحاسيس عامة، ولكن في زمن ظهور الحبليات chordates (أو قبله) تركزت بعض الأحاسيس العامة في الرأس. هذه القضية هي فرع من قضية “الرأسنة” cephalization التي أدت لنشوء الدماغ.

الأحاسيس الخاصة عند الحشرات يمكن أن توجد في أي مكان من الجسم وليس فقط في الرأس. مثلا مستقبلات حس الذوق لدى بعض الحشرات (الفراش والذباب) هي موجودة على الأقدام. أيضا مستقبلات حس السمع (التي تسمى “الأعضاء الطبلية” tympanal organs) هي موجودة على الصدر أو البطن لدى الكثير من الحشرات. بالنسبة لحسي الشم والبصر عند الحشرات فهما موجودان في الرأس، ولكن ترتيبهما مختلف عن الترتيب المشاهد لدى الفقاريات (كما بينت في مقال سابق)، وحتى طبيعتهما هي طبيعة مختلفة (العين لدى الفقاريات هي مشتقة من الدماغ البيني diencephalon، ولكن العين المركبة لدى الحشرات هي ليست مشتقة من الدماغ أو حتى من النسيج العصبي). أنا لا أرى تشابها في توزع الأحاسيس الخاصة لدى الحشرات ونظيرتها لدى الفقاريات. ما يبدو لي هو أن عملية “التخصص الحسي” حصلت بشكل مستقل لدى كل من الفقاريات ومفصليات الأرجل. الأحاسيس الخاصة لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل لا تبدو موروثة من أصل مشترك.

حس السمع لدى البشر يستخدم أساسا في التواصل communication مع الكائنات الأخرى، ولكن الوظيفة الأصلية لهذا الحس لم تكن التواصل بقدر ما أنها كانت المساعدة على الإحساس بمواقع الأجسام المتحركة المحيطة بالجسم. هذه الوظيفة الأصلية لحس السمع تظهر بوضوح لدى الوطواط الذي يعتمد على حس السمع بشكل كبير لتحديد مواقع الأجسام المحيطة به.

الأسماك تعتمد بشكل كبير على حس السمع لتحديد مواقع الأجسام المتحركة المحيطة بها، ولكن اللافت لدى الأسماك هو أن حس السمع لديها ليس مقصورا على الأذن ولكنه موجود أيضا ضمن عضو يسمى “الخط الجانبي” lateral line.

الخط الجانبي lateral line لدى سمكة القرش

وظيفة الخط الجانبي لدى الأسماك هي تقريبا نفس وظيفة الأذن، أي تحديد مواقع الأجسام المتحركة المحيطة بالسمكة. الباحثون يعتقدون أن الخط الجانبي والأذن لهما أصل واحد.

حس البصر يساعد أيضا على تحديد مواقع الأجسام المحيطة، ولكن حس البصر له نواقص كثيرة. أولا هذا الحس لا يغطي جميع الاتجاهات، بخلاف حس السمع الذي يغطي كل الاتجاهات المحيطة بالكائن (مثلا لو أتى شخص من خلفي فإنني لن أراه ولكنني سأسمع صوته). حس البصر يعتمد على الضوء، وبالتالي هو غير مفيد في الظلام. حس السمع لا يتأثر بغياب الضوء وهو يعمل في الظلام.

إذن حس السمع له مزايا غير موجودة في حس البصر.

حسب ما أعلم فإن حس البصر هو أقدم من حس السمع. حس البصر موجود بشكل بدائي لدى بعض الكائنات وحيدة الخلية protists (مثلا لدى الكائنات المسماة euglena)، وهو موجود لدى بعض اللاسعات cnidarians (مثلا لدى قنديل البحر jellyfish). بالنسبة لحس السمع فلا أدري متى كانت بداية ظهوره، ولكنه على ما يبدو خاص بثنائيات الجانب bilaterians (مثلا مفصليات الأرجل والفقاريات). أكثر ثنائيات الجانب بدائية هي الديدان، والديدان حسب علمي لا تملك حس السمع (ولكن ديدان الأرض earthworms يمكنها الشعور بالاهتزاز).

حس الاتزان هو أقدم من ثنائيات الجانب بدليل وجوده لدى قنديل البحر jellyfish. حس الاتزان لدى الحيوانات غير الفقارية يعتمد على مستقبلات حسية تسمى “أكياس الاتزان” statocysts. لدى الفقاريات هناك نوع آخر من مستقبلات الاتزان هو “الأحجار الأذنية” otoliths. العلاقة بين “أكياس الاتزان” statocysts و”الأحجار الأذنية” otoliths هي غير واضحة ولكن غالبية الباحثين لا يعتقدون بوجود أصل مشترك بينها. هذه المستقبلات هي متشابهة في الوظيفة وآلية العمل، ولكنها نشأت بشكل مستقل لدى كل من الفقاريات والحيوانات غير الفقارية.

الأحجار الأذنية otoliths تعتمد على نوع من الخلايا يسمى الخلايا الشعرية hair cells. مستقبلات السمع في القوقعة تعتمد أيضا على الخلايا الشعرية، والخط الجانبي لدى الأسماك يعتمد على الخلايا الشعرية. إذن هذه الخلايا هي أساس حس التوازن والسمع لدى الفقاريات. أصل هذه الخلايا هو غير واضح، ولكن إحدى النظريات الحديثة ترى أن هذه الخلايا كانت في السابق تغطي الجسم ولاحقا تخصصت في الأذن الداخلية والخط الجانبي:

http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ar.22573/pdf

The difference is that this theory does not presume the prior evolution of lateral line organs, and in fact suggests that the hair cell and its precursor the ciliated mechanosensory cell were present well before the lateral line and inner ear as organ systems evolved. This hypothesis also does not presuppose that hair cells evolved within a statocyst organ, but rather as diffuse cells in the skin, which later became aggregated to evolve into the ear.

Jeremy S. Duncan and Bernd Fritzsch, Evolution of Sound and Balance Perception: Innovations That Aggregate Single Hair Cells Into the Ear and Transform a Gravistatic Sensor Into the Organ of Corti

ما سبق يعني أن حس السمع هو مشتق من حس الاتزان. هذا الكلام ليس غريبا لأن وظيفة حس السمع تشبه وظيفة حس الاتزان. الوظيفة الأصلية لحس الاتزان هي منح الكائن القدرة على الإحساس بحركة جسمه. الوظيفة الأصلية لحس السمع هي منح الكائن القدرة على الإحساس بحركة الأجسام المحيطة به. إذن الفرق بين حسي الاتزان والسمع هو ليس في وظيفة الحس ولكن في اتجاهه: حس الاتزان موجه نحو الذات، وحس السمع موجه نحو الخارج.

هذا الفرق يشبه الفرق بين المستقبلات الكيماوية chemoreceptors التي تستشعر تغيرات تراكيز المواد الكيماوية داخل الجسم وبين مستقبلات حسي الشم والذوق التي تستشعر تغيرات تراكيز المواد الكيماوية خارج الجسم.

حسا الشم والذوق يشبهان بعضهما. كلاهما يعتمدان على مستقبلات كيماوية موجهة نحو المحيط الخارجي، ولكن الفرق بينهما هو أن مستقبلات الشم تتحسس المواد الكيماوية الغازية، ومستقبلات الذوق تتحسس المواد الكيماوية السائلة. عند الحيوانات التي تعيش في الماء لا يوجد فرق عملي بين هذين الحسين.

هناك أيضا شبه بين حس الاتزان/السمع وبين حس الاهتزاز وبقية الأحاسيس الميكانيكية الموجودة في الجلد (الضغط والشد إلخ). آلية عمل الخلايا الشعرية hair cells تشبه آلية عمل المستقبلات الميكانيكية mechanoreceptors الموجودة في الجلد.

على ما أظن فإن جميع الأحاسيس الحيوانية يمكن إرجاعها إلى الأحاسيس التالية:

  • الحس الكيماوي chemoreception
  • الحس الضوئي photoreception
  • الحس الميكانيكي mechanoreception
  • الحس الحراري thermoreception
  • حس الألم nociception

مستقبلات هذه الأحاسيس كانت في الأصل مستقبلات عامة تغطي الجسم، ولكن لاحقا حصلت عملية تخصص أدت إلى حصر الحس الضوئي والحس الكيماوي في مناطق محددة من الجسم. الحس الميكانيكي تخصص بشكل جزئي: بعض أنواع الحس الميكانيكي (المعتمدة على الخلايا الشعرية) تخصصت وانحصرت في منطقة الرأس (تحديدا في الأذن).

لو عدنا إلى مقطع النخاع المستطيل المنقاري فسنرى أن الأنوية الدهليزية والقوقعية تقع في نفس منطقة النواتين النحيلة ووتدية الشكل. هذا ليس مفاجئا لأن حسي الاتزان والسمع هما كما قلنا مشتقان من الحس الميكانيكي العام. النواتان النحيلة ووتدية الشكل تستقبلان حس الاهتزاز وحس الضغط والحس الذاتي proprioception (الحس الذاتي يعني حس الشد في العضلات وأوتارها) من العمودين الظهريين dorsal columns. هذه الأحاسيس الميكانيكية “العامة” هي أقرب الأحاسيس إلى حسي الاتزان والسمع (الحسان الميكانيكيان “الخاصان”).

الدماغ البشري (5)

في المقال الأخير بينا دور المنطقة التي تسمى “المركز القلبي الوعائي” cardiovascular center أو “المركز التحريكي الوعائي” vasomotor center في الحفاظ على ضغط الدم، ولكن في الحقيقة هذه المنطقة تؤدي وظائف أخرى لا علاقة لها بالحفاظ على ضغط الدم.

هذه المنطقة تتأثر بالإشارات الواردة من المستقبلات الكيماوية chemoreceptors إلى النواة المفردة وتقوم بزيادة أو تخفيض ضغط الدم بناء على هذه الإشارات.

المعنى هو أن هذه المنطقة ترفع ضغط الدم في حال انخفض الأكسجين في الدم، وتخفض ضغط الدم مجددا في حال ازداد الأكسجين في الدم.

ما هي العلاقة بين الأكسجين وضغط الدم؟

وصول الأكسجين إلى الأنسجة الخلوية يعتمد على عاملين:

  • كمية الأكسجين المحمولة في الدم
  • سرعة جريان الدم

لو فرضنا أن الدم فيه كمية كبيرة من الأكسجين ولكن جريانه بطيء فهذا سيسبب مشكلة للأنسجة الخلوية، لأن بطء وصول الأكسجين إلى الأنسجة لا يختلف عن وصول كمية قليلة.

هذه المشكلة تشبه المشكلة التي كان قدري جميل (أحد أعضاء الحكومة السورية السابقين) يتحدث عنها فيما يخص المحروقات. هو كان يزعم أن الحكومة السورية تملك كمية كبيرة من المحروقات في المخازن، ولكن الحكومة هي عاجزة عن إيصال المحروقات إلى الناس بسبب صعوبة النقل على الطرق.

ما هي فائدة المحروقات المخزنة في المستودعات؟ لا توجد لها أية فائدة. كلام قدري جميل ليست له أية فائدة بالنسبة للمواطنين السوريين لأن المواطن يريد أن تصل المحروقات إليه. هو لا يتأثر بكمية المحروقات المخزنة في مستودعات الحكومة.

نفس الأمر ينطبق على الأنسجة الخلوية. الأنسجة الخلوية لا تستفيد كما يجب من الأكسجين المحمول في الدم إذا كانت سرعة وصوله إلى الأنسجة بطيئة. إذا كان الدم غنيا بالأكسجين ولكن جريانه متوقف فهذا الأمر سيؤدي إلى اختناق الأنسجة ووفاتها (كما مات المواطنون السوريون من البرد بسبب عدم وصول المحروقات).

“المركز القلبي الوعائي” يعمد إلى زيادة ضغط الدم عند انخفاض الأكسجين المحمول في الدم لأن زيادة ضغط الدم تزيد جريان الدم وبالتالي تزيد سرعة وصول الأكسجين إلى الخلايا.

هذا المنعكس هو مفيد لحفظ حياة الإنسان، ولكننا لا نستطيع أن نصفه بأنه منعكس خاص بتنظيم عمل الجهاز القلبي الوعائي، وهو أيضا ليس منعكسا خاصا بتنظيم التنفس. هذا المنعكس يحافظ على وصول الأكسجين إلى الخلايا. هذه المسألة هي ليست خاصة بالجهاز القلبي الوعائي ولا بالجهاز التنفسي ولكنها ضرورية لسلامة الجسم بشكل عام.

المحافظة على وصول الأكسجين والغذاء إلى الخلايا ونقل الفضلات منها هي وظائف أساسية ضرورية لاستمرار حياة الحيوان والإنسان وسلامة جميع أعضائه وأجهزته. هذه الوظائف لا تنظم عمل عضو معين أو جهاز معين ولكنها تحافظ على السلامة العامة للجسم. بدون هذه الوظائف فإن الجسم ما كان ليوجد أصلا.

المنعكسات التي تهدف للحفاظ على وجود الكائن الحي واستمرار عمل أعضائه بشكل سليم والتي لها طابع كيميائي أو فيزيائي داخل الجسم (تتعلق بتراكيز المواد ودرجة الحرارة والضغط) يطلق عليها مسمى homeostasis. هذه الكلمة هي مشتقة من اليونانية (hómoios) ὅμοιος التي تعني “شبيه” أو “مماثل”، و (stásis) στάσις التي تعني “وقوف” أو “توقف”. ترجمة كلمة homeostasis هي ربما “البقاء على نفس الحال”. المقصود بذلك هو الحفاظ على حالة التوازن equilibrium الكيمائي والفيزيائي في الجسم.

المنعكسات التي تحافظ على الـ homeostasis هي أبسط وظائف الجسم الحيواني والبشري وأكثرها بدائية. الجهاز العصبي المركزي يشرف على عدد كبير من هذه المنعكسات.

“المركز القلبي الوعائي” في النخاع المستطيل هو من المراكز العصبية المسؤولة عن الـ homeostasis. صحيح أن هذا المركز يحافظ على ضغط الدم، ولكنه ينظم منعكسات أخرى لا علاقة لها بتوازن الجهاز القلبي الوعائي بحد ذاته.

المنعكسات التي ينظمها “المركز القلبي الوعائي” تدخل تحت مسمى “استجابة الكرب الحاد” acute stress reaction. الكرب stress يمكن أن يكون حادا acute (أي حديث العهد) أو مزمنا chronic (مستمرا منذ وقت طويل). الكرب الحاد يحدث مثلا بسبب إصابة trauma قوية، سواء كانت هذه الإصابة جسمية أم نفسية.

إذا أدت الإصابة إلى انخفاض كبير في ضغط الدم (وهو ما يحدث عادة في الإصابات الجسمية القوية) فإن الأطباء يسمون الحالة “صدمة” shock، ويسمون استجابة الجسم لها “تعويضا” compensation. أنا لا أظن أن هناك فرقا بين استجابة الجسم للكرب الحاد (التي تسمى acute stress reaction) وبين استجابة الجسم للصدمة (التي تسمى compensation). هذه المصطلحات لها نفس المعنى.

هناك مصطلح ثالث له نفس المعنى هو “استجابة القتال أو الهرب” fight-or-flight response. هذا المصطلح يستخدم لوصف حالة الجسم عند الشعور بالخوف أو الغضب. “استجابة القتال أو الهرب” لا تختلف عن “استجابة الكرب الحاد” acute stress reaction.

كل الاستجابات سالفة الذكر لها نفس الوصف وهو كما يلي:

  • زيادة سرعة التنفس
  • زيادة سرعة نبض القلب
  • توسع القصبات التنفسية
  • تضيق الأوعية الدموية المغذية للجهاز الهضمي
  • توسع الأوعية الدموية المغذية للعضلات الهيكلية
  • تضيق الأوعية الدموية المغذية للجلد، وهذا يؤدي لبرودة الجلد وشحوب لونه (ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يحدث العكس، أي أن تتوسع الأوعية الدموية الجلدية، وهذا يؤدي لدفء الجلد واكتسابه اللون الوردي)
  • تثبيط تقلصات المعدة والأمعاء، وبالتالي بطء مرور الغذاء في القناة الهضمية
  • ارتخاء المثانة
  • تقبض المصرّات العضلية sphincters (العضلات الحلقية التي تغلق مدخل الإحليل البولي والمستقيم)
  • تثبيط الانتصاب والاستثارة الجنسية
  • توسع حدقتي العينين
  • زيادة إفراز العرق من الغدد العرقية
  • نقص إفراز الدمع من الغدد الدمعية (وهذا يؤدي لجفاف العينين) ونقص إفراز الغدد الهضمية (وهذا يؤدي مثلا لجفاف الفم بسبب قلة إفراز اللعاب من الغدد اللعابية)
  • الارتجاف
  • زيادة التأهب الحسي vigilance/alertness
  • تنشيط عاطفة القلق أو الخوف أو الغضب (حسب الوضع)
  • إطلاق الطاقة المخزنة على شكل سكريات ودهون إلى الدم

هذه أهم عناصر الاستجابة التي تسمى “استجابة الكرب الحاد” أو “تعويض الصدمة” أو “استجابة القتال أو الهرب”.

الهدف من هذه الاستجابة هو الحفاظ على التوازن الأساسي للجسم homeostasis عند التعرض لإصابة حادة. عمليا هذا الكلام يعني المحافظة على وصول الأكسجين والغذاء إلى خلايا الجسم وتخليصها من الفضلات بالحد الأدنى المطلوب.

بعض أعضاء الجسم تستهلك في الأحوال الطبيعية كمية من الطاقة تفوق حاجتها الأساسية. هذا ينطبق مثلا على الجهاز الهضمي الذي يستهلك الطاقة لهضم الغذاء المأكول وامتصاصه وتخزينه ونحو ذلك. أيضا الجهاز التناسلي يستهلك الطاقة بهدف التناسل. هذه الوظائف هي ليست أساسية أو مصيرية بالنسبة لحياة الإنسان. لو توقف الجهاز الهضمي عن العمل فإن الإنسان لن يموت فورا ولكنه سيعيش ربما لأيام قبل أن يموت. لو توقف الجهاز التناسلي عن العمل فإن حياة الإنسان ربما لن تتأثر.

لهذا السبب فإن تثبيط عمل الجهازين الهضمي والتناسلي لبعض الوقت هو ليس مشكلة خطيرة.

عند إصابة الإنسان بالكرب الحاد (مثلا بسبب النزف أو بسبب الالتهاب العام في الجسم sepsis) يعمد الجسم إلى تثبيط عمل الجهازين الهضمي والتناسلي (عبر تقليل التروية الدموية الواردة إليهما وتثبيط حركاتهما وإفرازاتهما). الهدف من ذلك هو توفير ضغط الدم (وبالتالي توفير الأكسجين والطاقة والقدرة على التخلص من الفضلات) ومنع استنزافه في نشاطات غير ضرورية للحياة خلال فترة الكرب الحاد.

في المقابل يعمد الجسم إلى زيادة التروية الدموية للعضلات الهيكلية (المسؤولة عن تحريك الجسم)، لأن هذه العضلات ضرورية للهرب أو القتال.

الجسم يعمد أيضا إلى تنشيط الجهاز العصبي المركزي (وهو ما يؤدي لزيادة اليقظة arousal وخاصة التأهب الحسي vigilance/alertness وتنشيط بعض الحالات العاطفية القوية كالقلق أو الخوف أو الغضب)، لأن الجهاز العصبي المركزي هو ضروري للهرب أو القتال.

الجسم بشكل عام يقلل التروية الدموية الواردة إلى الأعضاء غير الأساسية (الجهاز الهضمي، الجهاز التناسلي، الجلد) لكي يحافظ على ضغط الدم الوارد إلى الأعضاء الأساسية كالدماغ والكليتين. انخفاض ضغط الدم الوارد إلى الدماغ أو الكليتين هو أمر خطير من شأنه إيذاء هذه الأعضاء وإيذاء الجسم عموما.

الجهاز العصبي المتعاطف والجهاز العصبي جانب المتعاطف

في الأعلى وصفنا “استجابة الكرب الحاد” التي تتنشط عند تعرض الإنسان لإصابة جسمية أو نفسية (أو عند شعور الإنسان بأنه على وشك التعرض لهكذا إصابة).

تنشيط استجابة الكرب الحاد يتم عبر ما يسمى بـ “المركز القلبي الوعائي” في النخاع المستطيل.

هذا المركز يستقبل إشارات واردة من مناطق عليا وسفلى في الجهاز العصبي المركزي.

في كثير من الأحيان تنشيط استجابة الكرب الحاد يحدث بسبب إشارات واردة من مناطق دماغية عليا (من الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon أو من ما تحت الثلم hypothalamus). مثلا إذا فكر الإنسان بشيء مخيف جدا فهذا سيؤدي إلى تنشيط استجابة الكرب الحاد في جسمه. في مثل هذه الحالة تنشيط الاستجابة بدأ من المخ.

تنشيط استجابة الكرب الحاد يمكن أن يحدث أيضا بسبب إشارات واردة من مستقبلات الضغط أو المستقبلات الكيماوية المتصلة مع نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract.

وصول الإشارات الإثارية excitatory إلى المنطقة المنقارية rostral من “المركز القلبي الوعائي” (المنطقة الضاغطة pressor area) يؤدي إلى تنشيط استجابة الكرب الحاد.

ما يحدث هو أن المنطقة المنقارية من “المركز القلبي الوعائي” ترسل إشارات إثارية عبر الطريق الشبكي الشوكي reticulospinal tract إلى خلايا القرنين الجانبيين من الحبل الشوكي (مصدر الأعصاب ذاتية الحكم nerves autonomic). إثارة هذه الخلايا تؤدي إلى إفراز الـ norepinephrine من نهايات الأعصاب ذاتية الحكم (الـ norepinephrine يسمى عادة noradrenaline خارج الولايات المتحدة).

الـ norepinephrine المفرز من نهايات الأعصاب ذاتية الحكم هو مسؤول عن الكثير من الأمور التي تحصل خلال استجابة الكرب الحاد. هذا الناقل يفرز في جدران الأعضاء الحشوية (الأعضاء الهضمية، الأوعية الدموية، الغدد، إلخ) ويتسبب إما بتقليص الخلايا العضلية الملساء (كما يحدث في جدران الأوعية الدموية المغذية للقناة الهضمية) أو يإرخائها (كما يحدث في جدران الأوعية الدموية المغذية للعضلات الهيكلية وفي جدران المعدة والأمعاء والمثانة). الـ norepinephrine يتسبب أيضا في تثبيط إفراز العديد من الغدد.

الأعصاب ذاتية الحكم الواصلة إلى الغدد العَرَقية لا تفرز norepinephrine ولكنها تفرز acetylcholine. هذا الناقل يحفز إفراز العرق.

الأعصاب ذاتية الحكم الواصلة إلى الغدتين الكظريتين (الغدتان المجاورتان للكليتين adrenal glands) تفرز أيضا acetylcholine، ولكن الـ acetylcholine هنا يحفز إفراز هرمون epinephrine (هو نفسه الأدرينالين adrenaline) من خلايا توجد في نخاع الغدتين الكظريتين تسمى chromaffin cells. الـ epinephrine له تقريبا نفس تأثيرات الـ norepinephrine، ولكن خلاياchromaffin  تطرحه في الدم بشكل مباشر على شكل هرمون، وهذا يترك تأثيرات واسعة في الجسم (تشبه عموما تأثيرات norepinephrine الموضعية).

حسب هذه الدراسة فإن إفراز الـ epinephrine في الدم من خلاياchromaffin  هو أسلوب بدائي مقارنة مع الإفراز الموضعي للـ norepinephrine في جدران الأعضاء الحشوية والغدد. طرح الـ epinephrine في الدم هو بمثابة إرسال رسالة عشوائية ستصيب كل أعضاء الجسم دون تمييز، أما إفراز الـ norepinephrine من نهايات الأعصاب فهو أسلوب أدق لأنه يوصل الرسالة إلى العضو المعني دون غيره. الأسلوب الأول هو المهيمن لدى الفقاريات البدائية (الأسماك والبرمائيات)، أما الأسلوب الثاني فهو مهم لدى الفقاريات الأكثر تطورا (الزواحف والطيور والثدييات).

خلاصة ما سبق هي أن استجابة الكرب الحاد تحدث بسبب:

  • إفراز norepinephrine في جدران الأعضاء الحشوية وفي الغدد
  • إفراز acetylcholine في الغدد العرقية
  • إفراز epinephrine في الدم

الأعصاب التي تفرز هذه المواد هي الأعصاب ذاتية الحكم autonomic التي تخرج من القرنين الجانبيين للحبل الشوكي الممتدين بين القطعة الصدرية الأولى من قطع الحبل الشوكي (رمزها T1) والقطعة القطنية الثانية (رمزها L2).

بعض الأعصاب ذاتية الحكم لا تشارك في استجابة الكرب الحاد ولكنها على العكس من ذلك تسعى لمعاكسة هذه الاستجابة. هذه الأعصاب تخرج من القطع العجزية رقم 2 و 3 و 4 (رموزها S2, S3, S4) ومن بعض أنوية الأعصاب القحفية في جذع الدماغ (تغذي الأعصاب القحفية رقم 3 و 7 و 9 و 10). نهايات هذه الأعصاب تفرز الـ acetylcholine.

الأعصاب ذاتية الحكم التي تنفذ استجابة الكرب الحاد تسمى “الجهاز العصبي المتعاطف” sympathetic nervous system، والأعصاب ذاتية الحكم التي تعاكس هذه الاستجابة تسمى “الجهاز العصبي جانب المتعاطف” parasympathetic nervous system.

أعصاب الجهاز المتعاطف sympathetic على اليسار، وأعصاب الجهاز جانب المتعاطف parasympathetic على اليمين

تسمية الجهاز “المتعاطف” sympathetic نبعت من كونه الجهاز الذي يتنشط في حالة الكرب stress أو الصدمة shock أو القتال أو الهرب fight-or-flight. الجهاز “جانب المتعاطف” parasympathetic هو الجهاز الذي يتنشط في حالة الراحة وعند هضم الطعام وعند إخراج الفضلات من الجسم وعند الإثارة الجنسية؛ لهذا السبب البعض يسمون وظائف الجهاز جانب المتعاطف “الراحة والهضم” rest-and-digest.

في الحقيقة هذه التسميات هي تبسيطية وليست صحيحة. الجهاز “المتعاطف” هو ليس خاصا بحالة الكرب أو الصدمة. هذا الجهاز هو متنشط دائما بهدف منع انخفاض ضغط الدم. ضغط الدم يمكن أن ينخفض بسهولة لأي سبب عارض (مثلا بسبب نقص شرب الماء، أو بسبب تناول مادة غذائية تسبب توسع الأوعية الدموية، إلخ). الجهاز المتعاطف هو مجرد جزء من منعكس تنظيم ضغط الدم الذي تحدثت عنه في البداية. لو فرضنا أن هناك شخصا مرتاحا في بيته لم يشرب الماء طوال اليوم فهذا سيؤدي لتنشيط الجهاز المتعاطف لديه بهدف منع انخفاض ضغط دمه. هل يمكننا أن نصف نشاط الجهاز المتعاطف في هذه الحالة بأنه استجابة للكرب الحاد؟ أو تعويض للصدمة؟ أو استجابة القتال أو الهرب؟

الجهاز المتعاطف هو مجرد جزء من منعكس كبير هدفه الأصلي هو المحافظة على التوازن الكيميائي والفيزيائي في الجسم homeostasis. الجهاز المتعاطف هو متنشط دائما لتصحيح الانحرافات الطفيفة في الـ homeostasis التي تحدث بشكل عارض أثناء الحياة اليومية. عندما يحدث اختلال كبير في الـ homeostasis بسبب الكرب الحاد أو الصدمة يزداد نشاط الجهاز المتعاطف إلى حد كبير وتصبح آثاره واضحة وطاغية.

الجهاز “جانب المتعاطف” parasympathetic هو الذراع الأخرى لمنعكس تنظيم الـ homeostasis. الوظيفة الأصلية لهذا الجهاز هي معاكسة آثار الجهاز المتعاطف. دور هذا الجهاز يشبه دور المنطقة السفلى (المنطقة المهبِّطة depressor area) فيما يسمى “المركز القلبي الوعائي”. وظيفة هذه المنطقة هي تثبيط المنطقة العليا (المنطقة الضاغطة pressor area)، وهي تقوم أيضا بتحفيز الجهاز جانب المتعاطف عن طريق النواة المبهمة nucleus ambiguous التي ترسل إلى القلب (عبر العصب المبهم vagus nerve) إشارات مثبطة تؤدي إلى إبطاء الإيقاع القلبي.

الجهازان المتعاطف وجانب المتعاطف هما ذراعان لمنعكس مركب وظيفته الأصلية هي الحفاظ على الـ homeostasis. عندما يتنشط الجهاز المتعاطف فإن ذلك يكون على حساب الجهاز جانب المتعاطف، والعكس صحيح.

“المركز القلبي الوعائي” ينظم عمل الجهازين المتعاطف وجانب المتعاطف (أي أنه ينظم عمل الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic nervous system)، إذن هذا المركز هو في الحقيقة ليس مجرد مركز “قلبي وعائي” أو “تحريكي وعائي” ولكن دوره أكبر من ذلك. أنا لا أدري بالضبط ما هي حدود “المركز القلبي الوعائي” الذي يرد ذكره في بعض الدراسات والكتب، ولكنني أظن أن هذه التسمية هي غير مناسبة.

بعض الدراسات على ما يبدو تستخدم مسمى “النخاع البطني الوحشي” ventrolateral medulla كبديل لمسمى “المركز القلبي الوعائي”.

أصل الجهاز العصبي المتعاطف

حسب هذه الدراسة (وغيرها) فإن الجهاز العصبي المتعاطف sympathetic بشكله المألوف لدى الثدييات هو اختراع حديث نسبيا.

الجهاز العصبي المتعاطف كما قلنا في الأعلى يصدر من القرنين الجانبيين للحبل الشوكي الممتدين بين القطعة الصدرية الأولى من قطع الحبل الشوكي (رمزها T1) والقطعة القطنية الثانية (رمزها L2).

اللون الأحمر يعبر عن الجهاز العصبي المتعاطف sympathetic واللون الازرق يعبر عن الجهاز العصبي جانب المتعاطف parasympathetic

القطع الرقبية في الحبل الشوكي لا علاقة لها بالجهاز العصبي ذاتي الحكم (سواء المتعاطف أم جانب المتعاطف). خلايا القرنين الجانبيين في القطع الرقبية الممتدة بين القطعة الأولى C1 والقطعة الخامسة C5 هي مصدر ما يسمى بالعصب القحفي الحادي عشر (“العصب الملحق” accessory nerve)، الذي هو عصب تحريكي واع مسؤول عن إدارة الرأس ورفع الكتفين.

محاور خلايا القرنين الجانبيين الممتدة بين T1 و L2 (التي تسمى “الخلايا قبل العقدية” preganglionic neurons) تخرج عبر الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية وترتبط مع خلايا رتبة ثانية second-order neurons (تسمى “خلايا بعد عقدية” postganglionic neurons) موجودة في عقد ganglia تقع على جانبي العمود الفقري تسمى “العقد جانب الفقارية” paravertebral ganglia.

العقد جانب الفقارية تتصل مع بعضها بألياف عصبية صاعدة ونازلة. مجموع العقد مع الألياف يسمى “السلسلة المتعاطفة” sympathetic chain.

بعض محاور الخلايا المتعاطفة في القرنين الجانبيين تتشابك مع خلايا رتبة ثانية موجودة في عقد تقع أمام العمود الفقري تسمى “العقد أمام الفقارية” prevertebral ganglia.

بالنسبة للجهاز العصبي جانب المتعاطف parasympathetic فهو يصدر من مكانين:

  • قطع الحبل الشوكي العجزية رقم 2 و 3 و 4 (رموزها S2, S3, S4) تصدر أعصابا جانب متعاطفة تسمى الأعصاب المعوية الحوضية pelvic splanchnic nerves. هذه الأعصاب تغطي الجهازين البولي والتناسلي بالإضافة إلى المستقيم والثلث الأخير من الأمعاء الغليظة.
  • بقية أحشاء الجسم تحصل على التعصيب جانب المتعاطف من أعصاب قحفية صادرة من جذع الدماغ. النواة المسماة Edinger-Westphal nucleus (في الدماغ الأوسط) توفر التعصيب جانب المتعاطف لقزحية العين iris عبر العصب القحفي الثالث (نشاط هذه النواة يؤدي إلى تضيق حدقة العين pupil). النواتان المسماتان “النواة اللعابية العلوية” superior salivatory nucleus و”النواة اللعابية السفلية” inferior salivatory nucleus توفران التعصيب جانب المتعاطف للغدد الدمعية واللعابية عبر العصبين القحفيين السابع والتاسع (نشاطهما يؤدي إلى إفراز الدمع واللعاب). النواة المسماة “النواة الظهرية للعصب المبهم” dorsal nucleus of vagus nerve توفر التعصيب جانب المتعاطف عبر العصب القحفي العاشر (المبهم vagus) للجهاز التنفسي (نشاطها يؤدي إلى تضيق القصبات التنفسية) وللجهاز الهضمي (نشاطها يؤدي إلى تحريك المعدة والأمعاء وزيادة مفرزاتهما) ما عدا الثلث الأخير من الأمعاء الغليظة الذي تعصبه الأعصاب المعوية الحوضية pelvic splanchnic nerves الصادرة من الحبل الشوكي العجزي. النواة المسماة “النواة المبهمة” nucleus ambiguus توفر التعصيب جانب المتعاطف للقلب عبر العصب القحفي العاشر (نشاطها يؤدي إلى إبطاء إيقاع القلب). هذه النواة تتحكم أيضا بعضلات الحنجرة والبلعوم، ولكن بما أن الإنسان يستطيع أن يتحكم إراديا بعضلات حنجرته وبلعومه فإن الأعصاب الذاهبة إلى هذه العضلات لا تصنف ضمن الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic ولكنها تصنف أحيانا تحت مسمى الأعصاب “الجسمانية الحشوية” somatovisceral.

ما سبق هو وصف مختصر للجهاز العصبي ذاتي الحكم لدى الإنسان.

حسب الدراسة التي أشرنا إليها في الأعلى فإن الأسماك بلا فكين jawless fish (التي هي أكثر أنواع الفقاريات بدائية) لا تملك عقدا متعاطفة sympathetic ganglia أو سلاسل متعاطفة sympathetic chains.

الأسماك الأكثر تطورا والبرمائيات تملك سلاسل متعاطفة، ولكن خلايا هذه السلاسل تفرز الـ acetylcholine بدلا من الـ norepinephrine.

عند الثدييات خلايا القرنين الأماميين (المحركة الجسمانية somatic motor) تفرز الـ acetylcholine (اختصاره ACh)، وهذا الناقل هو الذي يؤثر في العضلات الهيكلية ويؤدي لتحريكها، ولكن خلايا العقد المتعاطفة تفرز الـ norepinephrine (اختصاره NE).

إفراز الـ acetylcholine من العقد المتعاطفة لدى الأسماك والبرمائيات يعني أن هذه العقد هي ليست متعاطفة بالفعل ولكنها جانب متعاطفة parasympathetic. تنشيط هذه العقد يعطي نفس نتيجة تنشيط الجهاز جانب المتعاطف لدى الثدييات (تنشيط الجهاز الهضمي والتناسلي والإخراجي وتنشيط إفراز الغدد إلخ).

في المقابل العصب المبهم vagus nerve لدى الأسماك والبرمائيات يفرز كلا من الـ norepinephrine والـ acetylcholine. ألياف العصب المبهم التي تذهب إلى الجهازين الهضمي والتنفسي تفرز الـ norepinephrine، أي أن مفعولها متعاطف sympathetic، على النقيض من الحال لدى الفقاريات الأكثر تطورا. ألياف العصب المبهم التي تذهب إلى القلب كانت في الأساس تفرز الـ acetylcholine (كما هو الحال لدى الثدييات)، ولكن في زمن لاحق صارت هناك أيضا ألياف مفرزة للـ norepinephrine ضمن العصب المبهم.

خلاصة كل ما سبق هي أن الخلايا العصبية المتعاطفة sympathetic لم تكن في الأصل موجودة في الحبل الشوكي وعقده. كل الخلايا التأثيرية في الحبل الشوكي وعقده (سواء كانت جسمانية somatic أم حشوية visceral) كانت تفرز الـ acetylcholine. الخلايا العصبية المفرزة للـ norepinephrine كانت في الأصل موجودة في النخاع المستطيل. النخاع المستطيل كان يحوي خلايا مفرزة للـ acetylcholine خاصة بالقلب، وهذه الخلايا هي أقدم من الخلايا المفرزة للـ norepinephrine.

ما سبق يشير إلى أن “الجهاز العصبي المتعاطف” هو بدعة متأخرة عن “الجهاز العصبي جانب المتعاطف”. ما يسمى بـ
“التعصيب جانب المتعاطف” parasympathetic innervation هو التعصيب الأصلي الخاص بالأحشاء. هذا التعصيب كان لا يختلف من حيث طبيعته عن التعصيب الجسماني (كلاهما إثاري excitatory ويعتمد على الـ acetylcholine). ظهور التعصيب المتعاطف sympathetic innervation ترافق مع “الرأسنة” cephalization، أي ظهور الدماغ. التعصيب المتعاطف كان في الأصل مجرد منعكس موجود في النخاع المستطيل. وظيفة هذا المنعكس كانت تثبيط بعض الوظائف الجسمانية غير الأساسية (الهضم، التكاثر، إلخ) لمصلحة وظائف أخرى أساسية (الجهاز العصبي المركزي، الكليتان، العضلة القلبية). الهدف من هذه العملية هو المحافظة على التوازن الداخلي الأساسي للجسم homeostasis (أي إنقاذ الحياة وتفادي الموت السريع). في زمن لاحق تطورت فكرة المنعكس “المتعاطف” إلى المفهوم الذي يسمى “استجابة القتال أو الهرب” fight-or-flight response. المنعكس المتعاطف لم يعد خاصا بالتوازن الداخلي للجسم homeostasis ولكنه صار مسؤولا أيضا عن توفير مستلزمات القتال أو الهرب. لهذا السبب هذا الجهاز صار يقوم بتوجيه الدم نحو العضلات الهيكلية، وأيضا نشأ ترابط بين عواطف الخطر (الخوف والغضب) وبين تنشيط هذا الجهاز. من الناحية الفيزيولوجية هذا الجهاز امتد نحو الحبل الشوكي. السبب ربما هو إعطاؤه قدرة أكبر على التحكم بالجسم بشكل دقيق.

إذا كانت “استجابة القتال أو الهرب” اختراعا حديثا نسبيا فهل هناك آلية دفاعية أقدم كانت الحيوانات تستخدمها عند الشعور بالخطر؟

الجواب هو نعم. هناك آلية (أو ربما آليات) دفاعية تعتمد على “التعصيب جانب المتعاطف”. هناك آلية معروفة تسمى “الجمود التقلصي” tonic immobility. هذه الآلية هي شائعة جدا في عالم الحيوان. هذه الآلية هي عبارة عن منعكس يقوم بتقليص وتثبيت عضلات الجسم على نحو يجعل الحيوان يبدو وكأنه ميت. لهذا السبب هذه الاستجابة تسمى بأسماء من قبيل “الموت الظاهري” apparent death أو “تمثيل الموت” playing dead ونحو ذلك.

سمكة قرش في حالة جمود تقلصي tonic immobility
أرنب في حالة جمود تقلصي

هذه الآلية ما زالت موجودة لدى البشر، ولكنها لا تتنشط إلا في حالات الرعب الشديد. عندما يخاف الإنسان فإن ما يتنشط لديه في البداية هو الجهاز العصبي المتعاطف (استجابة القتال أو الهرب). التعصيب المتعاطف يؤدي إلى تثبيط المعدة والأمعاء وإلى تقليص المصرّات العضلية التي تغلق الإحليل البولي والمستقيم. إذا ازداد رعب الإنسان إلى درجة كبيرة فإن التعصيب المتعاطف يتثبط ويتنشط بدلا منه التعصيب جانب المتعاطف، وهو ما يؤدي إلى تنشيط حركة الأمعاء وارتخاء المصرات العضلية (لهذا السبب الإنسان يبول ويتبرز على نفسه كما يقال في اللغة المحكية). إذا ازداد رعب الإنسان أكثر فإنه ربما يموت بسبب فرط تنشيط العصب المبهم vagus nerve الذي يثبط إيقاع القلب. هذا النوع من الموت يسمى “موت المبهم” vagal death أو “الموت نفسي المنشأ” psychogenic death أو “موت الفودو” Voodoo death (لأنه يكثر لدى القبائل البدائية التي تعتقد بقدرة السحر على قتل الإنسان).

هناك ظاهرة معروفة في فيزيولوجيا الجسم البشري وهي أن تثبيط المنعكسات والآليات الأكثر تطورا (الأحدث) يؤدي إلى نشاط المنعكسات والآليات الأقل تطورا (الأقدم). عندما يفشل “الجهاز المتعاطف” في تخفيف رعب الإنسان فإن هذا يفسح المجال أمام تنشيط “الجهاز جانب المتعاطف”. تنشيط الجهاز جانب المتعاطف يؤدي إلى تثبيط القلب عبر العصب المبهم (وبالتالي تثبيط الدورة الدموية، وهو ما يؤدي إلى برودة الجلد وربما زرقته). الهدف الأصلي من هذه العملية هو “تمثيل الموت” playing dead (كما يحدث لدى الحيوانات)، ولكن هذه العملية يمكن أن تقتل الإنسان. في اللغة المحكية يقال أن فلان “مات من الرعبة”.

في المقالين الأخيرين تحدثت عن بعض المنعكسات المركبة الموجودة في النخاع المستطيل. في المقال القادم سأكمل الحديث في نفس الموضوع.

الدماغ البشري (4)

ملاحظة: هذا المقال فيه معلومات تفصيلية ربما لا تهم القارئ غير المهتم بالأمور الفيزيولوجية والطبية ونحو ذلك.

في المقال الأخير تحدثت عن الحبل الشوكي spinal cord. الآن سأبدأ الحديث عن جذع الدماغ brainstem.
إقرأ المزيد

الدماغ البشري (3)

ذكرنا في مقال سابق أن دماغ الفقاريات يتكون من ثلاثة حويصلات:

  • الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon
  • الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon
  • الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon

ذكرنا أيضا أن الدماغ الخلفي ينتج حويصلين:

  • الدماغ النخاعيmyelencephalon (يتحول إلى النخاع المستطيل (medulla oblongata
  • الدماغ التالي metencephalon (يتحول إلى الجسر pons والمخيخ cerebellum)

والدماغ الأمامي ينتج حويصلين:

  • الدماغ البينيdiencephalon (يتحول إلى الثَّلَم thalamus وما تحت الثلم hypothalamus وما فوق الثلم epithalamus وشبكيتي العينين retinae)
  • الدماغ النهائي telencephalon (يتحول إلى المخ cerebrum)

ذكرنا أيضا أن المخ cerebrum يتكون في المرحلة الجنينية من ثلاثة مكونات:

  • الرداء pallium (يتحول إلى القشرة المخية cerebral cortex والبصلتين الشميتين olfactory bulbs)
  • ما تحت الرداء subpallium (يتحول إلى العقد القاعدية basal ganglia)
  • الحاجز septum

في أدمغة الفقاريات البدائية (الأسماك) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا:

دماغ حيوان فقاري بدائي

أيضا في الثدييات بسيطة التركيب (مثلا القوارض) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا، ولكن في الثدييات معقدة التركيب (مثلا الإنسان) هناك صعوبة في رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح لسبب أساسي هو النمو الشديد وغير المتناسب لقشرة المخ cerebral cortex.

human mouse brain
مقارنة بين دماغ إنسان (في الأعلى) ودماغ فأر (في الأسفل). قشرة المخ تظهر باللون الأخضر

النمو الزائد للقشرة المخية لدى الثدييات المعقدة يؤدي إلى تجعدها وإلى نشوء أخاديد sulci (المفرد sulcus) على سطحها. المناطق الواقعة بين الأخاديد تسمى “تلافيف” gyri (المفرد gyrus). نشوء الأخاديد والتلافيف في القشرة المخية يعود إلى زيادة مساحتها الإجمالية.

vertebrate brains
قشرة المخ تظهر باللون الأزرق. لاحظ أن نسبة قشرة المخ تزداد تدريجيا مع تطور الحيوان الفقاري. الكائنات الظاهرة في الرسم هي من الأعلى إلى الأسفل: lamprey (سمكة بلا فكين)، سمك القرش (سمكة غضروفية)، codfish (سمكة عظمية)، ضفدع (برمائي)، تمساح (زاحف)، إوزة (طائر)، حصان (ثديي)
قشرة المخ لدى بعض الثدييات

النمو الكبير للمخ هو أكثر ما يميز أدمغة الثدييات المعقدة. هذا النمو الكبير للمخ يطمس معالم الدماغ، لأن المخ النامي يحيط ببقية أجزاء الدماغ ويغطي بعضها بالكامل (المخ البشري يغطي بشكل كامل كلا من الدماغين البيني والأوسط).

لكي نفهم تكوين الدماغ البشري يمكن في رأيي أن نقارن نمو المخ البشري بنمو السحابة النووية:

من الممكن أيضا أن نشبه شكل الدماغ البشري بشكل الفطر:

mushroomساق نبتة الفطر تعادل كل أجزاء الدماغ البشري من الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon وحتى الدماغ البيني diencephalon. قبة نبتة الفطر تعادل الدماغ النهائي telencephalon (المخ cerebrum).

المخ البشري يغطي بالكامل كلا من الدماغين البيني والأوسط. لهذا السبب الدماغ البيني هو عمليا موجود في قلب المخ البشري، رغم أنه في الأصل ليس جزءا من المخ.

لرؤية الدماغين البيني والأوسط لا بد من قطع المخ وإزالته:

صورة جانبية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ
صورة ظهرية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ. لاحظ الغدة الصنوبرية pineal gland في مؤخرة الثلَمين thalami، ولاحظ التليلات colliculi على سقف tectum الدماغ الأوسط

الدماغ الخلفي (دون المخيخ) والدماغ الأوسط يسميان معا باسم “جذع الدماغ” brainstem.

المخ هو منشطر إلى شطرين متناظرين يسمى كل منهما “نصف كرة” hemisphere. نصفا الكرة المخيان يتصلان مع بعضهما في الوسط بواسطة جسر من الألياف العصبية يسمى “الجسم الخشن” corpus callosum (الترجمة السورية: “الجسم الثَّفَني”، وبالرجوع إلى المعاجم وجدت أن الثَّفَنة من البعير هي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما).

صورة للمخ من الأعلى بعد قطع جزء منه لكي يظهر الجسم الخشن corpus callosum الواصل بين نصفي الكرة المخيين
cerebral hemisphere
صورة للشطر الأيسر من المخ (نصف الكرة المخي الأيسر) ونحن ننظر إليه من الجهة الإنسية medial (الداخلية). الجسم الخشن corpus callosum يقع فوق الدماغ البيني diencephalon. المنطقة المسماة septum pellucidum (“الحاجز الشفاف”) تفصل بين التجويفين الذين يوجدان في باطني نصفي الكرة المخيين

دماغ جنين الإنسان في بداية تكوينه يشبه أدمغة الفقاريات البدائية:

Human embryo 28 days
جنين إنسان عمره 28 يوما
نمو دماغ جنين الإنسان

نمو مخ الثدييات يشبه نمو السحابة النووية، ولكن في الحقيقة هذا التشبيه هو ليس دقيقا تماما، لأن نمو مخ الثدييات ليس متساويا في كل الاتجاهات وإنما يحصل بشكل أكبر بالاتجاه الخلفي:

brain development
لاحظ اتجاه الأسهم نحو الخلف. معظم النمو في قشرة المخ لدى الثدييات يحدث باتجاه الخلف، أي أن قشرة المخ تتمدد في الدرجة الأولى نحو الخلف

تطور الجهاز العصبي المركزي

تحدثنا في مقال سابق عن الكيفية التي تطور بها الجهاز العصبي المركزي. الجهاز العصبي المركزي في الأصل كان مجرد حبلين عصبيين nerve cords مقطعين إلى عقد قطعية segmental ganglia (وفقا لمبدأ التقطع المتتالي metamerism المميز لثنائيات الجانب bilaterians). لاحقا العقد القطعية الموجودة في الرأس تكتلت وتحولت إلى دماغ. هذه العملية تسمى cephalization، وسببها ربما هو تجمع بعض أعضاء الحس المعقدة نسبيا (الشم والبصر) في منطقة الرأس. التعامل مع أعضاء الحس المعقدة شجع العقد القطعية الرأسية على الاندماج مع بعضها وتكوين الأدمغة. كل دماغ من الأدمغة نشأ في الأصل بهدف التعامل مع أحد أنظمة الحس المعقدة. مثلا الدماغ النهائي telencephalon نشأ في الأصل بهدف التعامل مع حس الشم، والدماغ البيني diencephalon نشأ بهدف التعامل مع حس البصر.

أنا قارنت في مقال سابق بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات vertebrates ومفصليات الأرجلarthropods . هناك في رأيي الكثير من أوجه الشبه بين الجهازين. لاحقا أنا عثرت على هذه الدراسة التي يرى صاحبها أن الجهازين لهما أصل مشترك يعود إلى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians.

bilaterian central nervous system

صاحب هذه الدراسة يرى أن الجهاز العصبي المركزي في urbilaterians كان يتكون من ثلاثة أقسام:

  • الدماغ البدائي proto-brain
  • الحبل البدائي proto-cord
  • الحد الفاصل boundary بين الدماغ البدائي والحبل البدائي

الدماغ البدائي proto-brain أنتج لدى الفقاريات الدماغين الأمامي والأوسط، وأنتج لدى مفصليات الأرجل المخ الأولprotocerebrum والمخ الثاني deutocerebrum.

الحبل البدائي proto-cord كان يحوي في مقدمته منطقة منتفخة أو “مرأسنة” cephalized. هذه المنطقة يعادلها عند الفقاريات الدماغ الخلفي، وعند مفصليات الأرجل المخ الثالث tritocerebrum والعقدة تحت المريئية subesophageal ganglion.

هذا التصور هو مبني على الدراسات الجينية، ولكن السؤال الذي خطر لي هو لماذا لا نرى لدى الديدان نفس التكوين للجهاز العصبي المركزي؟ الجهاز العصبي المركزي لدى الديدان هو أكثر بدائية من هذا النموذج المشاهد لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل.

أيضا يجب أن ننتبه إلى وجود فروقات مهمة بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل. عند الفقاريات القسم الأمامي من الدماغ (الدماغ النهائي telencephalon) هو مسؤول عن حاسة الشم، والقسم الذي خلفه (الدماغ البيني diencephalon) هو مسؤول عن حاسة البصر. عند مفصليات الأرجل هناك توزيع معاكس للأدوار (المخ الأول مسؤول عن البصر والمخ الثاني مسؤول عن الشم).

هناك فروقات أخرى مهمة أشار صاحب الدراسة إلى بعضها. أنا لم أقتنع بأن ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians كانت بالضرورة تملك دماغا بدائيا وحبلا بدائيا على طريقة الفقاريات ومفصليات الأرجل. الأكثر منطقية بالنسبة لي هو أن ثنائيات الجانب البدائية كانت تملك جهازا عصبيا يشبه الجهاز العصبي لدى الديدان. من الممكن أن الجهاز العصبي للفقاريات ومفصليات الأرجل يعود إلى أصل مشترك، ولكن هذا الأصل المشترك هو ليس ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians وإنما أصل آخر أحدث. من الممكن أيضا أن الجهاز العصبي تطور بشكل متشابه ولكن مستقل لدى كل من الفقاريات ومفصليات الأرجل. أنا بصراحة لا أملك العلم الكافي حتى أفتي في هذا الموضوع ولكنني أقول بعض الاحتمالات الممكنة.

الحبل الشوكي

الحبل الشوكي يوجد داخل العمود الفقري ويتصل في الأعلى مع جذع الدماغ brainstem

الحبل الشوكي هو العضو الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات. هذا الحبل هو مجرد استمرار للحبل العصبي الظهري الموجود لدى الحبليات. الدماغ نشأ في الأصل من الحبل العصبي الذي هو نفسه الحبل الشوكي، وبالتالي لو أننا فهمنا آلية عمل الحبل الشوكي فهذا سيسهل علينا فهم آلية عمل الدماغ.

الحبل الشوكي هو كما قلنا سابقا مقطّع وظيفيا إلى قطع متتالية تسمى “قطع الحبل الشوكي” spinal cord segments. هذه القطع هي على ما أظن استمرار للعقد القطعية segmental ganglia المشاهدة في الحبلين العصبيين لدى الديدان والتي أظن أنها كانت موجودة لدى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians. هناك عصبان شوكيان spinal nerves يخرجان من كل قطعة من قطع الحبل الشوكي (واحد من جهة اليمين وآخر من جهة اليسار).

رسم يبين الأعصاب الشوكية spinal nerves في منطقة الصدر أو البطن. العصبان الشوكيان الأيمن والأيسر يخرجان من الحبل الشوكي ويلتفان على جدار الجسم مشكلين حلقة. إلى الأسفل منهما يوجد عصبان آخران يشكلان حلقة أخرى، وهكذا. هذا النمط الحلقي أو القطعي يعبر عن الحالية الأصلية (المشاهدة لدى الديدان). هذا النمط هو غير واضح في الذراعين والرجلين لأن هذه الأعضاء نشأت في وقت متأخر ولم تكن جزءا من الهيكل الأصلي لجسم ثنائيات الجانب bilaterians

تركيب الحبل الشوكي وآلية عمله هي عموما متطابقة في جميع القطع segments المكونة له. ما يلي هو مقطع في إحدى قطع الحبل الشوكي:

في هذا المقطع نرى العصبين الشوكيين (مقطوعين) على جهتي اليمين واليسار. كل عصب شوكي له جذران يخرجان من الحبل الشوكي: جذر أماميanterior root (له وظيفة تحريكية motor) وجذر خلفيposterior root (له وظيفة حسية sensory).

في الحبل الشوكي هناك مادتان: مادة رمادية gray matter (في الوسط) ومادة بيضاء white matter (حول المادة الرمادية). المادة الرمادية هي مكونة من أجسام الخلايا العصبية cell bodies، والمادة البيضاء هي مكونة من الألياف العصبية nerve fibers. الليف العصبي هو عبارة عن محور عصبي axon محاط بغمد من مادة الـ myelin.

neuronالألياف العصبية تتكتل مع بعضها وتشكل حُزما. هذه الحزم تسمى “أعصابا” nerves عندما تكون خارج الجهاز العصبي المركزي، ولكنها في داخل الجهاز العصبي المركزي (في المادة البيضاء) تسمى “طرقا عصبية” أو “سبلا عصبية”neural pathways or neural tracts .

شكل المادة الرمادية في مقطع الحبل الشوكي يشبه شكل الفراشة. القسم الأمامي منها يسمى “القرنان الأماميان” anterior horns أو “القرنان البطنيان” ventral horns، والقسمى الخلفي يسمى “القرنان الخلفيان” posterior horns أو “القرنان الظهريان” dorsal horns.

القرنان الأماميان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية محركة motor neurons. المحاور العصبية axons الصادرة من أجسام خلايا هذين القرنين تشكل الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية. القرنان الخلفيان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية تستقبل المحاور العصبية axons المكونة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. هذه المحاور هي صادرة من أجسام خلايا عصبية حسية sensory neurons موجودة في العقد الخلفية للأعصاب الشوكية dorsal root ganglia.

اللون الأحمر يعبر عن خلية عصبية محركة (مكونة من جسم موجود في المادة الرمادية ومحور axon ينتقل عبر المادة البيضاء إلى الجذر الأمامي لعصب شوكي). اللون الأزرق يعبر عن خلية عصبية حسية (جسمها موجود في عقدة جذر خلفي dorsal root ganglion، ومحورها ينتقل عبر الجذر الخلفي لعصب شوكي نحو القرن الخلفي للمادة الرمادية)

الخلايا العصبية الموجودة في القرنين الخلفيين للمادة الرمادية هي متكتلة ضمن عدة أنوية nuclei:

الأنوية الظاهرة باللون الأزرق تستقبل محاور الخلايا الحسية الموجودة في عقد الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. المنطقة المسماة “المادة الجيلاتينية” substantia gelatinosa تستقبل محاور عصبية من النوع (IV) C التي تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth (تغير الحرارة نحو الارتفاع) والحكة itch. المنطقة المسماة “النواة الذاتية” nucleus proprius تستقبل محاور عصبية من النوع (III) Aδ التي تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold (تغير الحرارة نحو الانخفاض). النواة الذاتية تستقبل أيضا محاور عصبية من النوع (II) Aβ التي تنقل حس “اللمس الدقيق” fine touch والضغط pressure والاهتزاز vibration والإحساس بمدى تقلص العضلة وهي ثابتة secondary receptors of muscle spindle، ومحاور عصبية من النوعIb التي تنقل الإحساس بمدى تقلص العضلة المتحركة Golgi tendon organ، ومحاور عصبية من النوع Ia التي تنقل الإحساس بسرعة تقلص العضلة primary receptors of muscle spindle. الأحاسيس المتعلقة بمدى وسرعة تقلص العضلات (التي تنتقل عبر محاور عصبية من النوعين I و II) تسمى “الحس الذاتي” proprioception. المنطقة المسماة “النواة الظهرية” nucleus dorsalis تستقبل محاور عصبية تنقل الحس الذاتي (أي من النوعين I و II).

مما سبق يتبين أن المادة الرمادية (أجسام الخلايا العصبية) داخل الحبل الشوكي هي منقسمة إلى قسمين:

  • قسم أمامي (بطني ventral) مسؤول عن التحريك motor
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) مسؤول عن الحس sensory

حسب هذه الدراسة فإن هذا التوزع للخلايا العصبية (الخلايا الحسية في الاتجاه الظهري والخلايا المحركة في الاتجاه البطني) هو قديم ويعود إلى زمن ثنائيات الجانب الأولى urbilaterians.

بالنسبة للقسم الظهري (الحسي) من المادة الرمادية فهو بدوره منقسم وظيفيا:

  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الألم والتغير في درجة الحرارة تتركز في المنطقة الظهرية
  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الاهتزاز والحس الذاتي proprioception تتركز في المنطقة البطنية

حتى في داخل كل منطقة من هاتين المنطقتين هناك انقسامات وظيفية. مثلا حس الألم هو منقسم إلى قسمين:

  • حس “الألم البطيء” slow pain يتركز في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa)
  • حس “الألم السريع” fast pain يتركز في المنطقة البطنية (النواة الذاتية nucleus proprius)

حس “الألم السريع” هو مثلا الحس الذي تشعر به فور تعرضك لوخزة دبوس: هو ألم “ناخز” أو “ناكز” محدد المكان بدقة (في المكان الذي اخترق فيه الدبوس الجلد). هذا الحس يزول سريعا ويحل محله حس “الألم البطيء”، الذي هو حس ألم “حارق” غير محدد المكان بدقة (يغطي مساحة أوسع من الجلد). حس الألم البطيء يدوم لفترة أطول من حس الألم السريع، وهو لهذا السبب مزعج للإنسان. حس الألم البطيء هو قليل الدقة سواء من حيث موقع الإصابة أو من حيث مدتها الزمنية.

هناك انقسام مشابه في حس اللمس:

  • حس “اللمس غير الدقيق” crude touch يوجد في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية و النواة الذاتية)
  • حس “اللمس الدقيق” fine touch يوجد في المنطقة البطنية (النواة الذاتية والنواة الظهرية nucleus dorsalis)

حس “اللمس الدقيق” يعني القدرة على تحديد موقع اللمس على الجلد بشكل دقيق، بخلاف حس “اللمس غير الدقيق” الذي هو قليل الدقة. لو أتلفنا الخلايا المسؤولة عن حس “اللمس الدقيق” لدى شخص ما ثم لمسنا جلد هذا الشخص عند نقطة معينة فإنه سيشعر أننا لمسناه ولكنه لن يستطيع أن يحدد نقطة اللمس.

مما سبق يتبين أن الأحاسيس الموجودة في المنطقة الظهرية من القرنين الخلفيين هي أقل دقة من الأحاسيس الموجودة في المنطقة البطنية من القرنين الخلفيين.

المنعكسات

الحبل الشوكي يؤدي وظيفة بسيطة وأساسية للغاية تسمى “المنعكسات” reflexes.

spinal reflexالمنعكس هو عبارة عن دارة عصبية neural circuit مكونة من عصب حسي وعصب محرك وعصب ثالث واصل بينهما interneuron.

الصورة في الأعلى توضح مبدأ المنعكس. في البداية هناك تنشيط لمستقبلات حسية في الجلد (بواسطة حرارة قوية). المستقبلات الحسية تولد إشارات عصبية تنتقل عبر الجذر الخلفي للعصب الشوكي نحو المادة الرمادية الظهرية. في المادة الرمادية الظهرية يوجد تشابك عصبي synapse بين المحور العصبي الحسي وبين جسم خلية واصلة interneuron. وصول الإشارة العصبية الحسية إلى هذا التشابك يولد إشارة عصبية جديدة في الخلية الواصلة. الإشارة الجديدة تنتقل وتولد إشارة أخرى في خلية محركة في القرن الأمامي للمادة الرمادية، وهذه الإشارة تنتقل عبر المحور العصبي للخلية المحركة وتصل إلى ليف عضلي أو ألياف عضلية وتؤدي إلى تقليصها وبالتالي سحب الذراع بعيدا عن مصدر الحرارة.

هذا هو المنعكس في أبسط صوره. المنعكسات على ما أظن هي أبسط وظائف الحبل الشوكي (والجهاز العصبي المركزي) على الإطلاق. تنفيذ المنعكسات هو ربما السبب الذي أدى إلى ظهور الجهاز العصبي المركزي لأول مرة لدى الحيوانات.

لو نظرنا إلى الجهاز العصبي لدى الدودة الحلقية فسنجد أنه يعتمد بشكل كامل على المنعكسات. كل الحركات التي ينفذها جسم الدودة الحلقية تحدث بسبب منعكسات. المؤثرات الحسية التي تصل إلى جسم الدودة تولد إشارات عصبية حسية تنتقل نحو الحبلين العصبيين. الإشارات تنتقل على طول الحبليين العصبيين، وهذا يؤدي لتوليد إشارات عصبية في الأعصاب المحركة التي تخرج من الحبلين العصبيين على شكل حلقات متتابعة محيطة بالجسم. تقبض العضلات الحلقية بشكل متتابع يؤدي إلى تحريك الجسم.

المنعكسات رغم بدائيتها ما زالت موجودة لدى البشر. المنعكسات لدى البشر هي سلوك “لا إرادي” involuntary، بمعنى أن الإنسان لا يعلم بها في عقله الواعي إلا بعد البدء في تنفيذها وليس قبل ذلك. العقل الواعي (قشرة المخ) يمكنه أن يتدخل في بعض المنعكسات ويمكنه أن يحاول تثبيطها لو أراد ذلك.

المنعكسات الواعية وغير الواعية

أنا شخصيا لا أحب استخدام كلمتي “إرادي” voluntary و”لا إرادي” involuntary وأفضل بدلا من ذلك استخدام كلمتي “واع” conscious و”غير واع” unconscious.

المنعكسات هي في الأصل سلوك غير واع unconscious، ولكن العقل الواعي يمكنه أن يتدخل في عمل بعض المنعكسات.

من الممكن أن نقسم المنعكسات إلى صنفين:

  • منعكسات واعية (يمكن التدخل بها إراديا)
  • منعكسات غير واعية (لا يمكن التدخل بها إراديا)

المنعكسات التي يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤدي لتحريك العضلات الهيكلية skeletal muscles.

المنعكسات التي لا يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤثر على الإفراز secretion أو على العضلات القلبية cardiac muscles أو على العضلات الملساء smooth muscles.

أنا في مقال سابق ذكرت أن مخرجات الجهاز العصبي المركزي تتمثل في شكلين:

  • تحريك العضلات
  • الإفراز

الإفراز هو دائما سلوك لا إرادي أو غير واع. حسب علمي فإن العقل الواعي لا يمكنه أبدا أن يتحكم بإفراز الهرمونات أو النواقل العصبية (مثلا الإنسان لا يمكنه أن يتحكم إراديا بإفراز الهرمونات من الغدة النخامية، أو بإفراز العرق من الغدد العرقية).

بالنسبة لتحريك العضلات فهو يمكن أن يكون إراديا أو غير إرادي حسب نوع العضلات.

العضلات الموجودة في أجسام الحيوانات تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  • العضلات الهيكلية skeletal muscles
  • العضلات القلبية cardiac muscles
  • العضلات الملساء smooth muscles

العضلات الهيكلية هي العضلات المغطية للهيكل العظمي والتي يؤدي تقليصها أو إرخاؤها لتحريك الجسم. هذه العضلات يمكن للإنسان أن يتحكم بها إراديا، ولهذا السبب فإن المنعكسات التي تؤدي إلى تقليص أو إرخاء هذه العضلات يمكن التدخل بها إراديا (ولكن هذا التدخل له حدود. مثلا المنعكس الذي يؤدي إلى سحب اليد بعيدا عن النار من الصعب تثبيطه أو إعاقته).

العضلات القلبية هي العضلات التي تدخل في تكوين القلب. هذه العضلات تشبه من حيث تكوينها (ومن حيث قوة انقباضها) العضلات الهيكلية، ولكن التحكم الإرادي بهذه العضلات هو غير ممكن.

العضلات الملساء هي العضلات التي تدخل في تكوين أحشاء الجسم viscera ما عدا القلب (مثلا العضلات التي تدخل في تكوين القناة الهضمية والقناة التنفسية والقناة البولية والقناة التناسلية والأوعية الدموية). العضلات الملساء توجد أيضا في الجلد (تقلصها يؤدي إلى انتصاب الشعر وإلى ظهور “بروزات الإوزة” goose bumps).

بروزات الإوزة goose bumps (باللاتينية “جلد الإوزة” cutis anserina)

إذن مخرجات الجهاز العصبي المركزي يمكن أن تكون واعية (إرادية) أو غير واعية (لا إرادية). المنعكسات التي تنتج مخرجات واعية يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها، والمنعكسات التي تنتج مخرجات غير واعية لا يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها.

من الأمور اللافتة في الجهاز العصبي أن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية هي منفصلة عن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية.

الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب الجسمانية somatic nerves. الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب ذاتية الحكم أو المستقلة autonomic nerves.

في مقطع الحبل الشوكي أجسام الخلايا العصبية “الجسمانية”somatic تقع في الناحية الأمامية (البطنية) من القرنين الأماميين للمادة الرمادية، وإلى الخلف منها تقع أجسام الخلايا العصبية “ذاتية الحكم”autonomic . أجسام الخلايا ذاتية الحكم تكون قرنا ثالثا من قرون الحبل الشوكي يسمى “القرن الجانبي” lateral horn (القرن الوحشي).

ألياف الخلايا ذاتية الحكم تمر عبر الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية، وبالتالي الجذور الأمامية يجب ألا توصف بأنها “محركة” motor وإنما “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent. كلمة “مؤثر” effector أو “صادر” efferent تغطي كلا من وظيفتي التحريك motion والإفراز secretion. بالنسبة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية فيمكن وصفها بأنها “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent.

بالتالي الوصف الصحيح للمادة الرمادية في الحبل الشوكي هو أنها تنقسم إلى:

  • قسم أمامي (بطني ventral) يحوي خلايا عصبية “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) يحوي خلايا عصبية “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent

القسم الأمامي المؤثر أو الصادر ينقسم بدوره إلى قسم أمامي واع (إرادي) وقسم خلفي غير واع (لا إرادي).

الطرق العصبية الواعية

ذكرنا في الأعلى أن هناك منعكسات واعية يمكن التدخل فيها إراديا ومنعكسات غير واعية لا يمكن التدخل فيها إراديا. السؤال هو كيف يتدخل العقل الواعي في عمل المنعكسات الواعية؟

هذا يحدث عن طريق ألياف عصبية نازلة من قشرة المخ نحو القرنين الأماميين للحبل الشوكي. هذه الألياف النازلة أو الطرق النازلة توجد في المادة البيضاء.

“الطريق القشري الشوكي” corticospinal tract هو طريق نازل ينقل الإشارات العصبية من قشرة المخ المحركة motor cortex نحو القرن الأمامي للحبل الشوكي. معظم ألياف هذا الطريق تعبر نحو الجهة المعاكسة قبل أن تبلغ الحبل الشوكي وتشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الجانبي lateral corticospinal tract، وقسم ضئيل منها يظل في نفس الجهة ويشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الأمامي anterior corticospinal tract

“الطريق القشري الشوكي” النازل من القشرة المحركة في المخ يفسر قدرة العقل الواعي على التدخل في منعكسات الحبل الشوكي المؤثرة في العضلات الهيكلية، ولكن إلى جانب هذا الطريق النازل لا بد من وجود طريق آخر صاعد يعلم قشرة المخ بوجود منعكس شوكي قيد التنفيذ. إذا لم تعلم قشرة المخ بأن هناك منعكسا قيد التنفيذ فهي بطبيعة الحال لن تكون قادرة على التدخل فيه.

هناك طريقان صاعدان ينقلان الإشارات الحسية من القرنين الخلفيين للحبل الشوكي إلى قشرة المخ:

  • “الطريق الشوكي الثلمي” spinothalamic tract ينقل إشارات حس الألم والحرارة واللمس غير الدقيق crude touch
  • “العمودان الظهريان” dorsal columns ينقلان حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception

هذان الطريقان ينقلان الإشارات الحسية إلى الثلم thalamus، ومن هناك هذه الإشارات تنتقل إلى قشرة المخ “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex التي تقع في مقدمة الفص الجداري parietal lobe.

مقطع في الحبل الشوكي يبين الطرق العصبية الصاعدة باللون الأزرق، والطرق العصبية النازلة باللون الأحمر. طبعا الطرق الصاعدة والنازلة توجد في كل من جانبي الحبل الشوكي ولكن هذا الرسم عزل الطرق الصاعدة في الجانب الأيمن والطرق النازلة في الجانب الأيسر لغرض التوضيح

انقطاع الطرق العصبية الواعية

قبل تطور الدماغ لم يكن هناك على ما أظن “طرق عصبية صاعدة” و”طرق عصبية نازلة”. كل ما كان موجودا هو القطع المتتالية المكونة للحبل العصبي (التي تتمثل لدى الديدان والحشرات بالعقد القطعية segmental ganglia، ولدى الفقاريات بقطع الحبل الشوكي spinal cord segments الملتحمة مع بعضها). كل قطعة متتالية كانت تعمل بمفردها ودون اتصال مباشر مع مناطق بعيدة في الجهاز العصبي المركزي (الحبل العصبي). أقصى ما كان يحدث هو انتقال الإشارات العصبية من قطعة متتالية نحو قطعة متتالية أخرى مجاورة لها، وهذا هو ما يؤدي إلى التقلص المتتابع المشاهد لدى الديدان مثلا.

ما الذي سيحدث لو أننا قطعنا الطرق العصبية الصاعدة والنازلة الموجودة في الحبل الشوكي لدى البشر؟

هذه الحالة تحدث في إصابات الحبل الشوكي (مثلا بسبب كسور العمود الفقري). ما يحدث عادة هو أن الأشخاص المصابين يفقدون إحساسهم الواعي وتحكمهم الواعي بمناطق من جسمهم تقع تحت مستوى الإصابة في الحبل الشوكي. مثلا لو أصيبت الطرق الصاعدة والنازلة في القسم الرقبي من الحبل الشوكي فهذا سيؤدي لفقدان الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي) من مناطق تقع تحت مستوى الرقبة، كالذراعين والصدر والبطن والحوض والرجلين. لو كانت الإصابة كاملة وقطعت جميع الطرق الصاعدة والنازلة فهذا سيؤدي لفقدان الحس والتحريك الواعي بشكل كامل من كل أعضاء الجسم التي تقع تحت مستوى الرقبة. هذه الحالة تسمى الشلل الرباعي quadriplegia.

paralysis

مثل هذه الإصابة لن تؤثر على المنعكسات الشوكية التي تقع تحت مستوى الإصابة. مثلا لو أتينا إلى شخص مصاب بالشلل الرباعي واختبرنا منعكساته الشوكية تحت مستوى الرقبة فسنجد أنها فعالة ونشطة. السبب هو أن عمل المنعكسات الشوكية لا يحتاج الطرق الصاعدة والنازلة. الطرق الصاعدة والنازلة هي تطور لاحق ظهر بعد ظهور المنعكسات الشوكية. هذه الطرق تربط المنعكسات الشوكية بالدماغ. الطرق التي تربط المنعكسات الشوكية بقشرة المخ هي تحديدا الطرق المسؤولة عن الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي).

المنعكسات الشوكية الوحيدة التي ستتعطل عند إصابة الحبل الشوكي هي المنعكسات التي تقع عند مستوى الإصابة، لأن الإصابة هنا أتلفت أجسام ومحاور الخلايا العصبية الشوكية المسؤولة عن تنفيذ المنعكسات.

الحس الواعي والحس غير الواعي

في الأعلى بينا الفرق بين الأعصاب الجسمانيةsomatic المسؤولة عن التنفيذ العصبي الواعي (التأثير في العضلات الهيكلية) والأعصاب ذاتية الحكمautonomic المسؤولة عن التنفيذ العصبي غير الواعي (الإفراز والتأثير في العضلات القلبية والملساء).

هذه الأعصاب هي أعصاب تنفيذية أو تأثيرية effector. السؤال هو هل هناك أعصاب استقبالية receptor غير واعية؟

الجواب هو نعم. هناك في الحبل الشوكي ألياف عصبية استقبالية (حسية) غير واعية.

ما يجعل أية خلية حسية في الحبل الشوكي “واعية” هو وجود اتصال بينها وبين قشرة المخ (تحديدا القشرة “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex). أية خلية حسية يوجد اتصال بينها وبين قشرة المخ هي واعية.

ولكن الدماغ لا يتكون فقط من قشرة المخ. هناك في الدماغ أجزاء أخرى غير قشرة المخ، ومعظم هذه الأجزاء (إن لم يكن كلها) هي أقدم من قشرة المخ الجسمانية الحسية.

هناك طرق عصبية صاعدة (ونازلة) تربط خلايا الحبل الشوكي مع الدماغين الخلفي والأوسط. هذه الطرق هي كلها “غير واعية”.

من الطرق الصاعدة غير الواعية الطريق المسمى “الطريق الشوكي المخيخي” spinocerebellar tract. هذا الطريق ينقل إشارات حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception إلى المخيخ cerebellum. الخلايا التي يخرج منها هذا الطريق تقع في القسم البطني من القرن الظهري للمادة الرمادية (قسم كبير من هذا الطريق يخرج من النواة الظهرية nucleus dorsalis التي تسمى أيضا “نواة كلارك” Clarke’s nucleus).

هناك أيضا الطريق المسمى “الطريق الشوكي الزيتوني” spinoolivary tract. هذا الطريق ينقل حس الاهتزاز واللمس الدقيق والحس الذاتي إلى الزيتونة olive التي تقع في القسم العلوي (المنقاري rostral) من النخاع المستطيل medulla oblongata.

الطريق الشوكي الزيتوني والطريق الشوكي المخيخي يشبهان من حيث المحتوى طريق “العمودين الظهريين” dorsal columns الذي يصل إلى الثلم thalamus ومن هناك إلى قشرة المخ الجسمانية الحسية. الفرق بين هذه الطرق الثلاثة هو أن طريق العمودين الظهريين هو واع، وهو بالطبع أحدث عمرا من الطريقين الآخرين.

الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة و”اللمس غير الدقيق” crude touch من الحبل الشوكي إلى الدماغ هو في الحقيقة مجموعة من الطرق وليس طريقا واحدا. البعض يقسمون هذا الطريق إلى قسمين كبيرين:

  • الطريق “الشوكي الثلمي القديم” paleospinothalamic
  • الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” neospinothalamic

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” مكون من ألياف عصبية من النوع (IV) C (تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth والحكة itch).

الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” مكون من ألياف عصبية من النوع (III) Aδ (تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold).

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” هو في الحقيقة ليس “شوكيا ثلميا” لأن حوالي 90% من أليافه لا تصل إلى الثلم ولكنها تتوقف في الدماغين الخلفي والأوسط. البعض يقسمون هذا الطريق إلى عدة أقسام:

  • الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “التشكيل الشبكي” reticular formation في جذع الدماغ)
  • الطريق الشوكي السقفي spinotectal tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “سقف” tectum الدماغ الأوسط)
  • الطريق الشوكي ما تحت الثلمي spinohypothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “ما تحت الثلم” hypothalamus)
  • الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي والثلم thalamus)

الطريق الوحيد الواعي من بين كل هذه الطرق هو الطريق الشوكي الثلمي، الذي يضم أيضا ألياف الطريق “الشوكي الثلمي الحديث”.

الخلاصة هي أن الألياف العصبية الحسية تنقسم إلى قسمين، قسم واع يصل إلى الثلم ومنه إلى قشرة المخ، وقسم غير واع لا يصل إلى الثلم.

كل الألياف العصبية الحسية التي تحدثنا عنها هي ألياف عصبية “جسمانية” somatic، بمعنى أنها لا تنقل الحس من الأحشاء viscera أو الغدد glands.

الأحشاء والغدد لا تحوي الكثير من المستقبلات الحسية كما هو الحال في الأعضاء “الجسمانية”. المستقبلات الحسية في الأحشاء تنقل حس التمدد distension والالتهاب inflammation ونقص التروية الدموية ischemia، ولكنها لا تنقل أحاسيس أخرى (مثلا لا تنقل حس النخز أو الحرق).

الإشارات الحسية الواردة من الأحشاء والغدد تنتقل عبر الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية وتصل إلى القسم الأمامي من القرنين الخلفيين للمادة الرمادية، وكثير من هذه الإشارات تنتقل ضمن الأعصاب المستقلة autonomic. لهذا السبب الألياف الحسية الحشوية تصنف ضمن “الجهاز العصبي المستقل” autonomic nervous system.

هذا التصنيف هو منطقي لأن الإحساسات الحشوية هي عموما غير واعية، بمعنى أنها لا تصل إلى قشرة المخ. قليل جدا من الخلايا الحسية الحشوية هي متصلة مع قشرة المخ بواسطة ألياف صاعدة. لهذا السبب العقل الواعي لا يشعر بأحاسيس الأحشاء إلا عندما تكون هذه الأحاسيس قوية للغاية (مثلا عند انسداد الأمعاء، أو انسداد الحالب، أو تعرض العضلة القلبية للاحتشاء infarction بسبب انسداد الأوعية الدموية القلبية).

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء البطنية والحوضية يسمى “المغص” colic. شعور “المغص” هو شعور عام للغاية وغير دقيق على الإطلاق. عندما يسمع الطبيب كلمة “مغص” فإنه يصاب بالحيرة لأن شعور “المغص” يمكن أن يكون من القناة الهضمية أو القناة الصفراوية أو القناة البولية أو القنوات التناسلية. أي عضو حشوي داخل البطن أو الحوض يمكن أن يكون مصدرا لشعور “المغص”، والمريض عادة لا يستطيع أن يحدد مكانا دقيقا يوجد فيه “المغص”، وحتى لو حدد المكان فهذا لا يفيد كثيرا في التشخيص لأن شعور “المغص” هو شعور غير دقيق.

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء الصدرية يسمى “الذبحة” angina. مصدر هذا الشعور عادة هو القلب، ولكنه يمكن أن يكون أيضا من المريء esophagus.

العقل الواعي يميز الكثير من الأحاسيس الواردة من الأعضاء “الجسمانية” (مثلا شعور اللمس والنخز والحرق والحكة والحرارة والبرودة والاهتزاز والضغط إلخ)، ولكن بالنسبة للأعضاء الحشوية فالعقل الواعي لا يميز فيها سوى إحساسين أو ثلاثة (المغص والذبحة)، وهذه الأحاسيس التي يميزها العقل الواعي في الأحشاء هي عامة جدا سواء من حيث الموقع أو من حيث السبب.

لو كان العقل الواعي يميز الأحاسيس الحشوية بدقة أكبر لكان ذلك سهل عمل الأطباء ووفر الكثير من الأموال التي تنفق حاليا على الصور والتحاليل الطبية.

طبعا الإحساس الواعي بوجود الإصابة في الأحشاء هو شيء مفيد لحفظ حياة الإنسان. لهذا السبب الجهاز العصبي المركزي طور طريقة التفافية يستطيع من خلالها أن يعلم العقل الواعي بوجود إصابة في الأحشاء دون الاستعانة بألياف عصبية صاعدة من الخلايا الحسية الحشوية إلى قشرة المخ. هذه الطريقة الالتفافية تسمى “الألم المحوّل” referred pain.

الألم المحول هو ظاهرة تحدث عند وجود إصابة حشوية بالغة. ما يحدث هو أن الإشارات العصبية تنتقل من خلايا حسية حشوية إلى خلايا حسية جسمانية قريبة منها، وهذا يجعل العقل الواعي يشعر بألم “جسماني”.

مثلا عندما يكون هناك احتشاء infarction في القلب (وهي إصابة بالغة للغاية) تنتقل الإشارات العصبية من الخلايا الحسية الحشوية في الحبل الشوكي إلى الخلايا الحسية الجسمانية القريبة منها، وبعد ذلك تنتقل الإشارات عبر الطريق الشوكي الثلمي وتصل إلى قشرة المخ. الإنسان يشعر وقتها بألم بالغ للغاية في النصف الأيسر من صدره يمتد حتى نهاية ذراعه اليسرى. هو يشعر بالألم في جدار الصدر وفي الذراع اليسرى، رغم أن الإصابة الحقيقية هي في القلب. بما أن الخلايا الحسية الحشوية التي تستقبل الحس من القلب هي عاجزة عن إبلاغ العقل الواعي بطريقة مباشرة فإنها تبلغ جاراتها “الجسمانية”، وهذا يؤدي إلى وصول الرسالة إلى العقل الواعي ولكنها رسالة غير دقيقة ولا تدل على المكان الصحيح للإصابة.

ظاهرة الألم المحول تحدث في الكثير من الأمراض الحشوية الأخرى. مثلا عندما يصاب المرء بالتهاب الزائدة الدودية appendicitis فإنه في البداية يشعر بمغص في بطنه (عندما يسأله الطبيب أين الألم فإنه يشير إلى وسط بطنه). عندما يشتد الالتهاب فإن الخلايا الحسية الجسمانية تتنشط وعندها يشعر المريض بالألم في جدار الربع السفلي الأيمن من بطنه.

أيضا عندما يصاب الإنسان بالتهاب في رئتيه فإنه في البداية لا يشعر بألم، ولكن عندما يشتد الالتهاب ويصل الحس إلى الخلايا الحسية الجسمانية فإن الإنسان يشعر بألم في جدار صدره.

أحيانا يكون موقع الألم المحول بعيدا للغاية عن موقع الإصابة الحشوية (لأسباب تطورية جنينية). مثلا الإصابة في المرارة gall bladder يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في الكتف الأيمن. أيضا الإصابة في الحالب يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في كيس الصفن scrotum أو على الجانب الداخلي للفخذ. الأطباء يحفظون مواقع الألم المحول لكي يستفيدوا منها في التشخيص.

الحس غير الواعي والحس “تحت الواعي”

الباحثون لاحظوا منذ زمن طويل أن إدراك العقل الواعي لكثير من الأحاسيس هو مسألة شخصانية subjective وليست موضوعية objective.

المعنى هو أن شعور العقل الواعي بإحساس معين هو مسألة متغيرة وليست ثابتة، وهو يعتمد على عوامل ومتغيرات لا علاقة لها بالإحساس نفسه.

مثلا لو وخزنا شخصا بدبوس فإن شعور عقله الواعي بالوخزة هو ليس ثابتا دائما ولكنه يعتمد على عوامل ومتغيرات شخصانية (تتعلق بالشخص نفسه).

مثلا إذا كان الشخص منتبها جدا للدبوس أثناء وخزه به فإنه سيشعر بألم كبير نسبيا. ولكن لو كان الشخص ملتهيا عن الدبوس بمسألة أخرى فإن شعوره بالألم سيكون أقل (مثلا إذا وخزناه بالدبوس وهو يتشاجر مع شخص آخر فإنه ربما لن يشعر بالوخزة من الأساس).

هناك عوامل عديدة تؤثر في شعور الإنسان بالإحساس. من هذه العوامل ما يلي:

  • اليقظة (شعور الإنسان المستفيق بالأحاسيس هو أكبر من شعور الإنسان النائم أو الغائب عن الوعي)
  • الانتباه (الشخص المنتبه لحس معين يشعر به أكثر من الشخص الملتهي بأحاسيس أو أفكار أخرى)
  • العاطفة (شعور الإنسان الغاضب أو الخائف بالأحاسيس هو أقل من شعور الإنسان المرتاح)

في الحقيقة كل هذه العوامل يمكن إرجاعها إلى عامل واحد هو الانتباه attention. عندما يكون العقل الواعي منتبها للحس فإنه يشعر به بقوة، وعندما يكون انتباه العقل الواعي للحس ضعيفا فإنه لن يشعر به بنفس القوة، وربما لا يشعر به أبدا.

مفهوم الانتباه هو في رأيي أساس مفهوم الوعي consciousness. أنا ذكرت هذه الفكرة في مقال سابق. في رأيي أن “العقل الواعي” conscious mind هو في الحقيقة ليس سوى الأفكار الموجودة في دائرة انتباه الدماغ.

الأفكار التي تخرج من دائرة الانتباه تخرج من الوعي وتدخل في حيز يسمى “ما تحت الوعي” subconsciousness.

مفهوم “ما تحت الوعي” subconsciousness يختلف عن مفهوم “اللاوعي” unconsciousness. المفهوم الأول يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من غير الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني هو أساس نظرية فرويد في التحليل النفسي psychoanalysis.

بناء على ما سبق يمكن في رأيي أن نصنف الأحاسيس إلى ثلاث طبقات:

  • أحاسيس واعية conscious (موجودة في العقل الواعي)
  • أحاسيس تحت واعية subconscious (يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)
  • أحاسيس غير واعية unconscious (لا يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)

وفق هذا التصنيف فإن المنعكسات الشوكية التي وصفتها في الأعلى بأنها “واعية” هي في الحقيقة “تحت واعية”، لأن الأصل في هذه المنعكسات هو أنها غير واعية ولكنها يمكن أن تدخل إلى الوعي.

المنعكسات الإفرازية والحشوية (ذاتية الحكم autonomic) هي عموما غير واعية unconscious لأنها لا تدخل إلى الوعي (مثلا إفراز الإنسولين من البنكرياس عند ارتفاع سكر الدم هو منعكس غير واعي unconscious).

منعكسات الحبل الشوكي هي إما تحت واعية subconscious أو غير واعية unconscious. المنعكسات الواعية conscious هي المنعكسات التي يبدأ تنفيذها من قشرة المخ (طبعا بشرط أن تكون بداية هذه المنعكسات من دائرة الانتباه. المنعكس الذي يبدأ من خارج دائرة الانتباه هو ليس منعكسا واعيا حتى ولو كانت بدايته من قشرة المخ).

الآلية الفيزيولوجية لما تحت الوعي

في الأعلى أنا ذكرت الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس غير الواعي. الآلية التي ذكرتها هي باختصار كما يلي:

  • الحس المتصل مع قشرة المخ ← واع
  • الحس غير المتصل مع قشرة المخ ← غير واع

ما هي يا ترى الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس “تحت الواعي”؟

الآلية هي مرتبطة بآلية الانتباه attention. المشكلة هي أن آلية الانتباه هي غير معروفة جيدا، وهناك أصلا جدل حول موضوع العقل الواعي ومكان وجوده. بعض الناس في زماننا الحالي ينكرون مادية العقل ويقولون أن العقل هو ليس ماديا (بالأحرى هم يقولون أن العقل هو مادي ولكن خصائصه “ليست فيزيائية”). أنا تحدثت عن هذه القضية في مقالات سابقة. بالنسبة لي أنا سوف أفترض أن العقل هو كيان مادي بحت، لأنني لو افترضت شيئا آخر فهذا سيمنعني من الخوض في موضوع العقل.

أنا أظن أن “الوعي” consciousness هو نفسه “الانتباه” attention. طبعا كلمة “انتباه” تستخدم في العادة مع المدركات الحسية الخارجية، ولكن بالنسبة لي أنا أفهم الانتباه على أنه يتعلق بجميع الأفكار التي تدور في عقل الإنسان سواء كانت مدركات حسية أم أشياء مسترجعة من الذاكرة أم أشياء مستنبطة عبر المعالجة أو الخيال.

مثلا الإنسان الذي يتخيل في عقله كائنا خرافيا هو “منتبه” إلى هذا الكائن، مثلما أن الإنسان الذي ينظر إلى شيء ما ويتفحصه هو منتبه إلى هذا الشيء.

أي شيء موجودة في دائرة الانتباه هو موجود في العقل الواعي، وأي شيء موجود خارج دائرة الانتباه هو موجود خارج العقل الواعي.

كيف يحدث الانتباه فيزيولوجيا؟ الآلية التفصيلية هي غامضة وغير معروفة، ولكن المبدأ العام في رأيي هو كما يلي “الخلايا الأكثر نشاطا في قشرة المخ هي التي تصنع الانتباه والوعي”.

أنا شرحت هذه الفكرة في مقال سابق وضربت مثالا حول أشخاص عديدين موجودين في غرفة ويتحدثون في آن واحد.

هذه المرة سأتحدث من الناحية الفيزيولوجية.

سوف أتحدث الآن باختصار ولكنني سأعود للموضوع مجددا في مقال لاحق.

في فيزيولوجيا الأعصاب هناك مفهوم يسمى “الإثارة” excitation ومفهوم يسمى “التثبيط” inhibition.

الخلايا العصبية يمكن أن “تثار” ويمكن أن “تثبط”.

الإثارة والتثبيط تعتمد على نوعية النواقل العصبية neurotransmitters التي تصل إلى غشاء الخلية العصبية وتؤدي إلى تنشيط أو تثبيط “كمون الفعل” action potential، وعلى نوعية المستقبلات العصبية neuroreceptors الموجودة في غشاء الخلية العصبية.

بعض النواقل والمستقبلات هي “مثيرة”، وبعضها الآخر هو “مثبط”.

بالنسبة للخلايا العصبية الناقلة للأحاسيس فهي يمكن أن تثار وأن تثبط بواسطة نواقل عصبية معينة تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة في أغشية هذه الخلايا.

على سبيل المثال، هناك في المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa (في القرن الخلفي للحبل الشوكي) خلايا عصبية تفرز نواقل عصبية تسمى إندورفينات endorphins. هذه النواقل العصبية تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة موجودة في أغشية الألياف العصبية الناقلة لحس الألم نحو الحبل الشوكي (من النوعين C و ). تفاعل الإندورفينات مع مستقبلاتها يؤدي لتثبيط وصول الإشارات العصبية إلى الخلايا الموجودة في القرن الخلفي للحبل الشوكي، وبالتالي تثبيط وصول الإشارات العصبية إلى المناطق الدماغية العليا (بما فيها قشرة المخ). المحصلة هي أن إشارات حس الألم لن تصل إلى الدماغ، وبالتالي الإنسان لن يشعر بالألم (أو سيشعر به مخففا في حال وصول نسبة قليلة من الإشارات العصبية).

الملفت هو أن الدماغ الأوسط midbrain فيه خلايا عصبية ترسل أليافا نازلة نحو القرون الخلفية للحبل الشوكي بهدف إثارة الخلايا المفرزة للإندورفينات، وبالتالي تثبيط حس الألم. خلايا الدماغ الأوسط هذه تتنشط في حالات معينة لا مجال لذكرها الآن، ولكن الفكرة العامة هي أن هناك منعكسا في الدماغ الأوسط مسؤول عن “تسكين” حس الألم عبر منع صعوده من الحبل الشوكي. هذا المنعكس هو مثال على الطريقة التي يتلاعب بها الدماغ بالأحاسيس والمشاعر. الدماغ يقوي بعض الأحاسيس ويضعف بعضها الآخر بالاعتماد على النواقل العصبية وتأثيرها في الخلايا العصبية.

من المؤكد أن هناك في الدماغ البشري منعكسات مسؤولة عن إثارة بعض خلايا قشرة المخ وتثبيط بعضها الآخر. خلايا قشرة المخ هي عمليا “الأفكار” التي تدور في العقل. تثبيط خلية معينة في قشرة المخ يعني عمليا إخراج فكرة معينة من دائرة الانتباه، وإثارة خلية أخرى يعني إدخال فكرة معينة إلى دائرة الانتباه.

هذه بإيجاز شديد الآلية الفيزيولوجية للانتباه. في المقالات القادمة سأتحدث بإيضاح أكثر.