الدماغ البشري (7)

عندما تحدثنا عن أحاسيس الحبل الشوكي ذكرنا أن بعض هذه الأحاسيس هو واع وبعضها الآخر غير واع. ما يحدد الوعي من عدمه هو الاتصال مع قشرة المخ. أهم الطرق الصاعدة التي تربط أحاسيس الحبل الشوكي مع قشرة المخ هما طريقان:

  • الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract (ينقل إشارات حس الألم والحرارة)
  • طريق العمودين الظهريين dorsal columns والشريط الإنسي medial lemniscus (ينقل إشارات حس الاهتزاز والحس الذاتي)

هناك أيضا طرق صاعدة “غير واعية” ذكرت بعضها في مقال سابق.

من الطرق الصاعدة غير الواعية التي تنقل حس الاهتزاز والحس الذاتي ما يلي:

  • الطريق الشوكي المخيخي spinocerebellar tract
  • الطريق الشوكي الزيتوني spinoolivary tract
  • الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (يصل إلى النواة الدهليزية الوحشية lateral vestibular nucleus)

من الطرق غير الواعية التي تنقل حس الألم وحس الحرارة ما يلي:

  • الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (يصل إلى التشكل الشبكي reticular formation)
  • الطريق الشوكي السقفي spinotectal tract (يصل إلى سقف الدماغ الأوسط midbrain tectum)
  • الطريق الشوكي ما تحت الثلمي spinohypothalamic tract (يصل إلى ما تحت الثلم hypothalamus)

كل الطرق سالفة الذكر تنقل “أحاسيس عامة” general senses.

“الأحاسيس الخاصة” special senses تنقسم أيضا إلى أحاسيس واعية وأحاسيس غير واعية. المبدأ هو نفس مبدأ الأحاسيس العامة: الأحاسيس الخاصة التي تصل إشاراتها إلى قشرة المخ هي أحاسيس واعية.

الإبصار غير الواعي

في مقال سابق أشرت إلى الطريق البصري optic tract (الذي هو استمرار للعصب البصري optic nerve بعد التصالب البصري optic chiasma). الطريق البصري يتفرع إلى عدة فروع:

  • فرع أساسي يتشابك مع أنوية تقع في مؤخرة الثلم thalamus (في الجسم الركبي الوحشي lateral geniculate body والوسادة pulvinar)
  • فرع يذهب إلى ما تحت الثلم hypothalamus
  • فرع يذهب إلى “ما أمام سقف”pretectum الدماغ الأوسط
  • فرع يذهب إلى التليلة العلوية superior colliculus في سقف tectum الدماغ الأوسط

brain_optic

 

الجسم الركبي الوحشي والوسادة يتصلان بواسطة “الإشعاع البصري” optic radiation مع القشرة البصرية الأولية primary visual cortex (تسمى أيضا “القشرة ذات الأخاديد” striate cortex). لهذا السبب الطريق البصري الذي يتصل مع الجسم الركبي الوحشي والوسادة هو طريق واع.

الطرق البصرية الأخرى التي تذهب إلى ما تحت الثلم والدماغ الأوسط هي طرق غير واعية. الطريق الذي يذهب إلى ما تحت الثلم hypothalamus هو مسؤول عما يسمى بالإيقاع اليومي circadian rhythm (أو “الساعة البيولوجية” حسب التسمية الإعلامية). الإيقاع اليومي يدير مجموعة من المنعكسات الإفرازية التي تنظم الـ homeostasis، أي أنه مسألة غير واعية. الطريق الذي يذهب إلى “ما أمام سقف” pretectum الدماغ الأوسط هو مسؤول عن عدد من المنعكسات غير الواعية. الطريق الذي يذهب إلى التليلة العلوية superior colliculus هو مسؤول عن ظاهرة “الرؤية العمياء” blindsight التي تحدثت عنها في مقال سابق.

الخلاصة هي أن حس البصر له فرع واع وفروع أخرى غير واعية.

الشم والذوق غير الواعي

هناك دراسات تزعم وجود تأثير غير واع لبعض الروائح (تحديدا لما يسمى بالفرمونات pheromones) على سلوك البشر. الفرمونات هي شيء مهم لدى الحيوانات، ولو صح وجود تأثير للفرمونات على سلوك البشر فهذا يعني أن هناك اتصالا غير واع بين البصلة الشمية olfactory bulb وبين ما تحت الثلم hypothalamus.

بالنسبة لحس الذوق فهو يصل إلى القسم المنقاري (العلوي) من نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract عن طريق الأعصاب القحفية رقم 7 و 9 و 10، ومن هناك تنتقل إشارات الحس عبر “الطريق المفرد الثلمي” solitariothalamic tract نحو الثلم thalamus، ومن هناك إلى القشرة الذوقية gustatory cortex.

حسب ما أعلم فإن هناك منعكسا غريزيا أو فطريا لدى البشر يجعلهم يتقيؤون بشكل لا إرادي إذا أكلوا مادة ذات طعم مر. الوظيفة الأصلية لهذا المنعكس هي ربما الحماية من التسمم، لأن كثيرا من المواد السامة هي ذات طعم مر.

هذا المنعكس هو موجود لدى الأطفال حديثي الولادة، ما يوحي بأنه منعكس غير واع.

من الممكن أن هذا المنعكس يحدث بسبب دارة عصبية في جذع الدماغ دون تدخل من المناطق الدماغية العليا. مثلا من الممكن أن الإشارات العصبية تنتقل من القسم المنقاري من نواة الطريق المفرد إلى الأنوية المحركة للعصب القحفي العاشر لتحفيز الإقياء بشكل انعكاسي.

لو صح هذا التصور فهو يعني أن حس الذوق له فرع غير واع. المشكلة هي أنني لم أقرأ هذا الكلام في أي مكان ولكنني فقط أستنتج بنفسي.

الاتزان غير الواعي

الحسان الميكانيكيان “الخاصان” (حس الاتزان وحس السمع) ينتقلان في الدماغ عبر ألياف عصبية واعية وألياف أخرى غير واعية.

الألياف الواعية لحس الاتزان تنقل الإشارات العصبية من الأنوية الدهليزية vestibular nuclei إلى الثلم thalamus ومنه إلى القشرة المخية. هذه الألياف لا تشكل سوى قسم ضئيل من ألياف حس الاتزان. هناك الكثير من الطرق غير الواعية لحس الاتزان في الجهاز العصبي المركزي.

إحدى أهم وظائف الجهاز الدهليزي غير الواعية هي تعديل “التوتر العضلي” muscle tone بما يحافظ على توازن الجسم ويمنع سقوطه على الأرض.

الجسم يستند على الهيكل العظمي المكون من 206 عظام. التحكم بكل هذه العظام وإبقاء الجسم في حالة توازن دائم هو ليس أمرا سهلا.

لو حاولت أن تبني بيتا من 206 ورقة لعب فربما تنجح في ذلك، ولكن هل يا ترى تستطيع أن تحرك هذا البيت دون أن يتداعى؟

هيكل الجسم البشري مكون من 206 عظام، ولكن هذا الهيكل هو مستقر دائما ولا يتداعى.

السبب الأساسي لذلك هو ما يسمى “التوتر العضلي” muscle tone.

العضلات المغطية للهيكل العظمي (العضلات الهيكلية) هي متقلصة بشكل دائم لكي تبقى الهيكل العظمي مشدودا ومنتصبا. هذا التقلص الدائم للعضلات الهيكلية يسمى “التوتر العضلي” muscle tone، وهو نابع من الخلايا المحركة الجسمانية في القرنين الأماميين للحبل الشوكي.

فكرة التوتر العضلي تشبه فكرة الحبال المشدودة التي تنصب عمود الخيمة.

pole ropes pegs

في هذه الصورة يظهر عمود منتصب بسبب الحبال التي تشده إلى الأوتاد. العضلات الهيكلية في الجسم الحيواني والبشري تلعب دورا شبيها بدور هذه الحبال.

العضلات الهيكلية المسؤولة عن انتصاب الجسم هي تحديدا العضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles (تغطي الجذع trunk ومناطق الأطراف القريبة من الجذع proximal limb muscles). هذه العضلات تسمى “العضلات المضادة للجاذبية” anti-gravity muscles لأن تقلصها يؤدي لانتصاب الجسم أو الوقوف. العضلات التي تقع في نهايات الأطراف distal limb muscles هي ليست مهمة لموضوع انتصاب الجسم (مثلا تقليص عضلات اليدين والأصابع لا يؤثر على انتصاب الجسم: أنت ستظل واقفا سواء كانت أصابع يديك مبسوطة أم مضمومة).

قوة الشد في الحبال التي تنصب العمود تعادل “التوتر العضلي” في عضلات الجسم المضادة للجاذبية.

التوتر العضلي يمكن أن يزداد أو ينقص بناء على منعكسات يديرها التشكل الشبكي reticular formation في جذع الدماغ.

أنوية التشكل الشبكي التي تتحكم بالتوتر العضلي تقع في المنطقة الإنسية medial من التشكل الشبكي.

التوزع الوظيفي لأنوية التشكل الشبكي يشبه التوزع الوظيفي لأنوية الأعصاب القحفية الذي ذكرناه سابقا:

  • المنطقة الجانبية أو الوحشية lateral من التشكل الشبكي تحوي أنوية استقبالية ذات خلايا صغيرة الحجم تسمى “الأنوية صغيرة الخلايا” parvocellular nuclei.
  • المنطقة الإنسية medial من التشكل الشبكي تحوي أنوية تأثيرية ذات خلايا كبيرة الحجم تسمى “الأنوية كبيرة الخلايا” magnocellular nuclei.
reticular formation
منظر ظهري لجذع الدماغ يبين أنوية التشكل الشبكي

الطريق الحسي الصاعد من الحبل الشوكي نحو التشكل الشبكي (الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract) يتشابك مع “النواة الشبكية الجانبية” lateral reticular nucleus. هذه النواة ترسل أليافا أفقية نحو الأنوية كبيرة الخلايا المحاذية لها:

  • في النخاع المستطيل نحو “النواة الشبكية عملاقة الخلايا” gigantocellular reticular nucleus
  • في الجسر الذيلي نحو “النواة الشبكية الجسرية الذيلية” caudal pontine reticular nucleus
  • في الجسر المنقاري نحو “النواة الشبكية الجسرية الفموية” oral pontine reticular nucleus

هذه الأنوية الثلاث ترسل أليافا محركة جسمانية نازلة نحو خلايا القرنين الأماميين للحبل الشوكي. هذه الألياف تسير في “الطريق الشبكي الشوكي” reticulospinal tract (هذا الطريق يضم أيضا أليافا تأثيرية حشوية نازلة من “المركز القلبي الوعائي” في “النخاع المستطيل البطني الوحشي” ventrolateral medulla oblongata إلى القرنين الجانبيين للحبل الشوكي، ويضم أيضا الألياف المحركة الجسمانية النازلة من “مركز التنفس” في النخاخ المستطيل إلى القرنين الأماميين للحبل الشوكي).

هذه الأنوية الشبكية الثلاث هي المسؤولة عن المنعكسات الشبكية المتعلقة بالتوتر العضلي muscle tone.

آلية تحكم هذه الأنوية بالتوتر العضلي هي غير واضحة. كثير من المصادر تقول أن النواتين الموجودتين في الجسر (“النواة الشبكية الجسرية الذيلية” و”النواة الشبكية الجسرية الفموية”) تقومان بزيادة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية عبر إرسال إشارات إثارية إلى خلايا القرنين الأماميين للحبل الشوكي، وأن النواة الموجودة في النخاع المستطيل (“النواة الشبكية عملاقة الخلايا”) تقوم بتثبيط النواتين الموجودتين في الجسر وبالتالي تثبيط التوتر العضلي. في المقابل هناك مصادر تزعم أن النواتين الموجودتين في الجسر لهما تأثير مثبط للتوتر العضلي.

في كل الأحوال المهم هو أن الأنوية كبيرة الخلايا في التشكل الشبكي الإنسي تتحكم بالتوتر العضلي.

طبيعة المنعكسات التي تشرف عليها هذه الأنوية هي غير معروفة جيدا بالنسبة لي. بما أن التشكل الشبكي الوحشي يستقبل إشارات حسية قادمة عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة) فمن الممكن أن الأنوية كبيرة الخلايا كانت في الأصل تقوم بتحريك الجسم وفق المعطيات الحسية القادمة عبر هذا الطريق (على سبيل المثال: تحريك الجسم بعيدا عن مصدر الألم). طبعا بالنسبة للبشر تنشيط هذه الأنوية هو ليس الوسيلة الأنسب لتحريك الجسم، لأن هذه الأنوية لا تتحكم سوى بالعضلات الباسطة المحورية axial extensor muscles (المضادة للجاذبية). تقليص وإرخاء هذه العضلات يؤدي لتحريك الإنسان على نحو شبيه بسمكة اللامبري lamprey، كما تظهر مثلا في المقطع التالي:

سمكة اللامبري تعيش في الماء ولا تملك الأطراف الأربعة (الذراعان والرجلان)، لهذا السبب تحريكها هو ممكن عبر تحريك العضلات المحورية، ولكن بالنسبة للإنسان هذا النمط من الحركة يعتبر نمطا بدائيا.

من الممكن أن التشكل الشبكي كان في الأصل مسؤولا عن تحريك جسم شبيه بجسم سمكة اللامبري، أي أنه كان مسؤولا عن تحريك جسم يعيش في الماء ويفتقد للأطراف الأربعة (كأجسام الفقاريات البدائية أو الأسماك). عندما ظهرت الكائنات التي تعيش خارج الماء وتملك أطرافا أربعة بدأت وظيفة التشكل الشبكي بالتغير إلى وظيفة جديدة هي المحافظة على انتصاب الجسم أو “مقاومة الجاذبية” عبر توفير “التوتر العضلي”.

هناك أنوية أخرى في جذع الدماغ مسؤولة عن نفس وظيفة التشكل الشبكي آنفة الذكر، هذه الأنوية هي الأنوية الدهليزية vestibular nuclei.

SVN: superior vestibular nucleus; LVN: lateral vestibular nucleus; MVN: medial vestibular nucleus; IVN: inferior vestibular nucleus; MLF: medial longitudinal fasciculus; abducens nucleus = nucleus of CN VI; trochlear nucleus = nucleus of CN IV; oculomotor nucleus = nucleus of CN III

الأنوية الدهليزية تعدل التوتر العضلي للعضلات الباسطة المحورية (العضلات المضادة للجاذبية) بناء على بيانات حس الاتزان القادمة من دهليز الأذن الداخلية.

لتوضيح ما تقوم به الأنوية الدهليزية سوف نعود مجددا إلى صورة العمود المشدود بالحبال.

pole ropes pegs

لو أننا حاولنا إمالة العمود الظاهر في الصورة نحو اليمين فما الذي سيحصل؟

لو كانت الحبال مشدودة بقوة فإمالة العمود ستكون صعبة أو متعذرة، ولو أرخينا الحبال أو أحدها فسيتداعى العمود وسيقع على الأرض.

ولكن الهيكل العظمي البشري عندما يميل نحو اليمين أو اليسار فإنه لا يقع على الأرض.

السبب هو المنعكس الذي تنظمه الأنوية الدهليزية عبر الطريق الدهليزي الشوكي vestibulospinal tract. هذا المنعكس يعدل شدة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية حسب اتجاه حركة الجسم في الفراغ. مثلا عندما يميل الجسم نحو اليمين فإن الجهاز الدهليزي في الأذنين يحس بذلك ويرسل إشارات إلى الأنوية الدهليزية؛ الأنوية الدهليزية ترسل عبر الطريق الدهليزي الشوكي إشارات إلى الخلايا المحركة الجسمانية في القرنين الأماميين للحبل الشوكي؛ هذه الإشارات تؤدي إلى زيادة التوتر العضلي في العضلات المضادة للجاذبية على الجهة اليسرى من الجسم وتقليله في عضلات الجهة اليمنى من الجسم. بهذه الطريقة يحافظ الجسم على توازنه ولا يسقط نحو الجهة اليمنى.

في الحقيقة الأنوية الدهليزية لا تتعامل فقط مع حس الاتزان القادم من دهليز الأذن الداخلية، ولكنها تستقبل أيضا الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract الذي يحمل إليها الحس الذاتي proprioception من الحبل الشوكي.

الحس الذاتي هو الإحساس بشدة وسرعة تقلص العضلات الهيكلية. هذا الحس هو نشط حتى عندما تكون العضلات ساكنة وغير متحركة. إذا كنت تعرف مدى تقلص عضلاتك الهيكلية فأنت تستطيع أن تعرف ما هو موقع أجزاء جسمك في الفراغ. مثلا إذا كنت تعرف ما هو مقدار تقلص عضلات ذراعك فأنت ستعرف إن كانت ذراعك ممدودة أم مضمومة، وستعرف بالضبط ما هو موقع ذراعك بالنسبة لبقية جسمك. إن كانت ذراعك تتحرك فإن معرفتك بالسرعة التي تتقلص أو تتمدد بها عضلات ذراعك ستسمح لك بأن تتنبأ بالموضع الذي ستصل إليه ذراعك بعد فترة زمنية معينة.

هذه الحسابات لا تتم في “العقل الواعي” ولكنها تتم في “العقل غير الواعي”. الأنوية الدهليزية هي إحدى المراكز الدماغية التي تجري مثل هذه الحسابات. ما تقوم به الأنوية الدهليزية هو أنها تربط بيانات الحس الذاتي مع بيانات حس الاتزان القادمة من دهليز الأذن الداخلية. ربط هذه البيانات مع بعضها يزيد من دقة معلومات الأنوية الدهليزية حول وضعية الجسم في الفراغ.

الجهة التي تعتمد على مصدرين مختلفين للحصول على معلوماتها حول شيء معين هي حتما في وضع أفضل من الجهة التي تعتمد على مصدر واحد فقط. اعتماد الأنوية الدهليزية على مصدرين مختلفين للبيانات الحسية الفراغية (حس الاتزان والحس الذاتي) يزيد من جودة المعلومات الموجودة لديها.

في الأعلى افترضنا أن التشكل الشبكي يعدل التوتر العضلي بناء على البيانات الواردة إلى النواة الشبكية الجانبية lateral reticular nucleus عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract. حسب ما أعلم فإن هذا الطريق ينقل في الأساس بيانات حس الحرارة وحس الألم. الأنوية الدهليزية تعدل التوتر العضلي بناء على بيانات دهليز الأذن الداخلية وبناء على بيانات الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (الذي ينقل الحس الذاتي حسب ما ورد في بعض المصادر). إذن هناك تشابه في الوظيفة التي يؤديها التشكل الشبكي والأنوية الدهليزية. الفرق ربما هو في نوعية البيانات الحسية التي يعتمد عليها كل من هذين النظامين. بما أن حس الاتزان هو أحدث تطوريا من الحس الذاتي فأنا سوف أتخيل ما يلي: في الأصل الأنوية الدهليزية كانت تعدل التوتر العضلي بناء على الحس الذاتي، ولاحقا صارت تعتمد أيضا على حس الاتزان. هذه الفرضية توصلنا إلى ما يلي: في الأصل الأنوية الدهليزية كانت جزءا من منظومة التشكل الشبكي، ولكنها كانت متخصصة في استقبال الحس الذاتي وحس الاهتزاز ونحو ذلك من الأحاسيس الميكانيكية “العامة”، وأما النواة الشبكية الجانبية فكانت متخصصة في استقبال حس الحرارة وحس الألم، أي أن الفرق بين منظومة الأنوية الدهليزية ومنظومة التشكل الشبكي كان لا يختلف عن التخصص الوظيفي المشاهد في القرنين الخلفيين للحبل الشوكي.

الرأس هو الأهم

هناك أمر لافت في منظومة الأنوية الدهليزية وهو أن هذه المنظومة تسخر قسما كبيرا من طاقتها للحفاظ على توازن الرأس.

هناك نواتان دهليزيتان مسؤولتان عن التحكم بالتوتر العضلي للعضلات الباسطة المحورية (راجع الرسم التخطيطي في الأعلى):

  • النواة الدهليزية الإنسية medial vestibular nucleus (مسؤولة عن توازن الرأس)
  • النواة الدهليزية الوحشية lateral vestibular nucleus (مسؤولة عن توازن الجسم أسفل الرأس)

النواة الدهليزية الإنسية هي مسخّرة للتحكم بالعصب القحفي رقم 11 الذي يصدر من الحبل الشوكي الرقبي والمسؤول عن إدارة الرأس ورفع الكتفين. النواة الدهليزية الوحشية تتحكم بكل العضلات الباسطة المحورية الأخرى.

القسم الأكبر من ألياف الطريق الشوكي الدهليزي spinovestibular tract (الذي ينقل إشارات الحس الذاتي إلى الأنوية الدهليزية) هو صادر من الحبل الشوكي الرقبي.

ما سبق يعني أن قسما كبيرا من طاقة المنظومة الدهليزية هو مسخّر للحفاظ على توازن الرأس.

في الحقيقة المصادر تميز بين منعكسين مختلفين:

  • المنعكس الدهليزي الرقبي vestibulocollic reflex (مسؤول عن الحفاظ على توازن الرأس)
  • المنعكس الدهليزي الشوكي vestibulospinal reflex (مسؤول عن الحفاظ على توازن الجسم أسفل الرأس)

كلا المنعكسين لهما نفس الآلية على ما أظن، ولكن المنعكس الأول مسؤول عن توازن الرأس والمنعكس الثاني مسؤول عن توازن بقية الجسم أسفل الرأس.

ما هو سبب الأهمية الكبيرة لتوازن الرأس؟

السبب يتعلق بعمل أعضاء “الحس الخاص” special senses، خاصة حس البصر. تثبيت الرأس هو أمر ضروري للمحافظة على جودة الاستقبال الحسي عبر أعضاء الحس الخاص. على سبيل المثال، تثبيت الرأس هو أمر ضروري للرؤية الجيدة عبر العينين. لو كان الرأس يترنح ويتمايل فإن الرؤية عبر العينين ستصبح أصعب وذات جودة أقل.

منعكسات شبكية-دهليزية بدائية

المنعكسات التي وصفناها في الأعلى والتي يؤدي تنشيطها إلى تقلص أو إرخاء عضلات الجسم المحورية الباسطة هي بلا شك منعكسات بدائية. لا أدري ما هو تاريخ هذه المنعكسات (هل هي من زمن الفقاريات أم الحبليات أم ثنائيات الجانب؟) ولكن من الواضح أنها ذات أصل قديم للغاية. رغم ذلك فإن بعض هذه المنعكسات هو مفيد وضروري لحياة البشر.

في المقابل هناك منعكسات من هذا النوع لا يستفيد منها البشر بشيء، بل هي تتعارض مع حياة البشر، ولهذا السبب يتم تثبيطها بشكل نهائي خلال مرحلة الطفولة.

من هذه المنعكسات مثلا المنعكس المسمى “المنعكس التيهي التوتري” tonic labyrinthine reflex. هذا المنعكس يختفي من عند أطفال البشر قبل أن يبلغوا الرابعة من العمر. هذا المنعكس يتنشط بتحريك الرأس: إذا حُرّك الرأس نحو الخلف فإن الجسم يتقوس نحو الخلف، وإذا حُرّك الرأس نحو الأمام فإن الجسم يتقوس نحو الأمام.

tonic labyrinthine reflex

هذا المنعكس قد يفيد سمكة اللامبري ونحوها، ولكنه لا يتناسب مع حياة البشر. لهذا السبب القشرة المخية تقوم بتثبيطه نهائيا قبل السنة الرابعة من العمر.

هناك منعكس شبيه يسمى “منعكس الرقبة التوتري غير التناظري” asymmetrical tonic neck reflex. في هذا المنعكس إذا أدرنا الرأس نحو اليمين فإن الطرف الأيمن من الجسم ينبسط (يتمدد)، والطرف الأيسر ينقبض (ينكمش)، ولو أدرنا الرأس نحو اليسار يحصل العكس.

فكرة هذا المنعكس تشبه فكرة المنعكس السابق، ولكن الفرق هو في الاتجاه. لو فرضنا أن البشر يسبحون في الماء كحيوان اللامبري فإن وظيفة المنعكس السابق هي تحريك الجسم نحو الأمام أو الخلف، ووظيفة هذا المنعكس هي تحريك الجسم نحو اليمين أو اليسار. هذه المنعكسات هي مفيدة لحيوان شبيه بحيوان اللامبري، ولكنها ليست مفيدة للبشر. هذا المنعكس يتثبط لدى أطفال البشر قبل نهاية السنة الأولى من العمر.

بعض الباحثين يعتقدون أن المنعكسين سابقي الذكر يحصلان بتآزر الأنوية الدهليزية وأنوية القسم الإنسي من التشكل الشبكي. مثلا في منعكس الرقبة التوتري غير التناظري ما يحصل هو أن الأنوية الدهليزية تثير العضلات الباسطة على أحد جانبي الجسم، والأنوية الشبكية تقوم بتثبيط العضلات الباسطة على الجانب الآخر.

هناك منعكس شهير في طب الأطفال يسمى “منعكس مورو” Moro reflex. هذا المنعكس يختفي قبل بلوغ الطفل البشري (الطبيعي) الشهر السادس من عمره. هذا المنعكس يتنشط مثلا عندما نرفع رأس الطفل ثم نفلته ونتركه يسقط. ما يحدث هو أن الطفل سوف يبسط القسم العلوي من جسمه (الرأس والصدر والذراعين) وبعد ذلك سوف يضمه مجددا.

moro_reflex

 

 

المهم في هذا المنعكس هو حركة بسط القسم العلوي من الجسم. هذه الحركة تحدث بسبب تحفيز العضلات الباسطة. عندما نسقط رأس الطفل فإن هذا ينشط الجهاز الدهليزي والنتيجة تكون تنشيط العضلات الباسطة. حسب المعلومات الواردة في هذا المقال فإن منعكس مورو يظل موجودا حتى في غياب المناطق الدماغية التي تقع أعلى الجسر pons. هذا يعني أن آلية إنتاج هذا المنعكس هي آلية شبكية-دهليزية بحتة.

اللافت في معلومات المقال المذكور هو أن منعكس مورو يمكن أن يتنشط بمجرد وضع جسم ساخن أو بارد على صدر أو بطن الطفل. هذا يوحي لي بأن المنعكس يمكن أن يتنشط عبر الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract الذي ينقل حس الحرارة إلى التشكل الشبكي. هذا الكلام يتوافق مع الفكرة التي ذكرتها في الأعلى وهي أن تنشيط أحاسيس الحرارة أو الألم يمكن أن يؤدي إلى تنشيط منعكس نصب الجسم عبر التشكل الشبكي. هذا المنعكس ليس له معنى واضح لدى البشر، ولكنه في رأيي ذو معنى لو أننا تخيلناه لدى حيوان اللامبري. لو أنك آذيت حيوان اللامبري في صدره فإن مصلحته هي أن يسبح نحو الخلف لكي يبتعد عنك. هذه في رأيي قد تكون الوظيفة الأصلية لمنعكس مورو (طبعا الباحثون حسب علمي لا يعلمون ما هي وظيفة منعكس مورو وبالتالي هذا الكلام هو رأيي الشخصي).

رأيي الشخصي هو أن كل المنعكسات التي سردناها حتى الآن تعود إلى زمن الفقاريات البدائية التي كانت تسبح في الماء وتفتقد للأطراف الأربعة. بدون هذه الفرضية فإن هذه المنعكسات لا يمكن فهمها. هذه المنعكسات كانت في الأصل تساعد حيوانا يسبح في الماء على تجنب الاصطدام وعلى تجنب مصادر الأذى.

المنعكس البدائي الأخير الذي سأذكره هو “منعكس التصحيح” righting reflex. هذا المنعكس يهدف إلى تصحيح وضعية الجسم في الفراغ. هذا المنعكس يظهر بوضوح لدى القطط. عندما تسقط القطة من مكان عال فإنها تقوم دوما بتصحيح وضعية جسمها لكي تسقط على أقدامها.

هذا المنعكس يعتمد بشكل كبير على حس الاتزان الدهليزي، ويعتمد أيضا على حس البصر. لهذه الأسباب أنا أظن أنه أحدث من المنعكسات سالفة الذكر.

المنعكس الدهليزي العيني

المنعكسات الدهليزية التي ذكرت في الأعلى ترتكز كلها على مبدأ واحد هو تقليص أو إرخاء العضلات المحورية الباسطة (العضلات المضادة للجاذبية). هذه الوظيفة البدائية هي أصلا وظيفة التشكل الشبكي. تدخل الجهاز الدهليزي في هذا الموضوع هو تطور لاحق.

الجهاز الدهليزي تدخل أيضا في منعكسات بدائية أخرى. أهم هذه المنعكسات هو ما يسمى “المنعكس الدهليزي العيني” vestibulo-ocular reflex (أو “المنعكس العيني الرأسي” oculocephalic reflex).

هذا المنعكس يتعلق بحركة مقلتي العينين.

vestibulo-ocular-reflex

مبدأ هذا المنعكس هو شبيه نوعا ما بمبدأ المنعكس الدهليزي الرقبي الذي ذكر في الأعلى. هذا المنعكس يحرك العينين في اتجاه معاكس لاتجاه حركة الرأس بهدف الحفاظ على ثبات الصورة التي تراها العينان. لو تحركت العينان بشكل حر مع اهتزازات وترنحات الرأس فهذا كان سيؤدي لاهتزاز وتشوش الصورة التي تراها العينان.

تحريك مقلة العين يتم عبر العصبين القحفيين رقم 3 و 4 (في الدماغ الأوسط) والعصب القحفي رقم 6 (في الجسر). العصب القحفي رقم 6 (الذي يسمى “العصب المبعد” abducens nerve) هو مسؤول عن تحريك مقلة العين نحو الخارج (نحو الجهة الوحشية lateral). العصبان القحفيان رقم 3 و 4 هما مسؤولان عن تحريك مقلة العين نحو كل الاتجاهات الأخرى. العصب رقم 4 (الذي يسمى “العصب البكري” trochlear nerve) له دور هامشي، والعصب رقم 3 (الذي يسمى “العصب المحرك العيني” oculomotor nerve) هو فعليا الذي يحرك العين في كل الاتجاهات ما عدا الاتجاه الخارجي أو الوحشي.

SVN: superior vestibular nucleus; LVN: lateral vestibular nucleus; MVN: medial vestibular nucleus; IVN: inferior vestibular nucleus; MLF: medial longitudinal fasciculus; abducens nucleus = nucleus of CN VI; trochlear nucleus = nucleus of CN IV; oculomotor nucleus = nucleus of CN III

تحريك مقلتي العينين هو ليس مسألة سهلة لأنه يتطلب دقة وتنسيقا كبيرا بين الأنوية المحركة لكل من المقلتين. العينان يجب أن تنظرا إلى نفس النقطة لكي تكون الرؤية صحيحة.

أبسط حركات العينين هي الحركات الأساسية التالية:

  • التحديق العمودي vertical gaze (تحريك مقلتي العينين إلى الأعلى أو الأسفل)
  • التحديق الجانبي lateral gaze (تحريك مقلتي العينين إلى اليمين أو اليسار)
  • المقاربة convergence (تحريك مقلتي العينين إلى الداخل)

ocular movements eyeتنسيق كل حركة من هذه الحركات يتم عبر أنوية خاصة في التشكل الشبكي.

حركتا التحديق العمودي vertical gaze والمقاربة convergence لا تحتاجان تحريك العين نحو الخارج (نحو الجهة الوحشية lateral). لهذا السبب هاتان الحركتان لا تتطلبان تدخل العصب القحفي رقم 6 وتنسيقهما يتم في الدماغ الأوسط.

تنسيق حركة التحديق العمودي يتم عبر نواتين هما rostral interstitial nucleus of medial longitudinal fasciculus (اختصارا riMLF) و interstitial nucleus of Cajal (اختصارا INC). تنسيق حركة المقاربة يتم عبر نواة تسمى supraoculomotor nucleus. جميع هذه الأنوية تقع في الدماغ الأوسط بجوار نواة العصب القحفي رقم 3 من الجهة المنقارية (العلوية).

brain-stem-eye-movement

حركة التحديق الجانبي lateral gaze تتطلب تحريك إحدى العينين نحو الجهة الوحشية، لهذا السبب هذه الحركة تتطلب تدخل نواة العصب القحفي رقم 6 الموجودة في الجسر pons. النواة الشبكية المسؤولة عن تنسيق حركة التحديق الجانبي توجد في الجسر بجوار نواة العصب رقم 6 (تحديدا في المنطقة المسماة paramedian pontine reticular formation).

تحريك العينين في الظروف الطبيعية يتطلب مشاركة كل الحركات سالفة الذكر بشكل متزامن ومتناسق. هذا الأمر يتطلب وجود اتصال بين الأنوية التي ذكرت. هذا الاتصال هو متوفر عبر الطريق العصبي المسمى “الحزمة الطولية الإنسية” medial longitudinal fasciculus (اختصارا MLF).

الأنوية الدهليزية تستفيد من طريق الحزمة الطولية الإنسية لتنسيق المنعكس الدهليزي العيني vestibulo-ocular reflex الذي ذكرناه آنفا. عندما تشعر الأنوية الدهليزية بأن الرأس يتحرك في اتجاه معين فإنها ترسل إشارات عبر الحزمة الطولية الإنسية إلى الأنوية التي ذكرناها بهدف تحريك العينين في اتجاه معاكس لاتجاه حركة الرأس.

داء الحركة

أحد المنعكسات الدهليزية المهمة هو المنعكس الذي يسمى “داء الحركة” motion sicknes (أو “داء السفر” travel sickness). هذا المنعكس يتنشط مثلا عندما يكون الإنسان راكبا في سفينة. تحرك السفينة صعودا ونزولا يؤثر في الجهاز الدهليزي في الأذن الداخلية، ولكن العينين لا تتأثران لأنهما لا تريان أية حركة. التضارب في البيانات الحسية بين الجهاز الدهليزي والعينين يؤدي إلى تنشيط منعكس الإقياء. الباحثون يرون أن تنشيط منعكس الإقياء في هذه الحالة يهدف لحماية الجسم من الطعام السام أو الفاسد. عندما يشعر الإنسان في دهليز أذنه بحركة لا تراها عيناه فهذا ربما يكون دوارا ناتجا عن تناول طعام سام أو فاسد.

طبعا هذا المنعكس هو ليس دهليزيا فقط ولكنه دهليزي-بصري. هو ناتج من الربط بين البيانات الدهليزية والبصرية في جذع الدماغ.

ما سبق هو تلخيص لبعض المنعكسات والاتصالات “غير الواعية” بين الأنوية الدهليزية ومناطق مختلفة في الجهاز العصبي المركزي. من هذا العرض يتبين أن الأنوية الدهليزية تلعب دورا مهما في الدماغ البشري والجسم البشري.

طبعا معظم المنعكسات الدهليزية التي تحدثنا عنها هي في الحقيقة “تحت واعية” subconscious وليست “غير واعية” unconscious (وفق التصنيف الذي اقترحته في مقال سابق)، لأن العقل الواعي يمكنه أن يتدخل في هذه المنعكسات ويمكنه أن يثبطها، كما يحدث مثلا عندما يُسقط الإنسان نفسه على الأرض، أو عندما يحرك الإنسان عينيه بعيدا عن شيء كان يحدق فيه.

قشرة المخ المحركة ترسل أليافا نازلة نحو كل الأنوية المحركة الجسمانية في جذع الدماغ، سواء كانت هذه الأنوية قحفية أم شبكية أم دهليزية أم غير ذلك. الألياف القشرية النازلة نحو الأنوية القحفية المحركة تسمى “الطريق القشري البصلي” corticobulbar tract (“البصلة الدماغية” cerebral bulb هي تسمية قديمة للنخاع المستطيل). الألياف القشرية النازلة نحو الأنوية المحركة (كبيرة الخلايا magnocellular) في التشكل الشبكي تسمى “الطريق القشري الشبكي” corticoreticular tract. هناك أيضا ألياف نازلة من قشرة المخ نحو الأنوية الدهليزية. عن طريق هذه الألياف النازلة يمكن لقشرة المخ (العقل الواعي) أن تتحكم بالأنوية المحركة الجسمانية في جذع الدماغ.

هناك منعكسات دهليزية حشوية لم أتطرق لها في الأعلى. هذه المنعكسات تربط الأنوية الدهليزية مع أنوية تأثيرية حشوية في النخاع المستطيل. مثلا هناك منعكسات دهليزية تقوم بتعديل ضغط الدم والتنفس بناء على وضعية الجسم في الفراغ. هذه المنعكسات هي “غير واعية” وليست “تحت واعية”، لأن قشرة المخ لا يمكن أن تتحكم بها (حسب علمي).

الجهاز السمعي

الجهاز السمعي (حسب ما أعلم) هو مسؤول عن عدد قليل نسبيا من المنعكسات تحت الواعية مقارنة مع الجهاز الدهليزي. السبب ربما هو أن الجهاز السمعي هو أحدث من الجهاز الدهليزي (كما بينا سابقا).

الطريق العصبي المسؤول عن نقل حس السمع نحو قشرة المخ هو طريق طويل ومعقد. هذا الطريق يبدأ من النواتين القوقعتين البطنية والظهرية ventral and dorsal cochlear nuclei. الألياف الصاعدة من النواة القوقعية الظهرية تصل مباشرة إلى “التليلة السفلية” inferior colliculus في سقف الدماغ الأوسط. الألياف الصاعدة من النواة القوقعية البطنية تتشابك في الجسر مع “الجسم شبه المنحرف” trapezoid body، ثم مع “الأنوية الزيتونية العلوية” superior olivary nuclei، ثم تصعد عبر “الشريط الوحشي” lateral lemniscus نحو التليلة السفلية في سقف الدماغ الأوسط. التليلة السفلية ترسل طريقا صاعدا نحو “الجسم الركبي الإنسي” medial geniculate body في مؤخرة الثلم thalamus، وهذا بدوره يرسل طريقا نحو قشرة المخ السمعية الأولية primary auditory cortex.

من هذا الطريق يتبين أن إشارات حس السمع تتوقف في محطات عديدة قبل أن تصل إلى قشرة المخ. هذه المحطات تلعب دورا في معالجة حس السمع (بشكل غير واعي).

الأنوية الزيتونية العلوية superior olivary nuclei تقارن بين الأصوات الواردة إلى الأذنين اليمنى واليسرى، وبناء على هذه المقارنة تقوم بتحديد اتجاه مصدر الصوت على المحاور الأفقية (ما يسمى سمت الصوت azimuth). المقصود هو أن هذه الأنوية تحدد ما إذا كان الصوت قادما من الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار.

النواة الزيتونية العليا الإنسية medial superior olive تقيس الفارق الزمني بين وصول الصوت إلى الأذنين اليمنى اليسرى، وهذا يفيد في تحديد مصدر الصوت (مثلا إذا وصل الصوت إلى الأذن اليمنى قبل وصوله إلى الأذن اليسرى فهذا يعني أن مصدر الصوت يقع على جهة اليمين). النواة الزيتونية العليا الوحشية lateral superior olive تقيس الفارق في شدة الصوت الواصل إلى الأذنين اليمنى اليسرى، وهذا أيضا يفيد في تحديد مصدر الصوت (مثلا إذا كانت شدة الصوت أعلى في الأذن اليمنى فهذا يعني أن مصدر الصوت يقع على جهة اليمين).

بناء على النتائج التي تتوصل لها الأنوية الزيتونية العلوية يمكن تحديد اتجاه الصوت على المحاور الأفقية.

النواة القوقعية الظهرية dorsal cochlear nucleus تحدد اتجاه الصوت على المحور العمودي (أعلى أو أسفل).

كل هذه المعطيات تتجمع في “التليلتين السفليتين” inferior colliculi، وبناء على ذلك يمكن تحديد مصدر الصوت في الفراغ ثلاثي الأبعاد المحيط بالجسم.

التليلتان السفليتان تحويان “خريطة ثلاثية الأبعاد” تحدد مصادر الأصوات الواردة إلى الأذنين. هذه الخريطة تشبه الخريطة البصرية الموجودة في التليلتين العلويتين. جمع معلومات الخريطة الصوتية (التليلتين السفليتين) مع الخريطة البصرية (التليلتين العلويتين) يزيد معرفة الإنسان أو الحيوان بمواقع الأجسام المحيطة به.

الدماغ الأوسط يستخدم معلومات الخريطة المجمّعة الصوتية-البصرية (الواردة من التليلات colliculi الموجودة في السقفtectum ) لتنفيذ عدد كبير من المنعكسات الحركية. المعلومات الصوتية-البصرية ترسل أيضا من التليلات إلى المخيخ (عبر الأنوية الجسرية pontine nuclei والسُّوَيقة المخيخية الوسطى middle cerebellar peduncl) الذي يجمعها مع البيانات الحسية الواردة من الأنوية الدهليزية (عبر السُّوَيقة المخيخية السفلية inferior cerebellar peduncle) ومن الحبل الشوكي (عبر السُّوَيقتين المخيخيتين السفلية والعلوية) لتوليد خريطة حسية متكاملة تعتمد على بيانات المستقبلات الحسية الميكانيكية والبصرية. هذه الخريطة الحسية المتكاملة الموجودة في المخيخ لا تستخدم فقط في تحريك الجسم ولكنها تستخدم أيضا في بعض الوظائف المعرفية cognitive.

الدماغ البشري (6)

في المقالين الأخيرين من هذه السلسلة بدأت الحديث عن جذع الدماغ brainstem وعن تركيبه ووظائفه.

في أحد هذين المقالين تحدثت عن توزع المادتين الرمادية والبيضاء في مقطع النخاع المستطيل الذيلي (السفلي) caudal (inferior) medulla oblongata. قبل أن أكمل الحديث عن وظائف جذع الدماغ سأتحدث قليلا عن توزع المادتين الرمادية والبيضاء في بقية مقاطع جذع الدماغ.

النخاع المستطيل المنقاري

المقصود بالنخاع المستطيل الذيلي caudal medulla oblongata هو القسم السفلي من النخاع المستطيل الذي يقع أعلى الحبل الشوكي spinal cord. المقصود بالنخاع المستطيل المنقاري rostral medulla oblongata هو القسم العلوي من النخاع المستطيل الذي يقع أسفل الجسر pons.

الفرق الأساسي بين النخاعين الذيلي والمنقاري هو وجود المخيخ cerebellum على ظهر النخاع المنقاري. المخيخ موجود أيضا على ظهر الجسر.

بين المخيخ وجذع الدماغ يوجد تجويف مملوء بالسائل الدماغي الشوكي cerebrospinal fluid. هذا التجويف يسمى “البطين الرابع” fourth ventricle. هذا التجويف هو عبارة عن توسع في القناة المركزية central canal الموجودة في وسط الحبل الشوكي والنخاع الذيلي.

منظر ظهري لجذع الدماغ بعد قطع المخيخ. لاحظ قعر البطين الرابع fourth ventricle الذي يظهر بلون أسود على ظهر الجسر والنخاع المستطيل المنقاري

الصورة التالية هي لمقطع في النخاع المستطيل الذيلي:

caudal medulla section

هذا المقطع تحدثنا عنه سابقا. لاحظ في هذا المقطع وجود القناة المركزية central canal كما في مقطع الحبل الشوكي.

الصورة التالية هي لمقطع في النخاع المستطيل المنقاري:

rostral medulla section 1

لاحظ في هذا المقطع أن القناة المركزية انفتحت من الجهة الظهرية وكونت تجويفا كبيرا. هذا التجويف هو قعر البطين الرابع fourth ventricle. الأنوية الرمادية التي كانت تحيط بالقناة المركزية في المقطع السابق صارت تقع أسفل قعر البطين الرابع، وهذا أدى إلى تغيير التوزع الوظيفي: الأنوية المحركة الجسمانية somatic motor (مثلا نواة العصب القحفي تحت اللساني hypoglossal nucleus) صارت تقع في الجهة الداخلية أو الإنسية medial للأنوية الرمادية (بعدما كانت تقع في الجهة البطنية ventral)، والأنوية التأثيرية الحشوية visceral effector (مثلا النواة الظهرية للعصب القحفي dorsal nucleus of vagus nerve) صارت تقع على الجهة الخارجية أو الوحشية lateral للأنوية المحركة الجسمانية (بعدما كانت تقع على جهتها الظهرية dorsal). الأنوية الحسية الحشوية visceral sensory (مثلا نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract) والأنوية الحسية الجسمانية somatic sensory صارت تقع في الجهة الخارجية أو الوحشية lateral للأنوية الرمادية (بعدما كانت تقع في الجهة الظهرية dorsal).

الشكل التالي يوضح التغير في مواقع الأنوية الرمادية:

gray matter spinal cord brainstem

النواتان الحسيتان الجسمانيتان المسماتان “النواة النحيلة” nucleus gracilis و”النواة وتدية الشكل” nucleus cuneatus لم تعودا موجودتين في مقطع النخاع المستطيل المنقاري. بدلا منهما ظهرت أنوية تحمل مسمى الأنوية الدهليزية vestibular nuclei (في المقطع هناك نواتان دهليزيتان ظاهرتان، ولكنهما ليستا ملونتين باللون الرمادي ولا أدري لماذا).

لو صعدنا أكثر نحو منطقة اتصال النخاع المستطيل مع الجسر فستظهر أيضا النواتان القوقعيتان cochlear nuclei على الجانب الوحشي (الخارجي) للأنوية الدهليزية. المقطع التالي يبين هذه الأنوية.

rostral medulla section 2

في هذا المقطع تظهر نواتان دهليزيتان. العدد الكلي للأنوية الدهليزية هو أربع (إنسية ووحشية وسفلية وعلوية). العدد الكلي للأنوية القوقعية هو اثنتان (ظهرية وبطنية). الأنوية الدهليزية تستقبل ألياف حس الاتزان balance القادمة من الأذن الداخلية inner ear عبر العصب الدهليزي vestibular nerve، والنواتان القوقعيتان تستقبلان ألياف حس السمع القادمة من الأذن الداخلية عبر العصب القوقعي cochlear nerve. مجموع العصبين الدهليزي والقوقعي يسمى العصب الدهليزي القوقعي vestibulocochlear nerve (العصب القحفي الثامن).

الأذن الداخلية تتكون من القوقعة cochlea والكُيَيْس saccule والقُرَيْبة utricle والأقنية نصف الدائرية semicircular canals. الكُيَيْس والقُرَيبة يوجدان داخل تجويف عظمي يسمى الدهليز vestibule. القوقعة تستشعر حس السمع وتنقله عبر العصب القوقعي cochlear nerve إلى النواتين القوقعيتين cochlear nuclei. الكُيَيْس والقُرَيبة يستشعران التسارع الخطي linear acceleration، والأقنية نصف الدائرية تستشعر التسارع الزاوي angular acceleration. إشارات الكُيَيْس والقُرَيبة والأقنية نصف الدائرية تنتقل عبر العصب الدهليزي vestibular nerve إلى الأنوية الدهليزية vestibular nuclei

وظيفة القوقعة هي استشعار اهتزازت الهواء التي تصل إلى طبلة الأذن على شكل موجة هوائية ثم تنتقل عبر عظام الأذن الوسطى إلى الأذن الداخلية. القوقعة تميز بين اهتزازات الهواء المختلفة حسب ترددها frequency، وهذا هو ما يعطي البشر القدرة على التمييز بين الأصوات “الحادة” (عالية التردد) والأصوات “الغليظة” (منخفضة التردد).

وظيفة الدهليز هي استشعار التسارع الخطي linear acceleration، أي أنه يستشعر حركة الرأس بشكل مستقيم في أي اتجاه. وظيفة الأقنية نصف الدائرية هي استشعار التسارع الزاوي angular acceleration، أي أنها تستشعر حركة الرأس بشكل دائري في أي اتجاه. إذن وظيفة الدهليز والأقنية نصف الدائرية هي استشعار حركة الرأس.

الأسهم تعبر عن اتجاه الحركات التي تستشعرها الأقنية نصف الدائرية

حس السمع وحس الاتزان هما من “الأحاسيس الخاصة” special senses. عبارة “الأحاسيس الخاصة” يستخدمها الباحثون لوصف الأحاسيس التي توجد ضمن أعضاء معينة وليس في جميع أنحاء الجسم. الأحاسيس الخاصة عند الفقاريات توجد في الرأس دون بقية الجسم (الشم والبصر والسمع والاتزان والذوق). الأحاسيس التي توجد في جميع أنحاء الجسم تسمى “الأحاسيس العامة” general senses (مثلا حس الألم والحرارة والاهتزاز والحس الذاتي proprioception إلخ).

الألياف العصبية التي تنقل أحاسيس البصر والسمع والاتزان تعتبر أليافا جسمانية somatic، والألياف التي تنقل حسي الشم والذوق تعتبر أليافا حشوية visceral.

على ما أظن فإن الأحاسيس الخاصة كانت في الأصل أحاسيس عامة، ولكن في زمن ظهور الحبليات chordates (أو قبله) تركزت بعض الأحاسيس العامة في الرأس. هذه القضية هي فرع من قضية “الرأسنة” cephalization التي أدت لنشوء الدماغ.

الأحاسيس الخاصة عند الحشرات يمكن أن توجد في أي مكان من الجسم وليس فقط في الرأس. مثلا مستقبلات حس الذوق لدى بعض الحشرات (الفراش والذباب) هي موجودة على الأقدام. أيضا مستقبلات حس السمع (التي تسمى “الأعضاء الطبلية” tympanal organs) هي موجودة على الصدر أو البطن لدى الكثير من الحشرات. بالنسبة لحسي الشم والبصر عند الحشرات فهما موجودان في الرأس، ولكن ترتيبهما مختلف عن الترتيب المشاهد لدى الفقاريات (كما بينت في مقال سابق)، وحتى طبيعتهما هي طبيعة مختلفة (العين لدى الفقاريات هي مشتقة من الدماغ البيني diencephalon، ولكن العين المركبة لدى الحشرات هي ليست مشتقة من الدماغ أو حتى من النسيج العصبي). أنا لا أرى تشابها في توزع الأحاسيس الخاصة لدى الحشرات ونظيرتها لدى الفقاريات. ما يبدو لي هو أن عملية “التخصص الحسي” حصلت بشكل مستقل لدى كل من الفقاريات ومفصليات الأرجل. الأحاسيس الخاصة لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل لا تبدو موروثة من أصل مشترك.

حس السمع لدى البشر يستخدم أساسا في التواصل communication مع الكائنات الأخرى، ولكن الوظيفة الأصلية لهذا الحس لم تكن التواصل بقدر ما أنها كانت المساعدة على الإحساس بمواقع الأجسام المتحركة المحيطة بالجسم. هذه الوظيفة الأصلية لحس السمع تظهر بوضوح لدى الوطواط الذي يعتمد على حس السمع بشكل كبير لتحديد مواقع الأجسام المحيطة به.

الأسماك تعتمد بشكل كبير على حس السمع لتحديد مواقع الأجسام المتحركة المحيطة بها، ولكن اللافت لدى الأسماك هو أن حس السمع لديها ليس مقصورا على الأذن ولكنه موجود أيضا ضمن عضو يسمى “الخط الجانبي” lateral line.

الخط الجانبي lateral line لدى سمكة القرش

وظيفة الخط الجانبي لدى الأسماك هي تقريبا نفس وظيفة الأذن، أي تحديد مواقع الأجسام المتحركة المحيطة بالسمكة. الباحثون يعتقدون أن الخط الجانبي والأذن لهما أصل واحد.

حس البصر يساعد أيضا على تحديد مواقع الأجسام المحيطة، ولكن حس البصر له نواقص كثيرة. أولا هذا الحس لا يغطي جميع الاتجاهات، بخلاف حس السمع الذي يغطي كل الاتجاهات المحيطة بالكائن (مثلا لو أتى شخص من خلفي فإنني لن أراه ولكنني سأسمع صوته). حس البصر يعتمد على الضوء، وبالتالي هو غير مفيد في الظلام. حس السمع لا يتأثر بغياب الضوء وهو يعمل في الظلام.

إذن حس السمع له مزايا غير موجودة في حس البصر.

حسب ما أعلم فإن حس البصر هو أقدم من حس السمع. حس البصر موجود بشكل بدائي لدى بعض الكائنات وحيدة الخلية protists (مثلا لدى الكائنات المسماة euglena)، وهو موجود لدى بعض اللاسعات cnidarians (مثلا لدى قنديل البحر jellyfish). بالنسبة لحس السمع فلا أدري متى كانت بداية ظهوره، ولكنه على ما يبدو خاص بثنائيات الجانب bilaterians (مثلا مفصليات الأرجل والفقاريات). أكثر ثنائيات الجانب بدائية هي الديدان، والديدان حسب علمي لا تملك حس السمع (ولكن ديدان الأرض earthworms يمكنها الشعور بالاهتزاز).

حس الاتزان هو أقدم من ثنائيات الجانب بدليل وجوده لدى قنديل البحر jellyfish. حس الاتزان لدى الحيوانات غير الفقارية يعتمد على مستقبلات حسية تسمى “أكياس الاتزان” statocysts. لدى الفقاريات هناك نوع آخر من مستقبلات الاتزان هو “الأحجار الأذنية” otoliths. العلاقة بين “أكياس الاتزان” statocysts و”الأحجار الأذنية” otoliths هي غير واضحة ولكن غالبية الباحثين لا يعتقدون بوجود أصل مشترك بينها. هذه المستقبلات هي متشابهة في الوظيفة وآلية العمل، ولكنها نشأت بشكل مستقل لدى كل من الفقاريات والحيوانات غير الفقارية.

الأحجار الأذنية otoliths تعتمد على نوع من الخلايا يسمى الخلايا الشعرية hair cells. مستقبلات السمع في القوقعة تعتمد أيضا على الخلايا الشعرية، والخط الجانبي لدى الأسماك يعتمد على الخلايا الشعرية. إذن هذه الخلايا هي أساس حس التوازن والسمع لدى الفقاريات. أصل هذه الخلايا هو غير واضح، ولكن إحدى النظريات الحديثة ترى أن هذه الخلايا كانت في السابق تغطي الجسم ولاحقا تخصصت في الأذن الداخلية والخط الجانبي:

http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ar.22573/pdf

The difference is that this theory does not presume the prior evolution of lateral line organs, and in fact suggests that the hair cell and its precursor the ciliated mechanosensory cell were present well before the lateral line and inner ear as organ systems evolved. This hypothesis also does not presuppose that hair cells evolved within a statocyst organ, but rather as diffuse cells in the skin, which later became aggregated to evolve into the ear.

Jeremy S. Duncan and Bernd Fritzsch, Evolution of Sound and Balance Perception: Innovations That Aggregate Single Hair Cells Into the Ear and Transform a Gravistatic Sensor Into the Organ of Corti

ما سبق يعني أن حس السمع هو مشتق من حس الاتزان. هذا الكلام ليس غريبا لأن وظيفة حس السمع تشبه وظيفة حس الاتزان. الوظيفة الأصلية لحس الاتزان هي منح الكائن القدرة على الإحساس بحركة جسمه. الوظيفة الأصلية لحس السمع هي منح الكائن القدرة على الإحساس بحركة الأجسام المحيطة به. إذن الفرق بين حسي الاتزان والسمع هو ليس في وظيفة الحس ولكن في اتجاهه: حس الاتزان موجه نحو الذات، وحس السمع موجه نحو الخارج.

هذا الفرق يشبه الفرق بين المستقبلات الكيماوية chemoreceptors التي تستشعر تغيرات تراكيز المواد الكيماوية داخل الجسم وبين مستقبلات حسي الشم والذوق التي تستشعر تغيرات تراكيز المواد الكيماوية خارج الجسم.

حسا الشم والذوق يشبهان بعضهما. كلاهما يعتمدان على مستقبلات كيماوية موجهة نحو المحيط الخارجي، ولكن الفرق بينهما هو أن مستقبلات الشم تتحسس المواد الكيماوية الغازية، ومستقبلات الذوق تتحسس المواد الكيماوية السائلة. عند الحيوانات التي تعيش في الماء لا يوجد فرق عملي بين هذين الحسين.

هناك أيضا شبه بين حس الاتزان/السمع وبين حس الاهتزاز وبقية الأحاسيس الميكانيكية الموجودة في الجلد (الضغط والشد إلخ). آلية عمل الخلايا الشعرية hair cells تشبه آلية عمل المستقبلات الميكانيكية mechanoreceptors الموجودة في الجلد.

على ما أظن فإن جميع الأحاسيس الحيوانية يمكن إرجاعها إلى الأحاسيس التالية:

  • الحس الكيماوي chemoreception
  • الحس الضوئي photoreception
  • الحس الميكانيكي mechanoreception
  • الحس الحراري thermoreception
  • حس الألم nociception

مستقبلات هذه الأحاسيس كانت في الأصل مستقبلات عامة تغطي الجسم، ولكن لاحقا حصلت عملية تخصص أدت إلى حصر الحس الضوئي والحس الكيماوي في مناطق محددة من الجسم. الحس الميكانيكي تخصص بشكل جزئي: بعض أنواع الحس الميكانيكي (المعتمدة على الخلايا الشعرية) تخصصت وانحصرت في منطقة الرأس (تحديدا في الأذن).

لو عدنا إلى مقطع النخاع المستطيل المنقاري فسنرى أن الأنوية الدهليزية والقوقعية تقع في نفس منطقة النواتين النحيلة ووتدية الشكل. هذا ليس مفاجئا لأن حسي الاتزان والسمع هما كما قلنا مشتقان من الحس الميكانيكي العام. النواتان النحيلة ووتدية الشكل تستقبلان حس الاهتزاز وحس الضغط والحس الذاتي proprioception (الحس الذاتي يعني حس الشد في العضلات وأوتارها) من العمودين الظهريين dorsal columns. هذه الأحاسيس الميكانيكية “العامة” هي أقرب الأحاسيس إلى حسي الاتزان والسمع (الحسان الميكانيكيان “الخاصان”).

الدماغ البشري (5)

في المقال الأخير بينا دور المنطقة التي تسمى “المركز القلبي الوعائي” cardiovascular center أو “المركز التحريكي الوعائي” vasomotor center في الحفاظ على ضغط الدم، ولكن في الحقيقة هذه المنطقة تؤدي وظائف أخرى لا علاقة لها بالحفاظ على ضغط الدم.

هذه المنطقة تتأثر بالإشارات الواردة من المستقبلات الكيماوية chemoreceptors إلى النواة المفردة وتقوم بزيادة أو تخفيض ضغط الدم بناء على هذه الإشارات.

المعنى هو أن هذه المنطقة ترفع ضغط الدم في حال انخفض الأكسجين في الدم، وتخفض ضغط الدم مجددا في حال ازداد الأكسجين في الدم.

ما هي العلاقة بين الأكسجين وضغط الدم؟

وصول الأكسجين إلى الأنسجة الخلوية يعتمد على عاملين:

  • كمية الأكسجين المحمولة في الدم
  • سرعة جريان الدم

لو فرضنا أن الدم فيه كمية كبيرة من الأكسجين ولكن جريانه بطيء فهذا سيسبب مشكلة للأنسجة الخلوية، لأن بطء وصول الأكسجين إلى الأنسجة لا يختلف عن وصول كمية قليلة.

هذه المشكلة تشبه المشكلة التي كان قدري جميل (أحد أعضاء الحكومة السورية السابقين) يتحدث عنها فيما يخص المحروقات. هو كان يزعم أن الحكومة السورية تملك كمية كبيرة من المحروقات في المخازن، ولكن الحكومة هي عاجزة عن إيصال المحروقات إلى الناس بسبب صعوبة النقل على الطرق.

ما هي فائدة المحروقات المخزنة في المستودعات؟ لا توجد لها أية فائدة. كلام قدري جميل ليست له أية فائدة بالنسبة للمواطنين السوريين لأن المواطن يريد أن تصل المحروقات إليه. هو لا يتأثر بكمية المحروقات المخزنة في مستودعات الحكومة.

نفس الأمر ينطبق على الأنسجة الخلوية. الأنسجة الخلوية لا تستفيد كما يجب من الأكسجين المحمول في الدم إذا كانت سرعة وصوله إلى الأنسجة بطيئة. إذا كان الدم غنيا بالأكسجين ولكن جريانه متوقف فهذا الأمر سيؤدي إلى اختناق الأنسجة ووفاتها (كما مات المواطنون السوريون من البرد بسبب عدم وصول المحروقات).

“المركز القلبي الوعائي” يعمد إلى زيادة ضغط الدم عند انخفاض الأكسجين المحمول في الدم لأن زيادة ضغط الدم تزيد جريان الدم وبالتالي تزيد سرعة وصول الأكسجين إلى الخلايا.

هذا المنعكس هو مفيد لحفظ حياة الإنسان، ولكننا لا نستطيع أن نصفه بأنه منعكس خاص بتنظيم عمل الجهاز القلبي الوعائي، وهو أيضا ليس منعكسا خاصا بتنظيم التنفس. هذا المنعكس يحافظ على وصول الأكسجين إلى الخلايا. هذه المسألة هي ليست خاصة بالجهاز القلبي الوعائي ولا بالجهاز التنفسي ولكنها ضرورية لسلامة الجسم بشكل عام.

المحافظة على وصول الأكسجين والغذاء إلى الخلايا ونقل الفضلات منها هي وظائف أساسية ضرورية لاستمرار حياة الحيوان والإنسان وسلامة جميع أعضائه وأجهزته. هذه الوظائف لا تنظم عمل عضو معين أو جهاز معين ولكنها تحافظ على السلامة العامة للجسم. بدون هذه الوظائف فإن الجسم ما كان ليوجد أصلا.

المنعكسات التي تهدف للحفاظ على وجود الكائن الحي واستمرار عمل أعضائه بشكل سليم والتي لها طابع كيميائي أو فيزيائي داخل الجسم (تتعلق بتراكيز المواد ودرجة الحرارة والضغط) يطلق عليها مسمى homeostasis. هذه الكلمة هي مشتقة من اليونانية (hómoios) ὅμοιος التي تعني “شبيه” أو “مماثل”، و (stásis) στάσις التي تعني “وقوف” أو “توقف”. ترجمة كلمة homeostasis هي ربما “البقاء على نفس الحال”. المقصود بذلك هو الحفاظ على حالة التوازن equilibrium الكيمائي والفيزيائي في الجسم.

المنعكسات التي تحافظ على الـ homeostasis هي أبسط وظائف الجسم الحيواني والبشري وأكثرها بدائية. الجهاز العصبي المركزي يشرف على عدد كبير من هذه المنعكسات.

“المركز القلبي الوعائي” في النخاع المستطيل هو من المراكز العصبية المسؤولة عن الـ homeostasis. صحيح أن هذا المركز يحافظ على ضغط الدم، ولكنه ينظم منعكسات أخرى لا علاقة لها بتوازن الجهاز القلبي الوعائي بحد ذاته.

المنعكسات التي ينظمها “المركز القلبي الوعائي” تدخل تحت مسمى “استجابة الكرب الحاد” acute stress reaction. الكرب stress يمكن أن يكون حادا acute (أي حديث العهد) أو مزمنا chronic (مستمرا منذ وقت طويل). الكرب الحاد يحدث مثلا بسبب إصابة trauma قوية، سواء كانت هذه الإصابة جسمية أم نفسية.

إذا أدت الإصابة إلى انخفاض كبير في ضغط الدم (وهو ما يحدث عادة في الإصابات الجسمية القوية) فإن الأطباء يسمون الحالة “صدمة” shock، ويسمون استجابة الجسم لها “تعويضا” compensation. أنا لا أظن أن هناك فرقا بين استجابة الجسم للكرب الحاد (التي تسمى acute stress reaction) وبين استجابة الجسم للصدمة (التي تسمى compensation). هذه المصطلحات لها نفس المعنى.

هناك مصطلح ثالث له نفس المعنى هو “استجابة القتال أو الهرب” fight-or-flight response. هذا المصطلح يستخدم لوصف حالة الجسم عند الشعور بالخوف أو الغضب. “استجابة القتال أو الهرب” لا تختلف عن “استجابة الكرب الحاد” acute stress reaction.

كل الاستجابات سالفة الذكر لها نفس الوصف وهو كما يلي:

  • زيادة سرعة التنفس
  • زيادة سرعة نبض القلب
  • توسع القصبات التنفسية
  • تضيق الأوعية الدموية المغذية للجهاز الهضمي
  • توسع الأوعية الدموية المغذية للعضلات الهيكلية
  • تضيق الأوعية الدموية المغذية للجلد، وهذا يؤدي لبرودة الجلد وشحوب لونه (ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يحدث العكس، أي أن تتوسع الأوعية الدموية الجلدية، وهذا يؤدي لدفء الجلد واكتسابه اللون الوردي)
  • تثبيط تقلصات المعدة والأمعاء، وبالتالي بطء مرور الغذاء في القناة الهضمية
  • ارتخاء المثانة
  • تقبض المصرّات العضلية sphincters (العضلات الحلقية التي تغلق مدخل الإحليل البولي والمستقيم)
  • تثبيط الانتصاب والاستثارة الجنسية
  • توسع حدقتي العينين
  • زيادة إفراز العرق من الغدد العرقية
  • نقص إفراز الدمع من الغدد الدمعية (وهذا يؤدي لجفاف العينين) ونقص إفراز الغدد الهضمية (وهذا يؤدي مثلا لجفاف الفم بسبب قلة إفراز اللعاب من الغدد اللعابية)
  • الارتجاف
  • زيادة التأهب الحسي vigilance/alertness
  • تنشيط عاطفة القلق أو الخوف أو الغضب (حسب الوضع)
  • إطلاق الطاقة المخزنة على شكل سكريات ودهون إلى الدم

هذه أهم عناصر الاستجابة التي تسمى “استجابة الكرب الحاد” أو “تعويض الصدمة” أو “استجابة القتال أو الهرب”.

الهدف من هذه الاستجابة هو الحفاظ على التوازن الأساسي للجسم homeostasis عند التعرض لإصابة حادة. عمليا هذا الكلام يعني المحافظة على وصول الأكسجين والغذاء إلى خلايا الجسم وتخليصها من الفضلات بالحد الأدنى المطلوب.

بعض أعضاء الجسم تستهلك في الأحوال الطبيعية كمية من الطاقة تفوق حاجتها الأساسية. هذا ينطبق مثلا على الجهاز الهضمي الذي يستهلك الطاقة لهضم الغذاء المأكول وامتصاصه وتخزينه ونحو ذلك. أيضا الجهاز التناسلي يستهلك الطاقة بهدف التناسل. هذه الوظائف هي ليست أساسية أو مصيرية بالنسبة لحياة الإنسان. لو توقف الجهاز الهضمي عن العمل فإن الإنسان لن يموت فورا ولكنه سيعيش ربما لأيام قبل أن يموت. لو توقف الجهاز التناسلي عن العمل فإن حياة الإنسان ربما لن تتأثر.

لهذا السبب فإن تثبيط عمل الجهازين الهضمي والتناسلي لبعض الوقت هو ليس مشكلة خطيرة.

عند إصابة الإنسان بالكرب الحاد (مثلا بسبب النزف أو بسبب الالتهاب العام في الجسم sepsis) يعمد الجسم إلى تثبيط عمل الجهازين الهضمي والتناسلي (عبر تقليل التروية الدموية الواردة إليهما وتثبيط حركاتهما وإفرازاتهما). الهدف من ذلك هو توفير ضغط الدم (وبالتالي توفير الأكسجين والطاقة والقدرة على التخلص من الفضلات) ومنع استنزافه في نشاطات غير ضرورية للحياة خلال فترة الكرب الحاد.

في المقابل يعمد الجسم إلى زيادة التروية الدموية للعضلات الهيكلية (المسؤولة عن تحريك الجسم)، لأن هذه العضلات ضرورية للهرب أو القتال.

الجسم يعمد أيضا إلى تنشيط الجهاز العصبي المركزي (وهو ما يؤدي لزيادة اليقظة arousal وخاصة التأهب الحسي vigilance/alertness وتنشيط بعض الحالات العاطفية القوية كالقلق أو الخوف أو الغضب)، لأن الجهاز العصبي المركزي هو ضروري للهرب أو القتال.

الجسم بشكل عام يقلل التروية الدموية الواردة إلى الأعضاء غير الأساسية (الجهاز الهضمي، الجهاز التناسلي، الجلد) لكي يحافظ على ضغط الدم الوارد إلى الأعضاء الأساسية كالدماغ والكليتين. انخفاض ضغط الدم الوارد إلى الدماغ أو الكليتين هو أمر خطير من شأنه إيذاء هذه الأعضاء وإيذاء الجسم عموما.

الجهاز العصبي المتعاطف والجهاز العصبي جانب المتعاطف

في الأعلى وصفنا “استجابة الكرب الحاد” التي تتنشط عند تعرض الإنسان لإصابة جسمية أو نفسية (أو عند شعور الإنسان بأنه على وشك التعرض لهكذا إصابة).

تنشيط استجابة الكرب الحاد يتم عبر ما يسمى بـ “المركز القلبي الوعائي” في النخاع المستطيل.

هذا المركز يستقبل إشارات واردة من مناطق عليا وسفلى في الجهاز العصبي المركزي.

في كثير من الأحيان تنشيط استجابة الكرب الحاد يحدث بسبب إشارات واردة من مناطق دماغية عليا (من الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon أو من ما تحت الثلم hypothalamus). مثلا إذا فكر الإنسان بشيء مخيف جدا فهذا سيؤدي إلى تنشيط استجابة الكرب الحاد في جسمه. في مثل هذه الحالة تنشيط الاستجابة بدأ من المخ.

تنشيط استجابة الكرب الحاد يمكن أن يحدث أيضا بسبب إشارات واردة من مستقبلات الضغط أو المستقبلات الكيماوية المتصلة مع نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract.

وصول الإشارات الإثارية excitatory إلى المنطقة المنقارية rostral من “المركز القلبي الوعائي” (المنطقة الضاغطة pressor area) يؤدي إلى تنشيط استجابة الكرب الحاد.

ما يحدث هو أن المنطقة المنقارية من “المركز القلبي الوعائي” ترسل إشارات إثارية عبر الطريق الشبكي الشوكي reticulospinal tract إلى خلايا القرنين الجانبيين من الحبل الشوكي (مصدر الأعصاب ذاتية الحكم nerves autonomic). إثارة هذه الخلايا تؤدي إلى إفراز الـ norepinephrine من نهايات الأعصاب ذاتية الحكم (الـ norepinephrine يسمى عادة noradrenaline خارج الولايات المتحدة).

الـ norepinephrine المفرز من نهايات الأعصاب ذاتية الحكم هو مسؤول عن الكثير من الأمور التي تحصل خلال استجابة الكرب الحاد. هذا الناقل يفرز في جدران الأعضاء الحشوية (الأعضاء الهضمية، الأوعية الدموية، الغدد، إلخ) ويتسبب إما بتقليص الخلايا العضلية الملساء (كما يحدث في جدران الأوعية الدموية المغذية للقناة الهضمية) أو يإرخائها (كما يحدث في جدران الأوعية الدموية المغذية للعضلات الهيكلية وفي جدران المعدة والأمعاء والمثانة). الـ norepinephrine يتسبب أيضا في تثبيط إفراز العديد من الغدد.

الأعصاب ذاتية الحكم الواصلة إلى الغدد العَرَقية لا تفرز norepinephrine ولكنها تفرز acetylcholine. هذا الناقل يحفز إفراز العرق.

الأعصاب ذاتية الحكم الواصلة إلى الغدتين الكظريتين (الغدتان المجاورتان للكليتين adrenal glands) تفرز أيضا acetylcholine، ولكن الـ acetylcholine هنا يحفز إفراز هرمون epinephrine (هو نفسه الأدرينالين adrenaline) من خلايا توجد في نخاع الغدتين الكظريتين تسمى chromaffin cells. الـ epinephrine له تقريبا نفس تأثيرات الـ norepinephrine، ولكن خلاياchromaffin  تطرحه في الدم بشكل مباشر على شكل هرمون، وهذا يترك تأثيرات واسعة في الجسم (تشبه عموما تأثيرات norepinephrine الموضعية).

حسب هذه الدراسة فإن إفراز الـ epinephrine في الدم من خلاياchromaffin  هو أسلوب بدائي مقارنة مع الإفراز الموضعي للـ norepinephrine في جدران الأعضاء الحشوية والغدد. طرح الـ epinephrine في الدم هو بمثابة إرسال رسالة عشوائية ستصيب كل أعضاء الجسم دون تمييز، أما إفراز الـ norepinephrine من نهايات الأعصاب فهو أسلوب أدق لأنه يوصل الرسالة إلى العضو المعني دون غيره. الأسلوب الأول هو المهيمن لدى الفقاريات البدائية (الأسماك والبرمائيات)، أما الأسلوب الثاني فهو مهم لدى الفقاريات الأكثر تطورا (الزواحف والطيور والثدييات).

خلاصة ما سبق هي أن استجابة الكرب الحاد تحدث بسبب:

  • إفراز norepinephrine في جدران الأعضاء الحشوية وفي الغدد
  • إفراز acetylcholine في الغدد العرقية
  • إفراز epinephrine في الدم

الأعصاب التي تفرز هذه المواد هي الأعصاب ذاتية الحكم autonomic التي تخرج من القرنين الجانبيين للحبل الشوكي الممتدين بين القطعة الصدرية الأولى من قطع الحبل الشوكي (رمزها T1) والقطعة القطنية الثانية (رمزها L2).

بعض الأعصاب ذاتية الحكم لا تشارك في استجابة الكرب الحاد ولكنها على العكس من ذلك تسعى لمعاكسة هذه الاستجابة. هذه الأعصاب تخرج من القطع العجزية رقم 2 و 3 و 4 (رموزها S2, S3, S4) ومن بعض أنوية الأعصاب القحفية في جذع الدماغ (تغذي الأعصاب القحفية رقم 3 و 7 و 9 و 10). نهايات هذه الأعصاب تفرز الـ acetylcholine.

الأعصاب ذاتية الحكم التي تنفذ استجابة الكرب الحاد تسمى “الجهاز العصبي المتعاطف” sympathetic nervous system، والأعصاب ذاتية الحكم التي تعاكس هذه الاستجابة تسمى “الجهاز العصبي جانب المتعاطف” parasympathetic nervous system.

أعصاب الجهاز المتعاطف sympathetic على اليسار، وأعصاب الجهاز جانب المتعاطف parasympathetic على اليمين

تسمية الجهاز “المتعاطف” sympathetic نبعت من كونه الجهاز الذي يتنشط في حالة الكرب stress أو الصدمة shock أو القتال أو الهرب fight-or-flight. الجهاز “جانب المتعاطف” parasympathetic هو الجهاز الذي يتنشط في حالة الراحة وعند هضم الطعام وعند إخراج الفضلات من الجسم وعند الإثارة الجنسية؛ لهذا السبب البعض يسمون وظائف الجهاز جانب المتعاطف “الراحة والهضم” rest-and-digest.

في الحقيقة هذه التسميات هي تبسيطية وليست صحيحة. الجهاز “المتعاطف” هو ليس خاصا بحالة الكرب أو الصدمة. هذا الجهاز هو متنشط دائما بهدف منع انخفاض ضغط الدم. ضغط الدم يمكن أن ينخفض بسهولة لأي سبب عارض (مثلا بسبب نقص شرب الماء، أو بسبب تناول مادة غذائية تسبب توسع الأوعية الدموية، إلخ). الجهاز المتعاطف هو مجرد جزء من منعكس تنظيم ضغط الدم الذي تحدثت عنه في البداية. لو فرضنا أن هناك شخصا مرتاحا في بيته لم يشرب الماء طوال اليوم فهذا سيؤدي لتنشيط الجهاز المتعاطف لديه بهدف منع انخفاض ضغط دمه. هل يمكننا أن نصف نشاط الجهاز المتعاطف في هذه الحالة بأنه استجابة للكرب الحاد؟ أو تعويض للصدمة؟ أو استجابة القتال أو الهرب؟

الجهاز المتعاطف هو مجرد جزء من منعكس كبير هدفه الأصلي هو المحافظة على التوازن الكيميائي والفيزيائي في الجسم homeostasis. الجهاز المتعاطف هو متنشط دائما لتصحيح الانحرافات الطفيفة في الـ homeostasis التي تحدث بشكل عارض أثناء الحياة اليومية. عندما يحدث اختلال كبير في الـ homeostasis بسبب الكرب الحاد أو الصدمة يزداد نشاط الجهاز المتعاطف إلى حد كبير وتصبح آثاره واضحة وطاغية.

الجهاز “جانب المتعاطف” parasympathetic هو الذراع الأخرى لمنعكس تنظيم الـ homeostasis. الوظيفة الأصلية لهذا الجهاز هي معاكسة آثار الجهاز المتعاطف. دور هذا الجهاز يشبه دور المنطقة السفلى (المنطقة المهبِّطة depressor area) فيما يسمى “المركز القلبي الوعائي”. وظيفة هذه المنطقة هي تثبيط المنطقة العليا (المنطقة الضاغطة pressor area)، وهي تقوم أيضا بتحفيز الجهاز جانب المتعاطف عن طريق النواة المبهمة nucleus ambiguous التي ترسل إلى القلب (عبر العصب المبهم vagus nerve) إشارات مثبطة تؤدي إلى إبطاء الإيقاع القلبي.

الجهازان المتعاطف وجانب المتعاطف هما ذراعان لمنعكس مركب وظيفته الأصلية هي الحفاظ على الـ homeostasis. عندما يتنشط الجهاز المتعاطف فإن ذلك يكون على حساب الجهاز جانب المتعاطف، والعكس صحيح.

“المركز القلبي الوعائي” ينظم عمل الجهازين المتعاطف وجانب المتعاطف (أي أنه ينظم عمل الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic nervous system)، إذن هذا المركز هو في الحقيقة ليس مجرد مركز “قلبي وعائي” أو “تحريكي وعائي” ولكن دوره أكبر من ذلك. أنا لا أدري بالضبط ما هي حدود “المركز القلبي الوعائي” الذي يرد ذكره في بعض الدراسات والكتب، ولكنني أظن أن هذه التسمية هي غير مناسبة.

بعض الدراسات على ما يبدو تستخدم مسمى “النخاع البطني الوحشي” ventrolateral medulla كبديل لمسمى “المركز القلبي الوعائي”.

أصل الجهاز العصبي المتعاطف

حسب هذه الدراسة (وغيرها) فإن الجهاز العصبي المتعاطف sympathetic بشكله المألوف لدى الثدييات هو اختراع حديث نسبيا.

الجهاز العصبي المتعاطف كما قلنا في الأعلى يصدر من القرنين الجانبيين للحبل الشوكي الممتدين بين القطعة الصدرية الأولى من قطع الحبل الشوكي (رمزها T1) والقطعة القطنية الثانية (رمزها L2).

اللون الأحمر يعبر عن الجهاز العصبي المتعاطف sympathetic واللون الازرق يعبر عن الجهاز العصبي جانب المتعاطف parasympathetic

القطع الرقبية في الحبل الشوكي لا علاقة لها بالجهاز العصبي ذاتي الحكم (سواء المتعاطف أم جانب المتعاطف). خلايا القرنين الجانبيين في القطع الرقبية الممتدة بين القطعة الأولى C1 والقطعة الخامسة C5 هي مصدر ما يسمى بالعصب القحفي الحادي عشر (“العصب الملحق” accessory nerve)، الذي هو عصب تحريكي واع مسؤول عن إدارة الرأس ورفع الكتفين.

محاور خلايا القرنين الجانبيين الممتدة بين T1 و L2 (التي تسمى “الخلايا قبل العقدية” preganglionic neurons) تخرج عبر الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية وترتبط مع خلايا رتبة ثانية second-order neurons (تسمى “خلايا بعد عقدية” postganglionic neurons) موجودة في عقد ganglia تقع على جانبي العمود الفقري تسمى “العقد جانب الفقارية” paravertebral ganglia.

العقد جانب الفقارية تتصل مع بعضها بألياف عصبية صاعدة ونازلة. مجموع العقد مع الألياف يسمى “السلسلة المتعاطفة” sympathetic chain.

بعض محاور الخلايا المتعاطفة في القرنين الجانبيين تتشابك مع خلايا رتبة ثانية موجودة في عقد تقع أمام العمود الفقري تسمى “العقد أمام الفقارية” prevertebral ganglia.

بالنسبة للجهاز العصبي جانب المتعاطف parasympathetic فهو يصدر من مكانين:

  • قطع الحبل الشوكي العجزية رقم 2 و 3 و 4 (رموزها S2, S3, S4) تصدر أعصابا جانب متعاطفة تسمى الأعصاب المعوية الحوضية pelvic splanchnic nerves. هذه الأعصاب تغطي الجهازين البولي والتناسلي بالإضافة إلى المستقيم والثلث الأخير من الأمعاء الغليظة.
  • بقية أحشاء الجسم تحصل على التعصيب جانب المتعاطف من أعصاب قحفية صادرة من جذع الدماغ. النواة المسماة Edinger-Westphal nucleus (في الدماغ الأوسط) توفر التعصيب جانب المتعاطف لقزحية العين iris عبر العصب القحفي الثالث (نشاط هذه النواة يؤدي إلى تضيق حدقة العين pupil). النواتان المسماتان “النواة اللعابية العلوية” superior salivatory nucleus و”النواة اللعابية السفلية” inferior salivatory nucleus توفران التعصيب جانب المتعاطف للغدد الدمعية واللعابية عبر العصبين القحفيين السابع والتاسع (نشاطهما يؤدي إلى إفراز الدمع واللعاب). النواة المسماة “النواة الظهرية للعصب المبهم” dorsal nucleus of vagus nerve توفر التعصيب جانب المتعاطف عبر العصب القحفي العاشر (المبهم vagus) للجهاز التنفسي (نشاطها يؤدي إلى تضيق القصبات التنفسية) وللجهاز الهضمي (نشاطها يؤدي إلى تحريك المعدة والأمعاء وزيادة مفرزاتهما) ما عدا الثلث الأخير من الأمعاء الغليظة الذي تعصبه الأعصاب المعوية الحوضية pelvic splanchnic nerves الصادرة من الحبل الشوكي العجزي. النواة المسماة “النواة المبهمة” nucleus ambiguus توفر التعصيب جانب المتعاطف للقلب عبر العصب القحفي العاشر (نشاطها يؤدي إلى إبطاء إيقاع القلب). هذه النواة تتحكم أيضا بعضلات الحنجرة والبلعوم، ولكن بما أن الإنسان يستطيع أن يتحكم إراديا بعضلات حنجرته وبلعومه فإن الأعصاب الذاهبة إلى هذه العضلات لا تصنف ضمن الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic ولكنها تصنف أحيانا تحت مسمى الأعصاب “الجسمانية الحشوية” somatovisceral.

ما سبق هو وصف مختصر للجهاز العصبي ذاتي الحكم لدى الإنسان.

حسب الدراسة التي أشرنا إليها في الأعلى فإن الأسماك بلا فكين jawless fish (التي هي أكثر أنواع الفقاريات بدائية) لا تملك عقدا متعاطفة sympathetic ganglia أو سلاسل متعاطفة sympathetic chains.

الأسماك الأكثر تطورا والبرمائيات تملك سلاسل متعاطفة، ولكن خلايا هذه السلاسل تفرز الـ acetylcholine بدلا من الـ norepinephrine.

عند الثدييات خلايا القرنين الأماميين (المحركة الجسمانية somatic motor) تفرز الـ acetylcholine (اختصاره ACh)، وهذا الناقل هو الذي يؤثر في العضلات الهيكلية ويؤدي لتحريكها، ولكن خلايا العقد المتعاطفة تفرز الـ norepinephrine (اختصاره NE).

إفراز الـ acetylcholine من العقد المتعاطفة لدى الأسماك والبرمائيات يعني أن هذه العقد هي ليست متعاطفة بالفعل ولكنها جانب متعاطفة parasympathetic. تنشيط هذه العقد يعطي نفس نتيجة تنشيط الجهاز جانب المتعاطف لدى الثدييات (تنشيط الجهاز الهضمي والتناسلي والإخراجي وتنشيط إفراز الغدد إلخ).

في المقابل العصب المبهم vagus nerve لدى الأسماك والبرمائيات يفرز كلا من الـ norepinephrine والـ acetylcholine. ألياف العصب المبهم التي تذهب إلى الجهازين الهضمي والتنفسي تفرز الـ norepinephrine، أي أن مفعولها متعاطف sympathetic، على النقيض من الحال لدى الفقاريات الأكثر تطورا. ألياف العصب المبهم التي تذهب إلى القلب كانت في الأساس تفرز الـ acetylcholine (كما هو الحال لدى الثدييات)، ولكن في زمن لاحق صارت هناك أيضا ألياف مفرزة للـ norepinephrine ضمن العصب المبهم.

خلاصة كل ما سبق هي أن الخلايا العصبية المتعاطفة sympathetic لم تكن في الأصل موجودة في الحبل الشوكي وعقده. كل الخلايا التأثيرية في الحبل الشوكي وعقده (سواء كانت جسمانية somatic أم حشوية visceral) كانت تفرز الـ acetylcholine. الخلايا العصبية المفرزة للـ norepinephrine كانت في الأصل موجودة في النخاع المستطيل. النخاع المستطيل كان يحوي خلايا مفرزة للـ acetylcholine خاصة بالقلب، وهذه الخلايا هي أقدم من الخلايا المفرزة للـ norepinephrine.

ما سبق يشير إلى أن “الجهاز العصبي المتعاطف” هو بدعة متأخرة عن “الجهاز العصبي جانب المتعاطف”. ما يسمى بـ
“التعصيب جانب المتعاطف” parasympathetic innervation هو التعصيب الأصلي الخاص بالأحشاء. هذا التعصيب كان لا يختلف من حيث طبيعته عن التعصيب الجسماني (كلاهما إثاري excitatory ويعتمد على الـ acetylcholine). ظهور التعصيب المتعاطف sympathetic innervation ترافق مع “الرأسنة” cephalization، أي ظهور الدماغ. التعصيب المتعاطف كان في الأصل مجرد منعكس موجود في النخاع المستطيل. وظيفة هذا المنعكس كانت تثبيط بعض الوظائف الجسمانية غير الأساسية (الهضم، التكاثر، إلخ) لمصلحة وظائف أخرى أساسية (الجهاز العصبي المركزي، الكليتان، العضلة القلبية). الهدف من هذه العملية هو المحافظة على التوازن الداخلي الأساسي للجسم homeostasis (أي إنقاذ الحياة وتفادي الموت السريع). في زمن لاحق تطورت فكرة المنعكس “المتعاطف” إلى المفهوم الذي يسمى “استجابة القتال أو الهرب” fight-or-flight response. المنعكس المتعاطف لم يعد خاصا بالتوازن الداخلي للجسم homeostasis ولكنه صار مسؤولا أيضا عن توفير مستلزمات القتال أو الهرب. لهذا السبب هذا الجهاز صار يقوم بتوجيه الدم نحو العضلات الهيكلية، وأيضا نشأ ترابط بين عواطف الخطر (الخوف والغضب) وبين تنشيط هذا الجهاز. من الناحية الفيزيولوجية هذا الجهاز امتد نحو الحبل الشوكي. السبب ربما هو إعطاؤه قدرة أكبر على التحكم بالجسم بشكل دقيق.

إذا كانت “استجابة القتال أو الهرب” اختراعا حديثا نسبيا فهل هناك آلية دفاعية أقدم كانت الحيوانات تستخدمها عند الشعور بالخطر؟

الجواب هو نعم. هناك آلية (أو ربما آليات) دفاعية تعتمد على “التعصيب جانب المتعاطف”. هناك آلية معروفة تسمى “الجمود التقلصي” tonic immobility. هذه الآلية هي شائعة جدا في عالم الحيوان. هذه الآلية هي عبارة عن منعكس يقوم بتقليص وتثبيت عضلات الجسم على نحو يجعل الحيوان يبدو وكأنه ميت. لهذا السبب هذه الاستجابة تسمى بأسماء من قبيل “الموت الظاهري” apparent death أو “تمثيل الموت” playing dead ونحو ذلك.

سمكة قرش في حالة جمود تقلصي tonic immobility
أرنب في حالة جمود تقلصي

هذه الآلية ما زالت موجودة لدى البشر، ولكنها لا تتنشط إلا في حالات الرعب الشديد. عندما يخاف الإنسان فإن ما يتنشط لديه في البداية هو الجهاز العصبي المتعاطف (استجابة القتال أو الهرب). التعصيب المتعاطف يؤدي إلى تثبيط المعدة والأمعاء وإلى تقليص المصرّات العضلية التي تغلق الإحليل البولي والمستقيم. إذا ازداد رعب الإنسان إلى درجة كبيرة فإن التعصيب المتعاطف يتثبط ويتنشط بدلا منه التعصيب جانب المتعاطف، وهو ما يؤدي إلى تنشيط حركة الأمعاء وارتخاء المصرات العضلية (لهذا السبب الإنسان يبول ويتبرز على نفسه كما يقال في اللغة المحكية). إذا ازداد رعب الإنسان أكثر فإنه ربما يموت بسبب فرط تنشيط العصب المبهم vagus nerve الذي يثبط إيقاع القلب. هذا النوع من الموت يسمى “موت المبهم” vagal death أو “الموت نفسي المنشأ” psychogenic death أو “موت الفودو” Voodoo death (لأنه يكثر لدى القبائل البدائية التي تعتقد بقدرة السحر على قتل الإنسان).

هناك ظاهرة معروفة في فيزيولوجيا الجسم البشري وهي أن تثبيط المنعكسات والآليات الأكثر تطورا (الأحدث) يؤدي إلى نشاط المنعكسات والآليات الأقل تطورا (الأقدم). عندما يفشل “الجهاز المتعاطف” في تخفيف رعب الإنسان فإن هذا يفسح المجال أمام تنشيط “الجهاز جانب المتعاطف”. تنشيط الجهاز جانب المتعاطف يؤدي إلى تثبيط القلب عبر العصب المبهم (وبالتالي تثبيط الدورة الدموية، وهو ما يؤدي إلى برودة الجلد وربما زرقته). الهدف الأصلي من هذه العملية هو “تمثيل الموت” playing dead (كما يحدث لدى الحيوانات)، ولكن هذه العملية يمكن أن تقتل الإنسان. في اللغة المحكية يقال أن فلان “مات من الرعبة”.

في المقالين الأخيرين تحدثت عن بعض المنعكسات المركبة الموجودة في النخاع المستطيل. في المقال القادم سأكمل الحديث في نفس الموضوع.

الدماغ البشري (4)

ملاحظة: هذا المقال فيه معلومات تفصيلية ربما لا تهم القارئ غير المهتم بالأمور الفيزيولوجية والطبية ونحو ذلك.

في المقال الأخير تحدثت عن الحبل الشوكي spinal cord. الآن سأبدأ الحديث عن جذع الدماغ brainstem.
إقرأ المزيد

الدماغ البشري (3)

ذكرنا في مقال سابق أن دماغ الفقاريات يتكون من ثلاثة حويصلات:

  • الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon
  • الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon
  • الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon

ذكرنا أيضا أن الدماغ الخلفي ينتج حويصلين:

  • الدماغ النخاعيmyelencephalon (يتحول إلى النخاع المستطيل (medulla oblongata
  • الدماغ التالي metencephalon (يتحول إلى الجسر pons والمخيخ cerebellum)

والدماغ الأمامي ينتج حويصلين:

  • الدماغ البينيdiencephalon (يتحول إلى الثَّلَم thalamus وما تحت الثلم hypothalamus وما فوق الثلم epithalamus وشبكيتي العينين retinae)
  • الدماغ النهائي telencephalon (يتحول إلى المخ cerebrum)

ذكرنا أيضا أن المخ cerebrum يتكون في المرحلة الجنينية من ثلاثة مكونات:

  • الرداء pallium (يتحول إلى القشرة المخية cerebral cortex والبصلتين الشميتين olfactory bulbs)
  • ما تحت الرداء subpallium (يتحول إلى العقد القاعدية basal ganglia)
  • الحاجز septum

في أدمغة الفقاريات البدائية (الأسماك) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا:

دماغ حيوان فقاري بدائي

أيضا في الثدييات بسيطة التركيب (مثلا القوارض) من الممكن رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح نسبيا، ولكن في الثدييات معقدة التركيب (مثلا الإنسان) هناك صعوبة في رؤية مكونات الدماغ البدائية بشكل واضح لسبب أساسي هو النمو الشديد وغير المتناسب لقشرة المخ cerebral cortex.

human mouse brain
مقارنة بين دماغ إنسان (في الأعلى) ودماغ فأر (في الأسفل). قشرة المخ تظهر باللون الأخضر

النمو الزائد للقشرة المخية لدى الثدييات المعقدة يؤدي إلى تجعدها وإلى نشوء أخاديد sulci (المفرد sulcus) على سطحها. المناطق الواقعة بين الأخاديد تسمى “تلافيف” gyri (المفرد gyrus). نشوء الأخاديد والتلافيف في القشرة المخية يعود إلى زيادة مساحتها الإجمالية.

vertebrate brains
قشرة المخ تظهر باللون الأزرق. لاحظ أن نسبة قشرة المخ تزداد تدريجيا مع تطور الحيوان الفقاري. الكائنات الظاهرة في الرسم هي من الأعلى إلى الأسفل: lamprey (سمكة بلا فكين)، سمك القرش (سمكة غضروفية)، codfish (سمكة عظمية)، ضفدع (برمائي)، تمساح (زاحف)، إوزة (طائر)، حصان (ثديي)
قشرة المخ لدى بعض الثدييات

النمو الكبير للمخ هو أكثر ما يميز أدمغة الثدييات المعقدة. هذا النمو الكبير للمخ يطمس معالم الدماغ، لأن المخ النامي يحيط ببقية أجزاء الدماغ ويغطي بعضها بالكامل (المخ البشري يغطي بشكل كامل كلا من الدماغين البيني والأوسط).

لكي نفهم تكوين الدماغ البشري يمكن في رأيي أن نقارن نمو المخ البشري بنمو السحابة النووية:

من الممكن أيضا أن نشبه شكل الدماغ البشري بشكل الفطر:

mushroomساق نبتة الفطر تعادل كل أجزاء الدماغ البشري من الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon وحتى الدماغ البيني diencephalon. قبة نبتة الفطر تعادل الدماغ النهائي telencephalon (المخ cerebrum).

المخ البشري يغطي بالكامل كلا من الدماغين البيني والأوسط. لهذا السبب الدماغ البيني هو عمليا موجود في قلب المخ البشري، رغم أنه في الأصل ليس جزءا من المخ.

لرؤية الدماغين البيني والأوسط لا بد من قطع المخ وإزالته:

صورة جانبية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ
صورة ظهرية للدماغ بعد قطع المخ والمخيخ. لاحظ الغدة الصنوبرية pineal gland في مؤخرة الثلَمين thalami، ولاحظ التليلات colliculi على سقف tectum الدماغ الأوسط

الدماغ الخلفي (دون المخيخ) والدماغ الأوسط يسميان معا باسم “جذع الدماغ” brainstem.

المخ هو منشطر إلى شطرين متناظرين يسمى كل منهما “نصف كرة” hemisphere. نصفا الكرة المخيان يتصلان مع بعضهما في الوسط بواسطة جسر من الألياف العصبية يسمى “الجسم الخشن” corpus callosum (الترجمة السورية: “الجسم الثَّفَني”، وبالرجوع إلى المعاجم وجدت أن الثَّفَنة من البعير هي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما).

صورة للمخ من الأعلى بعد قطع جزء منه لكي يظهر الجسم الخشن corpus callosum الواصل بين نصفي الكرة المخيين
cerebral hemisphere
صورة للشطر الأيسر من المخ (نصف الكرة المخي الأيسر) ونحن ننظر إليه من الجهة الإنسية medial (الداخلية). الجسم الخشن corpus callosum يقع فوق الدماغ البيني diencephalon. المنطقة المسماة septum pellucidum (“الحاجز الشفاف”) تفصل بين التجويفين الذين يوجدان في باطني نصفي الكرة المخيين

دماغ جنين الإنسان في بداية تكوينه يشبه أدمغة الفقاريات البدائية:

Human embryo 28 days
جنين إنسان عمره 28 يوما
نمو دماغ جنين الإنسان

نمو مخ الثدييات يشبه نمو السحابة النووية، ولكن في الحقيقة هذا التشبيه هو ليس دقيقا تماما، لأن نمو مخ الثدييات ليس متساويا في كل الاتجاهات وإنما يحصل بشكل أكبر بالاتجاه الخلفي:

brain development
لاحظ اتجاه الأسهم نحو الخلف. معظم النمو في قشرة المخ لدى الثدييات يحدث باتجاه الخلف، أي أن قشرة المخ تتمدد في الدرجة الأولى نحو الخلف

تطور الجهاز العصبي المركزي

تحدثنا في مقال سابق عن الكيفية التي تطور بها الجهاز العصبي المركزي. الجهاز العصبي المركزي في الأصل كان مجرد حبلين عصبيين nerve cords مقطعين إلى عقد قطعية segmental ganglia (وفقا لمبدأ التقطع المتتالي metamerism المميز لثنائيات الجانب bilaterians). لاحقا العقد القطعية الموجودة في الرأس تكتلت وتحولت إلى دماغ. هذه العملية تسمى cephalization، وسببها ربما هو تجمع بعض أعضاء الحس المعقدة نسبيا (الشم والبصر) في منطقة الرأس. التعامل مع أعضاء الحس المعقدة شجع العقد القطعية الرأسية على الاندماج مع بعضها وتكوين الأدمغة. كل دماغ من الأدمغة نشأ في الأصل بهدف التعامل مع أحد أنظمة الحس المعقدة. مثلا الدماغ النهائي telencephalon نشأ في الأصل بهدف التعامل مع حس الشم، والدماغ البيني diencephalon نشأ بهدف التعامل مع حس البصر.

أنا قارنت في مقال سابق بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات vertebrates ومفصليات الأرجلarthropods . هناك في رأيي الكثير من أوجه الشبه بين الجهازين. لاحقا أنا عثرت على هذه الدراسة التي يرى صاحبها أن الجهازين لهما أصل مشترك يعود إلى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians.

bilaterian central nervous system

صاحب هذه الدراسة يرى أن الجهاز العصبي المركزي في urbilaterians كان يتكون من ثلاثة أقسام:

  • الدماغ البدائي proto-brain
  • الحبل البدائي proto-cord
  • الحد الفاصل boundary بين الدماغ البدائي والحبل البدائي

الدماغ البدائي proto-brain أنتج لدى الفقاريات الدماغين الأمامي والأوسط، وأنتج لدى مفصليات الأرجل المخ الأولprotocerebrum والمخ الثاني deutocerebrum.

الحبل البدائي proto-cord كان يحوي في مقدمته منطقة منتفخة أو “مرأسنة” cephalized. هذه المنطقة يعادلها عند الفقاريات الدماغ الخلفي، وعند مفصليات الأرجل المخ الثالث tritocerebrum والعقدة تحت المريئية subesophageal ganglion.

هذا التصور هو مبني على الدراسات الجينية، ولكن السؤال الذي خطر لي هو لماذا لا نرى لدى الديدان نفس التكوين للجهاز العصبي المركزي؟ الجهاز العصبي المركزي لدى الديدان هو أكثر بدائية من هذا النموذج المشاهد لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل.

أيضا يجب أن ننتبه إلى وجود فروقات مهمة بين الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات ومفصليات الأرجل. عند الفقاريات القسم الأمامي من الدماغ (الدماغ النهائي telencephalon) هو مسؤول عن حاسة الشم، والقسم الذي خلفه (الدماغ البيني diencephalon) هو مسؤول عن حاسة البصر. عند مفصليات الأرجل هناك توزيع معاكس للأدوار (المخ الأول مسؤول عن البصر والمخ الثاني مسؤول عن الشم).

هناك فروقات أخرى مهمة أشار صاحب الدراسة إلى بعضها. أنا لم أقتنع بأن ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians كانت بالضرورة تملك دماغا بدائيا وحبلا بدائيا على طريقة الفقاريات ومفصليات الأرجل. الأكثر منطقية بالنسبة لي هو أن ثنائيات الجانب البدائية كانت تملك جهازا عصبيا يشبه الجهاز العصبي لدى الديدان. من الممكن أن الجهاز العصبي للفقاريات ومفصليات الأرجل يعود إلى أصل مشترك، ولكن هذا الأصل المشترك هو ليس ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians وإنما أصل آخر أحدث. من الممكن أيضا أن الجهاز العصبي تطور بشكل متشابه ولكن مستقل لدى كل من الفقاريات ومفصليات الأرجل. أنا بصراحة لا أملك العلم الكافي حتى أفتي في هذا الموضوع ولكنني أقول بعض الاحتمالات الممكنة.

الحبل الشوكي

الحبل الشوكي يوجد داخل العمود الفقري ويتصل في الأعلى مع جذع الدماغ brainstem

الحبل الشوكي هو العضو الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي لدى الفقاريات. هذا الحبل هو مجرد استمرار للحبل العصبي الظهري الموجود لدى الحبليات. الدماغ نشأ في الأصل من الحبل العصبي الذي هو نفسه الحبل الشوكي، وبالتالي لو أننا فهمنا آلية عمل الحبل الشوكي فهذا سيسهل علينا فهم آلية عمل الدماغ.

الحبل الشوكي هو كما قلنا سابقا مقطّع وظيفيا إلى قطع متتالية تسمى “قطع الحبل الشوكي” spinal cord segments. هذه القطع هي على ما أظن استمرار للعقد القطعية segmental ganglia المشاهدة في الحبلين العصبيين لدى الديدان والتي أظن أنها كانت موجودة لدى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians. هناك عصبان شوكيان spinal nerves يخرجان من كل قطعة من قطع الحبل الشوكي (واحد من جهة اليمين وآخر من جهة اليسار).

رسم يبين الأعصاب الشوكية spinal nerves في منطقة الصدر أو البطن. العصبان الشوكيان الأيمن والأيسر يخرجان من الحبل الشوكي ويلتفان على جدار الجسم مشكلين حلقة. إلى الأسفل منهما يوجد عصبان آخران يشكلان حلقة أخرى، وهكذا. هذا النمط الحلقي أو القطعي يعبر عن الحالية الأصلية (المشاهدة لدى الديدان). هذا النمط هو غير واضح في الذراعين والرجلين لأن هذه الأعضاء نشأت في وقت متأخر ولم تكن جزءا من الهيكل الأصلي لجسم ثنائيات الجانب bilaterians

تركيب الحبل الشوكي وآلية عمله هي عموما متطابقة في جميع القطع segments المكونة له. ما يلي هو مقطع في إحدى قطع الحبل الشوكي:

في هذا المقطع نرى العصبين الشوكيين (مقطوعين) على جهتي اليمين واليسار. كل عصب شوكي له جذران يخرجان من الحبل الشوكي: جذر أماميanterior root (له وظيفة تحريكية motor) وجذر خلفيposterior root (له وظيفة حسية sensory).

في الحبل الشوكي هناك مادتان: مادة رمادية gray matter (في الوسط) ومادة بيضاء white matter (حول المادة الرمادية). المادة الرمادية هي مكونة من أجسام الخلايا العصبية cell bodies، والمادة البيضاء هي مكونة من الألياف العصبية nerve fibers. الليف العصبي هو عبارة عن محور عصبي axon محاط بغمد من مادة الـ myelin.

neuronالألياف العصبية تتكتل مع بعضها وتشكل حُزما. هذه الحزم تسمى “أعصابا” nerves عندما تكون خارج الجهاز العصبي المركزي، ولكنها في داخل الجهاز العصبي المركزي (في المادة البيضاء) تسمى “طرقا عصبية” أو “سبلا عصبية”neural pathways or neural tracts .

شكل المادة الرمادية في مقطع الحبل الشوكي يشبه شكل الفراشة. القسم الأمامي منها يسمى “القرنان الأماميان” anterior horns أو “القرنان البطنيان” ventral horns، والقسمى الخلفي يسمى “القرنان الخلفيان” posterior horns أو “القرنان الظهريان” dorsal horns.

القرنان الأماميان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية محركة motor neurons. المحاور العصبية axons الصادرة من أجسام خلايا هذين القرنين تشكل الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية. القرنان الخلفيان هما مكونان من أجسام خلايا عصبية تستقبل المحاور العصبية axons المكونة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. هذه المحاور هي صادرة من أجسام خلايا عصبية حسية sensory neurons موجودة في العقد الخلفية للأعصاب الشوكية dorsal root ganglia.

اللون الأحمر يعبر عن خلية عصبية محركة (مكونة من جسم موجود في المادة الرمادية ومحور axon ينتقل عبر المادة البيضاء إلى الجذر الأمامي لعصب شوكي). اللون الأزرق يعبر عن خلية عصبية حسية (جسمها موجود في عقدة جذر خلفي dorsal root ganglion، ومحورها ينتقل عبر الجذر الخلفي لعصب شوكي نحو القرن الخلفي للمادة الرمادية)

الخلايا العصبية الموجودة في القرنين الخلفيين للمادة الرمادية هي متكتلة ضمن عدة أنوية nuclei:

الأنوية الظاهرة باللون الأزرق تستقبل محاور الخلايا الحسية الموجودة في عقد الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية. المنطقة المسماة “المادة الجيلاتينية” substantia gelatinosa تستقبل محاور عصبية من النوع (IV) C التي تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth (تغير الحرارة نحو الارتفاع) والحكة itch. المنطقة المسماة “النواة الذاتية” nucleus proprius تستقبل محاور عصبية من النوع (III) Aδ التي تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold (تغير الحرارة نحو الانخفاض). النواة الذاتية تستقبل أيضا محاور عصبية من النوع (II) Aβ التي تنقل حس “اللمس الدقيق” fine touch والضغط pressure والاهتزاز vibration والإحساس بمدى تقلص العضلة وهي ثابتة secondary receptors of muscle spindle، ومحاور عصبية من النوعIb التي تنقل الإحساس بمدى تقلص العضلة المتحركة Golgi tendon organ، ومحاور عصبية من النوع Ia التي تنقل الإحساس بسرعة تقلص العضلة primary receptors of muscle spindle. الأحاسيس المتعلقة بمدى وسرعة تقلص العضلات (التي تنتقل عبر محاور عصبية من النوعين I و II) تسمى “الحس الذاتي” proprioception. المنطقة المسماة “النواة الظهرية” nucleus dorsalis تستقبل محاور عصبية تنقل الحس الذاتي (أي من النوعين I و II).

مما سبق يتبين أن المادة الرمادية (أجسام الخلايا العصبية) داخل الحبل الشوكي هي منقسمة إلى قسمين:

  • قسم أمامي (بطني ventral) مسؤول عن التحريك motor
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) مسؤول عن الحس sensory

حسب هذه الدراسة فإن هذا التوزع للخلايا العصبية (الخلايا الحسية في الاتجاه الظهري والخلايا المحركة في الاتجاه البطني) هو قديم ويعود إلى زمن ثنائيات الجانب الأولى urbilaterians.

بالنسبة للقسم الظهري (الحسي) من المادة الرمادية فهو بدوره منقسم وظيفيا:

  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الألم والتغير في درجة الحرارة تتركز في المنطقة الظهرية
  • الخلايا العصبية الناقلة لحس الاهتزاز والحس الذاتي proprioception تتركز في المنطقة البطنية

حتى في داخل كل منطقة من هاتين المنطقتين هناك انقسامات وظيفية. مثلا حس الألم هو منقسم إلى قسمين:

  • حس “الألم البطيء” slow pain يتركز في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa)
  • حس “الألم السريع” fast pain يتركز في المنطقة البطنية (النواة الذاتية nucleus proprius)

حس “الألم السريع” هو مثلا الحس الذي تشعر به فور تعرضك لوخزة دبوس: هو ألم “ناخز” أو “ناكز” محدد المكان بدقة (في المكان الذي اخترق فيه الدبوس الجلد). هذا الحس يزول سريعا ويحل محله حس “الألم البطيء”، الذي هو حس ألم “حارق” غير محدد المكان بدقة (يغطي مساحة أوسع من الجلد). حس الألم البطيء يدوم لفترة أطول من حس الألم السريع، وهو لهذا السبب مزعج للإنسان. حس الألم البطيء هو قليل الدقة سواء من حيث موقع الإصابة أو من حيث مدتها الزمنية.

هناك انقسام مشابه في حس اللمس:

  • حس “اللمس غير الدقيق” crude touch يوجد في المنطقة الظهرية (المادة الجيلاتينية و النواة الذاتية)
  • حس “اللمس الدقيق” fine touch يوجد في المنطقة البطنية (النواة الذاتية والنواة الظهرية nucleus dorsalis)

حس “اللمس الدقيق” يعني القدرة على تحديد موقع اللمس على الجلد بشكل دقيق، بخلاف حس “اللمس غير الدقيق” الذي هو قليل الدقة. لو أتلفنا الخلايا المسؤولة عن حس “اللمس الدقيق” لدى شخص ما ثم لمسنا جلد هذا الشخص عند نقطة معينة فإنه سيشعر أننا لمسناه ولكنه لن يستطيع أن يحدد نقطة اللمس.

مما سبق يتبين أن الأحاسيس الموجودة في المنطقة الظهرية من القرنين الخلفيين هي أقل دقة من الأحاسيس الموجودة في المنطقة البطنية من القرنين الخلفيين.

المنعكسات

الحبل الشوكي يؤدي وظيفة بسيطة وأساسية للغاية تسمى “المنعكسات” reflexes.

spinal reflexالمنعكس هو عبارة عن دارة عصبية neural circuit مكونة من عصب حسي وعصب محرك وعصب ثالث واصل بينهما interneuron.

الصورة في الأعلى توضح مبدأ المنعكس. في البداية هناك تنشيط لمستقبلات حسية في الجلد (بواسطة حرارة قوية). المستقبلات الحسية تولد إشارات عصبية تنتقل عبر الجذر الخلفي للعصب الشوكي نحو المادة الرمادية الظهرية. في المادة الرمادية الظهرية يوجد تشابك عصبي synapse بين المحور العصبي الحسي وبين جسم خلية واصلة interneuron. وصول الإشارة العصبية الحسية إلى هذا التشابك يولد إشارة عصبية جديدة في الخلية الواصلة. الإشارة الجديدة تنتقل وتولد إشارة أخرى في خلية محركة في القرن الأمامي للمادة الرمادية، وهذه الإشارة تنتقل عبر المحور العصبي للخلية المحركة وتصل إلى ليف عضلي أو ألياف عضلية وتؤدي إلى تقليصها وبالتالي سحب الذراع بعيدا عن مصدر الحرارة.

هذا هو المنعكس في أبسط صوره. المنعكسات على ما أظن هي أبسط وظائف الحبل الشوكي (والجهاز العصبي المركزي) على الإطلاق. تنفيذ المنعكسات هو ربما السبب الذي أدى إلى ظهور الجهاز العصبي المركزي لأول مرة لدى الحيوانات.

لو نظرنا إلى الجهاز العصبي لدى الدودة الحلقية فسنجد أنه يعتمد بشكل كامل على المنعكسات. كل الحركات التي ينفذها جسم الدودة الحلقية تحدث بسبب منعكسات. المؤثرات الحسية التي تصل إلى جسم الدودة تولد إشارات عصبية حسية تنتقل نحو الحبلين العصبيين. الإشارات تنتقل على طول الحبليين العصبيين، وهذا يؤدي لتوليد إشارات عصبية في الأعصاب المحركة التي تخرج من الحبلين العصبيين على شكل حلقات متتابعة محيطة بالجسم. تقبض العضلات الحلقية بشكل متتابع يؤدي إلى تحريك الجسم.

المنعكسات رغم بدائيتها ما زالت موجودة لدى البشر. المنعكسات لدى البشر هي سلوك “لا إرادي” involuntary، بمعنى أن الإنسان لا يعلم بها في عقله الواعي إلا بعد البدء في تنفيذها وليس قبل ذلك. العقل الواعي (قشرة المخ) يمكنه أن يتدخل في بعض المنعكسات ويمكنه أن يحاول تثبيطها لو أراد ذلك.

المنعكسات الواعية وغير الواعية

أنا شخصيا لا أحب استخدام كلمتي “إرادي” voluntary و”لا إرادي” involuntary وأفضل بدلا من ذلك استخدام كلمتي “واع” conscious و”غير واع” unconscious.

المنعكسات هي في الأصل سلوك غير واع unconscious، ولكن العقل الواعي يمكنه أن يتدخل في عمل بعض المنعكسات.

من الممكن أن نقسم المنعكسات إلى صنفين:

  • منعكسات واعية (يمكن التدخل بها إراديا)
  • منعكسات غير واعية (لا يمكن التدخل بها إراديا)

المنعكسات التي يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤدي لتحريك العضلات الهيكلية skeletal muscles.

المنعكسات التي لا يمكن التدخل بها إراديا هي المنعكسات التي تؤثر على الإفراز secretion أو على العضلات القلبية cardiac muscles أو على العضلات الملساء smooth muscles.

أنا في مقال سابق ذكرت أن مخرجات الجهاز العصبي المركزي تتمثل في شكلين:

  • تحريك العضلات
  • الإفراز

الإفراز هو دائما سلوك لا إرادي أو غير واع. حسب علمي فإن العقل الواعي لا يمكنه أبدا أن يتحكم بإفراز الهرمونات أو النواقل العصبية (مثلا الإنسان لا يمكنه أن يتحكم إراديا بإفراز الهرمونات من الغدة النخامية، أو بإفراز العرق من الغدد العرقية).

بالنسبة لتحريك العضلات فهو يمكن أن يكون إراديا أو غير إرادي حسب نوع العضلات.

العضلات الموجودة في أجسام الحيوانات تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  • العضلات الهيكلية skeletal muscles
  • العضلات القلبية cardiac muscles
  • العضلات الملساء smooth muscles

العضلات الهيكلية هي العضلات المغطية للهيكل العظمي والتي يؤدي تقليصها أو إرخاؤها لتحريك الجسم. هذه العضلات يمكن للإنسان أن يتحكم بها إراديا، ولهذا السبب فإن المنعكسات التي تؤدي إلى تقليص أو إرخاء هذه العضلات يمكن التدخل بها إراديا (ولكن هذا التدخل له حدود. مثلا المنعكس الذي يؤدي إلى سحب اليد بعيدا عن النار من الصعب تثبيطه أو إعاقته).

العضلات القلبية هي العضلات التي تدخل في تكوين القلب. هذه العضلات تشبه من حيث تكوينها (ومن حيث قوة انقباضها) العضلات الهيكلية، ولكن التحكم الإرادي بهذه العضلات هو غير ممكن.

العضلات الملساء هي العضلات التي تدخل في تكوين أحشاء الجسم viscera ما عدا القلب (مثلا العضلات التي تدخل في تكوين القناة الهضمية والقناة التنفسية والقناة البولية والقناة التناسلية والأوعية الدموية). العضلات الملساء توجد أيضا في الجلد (تقلصها يؤدي إلى انتصاب الشعر وإلى ظهور “بروزات الإوزة” goose bumps).

بروزات الإوزة goose bumps (باللاتينية “جلد الإوزة” cutis anserina)

إذن مخرجات الجهاز العصبي المركزي يمكن أن تكون واعية (إرادية) أو غير واعية (لا إرادية). المنعكسات التي تنتج مخرجات واعية يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها، والمنعكسات التي تنتج مخرجات غير واعية لا يمكن للعقل الواعي أن يتدخل فيها.

من الأمور اللافتة في الجهاز العصبي أن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية هي منفصلة عن الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية.

الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب الجسمانية somatic nerves. الألياف العصبية المسؤولة عن المخرجات غير الواعية تكون ما يسمى بالأعصاب ذاتية الحكم أو المستقلة autonomic nerves.

في مقطع الحبل الشوكي أجسام الخلايا العصبية “الجسمانية”somatic تقع في الناحية الأمامية (البطنية) من القرنين الأماميين للمادة الرمادية، وإلى الخلف منها تقع أجسام الخلايا العصبية “ذاتية الحكم”autonomic . أجسام الخلايا ذاتية الحكم تكون قرنا ثالثا من قرون الحبل الشوكي يسمى “القرن الجانبي” lateral horn (القرن الوحشي).

ألياف الخلايا ذاتية الحكم تمر عبر الجذور الأمامية للأعصاب الشوكية، وبالتالي الجذور الأمامية يجب ألا توصف بأنها “محركة” motor وإنما “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent. كلمة “مؤثر” effector أو “صادر” efferent تغطي كلا من وظيفتي التحريك motion والإفراز secretion. بالنسبة للجذور الخلفية للأعصاب الشوكية فيمكن وصفها بأنها “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent.

بالتالي الوصف الصحيح للمادة الرمادية في الحبل الشوكي هو أنها تنقسم إلى:

  • قسم أمامي (بطني ventral) يحوي خلايا عصبية “مؤثرة” effector أو “صادرة” efferent
  • قسم خلفي (ظهري dorsal) يحوي خلايا عصبية “مستقبلة” receptor أو “واردة” afferent

القسم الأمامي المؤثر أو الصادر ينقسم بدوره إلى قسم أمامي واع (إرادي) وقسم خلفي غير واع (لا إرادي).

الطرق العصبية الواعية

ذكرنا في الأعلى أن هناك منعكسات واعية يمكن التدخل فيها إراديا ومنعكسات غير واعية لا يمكن التدخل فيها إراديا. السؤال هو كيف يتدخل العقل الواعي في عمل المنعكسات الواعية؟

هذا يحدث عن طريق ألياف عصبية نازلة من قشرة المخ نحو القرنين الأماميين للحبل الشوكي. هذه الألياف النازلة أو الطرق النازلة توجد في المادة البيضاء.

“الطريق القشري الشوكي” corticospinal tract هو طريق نازل ينقل الإشارات العصبية من قشرة المخ المحركة motor cortex نحو القرن الأمامي للحبل الشوكي. معظم ألياف هذا الطريق تعبر نحو الجهة المعاكسة قبل أن تبلغ الحبل الشوكي وتشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الجانبي lateral corticospinal tract، وقسم ضئيل منها يظل في نفس الجهة ويشكل ما يسمى بالطريق القشري الشوكي الأمامي anterior corticospinal tract

“الطريق القشري الشوكي” النازل من القشرة المحركة في المخ يفسر قدرة العقل الواعي على التدخل في منعكسات الحبل الشوكي المؤثرة في العضلات الهيكلية، ولكن إلى جانب هذا الطريق النازل لا بد من وجود طريق آخر صاعد يعلم قشرة المخ بوجود منعكس شوكي قيد التنفيذ. إذا لم تعلم قشرة المخ بأن هناك منعكسا قيد التنفيذ فهي بطبيعة الحال لن تكون قادرة على التدخل فيه.

هناك طريقان صاعدان ينقلان الإشارات الحسية من القرنين الخلفيين للحبل الشوكي إلى قشرة المخ:

  • “الطريق الشوكي الثلمي” spinothalamic tract ينقل إشارات حس الألم والحرارة واللمس غير الدقيق crude touch
  • “العمودان الظهريان” dorsal columns ينقلان حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception

هذان الطريقان ينقلان الإشارات الحسية إلى الثلم thalamus، ومن هناك هذه الإشارات تنتقل إلى قشرة المخ “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex التي تقع في مقدمة الفص الجداري parietal lobe.

مقطع في الحبل الشوكي يبين الطرق العصبية الصاعدة باللون الأزرق، والطرق العصبية النازلة باللون الأحمر. طبعا الطرق الصاعدة والنازلة توجد في كل من جانبي الحبل الشوكي ولكن هذا الرسم عزل الطرق الصاعدة في الجانب الأيمن والطرق النازلة في الجانب الأيسر لغرض التوضيح

انقطاع الطرق العصبية الواعية

قبل تطور الدماغ لم يكن هناك على ما أظن “طرق عصبية صاعدة” و”طرق عصبية نازلة”. كل ما كان موجودا هو القطع المتتالية المكونة للحبل العصبي (التي تتمثل لدى الديدان والحشرات بالعقد القطعية segmental ganglia، ولدى الفقاريات بقطع الحبل الشوكي spinal cord segments الملتحمة مع بعضها). كل قطعة متتالية كانت تعمل بمفردها ودون اتصال مباشر مع مناطق بعيدة في الجهاز العصبي المركزي (الحبل العصبي). أقصى ما كان يحدث هو انتقال الإشارات العصبية من قطعة متتالية نحو قطعة متتالية أخرى مجاورة لها، وهذا هو ما يؤدي إلى التقلص المتتابع المشاهد لدى الديدان مثلا.

ما الذي سيحدث لو أننا قطعنا الطرق العصبية الصاعدة والنازلة الموجودة في الحبل الشوكي لدى البشر؟

هذه الحالة تحدث في إصابات الحبل الشوكي (مثلا بسبب كسور العمود الفقري). ما يحدث عادة هو أن الأشخاص المصابين يفقدون إحساسهم الواعي وتحكمهم الواعي بمناطق من جسمهم تقع تحت مستوى الإصابة في الحبل الشوكي. مثلا لو أصيبت الطرق الصاعدة والنازلة في القسم الرقبي من الحبل الشوكي فهذا سيؤدي لفقدان الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي) من مناطق تقع تحت مستوى الرقبة، كالذراعين والصدر والبطن والحوض والرجلين. لو كانت الإصابة كاملة وقطعت جميع الطرق الصاعدة والنازلة فهذا سيؤدي لفقدان الحس والتحريك الواعي بشكل كامل من كل أعضاء الجسم التي تقع تحت مستوى الرقبة. هذه الحالة تسمى الشلل الرباعي quadriplegia.

paralysis

مثل هذه الإصابة لن تؤثر على المنعكسات الشوكية التي تقع تحت مستوى الإصابة. مثلا لو أتينا إلى شخص مصاب بالشلل الرباعي واختبرنا منعكساته الشوكية تحت مستوى الرقبة فسنجد أنها فعالة ونشطة. السبب هو أن عمل المنعكسات الشوكية لا يحتاج الطرق الصاعدة والنازلة. الطرق الصاعدة والنازلة هي تطور لاحق ظهر بعد ظهور المنعكسات الشوكية. هذه الطرق تربط المنعكسات الشوكية بالدماغ. الطرق التي تربط المنعكسات الشوكية بقشرة المخ هي تحديدا الطرق المسؤولة عن الحس الواعي والتحريك الواعي (الإرادي).

المنعكسات الشوكية الوحيدة التي ستتعطل عند إصابة الحبل الشوكي هي المنعكسات التي تقع عند مستوى الإصابة، لأن الإصابة هنا أتلفت أجسام ومحاور الخلايا العصبية الشوكية المسؤولة عن تنفيذ المنعكسات.

الحس الواعي والحس غير الواعي

في الأعلى بينا الفرق بين الأعصاب الجسمانيةsomatic المسؤولة عن التنفيذ العصبي الواعي (التأثير في العضلات الهيكلية) والأعصاب ذاتية الحكمautonomic المسؤولة عن التنفيذ العصبي غير الواعي (الإفراز والتأثير في العضلات القلبية والملساء).

هذه الأعصاب هي أعصاب تنفيذية أو تأثيرية effector. السؤال هو هل هناك أعصاب استقبالية receptor غير واعية؟

الجواب هو نعم. هناك في الحبل الشوكي ألياف عصبية استقبالية (حسية) غير واعية.

ما يجعل أية خلية حسية في الحبل الشوكي “واعية” هو وجود اتصال بينها وبين قشرة المخ (تحديدا القشرة “الجسمانية الحسية” somatosensory cortex). أية خلية حسية يوجد اتصال بينها وبين قشرة المخ هي واعية.

ولكن الدماغ لا يتكون فقط من قشرة المخ. هناك في الدماغ أجزاء أخرى غير قشرة المخ، ومعظم هذه الأجزاء (إن لم يكن كلها) هي أقدم من قشرة المخ الجسمانية الحسية.

هناك طرق عصبية صاعدة (ونازلة) تربط خلايا الحبل الشوكي مع الدماغين الخلفي والأوسط. هذه الطرق هي كلها “غير واعية”.

من الطرق الصاعدة غير الواعية الطريق المسمى “الطريق الشوكي المخيخي” spinocerebellar tract. هذا الطريق ينقل إشارات حس الاهتزاز واللمس الدقيق fine touch والحس الذاتي proprioception إلى المخيخ cerebellum. الخلايا التي يخرج منها هذا الطريق تقع في القسم البطني من القرن الظهري للمادة الرمادية (قسم كبير من هذا الطريق يخرج من النواة الظهرية nucleus dorsalis التي تسمى أيضا “نواة كلارك” Clarke’s nucleus).

هناك أيضا الطريق المسمى “الطريق الشوكي الزيتوني” spinoolivary tract. هذا الطريق ينقل حس الاهتزاز واللمس الدقيق والحس الذاتي إلى الزيتونة olive التي تقع في القسم العلوي (المنقاري rostral) من النخاع المستطيل medulla oblongata.

الطريق الشوكي الزيتوني والطريق الشوكي المخيخي يشبهان من حيث المحتوى طريق “العمودين الظهريين” dorsal columns الذي يصل إلى الثلم thalamus ومن هناك إلى قشرة المخ الجسمانية الحسية. الفرق بين هذه الطرق الثلاثة هو أن طريق العمودين الظهريين هو واع، وهو بالطبع أحدث عمرا من الطريقين الآخرين.

الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract الذي ينقل إشارات حس الألم والحرارة و”اللمس غير الدقيق” crude touch من الحبل الشوكي إلى الدماغ هو في الحقيقة مجموعة من الطرق وليس طريقا واحدا. البعض يقسمون هذا الطريق إلى قسمين كبيرين:

  • الطريق “الشوكي الثلمي القديم” paleospinothalamic
  • الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” neospinothalamic

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” مكون من ألياف عصبية من النوع (IV) C (تنقل حس “الألم البطيء” slow pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والدفء warmth والحكة itch).

الطريق “الشوكي الثلمي الحديث” مكون من ألياف عصبية من النوع (III) Aδ (تنقل حس “الألم السريع” fast pain و”اللمس غير الدقيق” crude touch والبرودة cold).

الطريق “الشوكي الثلمي القديم” هو في الحقيقة ليس “شوكيا ثلميا” لأن حوالي 90% من أليافه لا تصل إلى الثلم ولكنها تتوقف في الدماغين الخلفي والأوسط. البعض يقسمون هذا الطريق إلى عدة أقسام:

  • الطريق الشوكي الشبكي spinoreticular tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “التشكيل الشبكي” reticular formation في جذع الدماغ)
  • الطريق الشوكي السقفي spinotectal tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “سقف” tectum الدماغ الأوسط)
  • الطريق الشوكي ما تحت الثلمي spinohypothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي وبين “ما تحت الثلم” hypothalamus)
  • الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract (يصل بين الحبل الشوكي والثلم thalamus)

الطريق الوحيد الواعي من بين كل هذه الطرق هو الطريق الشوكي الثلمي، الذي يضم أيضا ألياف الطريق “الشوكي الثلمي الحديث”.

الخلاصة هي أن الألياف العصبية الحسية تنقسم إلى قسمين، قسم واع يصل إلى الثلم ومنه إلى قشرة المخ، وقسم غير واع لا يصل إلى الثلم.

كل الألياف العصبية الحسية التي تحدثنا عنها هي ألياف عصبية “جسمانية” somatic، بمعنى أنها لا تنقل الحس من الأحشاء viscera أو الغدد glands.

الأحشاء والغدد لا تحوي الكثير من المستقبلات الحسية كما هو الحال في الأعضاء “الجسمانية”. المستقبلات الحسية في الأحشاء تنقل حس التمدد distension والالتهاب inflammation ونقص التروية الدموية ischemia، ولكنها لا تنقل أحاسيس أخرى (مثلا لا تنقل حس النخز أو الحرق).

الإشارات الحسية الواردة من الأحشاء والغدد تنتقل عبر الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية وتصل إلى القسم الأمامي من القرنين الخلفيين للمادة الرمادية، وكثير من هذه الإشارات تنتقل ضمن الأعصاب المستقلة autonomic. لهذا السبب الألياف الحسية الحشوية تصنف ضمن “الجهاز العصبي المستقل” autonomic nervous system.

هذا التصنيف هو منطقي لأن الإحساسات الحشوية هي عموما غير واعية، بمعنى أنها لا تصل إلى قشرة المخ. قليل جدا من الخلايا الحسية الحشوية هي متصلة مع قشرة المخ بواسطة ألياف صاعدة. لهذا السبب العقل الواعي لا يشعر بأحاسيس الأحشاء إلا عندما تكون هذه الأحاسيس قوية للغاية (مثلا عند انسداد الأمعاء، أو انسداد الحالب، أو تعرض العضلة القلبية للاحتشاء infarction بسبب انسداد الأوعية الدموية القلبية).

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء البطنية والحوضية يسمى “المغص” colic. شعور “المغص” هو شعور عام للغاية وغير دقيق على الإطلاق. عندما يسمع الطبيب كلمة “مغص” فإنه يصاب بالحيرة لأن شعور “المغص” يمكن أن يكون من القناة الهضمية أو القناة الصفراوية أو القناة البولية أو القنوات التناسلية. أي عضو حشوي داخل البطن أو الحوض يمكن أن يكون مصدرا لشعور “المغص”، والمريض عادة لا يستطيع أن يحدد مكانا دقيقا يوجد فيه “المغص”، وحتى لو حدد المكان فهذا لا يفيد كثيرا في التشخيص لأن شعور “المغص” هو شعور غير دقيق.

الشعور الواعي المتولد بسبب أحاسيس الأحشاء الصدرية يسمى “الذبحة” angina. مصدر هذا الشعور عادة هو القلب، ولكنه يمكن أن يكون أيضا من المريء esophagus.

العقل الواعي يميز الكثير من الأحاسيس الواردة من الأعضاء “الجسمانية” (مثلا شعور اللمس والنخز والحرق والحكة والحرارة والبرودة والاهتزاز والضغط إلخ)، ولكن بالنسبة للأعضاء الحشوية فالعقل الواعي لا يميز فيها سوى إحساسين أو ثلاثة (المغص والذبحة)، وهذه الأحاسيس التي يميزها العقل الواعي في الأحشاء هي عامة جدا سواء من حيث الموقع أو من حيث السبب.

لو كان العقل الواعي يميز الأحاسيس الحشوية بدقة أكبر لكان ذلك سهل عمل الأطباء ووفر الكثير من الأموال التي تنفق حاليا على الصور والتحاليل الطبية.

طبعا الإحساس الواعي بوجود الإصابة في الأحشاء هو شيء مفيد لحفظ حياة الإنسان. لهذا السبب الجهاز العصبي المركزي طور طريقة التفافية يستطيع من خلالها أن يعلم العقل الواعي بوجود إصابة في الأحشاء دون الاستعانة بألياف عصبية صاعدة من الخلايا الحسية الحشوية إلى قشرة المخ. هذه الطريقة الالتفافية تسمى “الألم المحوّل” referred pain.

الألم المحول هو ظاهرة تحدث عند وجود إصابة حشوية بالغة. ما يحدث هو أن الإشارات العصبية تنتقل من خلايا حسية حشوية إلى خلايا حسية جسمانية قريبة منها، وهذا يجعل العقل الواعي يشعر بألم “جسماني”.

مثلا عندما يكون هناك احتشاء infarction في القلب (وهي إصابة بالغة للغاية) تنتقل الإشارات العصبية من الخلايا الحسية الحشوية في الحبل الشوكي إلى الخلايا الحسية الجسمانية القريبة منها، وبعد ذلك تنتقل الإشارات عبر الطريق الشوكي الثلمي وتصل إلى قشرة المخ. الإنسان يشعر وقتها بألم بالغ للغاية في النصف الأيسر من صدره يمتد حتى نهاية ذراعه اليسرى. هو يشعر بالألم في جدار الصدر وفي الذراع اليسرى، رغم أن الإصابة الحقيقية هي في القلب. بما أن الخلايا الحسية الحشوية التي تستقبل الحس من القلب هي عاجزة عن إبلاغ العقل الواعي بطريقة مباشرة فإنها تبلغ جاراتها “الجسمانية”، وهذا يؤدي إلى وصول الرسالة إلى العقل الواعي ولكنها رسالة غير دقيقة ولا تدل على المكان الصحيح للإصابة.

ظاهرة الألم المحول تحدث في الكثير من الأمراض الحشوية الأخرى. مثلا عندما يصاب المرء بالتهاب الزائدة الدودية appendicitis فإنه في البداية يشعر بمغص في بطنه (عندما يسأله الطبيب أين الألم فإنه يشير إلى وسط بطنه). عندما يشتد الالتهاب فإن الخلايا الحسية الجسمانية تتنشط وعندها يشعر المريض بالألم في جدار الربع السفلي الأيمن من بطنه.

أيضا عندما يصاب الإنسان بالتهاب في رئتيه فإنه في البداية لا يشعر بألم، ولكن عندما يشتد الالتهاب ويصل الحس إلى الخلايا الحسية الجسمانية فإن الإنسان يشعر بألم في جدار صدره.

أحيانا يكون موقع الألم المحول بعيدا للغاية عن موقع الإصابة الحشوية (لأسباب تطورية جنينية). مثلا الإصابة في المرارة gall bladder يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في الكتف الأيمن. أيضا الإصابة في الحالب يمكن أن تولد ألما جسمانيا محوّلا في كيس الصفن scrotum أو على الجانب الداخلي للفخذ. الأطباء يحفظون مواقع الألم المحول لكي يستفيدوا منها في التشخيص.

الحس غير الواعي والحس “تحت الواعي”

الباحثون لاحظوا منذ زمن طويل أن إدراك العقل الواعي لكثير من الأحاسيس هو مسألة شخصانية subjective وليست موضوعية objective.

المعنى هو أن شعور العقل الواعي بإحساس معين هو مسألة متغيرة وليست ثابتة، وهو يعتمد على عوامل ومتغيرات لا علاقة لها بالإحساس نفسه.

مثلا لو وخزنا شخصا بدبوس فإن شعور عقله الواعي بالوخزة هو ليس ثابتا دائما ولكنه يعتمد على عوامل ومتغيرات شخصانية (تتعلق بالشخص نفسه).

مثلا إذا كان الشخص منتبها جدا للدبوس أثناء وخزه به فإنه سيشعر بألم كبير نسبيا. ولكن لو كان الشخص ملتهيا عن الدبوس بمسألة أخرى فإن شعوره بالألم سيكون أقل (مثلا إذا وخزناه بالدبوس وهو يتشاجر مع شخص آخر فإنه ربما لن يشعر بالوخزة من الأساس).

هناك عوامل عديدة تؤثر في شعور الإنسان بالإحساس. من هذه العوامل ما يلي:

  • اليقظة (شعور الإنسان المستفيق بالأحاسيس هو أكبر من شعور الإنسان النائم أو الغائب عن الوعي)
  • الانتباه (الشخص المنتبه لحس معين يشعر به أكثر من الشخص الملتهي بأحاسيس أو أفكار أخرى)
  • العاطفة (شعور الإنسان الغاضب أو الخائف بالأحاسيس هو أقل من شعور الإنسان المرتاح)

في الحقيقة كل هذه العوامل يمكن إرجاعها إلى عامل واحد هو الانتباه attention. عندما يكون العقل الواعي منتبها للحس فإنه يشعر به بقوة، وعندما يكون انتباه العقل الواعي للحس ضعيفا فإنه لن يشعر به بنفس القوة، وربما لا يشعر به أبدا.

مفهوم الانتباه هو في رأيي أساس مفهوم الوعي consciousness. أنا ذكرت هذه الفكرة في مقال سابق. في رأيي أن “العقل الواعي” conscious mind هو في الحقيقة ليس سوى الأفكار الموجودة في دائرة انتباه الدماغ.

الأفكار التي تخرج من دائرة الانتباه تخرج من الوعي وتدخل في حيز يسمى “ما تحت الوعي” subconsciousness.

مفهوم “ما تحت الوعي” subconsciousness يختلف عن مفهوم “اللاوعي” unconsciousness. المفهوم الأول يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني يعني الأفكار التي خرجت من الانتباه (الوعي) ولكن من غير الممكن إعادتها إليه مجددا. المفهوم الثاني هو أساس نظرية فرويد في التحليل النفسي psychoanalysis.

بناء على ما سبق يمكن في رأيي أن نصنف الأحاسيس إلى ثلاث طبقات:

  • أحاسيس واعية conscious (موجودة في العقل الواعي)
  • أحاسيس تحت واعية subconscious (يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)
  • أحاسيس غير واعية unconscious (لا يمكن أن تصل إلى العقل الواعي)

وفق هذا التصنيف فإن المنعكسات الشوكية التي وصفتها في الأعلى بأنها “واعية” هي في الحقيقة “تحت واعية”، لأن الأصل في هذه المنعكسات هو أنها غير واعية ولكنها يمكن أن تدخل إلى الوعي.

المنعكسات الإفرازية والحشوية (ذاتية الحكم autonomic) هي عموما غير واعية unconscious لأنها لا تدخل إلى الوعي (مثلا إفراز الإنسولين من البنكرياس عند ارتفاع سكر الدم هو منعكس غير واعي unconscious).

منعكسات الحبل الشوكي هي إما تحت واعية subconscious أو غير واعية unconscious. المنعكسات الواعية conscious هي المنعكسات التي يبدأ تنفيذها من قشرة المخ (طبعا بشرط أن تكون بداية هذه المنعكسات من دائرة الانتباه. المنعكس الذي يبدأ من خارج دائرة الانتباه هو ليس منعكسا واعيا حتى ولو كانت بدايته من قشرة المخ).

الآلية الفيزيولوجية لما تحت الوعي

في الأعلى أنا ذكرت الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس غير الواعي. الآلية التي ذكرتها هي باختصار كما يلي:

  • الحس المتصل مع قشرة المخ ← واع
  • الحس غير المتصل مع قشرة المخ ← غير واع

ما هي يا ترى الآلية الفيزيولوجية التي تميز الحس الواعي عن الحس “تحت الواعي”؟

الآلية هي مرتبطة بآلية الانتباه attention. المشكلة هي أن آلية الانتباه هي غير معروفة جيدا، وهناك أصلا جدل حول موضوع العقل الواعي ومكان وجوده. بعض الناس في زماننا الحالي ينكرون مادية العقل ويقولون أن العقل هو ليس ماديا (بالأحرى هم يقولون أن العقل هو مادي ولكن خصائصه “ليست فيزيائية”). أنا تحدثت عن هذه القضية في مقالات سابقة. بالنسبة لي أنا سوف أفترض أن العقل هو كيان مادي بحت، لأنني لو افترضت شيئا آخر فهذا سيمنعني من الخوض في موضوع العقل.

أنا أظن أن “الوعي” consciousness هو نفسه “الانتباه” attention. طبعا كلمة “انتباه” تستخدم في العادة مع المدركات الحسية الخارجية، ولكن بالنسبة لي أنا أفهم الانتباه على أنه يتعلق بجميع الأفكار التي تدور في عقل الإنسان سواء كانت مدركات حسية أم أشياء مسترجعة من الذاكرة أم أشياء مستنبطة عبر المعالجة أو الخيال.

مثلا الإنسان الذي يتخيل في عقله كائنا خرافيا هو “منتبه” إلى هذا الكائن، مثلما أن الإنسان الذي ينظر إلى شيء ما ويتفحصه هو منتبه إلى هذا الشيء.

أي شيء موجودة في دائرة الانتباه هو موجود في العقل الواعي، وأي شيء موجود خارج دائرة الانتباه هو موجود خارج العقل الواعي.

كيف يحدث الانتباه فيزيولوجيا؟ الآلية التفصيلية هي غامضة وغير معروفة، ولكن المبدأ العام في رأيي هو كما يلي “الخلايا الأكثر نشاطا في قشرة المخ هي التي تصنع الانتباه والوعي”.

أنا شرحت هذه الفكرة في مقال سابق وضربت مثالا حول أشخاص عديدين موجودين في غرفة ويتحدثون في آن واحد.

هذه المرة سأتحدث من الناحية الفيزيولوجية.

سوف أتحدث الآن باختصار ولكنني سأعود للموضوع مجددا في مقال لاحق.

في فيزيولوجيا الأعصاب هناك مفهوم يسمى “الإثارة” excitation ومفهوم يسمى “التثبيط” inhibition.

الخلايا العصبية يمكن أن “تثار” ويمكن أن “تثبط”.

الإثارة والتثبيط تعتمد على نوعية النواقل العصبية neurotransmitters التي تصل إلى غشاء الخلية العصبية وتؤدي إلى تنشيط أو تثبيط “كمون الفعل” action potential، وعلى نوعية المستقبلات العصبية neuroreceptors الموجودة في غشاء الخلية العصبية.

بعض النواقل والمستقبلات هي “مثيرة”، وبعضها الآخر هو “مثبط”.

بالنسبة للخلايا العصبية الناقلة للأحاسيس فهي يمكن أن تثار وأن تثبط بواسطة نواقل عصبية معينة تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة في أغشية هذه الخلايا.

على سبيل المثال، هناك في المادة الجيلاتينية substantia gelatinosa (في القرن الخلفي للحبل الشوكي) خلايا عصبية تفرز نواقل عصبية تسمى إندورفينات endorphins. هذه النواقل العصبية تتفاعل مع مستقبلات عصبية معينة موجودة في أغشية الألياف العصبية الناقلة لحس الألم نحو الحبل الشوكي (من النوعين C و ). تفاعل الإندورفينات مع مستقبلاتها يؤدي لتثبيط وصول الإشارات العصبية إلى الخلايا الموجودة في القرن الخلفي للحبل الشوكي، وبالتالي تثبيط وصول الإشارات العصبية إلى المناطق الدماغية العليا (بما فيها قشرة المخ). المحصلة هي أن إشارات حس الألم لن تصل إلى الدماغ، وبالتالي الإنسان لن يشعر بالألم (أو سيشعر به مخففا في حال وصول نسبة قليلة من الإشارات العصبية).

الملفت هو أن الدماغ الأوسط midbrain فيه خلايا عصبية ترسل أليافا نازلة نحو القرون الخلفية للحبل الشوكي بهدف إثارة الخلايا المفرزة للإندورفينات، وبالتالي تثبيط حس الألم. خلايا الدماغ الأوسط هذه تتنشط في حالات معينة لا مجال لذكرها الآن، ولكن الفكرة العامة هي أن هناك منعكسا في الدماغ الأوسط مسؤول عن “تسكين” حس الألم عبر منع صعوده من الحبل الشوكي. هذا المنعكس هو مثال على الطريقة التي يتلاعب بها الدماغ بالأحاسيس والمشاعر. الدماغ يقوي بعض الأحاسيس ويضعف بعضها الآخر بالاعتماد على النواقل العصبية وتأثيرها في الخلايا العصبية.

من المؤكد أن هناك في الدماغ البشري منعكسات مسؤولة عن إثارة بعض خلايا قشرة المخ وتثبيط بعضها الآخر. خلايا قشرة المخ هي عمليا “الأفكار” التي تدور في العقل. تثبيط خلية معينة في قشرة المخ يعني عمليا إخراج فكرة معينة من دائرة الانتباه، وإثارة خلية أخرى يعني إدخال فكرة معينة إلى دائرة الانتباه.

هذه بإيجاز شديد الآلية الفيزيولوجية للانتباه. في المقالات القادمة سأتحدث بإيضاح أكثر.

الدماغ البشري (2)

ذكرنا في المقال السابق أن الجهاز العصبي المركزي لدى ثنائيات الجانب bilaterians الأولى كان عبارة عن حبل ممتد على طول الجسم يسمى الحبل العصبي nerve cord.

الحبل العصبي عند الحبليات chordates يمتد على طول الظهر بمحاذاة الحبل الظهري notochord (ولاحقا بمحاذاة العمود الفقري لدى الفقاريات). عند ثنائيات الجانب غير الحبلية (الديدان worms ومفصليات الأرجل arthropods) الحبل الظهري يمتد على طول البطن وليس الظهر.

في الحقيقة الديدان ومفصليات الأرجل تملك حبلين عصبيين وليس حبلا واحدا:

الجهاز العصبي لدودة مسطحة platyhelminth
الجهاز العصبي لدودة حلقية annelid (دودة الأرض earthworm)

الديدان هي الحيوانات الأكثر بدائية ضمن مجموعة “ثنائيات الجانب” bilaterians، بمعنى أنها ربما أكثر الحيوانات المعاصرة شبها بثنائيات الجانب الباكرة. ثنائيات الجانب سميت بهذا الاسم لأن أجسامها تتكون من شطرين متناظرين حول المستوي السهمي sagittal plane (المستوي الذي يمر من السطح البطني للجسم إلى السطح الظهري قاسما الجسم إلى شطرين أيمن وأيسر). لو قسمنا حيوانا ثنائي الجانب إلى شطرين أيمن وأيسر فإن الشطرين يجب أن يكونا متناظرين:

على اليمين حيوان ثنائي الجانب (من مفصليات الأرجل) وعلى اليسار كائن ذو تناظر شعاعي radial symmetry

الكائنات ذات التناظر الشعاعي radial symmetry يمكن أن نقسمها إلى شطرين متناظرين مهما كان اتجاه المستوي الرأسي-الذيلي الذي سيتم الشطر عبره. التناظر الشعاعي هو شائع لدى الحيوانات البدائية (الإسفنجيات والمِشْطِيات واللاسعات)، وأيضا موجود بكثرة في النباتات.

وجود حبلين عصبيين في الجسم (حبل أيمن وأيسر) يتوافق مع مبدأ التناظر ثنائي الجانب، وبالتالي المفترض هو أن الكائنات ثنائية الجانب الباكرة كانت تملك حبليين عصبيين كالديدان ومفصليات الأرجل (“مفصليات الأرجل” arthropods هو تصنيف يشمل الحشرات وأم أربعة وأربعين والعناكب والسرطانات).

تصوران افتراضيان لأول حيوان ثنائي الجانب urbilaterian

تطور الدماغ

الحيوانات ثنائية الجانب تتميز بأن لها رأسا يحوي كتلة عصبية (دماغ). نشوء الرأس الذي يحوي الدماغ يسمى cephalization.

نشوء الدماغ عند الحبليات الباكرة بدأ بانتفاخ في الحبل العصبي في منطقة الرأس. عند الفقاريات الباكرة الدماغ كان مكونا من ثلاثة حويصلات على نحو شبيه بهذا الشكل:

primitive brain

دماغ الفقاريات في بداية ظهوره كان يتكون من ثلاثة حويصلات هي من الخلف للأمام:

  • الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon
  • الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon
  • الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon

هذه الحويصلات تظهر عند البشر في المرحلة الجنينية. الرسم التالي يعبر عن الدماغ الجنيني في بداية تكونه:

منظر ظهري لدماغ الجنين البشري
embryo brain
منظر جانبي لدماغ الجنين البشري

عند البشر البالغين ما يسمى بالدماغ “الخلفي” هو في الحقيقة “سفلي”، وما يسمى بالدماغ “الأمامي” هو في الحقيقة “علوي”. البشر يمشون على رجلين وليس أربع أرجل، ولهذا السبب الاتجاهات التشريحية لديهم تختلف عن الاتجاهات التشريحية لدي بقية الفقاريات أو ثنائيات الجانب. التسميات المتعلقة بالدماغ تعكس الواقع الحيواني وليس الواقع البشري.

في علم التشريح anatomy الاتجاه الذي يوصل نحو الأنف يسمى الاتجاه “المنقاري” rostral، والاتجاه الذي يوصل نحو الذيل يسمى الاتجاه “الذيلي” caudal. عند الحيوانات التي تمشي على أربعة أرجل الاتجاه المنقاري هو نفسه الاتجاه “الأمامي” anterior، والاتجاه الذيلي هو نفسه الاتجاه “الخلفي” posterior، ولكن عند البشر الاتجاه المنقاري يسمى “العلوي” superior، والاتجاه الذيلي يسمى “السفلي” inferior. الاتجاه الذي يوصل نحو السطح البطني للجسم يسمى الاتجاه “البطني” ventral، والاتجاه الذي يوصل نحو السطح الظهري للجسم يسمى الاتجاه “الظهري” dorsal. عند البشر الاتجاه البطني يسمى “الأمامي” anterior، والاتجاه “الظهري” يسمى “الخلفي” posterior (هذا الكلام لا ينطبق على الأعضاء البشرية ذات المحور الأفقي كالقدم مثلا)

عند الفقاريات الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon يتحول إلى جزأين:

  • الدماغ النخاعيmyelencephalon  (يتحول لاحقا إلى النخاع المستطيل (medulla oblongata
  • الدماغ التالي metencephalon (يتحول إلى الجسر pons والمخيخ cerebellum)

الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon عند الثدييات يظل عموما على حاله ولا ينقسم إلى أجزاء.

الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon يتحول إلى جزأين:

  • الدماغ البيني diencephalon
  • الدماغ النهائي telencephalon

الدماغ البيني diencephalon يتحول إلى جزأين مهمين، الجزء الأول يسمى thalamus (معناه “الحجرة الداخلية” inner chamber). سوف أعرّب كلمة thalamus في هذا المقال إلى “الثَّلَم” (بعض الناس يكتبون “ثلاموس” ولكن من غير الضروري أن نكتب علامة الإعراب اللاتينية –us في الكلمة العربية).

العضو الثاني المهم الذي ينتج من الدماغ البيني هو hypothalamus (سوف أعربه إلى “ما تحت الثلم”).

الدماغ النهائي telencephalon يتحول إلى المخ cerebrum. المخ يتكون من قشرة cortex ومن عقد ganglia أو أنوية nuclei توجد تحت القشرة في بطن المخ.

ما سبب نشوء “الأدمغة”؟

السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تقسّم دماغ الفقاريات إلى ثلاثة أدمغة (أمامي وأوسط وخلفي)؟

أنا بصراحة لم أقرأ ما يكفي في هذا المجال، وبالتالي ما سأقوله الآن هو مجرد رأي مبني على بعض القراءة المحدودة.

هناك خاصية تميز الحيوانات ثنائية الجانب bilaterian وهي أن أجسامها مقسمة تشريحيا إلى “قطع متتالية”metameres  (تسمى أيضا “قطع جسمية” somites).

القطع المتتالية تظهر بوضوح في أجسام الديدان الحلقية:

لاحظ كيف أن جسم الدودة مقسم إلى حلقات متتالية. الديدان هي الحيوانات الأكثر بدائية ضمن مجموعة ثنائيات الجانب، وهذا التقسم إلى قطع متتالية يعبر ربما عن الحالة الأصلية لدى ثنائيات الجانب

القطع المتتالية تظهر أيضا في مفصليات الأرجل arthropods:

لاحظ التقطع المتتالي metamerism لدى أم أربعة وأربعين
التقطع المتتالي لدى العقرب
التقطع المتتالي في جسم النحلة

القطع المتتالية المكونة لأجسام مفصليات الأرجل تلتحم مع بعضها لتشكل أجزاء أكبر هي الرأس head والصدر thorax والبطن abdomen.

الأجزاء الكبيرة التي تنتج من التحام القطع المتتالية تسمى tagmata (مفرد tagmata هو tagma ومعناه “المُرَتَّب” something arranged).

في أجسام الحبليات chordates (ومنها الإنسان) هناك “مرتّبات” tagmata شبيهة بالمرتبات الموجودة في أجسام مفصليات الأرجل.

القطع المتتالية metameres أو القطع الجسمية somites تظهر بشكل واضح لدى جنين الإنسان خلال المراحل الأولى من تكوينه:

صورة ظهرية لجنين الإنسان
صورة جانبية لجنين الإنسان

جسم جنين الإنسان في بداية تكوينه يكون مقطعا على نحو شبيه بجسم الدودة، ولكن القطع المتتالية تلتحم تدريجيا وتكون “مرتبات” tagmata.

ما هو سبب التحام القطع المتتالية؟ أظن أن السبب هو مبدأ “الاتحاد قوة”. التحام القطع المتتالية مع بعضها يعطيها القدرة على تكوين أعضاء كبيرة ومعقدة. هذا المبدأ هو نفس المبدأ الذي دفع الكائنات وحيدة الخلية لكي تلتحم مع بعضها وتكون الكائنات متعددة الخلايا.

بقايا التقطع المتتالي metamerism تظهر واضحة لدى الإنسان البالغ في العمود الفقري (المكون من عدد كبير من القطع المتتالية التي تسمى الفقرات vertebra). أيضا التقطع المتتالي يظهر واضحا في جدار الصدر:

المناطق التي تقع بين أضلاع القفص الصدري تسمى “المسافات بين الضلعية” intercostal spaces. هذه المسافات لها تكوين متماثل من حيث العضلات والأعصاب والتروية الدموية

التقطع المتتالي في الجهاز العصبي

ظاهرة التقطع المتتالي تظهر واضحة في الجهاز العصبي لثنائيات الجانب. الحبلان العصبيان عند الديدان يحويان عقدا عصبية قطعية segmental ganglia (العقدة العصبية ganglion هي عبارة عن تكتل من الخلايا العصبية). كل قطعة متتالية metamere تحوي عقدتين عصبيتين على اليمين وعلى الشمال، ومن كل عقدة عصبية تخرج أعصاب محركة نحو عضلات القطعة المتتالية التي تحوي العقدة. الأعصاب تقبّض عضلات القطع المتتالية بشكل متناسق وهذا ما يحرك الدودة.

في رأس الدودة توجد عقدتان كبيرتان تسميان “العقدتان المخيتان” cerebral ganglia. هاتان العقدتان هما “دماغ الدودة”. هاتان العقدتان تتصلان مع عدد من أعضاء الحس البدائية (هناك لدى دودة الأرض “عين” بدائية تستطيع أن تفعل شيئا واحدا هو تحديد وجود الضوء من عدمه، وهناك حاسة شم وذوق بدائية تستطيع التعرف على وجود بعض المواد الكيميائية، وهناك أعضاء حسية في الجلد تستطيع الشعور بالحرارة والاهتزاز وإرسال إشارات إلى العقد المخية لإبلاغها بذلك). العقدتان المخيتان تستفيدان من معطيات أعضاء الحس وترسلان إشارات إلى العضلات لتحريك الدودة بعيدا عن الضوء والاهتزاز والأمور الأخرى التي قد تهدد حياة الدودة.

هذا الجهاز العصبي البدائي الموجود لدى الديدان هو على ما أظن أساس الأجهزة العصبية المعقدة الموجودة لدى حيوانات أخرى أكثر تطورا.

مفصليات الأرجل تملك جهازا عصبيا شبيه بالجهاز العصبي الدودي، ولكن في مفصليات الأرجل هناك اندماج للعقد العصبية في وسط البطن:

الجهاز العصبي لنحلة بالغة (B) وليرقة النحل (A)

ظاهرة الاندماج بين الحبلين العصبيين هي موجودة أيضا في الحبليات، ولكن الحبل العصبي لدى الحبليات هو ظهري وليس بطنيا كما في مفصليات الأرجل.

دماغ مفصليات الأرجل هو عبارة عن عقدة عصبية كبيرة نشأت من اندماج أزواج العقد العصبية الثلاثة الأولى (المسؤولة عن تعصيب القطع المتتالية metameres الثلاث الأولى في جهة الرأس).

دماغ مفصليات الأرجل ينقسم إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأمامي يسمى “المخ الأول”protocerebrum  وهو يتصل مع أعضاء الرؤية (الحشرات عموما لديها خمسة عيون: عينان مركبتان compound eyes تضمان عددا كبيرا من العدسات سداسية الأضلاع، وثلاث عيون بسيطة simple eyes تضم كل منها عدسة واحدة).

ichneumon was ocelli simple eyes insect
العينان المركبتان على الجانبين، والعيون البسيطة في الوسط

الجزء الثاني من دماغ مفصليات الأرجل هو “المخ الثاني” deutocerebrum الذي يتصل مع قرون الاستشعار antennae (المسؤولة عن حاسة الشم). الجزء الثالث من دماغ مفصليات الأرجل هو “المخ الثالث” tritocerebrum الذي لا أعلم ما هي وظيفته (من الممكن حسب هذا الرابط أنه مسؤول عن استقبال وإرسال البيانات إلى أعضاء الجسم الحشوية visceral).

إلى الأسفل من العقدة المخية الكبيرة هناك عقدة كبيرة مكونة من اندماج ثلاثة أزواج من العقد العصبية تسمى “العقدة تحت المريئية” subesophageal ganglion. هذه العقدة مسؤولة عن تعصيب الفكين والفم بما في ذلك الغدد اللعابية وربما حس الذوق.

أحاسيس مفصليات الأرجل هي أكثر تعقيدا من أحاسيس الديدان. وظيفة العيون البسيطة (التي تسمى “العيون الصغيرة” ocelli) هي تحديد وجود الضوء وشدته. وظيفة العيون المركبة هي رصد حركة الأجسام في محيط الحشرة (وليس “رؤية” الأجسام بالمعنى البشري للكلمة، لأن العيون المركبة هي ليست مناسبة لتكوين صورة للأجسام). قرون الاستشعار هي قادرة على الإحساس بجزيئات المواد الكيميائية المحمولة في الهواء (أي أنها قادرة على الشم). في الفم توجد على ما يبدو أعضاء حس قادرة على الإحساس بجزيئات المواد الكيميائية الذائبة (أي التذوق). جلد الحشرات يحوي مستشعرات للاهتزاز، ويبدو أن هناك في الصدر أو البطن مستشعرات قادرة على الإحساس باهتزاز جزيئات الهواء (أي أنها قادرة على السمع). هناك أيضا في أجسام الحشرات مستشعرات قادرة على الإحساس بالضغط والشد، أي أن الحشرات تملك ما يسمى بـ”الحس الذاتي” proprioception (الإحساس بالحركة في أعضاء الجسم).

التقطع المتتالي في الجهاز العصبي للفقاريات

ظاهرة التقطع المتتالي في الجهاز العصبي تظهر بشكل واضح لدى الفقاريات في العضو المسمى بالحبل الشوكي (الحبل الشوكي هو نفسه الحبل العصبي ولكن تسميته بـ”الشوكي” لدى الفقاريات تعود إلى كونه محصورا بين النتوءات العظمية “الشوكية” التي تخرج من فقرات العمود الفقري). الحبل الشوكي لدى الفقاريات يبدو في الشكل ملتحما وخاليا من العقد القطعية segmental ganglia، ولكن لو نظرنا إلى الطريقة التي يعمل بها هذا الحبل فسيتبين لنا أنه مقطّع بامتياز.

الحبل الشوكي هو مقسم وظيفيا إلى قطع تسمى spinal cord segments. كل قطعة من هذه القطع تنتج عصبين شوكيين spinal nerves (واحد من جهة اليمين وآخر من جهة الشمال). العصبان الشوكيان يخرجان من المسافات بين نواتئ الفقرات.

منظر من الجهة اليسرى للعمود الفقري يبين خروج أعصاب شوكية من بين نواتئ فقرات العمود الفقري

الأعصب الشوكية هي نفسها مقطعة وظيفيا. كل عصب شوكي يحوي قسما حسيا sensory وقسما محركا motor. الألياف العصبية الحسية المسؤولة عن نقل الإحساس من الجلد هي مقطعة وظيفيا على نحو واضح جدا.

dermatomes spinal cord segments
المناطق المخططة على الجلد تسمى “قطاعات جلدية” dermatomes. هناك عصب شوكي واحد مسؤول عن نقل الإحساس من كل قطاع جلدي على يمين الجسم وشماله. على الصورة تظهر قطع الحبل الشوكي مع أسمائها. القطع التي تبدأ أسماؤها بالحرف C هي القطع الرقبية cervical، والقطع التي تبدأ أسماؤها بالحرف T هي القطع الصدرية thoracic، والقطع التي تبدأ أسماؤها بالحرف L هي القطع القَطَنية lumbar، والقطع التي تبدأ أسماؤها بالحرف S هي القطع العَجُزِية sacral، والقطعة المسماة CX هي القطعة العصعصية coccygeal. لاحظ أن القطاعات الجلدية الأخيرة تقع حول الشرج في المنطقة التي كان يخرج منها الذيل سابقا. بالنسبة للقطاعات الجلدية الوجهية (التي تحمل الرمز V) فهي متصلة مع أعصاب تخرج من جذع الدماغ.

لو رسمنا القطاعات الجلدية dermatomes على جسم الإنسان بواسطة قلم فإن شكل جسمه سيصبح شبيها بجسم الدودة الحلقية.

الأعصاب الشوكية الحسية حافظت في وظيفتها إلى حد كبير على التقطع المتتالي الموروث من الأزمنة القديمة (من زمن ثنائيات الجانب الأولى urbilaterians). سبب ذلك هو أن جلد الإنسان لم يتكتل ويشكل أعضاء كبيرة. المبدأ الذي يعمل عليه الجلد البشري لا يختلف كثيرا عن المبدأ الذي يعمل عليه جلد الديدان.

بالنسبة للأعصاب الشوكية المحركة (المسؤولة عن تحريك العضلات) فهي لم تحافظ في وظيفتها لدى البشر على التقطع المتتالي المشاهد لدى الديدان. السبب هو أن النسيج العضلي في جسم الإنسان متكتل على هيئة عضلات كبيرة عابرة لحدود القطع المتتالية أو القطع الجسمية. الأعصاب المحركة اضطرت للتكتل لكي تجاري العضلات. نفس الأمر ينطبق على الأعصاب الحشوية visceral المسؤولة عن تعصيب الأعضاء التي تقع في جوف الجسم (هذه الأعصاب هي فروع من الأعصاب الشوكية). كثير من الأعضاء الحشوية (القلب، الرئتان، إلخ) هي عبارة عن كتل نسيجية كبيرة عابرة لحدود القطع المتتالية، ولهذا السبب أعصابها هي عبارة عن كتل من الألياف العصبية التي تعود أصولها لعدة عقد قطعية (ولكن لو نظرنا إلى الأمعاء فسنجد أن أعصابها حافظت على تقطعها المتتالي إلى حد ما، لأن الأمعاء هي أقل تكتلا من غيرها من الأعضاء الحشوية).

الأمعاء حافظت على تقطعها المتتالي سواء من حيث التروية الدموية أو التصريف اللمفي أو التعصيب أو حتى التكوين العضلي. هذا ليس مفاجئا لأن الطريقة التي تتحرك بها الأمعاء هي فعليا نفس الطريقة التي تتحرك بها الديدان. الأمعاء هي جزء من الأحشاء الفقارية حافظ إلى حد كبير على طابعه الأصلي الشبيه بالديدان

التقطع المتتالي في الدماغ الفقاري

من كل المقدمة السابقة أردت أن أصل إلى السبب الذي أدى لتكوين الأدمغة الفقارية الثلاثة (الدماغ الخلفي والأوسط والأمامي). دماغ الفقاريات هو في الأصل مجرد امتداد للحبل الشوكي، ولا بد أن دماغ الفقاريات كان في الأصل مكونا من قطع أو عقد عصبية متتالية على غرار الحبل الشوكي. لاحقا حصلت عملية التحام بين عقد دماغ الفقاريات على غرار ما هو مشاهد لدى مفصليات الأرجل. لو قارنا دماغ الفقاريات مع دماغ مفصليات الأرجل فيمكننا أن نتخيل السبب الذي أدى لالتحام العقد الدماغية المتتالية مع بعضها: هدف الالتحام كان تكوين عقد دماغية كبيرة متخصصة في التعامل مع أعضاء الحس، خاصة تلك الموجودة في الرأس (خاصة أعضاء الرؤية والشم).

نشوء الدماغ cephalization ترافق مع تجمع عدد من أعضاء الحس المهمة في منطقة الرأس. هذا الأمر لم يكن مصادفة. من الواضح أن هناك ارتباطا بين تجمع أعضاء الحس في منطقة الرأس وبين نشوء الدماغ.

القسم الأمامي من دماغ مفصليات الأرجل هو متخصص في التعامل مع العيون. القسم الثاني من دماغ مفصليات الأرجل هو متخصص في التعامل مع قرون الاستشعار المسؤولة عن حاسة الشم. القسم الثالث من دماغ مفصليات الأرجل هو مجهول الوظيفة ولكن من الممكن أن وظيفته هي ربط حسي الرؤية والشم مع الأحاسيس الأخرى القادمة من مناطق الجسم السفلى.

لو نظرنا إلى أدمغة الفقاريات البدائية فسنجد توزيعا مماثلا للوظائف:

هذا الرسم يعبر عن أدمغة الفقاريات البدائية التي تجمع عادة تحت عنوان “الأسماك”. القسم الأمامي من أدمغة الأسماك هو المخ cerebrum. شكل المخ هو معقد بعض الشيء. المخ ينشأ خلال المرحلة الجينية من القسم الأمامي من الحبل العصبي (الحبل العصبي عند الأجنة يسمى “الأنبوب العصبي” neural tube). الشكل A في الصورة التالية هو لمقطع عرضي في القسم الأمامي من الأنبوب العصبي خلال المرحلة الجنينية:

الشكل A هو مقطع في الأنبوب العصبي حيث سيتكون المخ. سقف الأنبوب العصبي (المظلل على الرسم) سوف ينفتح وهذا سوف يؤدي لنشوء شكل شبيه بالحرف V. عند الأسماك ذراعا الحرف V سوف ينثنيان نحو الخارج كما يظهر في الشكل C، وعند رباعيات الأرجل tetrapods ذراعا الحرف V سوف ينثنيان نحو الداخل كما يظهر في الشكل B.

على الصورة تظهر مناطق مرقمة بأرقام من 1 إلى 5. هذه المناطق لها أسماء. الشكل التالي يوضح أسماءها:

طبعا هذا الشكل يعبر عن مخ رباعيات الأرجل وليس الأسماك. المناطق العلوية (بالأحرى الظهرية dorsal) من المخ تسمى pallium (هذه المناطق تحمل الأرقام 3 و4 و5 على الصورة السابقة). المناطق السفلية (البطنية ventral) من المخ تسمى subpallium (الرقم 2) و septum (الرقم 1).

الأقسام المخية التي تسمى pallium هي مشتقة من النصف الظهري من الأنبوب العصبي.

معنى كلمة pallium هو الرداء الذي يرتديه البابا في هذه الصورة، أو الرداء الذي يرتديه هذا الرجل. أنا سأترجم كلمة pallium إلى “رداء” رغم أن الترجمة الأصح هي ربما “عباءة”.

على الرسومات التي في الأعلى يظهر أن “الرداء” pallium له ثلاثة أقسام:

  • الرداء الإنسي medial pallium
  • الرداء الظهري dorsal pallium
  • الرداء الوحشي lateral pallium

في التشريح كلمة “وسطي” medial (تعريبها “إنسي”) تعني الاتجاه الذي يوصل نحو المحور السهمي sagittal (أي أنها تعني اتجاه اليسار في النصف الأيمن من الجسم واتجاه اليمين في النصف الأيسر من الجسم). كلمة “جانبي” lateral (تعريبها “وحشي”) تعني الاتجاه الذي يبتعد عن المحور السهمي (اتجاه اليمين في النصف الأيمن من الجسم واتجاه اليسار في النصف الأيسر من الجسم). طبعا عندما يقال في التشريح “يمين” أو “يسار” فالمقصود هو الاتجاهات بالنسبة للكائن نفسه (مثلا “اليد اليمنى” لشخص معين هي اليد التي يراها هذا الشخص على يمينه).

الرداء الإنسي medial pallium لدى جميع الفقاريات هو مسؤول ربما عن الذاكرة (تقليديا كان بعض الناس يقولون أن الأسماك ليس لديها ذاكرة، ولكن حاليا هذا الكلام لم يعد مقبولا حسب ما أعلم).

الرداء الوحشي lateral pallium هو مسؤول عن إدراك حاسة الشم لدى جميع الفقاريات (وحاسة الذوق أيضا على ما أظن، ولكن بالنسبة للأسماك حاستا الشم والذوق هما حاسة واحدة).

الرداء الظهري dorsal pallium هو مجهول الوظيفة لدى الأسماك والفقاريات البدائية، ولكن من الممكن أن وظيفته هي الربط بين البيانات الحسية والذاكرة.

الشكل التالي يبين التوزع النهائي لمناطق الرداء في مخ سمكة عظمية (في الأسفل) ومخ حيوان قارض (من الثدييات) (في الأعلى):

القسم المخي الجنيني الذي يقع مباشرة تحت الرداء (المسمى “تحت الرداء” subpallium) يتحول في النهاية إلى مجموعة من الأعضاء المهمة التي تسمى “العقد القاعدية” basal ganglia. العقد القاعدية توجد في قلب المخ، ووظيفتها في رأيي مرتبطة بالتعلم learning (أي إضافة معلومات جديدة إلى الذاكرة).

الدراسات أثبتت قدرة الأسماك على التعلم. الأسماك تستطيع أن تتعلم ما هي الكائنات المفترسة لكي تتجنبها.

المخ لدى جميع الفقاريات (تحديدا مناطق القشرة المخية الناتجة من الرداء الوحشي lateral pallium) هو متصل مع البصلتين الشميتين olfactory bulbs اللتان تنقلان حس الشم من أعضاء الشم. حسب علمي فإن المناطق المخية المسؤولة عن إدراك حاسة الشم تقع لدى جميع الفقاريات إلى الأمام من المناطق المخية المسؤولة عن الذاكرة والتعلم. لهذا السبب لو نظرنا إلى صور أمخاخ الفقاريات فسنجد أن المناطق المخية المسؤولة عن إدراك حاسة الشم تقع دائما في مقدمة المخ.

vertebrate brains
المناطق المسؤولة عن إدراك حاسة الشم ملونة باللون الأصفر. الكائنات هي من الأعلى إلى الأسفل: lamprey (سمكة بلا فكين)، سمك القرش (سمكة غضروفية)، codfish (سمكة عظمية)، ضفدع (برمائي)، تمساح (زاحف)، إوزة (طائر)، حصان (ثديي).

من يدقق في الصورة أعلاه سوف يلاحظ أن نسبة اللون الأصفر (حاسة الشم) تقل بشكل تدريجي في أمخاخ الفقاريات كلما ازداد تطور الحيوان الفقري، وأما نسبة اللون الأزرق (المناطق المسؤولة عن الذاكرة والتعلم) فهي تزداد بشكل تدريجي كلما ازداد تطور الحيوان الفقري. عند حيوان الـ lamprey اللون الأزرق يغطي أقل من نصف المخ، أي أن معظم مخ هذا الحيوان هو مخصص لحاسة الشم.

هذا يعيدنا إلى الفكرة التي بدأت بها حديثي حول دماغ الفقاريات. أنا قارنت بين دماغ الفقاريات وبين دماغ مفصليات الأرجل، وقلت أن نشوء “الأدمغة” (الأمامية والوسطى والخلفية) كان مرتبطا بتطور الحواس. أنا أظن أن المخ (الدماغ النهائي telencephalon) نشأ لدى الفقاريات في الأصل بهدف التعامل مع حاسة الشم. وظائف الذاكرة والتعلم هي تطورات لاحقة وليست الهدف الأصلي الذي ظهر لأجله المخ.

حاليا لو نظرنا إلى مخ الإنسان فسنجد أن المناطق المسؤولة عن معالجة حاسة الشم هي صغيرة للغاية ولا تكاد تمثل شيئا من المخ، ولكن المفارقة هي أن المخ نشأ في الأصل بسبب حاسة الشم. التعامل مع حاسة الشم تطلب قدرات عصبية كبيرة نسبيا، وهذا هو ما حفز العقد العصبية القطعية (الموروثة من الحيوانات ثنائية الجانب bilaterian) على التكتل وتشكيل المخ.

brain cortex
رسم يبين موقع القشرة الشمية olfactory cortex والقشرة الذوقية gustatory cortex في المخ البشري

بنفس الطريقة يمكن في رأيي أن نفسر ظهور بقية أجزاء الدماغ لدى الفقاريات. الجزء التالي للدماغ النهائي (المخ) في دماغ الفقاريات هو الدماغ البيني diencephalon. ما هي يا ترى الوظيفة الأصلية للدماغ البيني؟

الدماغ البيني لدى الإنسان والثدييات هو من أعقد أجزاء الدماغ (وأهمها)، ولكن الوظيفة الأصلية لهذا الدماغ كانت بسيطة: الدماغ البيني كان في الأصل مسؤولا عن التعامل مع حس البصر.

أهم جزء في العينين هو الشبكية retina التي تستقبل الضوء وتحوله إلى إشارات عصبية. الشبكية تنشأ من عضوين جنينيين هما “الحويصلان البصريان” optic vesicles اللذان ينبتان من الدماغ البيني.

حس البصر ينتقل من شبكيتي العينين عبر العصبيين البصريين optic nerves ويمر عبر التصالب البصري optic chiasm ويصل إلى “الجسمين الركبيين الوحشيين” lateral geniculate bodies اللذين يقعان على الجهة الظهرية من الثلم thalamus. الجسمان الركبيان الوحشيان يرسلان بيانات حس البصر في اتجاهين:

  • الاتجاه الأهم هو نحو القشرة البصرية visual cortex في مؤخرة المخ
  • الاتجاه الأقل أهمية هو نحو “التليلتين العلويتين” superior colliculi الموجودتين على الجهة الظهرية للدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon

القشرة البصرية في المخ البشري هي اختراع حديث ظهر لأول مرة لدى الثدييات. الفقاريات السابقة للثدييات لم تكن تملك هذه القشرة. في تلك الكائنات بيانات حس البصر كانت تنتقل من المنطقة الظهرية للثلم thalamus نحو المنطقة الظهرية من الدماغ الأوسط التي تسمى “السقف” tectum.

سقف الدماغ الأوسط كان ربما أهم جزء في دماغ الفقاريات الباكرة. عند الأسماك سقف الدماغ الأوسط يشكل نصفي كرة على غرار نصفي الكرة المخيين، والمفارقة هي أن نصفي الكرة السقفيين هما أكبر من نصفي الكرة المخيين:

دماغ سمكة عظمية. لاحظ أن سقف الدماغ الأوسط tectum هو أكبر أجزاء الدماغ
منظر ظهري لدماغ سمكة عظمية

نصفا الكرة السقفيان المسؤولان عن معالجة حس البصر يسميان “الفصان البصريان” optic lobes. هذا الفصان ما زالا موجودين لدى الثدييات ولكنهما تقزما وأصبحا مجرد حدبتين صغيرتين لا يمكن رؤيتهما إلا بصعوبة.

منظر إنسي (من الداخل) للنصف الأيسر من مخ بشري. السهم يشير إلى بقايا الفص البصري في سقف الدماغ الأوسط. في الدماغ البشري هذا الفص يسمى “التليلة العلوية” superior colliculus (كلمة colliculus في اللاتينية هي تصغير لـ collis التي تعني “تلة”).

عند البشر هناك ثلاثة أماكن يتم فيها معالجة البيانات البصرية القادمة من شبكيتي العينين:

  • ظهر الثلم (الجسمان الركبيان الوحشيان lateral geniculate bodies)
  • ظهر (سقف) الدماغ الأوسط (التليلتان العلويتان superior colliculi)
  • ظهر المخ (القشرة البصرية visual cortex)

كل منطقة من هذه المناطق الثلاث تستخدم البيانات البصرية لتحقيق أهداف مختلفة. ظهر الثلم يستفيد من البيانات البصرية لتحديد مواقع الأجسام المحيطة بالإنسان ورصد حركتها في حال تحركت. سقف الدماغ الأوسط يستفيد من البيانات البصرية لتحريك عضلات الجسم في حال كانت هناك ضرورة لذلك. عند البشر السقف هو مسؤول عن عدد قليل من الحركات العضلية (هي تحديدا بعض الحركات اللاإرادية أو الأوتوماتيكية، خاصة حركات العينين)، ولكن في الفقاريات القديمة السقف كان يلعب دورا جوهريا في تحريك الجسم عموما.

القشرة البصرية عند البشر تستفيد من البيانات البصرية بطرق عديدة تدخل ضمن ما يسمى بالقدرة الاستعرافية cognition. القشرة البصرية هي المسؤولة عما يسمى بالإدراك البصري visual perception (الذي يسميه الناس “الرؤية” vision). لو تعرضت القشرة البصرية للتلف فإن الإنسان سيفقد الرؤية، أي أنه سيصبح أعمى (هذا يحدث بسبب الجلطات الدماغية أو الحوادث التي تقطع التروية الدموية عن القشرة البصرية).

ولكن حتى بعد تلف القشرة البصرية وإصابة الإنسان بالعمى فإن حاسة البصر تظل تعمل. هذا الأمر قد يبدو غريبا لكثير من الناس، لأن الناس يعتقدون أن الرؤية أو “الإدراك البصري” هو نفسه حاسة البصر.

هناك ظاهرة تسمى “الرؤية العمياء” blindsight. هذه الظاهرة تشاهد لدى الأشخاص المصابين بالعمى نتيجة لتلف القشرة البصرية. هؤلاء الناس لا يرون شيئا (لأنهم عميان)، ولكنهم رغم ذلك “يشعرون” بالأشياء الموجودة حولهم و”يشعرون” بحركة هذه الأشياء في حال تحركت.

تفسير هذه الظاهرة هو أن ظهر الثلم يقوم بمعالجة البيانات البصرية ويستفيد منها لتحديد مواقع الأشياء وحركتها. بما أن القشرة البصرية تالفة فالإنسان لا “يرى” الأشياء التي يدركها الثلم.

مفهوم “الرؤية العمياء” هو نفس مفهوم الرؤية لدى الحشرات. العيون المركبة compound eyes لدى الحشرات هي عمليا غير صالحة للرؤية، ولكن هذه العيون تفيد في تحديد مواقع الأشياء وحركتها. الحشرات تستطيع أن تحدد مواقع الأجسام من حولها وتستطيع أن تحدد بدقة ما إذا كانت هذه الأجسام متحركة أم غير متحركة، رغم أن الحشرات لا “ترى” أي شيء.

مفهوم حاسة البصر هو أوسع من مفهوم “الرؤية”. حاسة البصر هي موجودة لدى الحيوانات منذ الزمن الذي ظهرت فيه ثنائيات الجانب لأول مرة قبل مئات ملايين السنين، ولكن “الرؤية” هي شيء حديث ظهر لأول مرة لدى الثدييات.

الديدان تملك عيونا بدائية تسمح لها بتحديد وجود الضوء من عدمه، والحشرات تملك أيضا هذا النوع من العيون. الحشرات تملك نوعين من العيون، عينان مركبتان وثلاث عيون بسيطة.

العيون البسيطة محاطة بدائرة
العيون البسيطة ظاهرة خلف قرني الاستشعار

أنا أظن أن الثلم thalamus (والدماغ البيني عموما) نشأ لأول مرة بهدف التعامل مع عيون بدائية شبيهة بالعيون المركبة لدى الحشرات. هذه العيون لم تكن قادرة على الرؤية ولكنها كانت قادرة على تحديد مواقع الأجسام وحركتها.

في الحقيقة هناك دلائل على أن الدماغ البيني القديم كان يتعامل أيضا مع عيون بسيطة شبيهة بالعيون البسيطة الموجودة لدى الحشرات (التي تدرك شدة الضوء). من يريد أن يتوسع في هذا الموضوع يمكنه أن يرجع إلى هذا الرابط.

العين البسيطة (تسمى العين الجدارية parietal eye) هي موجودة لدى الكثير من الفقاريات (الأسماك، البرمائيات، الزواحف)، وهي تؤدي نفس وظيفة العيون البسيطة لدى الحشرات.

العين الجدارية parietal eye هي الدائرة الفضية الصغيرة بين عيني الضفدع
العين الجدارية بين عيني سحلية

“العين الجدارية” أو “العين الثالثة” تتصل بشكل مباشر مع عضو يسمى “ما فوق الثلم” epithalamus. هذا العضو يقع على الجهة الظهرية للثلم وهو جزء من الدماغ البيني. “ما فوق الثلم” يتصل مع “الغدة الصنوبرية” pineal gland التي تقع في مؤخرة الثلم.

الغدة الصنوبرية تلعب دورا في تنظيم مواعيد النوم والاستيقاظ، أو ما يسمى “الإيقاع اليومي” circadian rhythm. قديما كانت الغدة الصنوبرية تعتمد على العين الجدارية لتقدير شدة ضوء الشمس. عندما يكون الضوء الساقط على العين الجدارية شديدا فهذا يعني أن الوقت هو نهار، وبالتالي الحيوان يجب ألا ينام (إذا كانت حياته نهارية)، وعندما تنخفض شدة الضوء الساقط على العين الجدارية فهذا يعني أن الوقت هو ليل، وبالتالي الحيوان يجب أن ينام. الغدة الصنوبرية تلعب أيضا دورا في تنظيم درجة حرارة الجسم.

pineal
منظر إنسي (من الداخل) لنصف الكرة المخية الأيمن

العين الجدارية اختفت من عند الثدييات، والغدة الصنوبرية عند الثدييات هي حسب علمي عضو قليل الأهمية أو شبه أثري vestigial. تنظيم الإيقاع اليومي ودرجة الحرارة عند الثدييات يتم بالدرجة الأولى في منطقة “ما تحت الثلم” hypothalamus، التي هي منطقة مهمة تقع على الجانب البطني الأمامي من الثلم (وتتصل مع الجهاز الغدي الداخلي endocrine system عبر تحكمها بالغدة النخامية pituitary gland). “ما تحت الثلم” يعتمد على إشارات بصرية واردة مع العصبين البصريين لتقدير شدة ضوء الشمس. عينا الثدييات الجانبيتان تطورتا وأصبحتا قادرتين على تحديد شدة ضوء الشمس، وبالتالي لم تعد هناك حاجة للعين الجدارية (التي تسمى أيضا “العين الصنوبرية” pineal eye).

الخلاصة هي أن الدماغ البيني diencephalon كان في الأصل يشرف على نوعين من العيون: العين الجدارية والعينان الجانبيتان. هذه في رأيي (وفي رأي غيري) هي الوظيفة الأصلية للدماغ البيني التي أدت لنشوئه من الأساس.

بالنسبة للدماغ الأوسط midbrain) mesencephalon) فهو يؤدي عددا كبيرا من الوظائف في الدماغ البشري، وما لفتني في وظائفه هو أنها معقدة وذات أهمية محورية لعمل الدماغ البشري عموما. أنا لا أظن أن الوظيفة الأصلية للدماغ الأوسط كانت مجرد الإشراف على حاسة معينة. في رأيي أن الدماغ الأوسط كان منذ البداية مسؤولا عن ربط الإشارات الحسية مع الإشارات التحريكية بهدف تحفيز السلوك لدى الحيوان، أي أنه كان يلعب دورا شبيها بدور “اللوحة الأم” motherboard في أجهزة الكومبيوتر. ولكن هذا التشبيه قد تكون فيه مبالغة، لأننا لو نظرنا إلى مفصليات الأرجل مثلا فسنجد أن جهازها العصبي يخلو من “لوحة أم”. الجهاز العصبي لدى مفصليات الأرجل والديدان هو إلى حد كبير غير مركزي. الحشرة يمكنها أن تعيش لفترة طويلة حتى بعد إزالة دماغها (عقدها المخية cerebral ganglia).

الجهاز العصبي لدى الحيوانات هو من الأصل غير مركزي. تركيب أجسام الحيوانات هو قائم من الأساس على اللامركزية. السبب بسيط وأنا شرحته في الأعلى بشكل مفصل: أجسام الحيوانات تكونت وفق مبدأ “التكتل ثم التخصص”. الحياة في الأصل كانت تقوم على مبدأ الخلية الواحدة. بعد ذلك ظهرت الكائنات متعددة الخلايا بسبب تكتل الخلايا الأحادية مع بعضها. في أجسام الكائنات متعددة الخلايا حدثت عملية تخصص: كل مجموعة من الخلايا صارت تؤدي وظيفة محددة، وهذا ما أدى إلى نشوء الأنسجة الخلوية المتخصصة (نسيج عضلي ونسيج عصبي ونسيج جلدي إلخ). بعد ذلك ظهرت الحيوانات ذات التقطع المتتالي metamersim. المبدأ الذي قامت أجسام هذه الحيوانات على أساسه هو نفس مبدأ التكتل آنف الذكر—أجسام هذه الحيوانات هي عبارة عن تكتل لقطع متتالية metameres ذات تركيب نسيجي متماثل. الخطوة التالية هي التخصص مجددا—كل مجموعة من القطع المتتالية كونت “مرتبا” tagma يؤدي وظائف خاصة.

أجسام الحيوانات نشأت وفق طريقة لا علاقة لها بالمركزية. لا توجد جهة مركزية معينة أشرفت على تطوير أجسام الحيوانات وقررت أن توزع الأدوار على أجزاء الجسم المختلفة.

فكرة “الإدارة المركزية” هي في رأيي فكرة لا علاقة لها بعالم الطبيعة. هذه الفكرة هي من بنات أفكار البشر. هذه الفكرة ظهرت خصوصا بعد ظهور المجتمعات الإقطاعية، ونشوؤها في رأيي كان مرتبطا بالجهل وليس فقط بنوازع التسلط لدى البشر.

البشر بجهلهم لطالما اعتقدوا أنهم يستطيعون أن يسيروا الطبيعة وفق هواهم. كل الأفكار المركزية تقوم على منطق التحكم بالطبيعة أو البيئة. البشر كثيرا ما يكرهون العالم الذي يعيشون فيه ويعتقدون أنه فوضوي أو غير عادل إلخ، ولهذا السبب هم كثيروا ما يقررون أن يفرضوا سيطرتهم على الطبيعة وأن يسيروها وفق هواهم.

المراقبة العلمية للطبيعة التي نعيش فيها تبين أنها معقدة للغاية وتفوق بكثير قدرتنا على الإدراك والفهم. نحن بالكاد نفهم ما يجري من حولنا (سواء من الناحية البيولوجية أو المناخية أو الاجتماعية أو الاقتصادية إلخ). معظم العلوم التي تدرس الطبيعة والبيئة والمجتمع هي علوم قاصرة ولا تقدم فهما كاملا وأكيدا لما يجري من حولنا. نحن لسنا قادرين على فهم التفاعلات والتغيرات المعقدة التي تجري في الطبيعة من حولنا، فما بالك بأن نحاول التحكم بالطبيعة وتسييرها وفق عاطفتنا.

البشر بجهلهم لم يستوعبوا ذلك. هم في الغالب انطلقوا من أساس عاطفي وظنوا أن مَلِكهم يستطيع أن يتحكم بالطبيعة كما يتحكم بأفراد المجتمع (لأن الملك هو شخص ذو سلطة مطلقة، أو هو إله كما كان القدماء يعتقدون).

ظهور الأفكار المركزية في الإدارة هو مرتبط تاريخيا بظهور التقديس والتأليه للملوك. الحضارات الأولى التي قامت في الشرق الأوسط كانت تربط بين عمل الحكومات المركزية وعمل الآلهة. بالنسبة لهم قرارات الحكومات كانت قرارات إلهية مدعومة من الآلهة. ليس من الغريب إذن أن الفكر المركزي في الإدارة تعاظم لديهم إلى درجة أنه في النهاية أدى لانهيار حضاراتهم (الحضارة السومرية انهارت في حدود عام 2000 قبل الميلاد بسبب النظام الإداري والاقتصادي الفاشل الذي كان قائما على المركزية المفرطة).

الدول الاشتراكية التي رأيناها في القرن العشرين هي مثال آخر على فشل النظام المركزي. الاتحاد السوفييتي كان دولة هائلة الحجم والقدرات، ولكنه انهار في نهاية الثمانينات على نحو مفاجئ ومضحك.

النظام السوري بأفكاره المركزية والاشتراكية جعل سورية إحدى أفشل وأسوأ الدول في العالم.

الإمبراطوريات العظيمة التي استمرت لقرون عديدة كانت تقوم على اللامركزية. الإيرانيون والرومان والعرب كانوا يطبقون اللامركزية في الإدارة والثقافة، وهذا هو سبب ازدهار حضاراتهم وتأثيرها الواسع. أيضا في عصرنا الحالي الولايات المتحدة الأميركية هي مثال ممتاز على الدولة الناجحة والمرنة، لأنها قائمة على اللامركزية والحرية.

الفكر المركزي التسلطي هو مخالف للطبيعة. لا يوجد في الطبيعة التي من حولنا أي شيء قائم على الإدارة المركزية المتسلطة. الطبيعة هي نظام معقد للغاية ولا يمكن لأية جهة مركزية أن تديرها، فما بالك بإنسان أحمق يظن أنه قادر على إدارة الطبيعة وفق هواه ونظرياته؟

لنعد إلى الموضوع الأصلي. أنا كنت أريد أن أقول أن الجهاز العصبي الحيواني هو من الأصل قائم على اللامركزية. لا يوجد في الجهاز العصبي للحيوانات منطقة مركزية وظيفتها الإشراف على بقية مناطق الجهاز العصبي. من يعتقد بوجود هكذا منطقة هو ببساطة لا يفهم الجهاز العصبي. لا يوجد في عالم الطبيعة شيء اسمه “إدارة مركزية”. هذه الفكرة هي مجرد خرافة بشرية. لا يوجد شيء في الطبيعة يعمل وفق هذه الآلية الخرافية. لو كان الجسم البشري يعمل وفق آلية الإدارة المركزية لما كان البشر استمروا ولكانوا انقرضوا منذ اليوم الأول لظهورهم.

الجسم الحيواني والبيئة المحيطة به هي أمور معقدة جدا ويحكمها عدد كبير من المتغيرات. الطريقة الوحيدة الممكنة لإدارة الجسم الحيواني هي الأسلوب غير المركزي الفضفاض، وهذا هو المطبق فعلا في الطبيعة.

الفهم الصحيح للجهاز العصبي هو أنه مجموعة من العناصر المتكتلة التي يؤازر بعضها بعضا. كل عنصر من هذه العناصر هو متخصص في وظيفة معينة، ولكن هذا لا يعني أن هناك عناصر “فوق” عناصر أخرى. لا يوجد في الجهاز العصبي ملوك وأمراء أو أحزاب اشتراكية تقدمية. هناك فقط أجزاء متخصصة تتعاون مع بعضها.

لهذا السبب عند الحديث عن الجهاز العصبي أنا لا أميل إلى استخدام مصطلح “اللوحة الأم” ونحو ذلك من المصطلحات المبنية على الثقافة البشرية. في الجهاز العصبي لا يوجد أم وأب. هناك في الجهاز العصبي أجزاء وظيفتها الربط association بين البيانات القادمة من مناطق مختلفة في الجهاز العصبي. الدماغ الأوسط midbrain) mesencephalon) هو أحد هذه الأجزاء، وهو ربما أول منطقة في الجهاز العصبي لعبت هذا الدور الهام. من الممكن أن الدور الأصلي للدماغ الأوسط لدى الفقاريات هو نفس دور الدماغ الثالث لدى الحشرات.

من الممكن أن الدماغ الأوسط لدى الفقاريات القديمة كان يلعب دورا في إنشاء السلوك. الدماغ الأوسط يحصل على البيانات البصرية والشمية من الدماغ الأمامي، وهو يحصل على البيانات الحسية القادمة من المناطق السفلى من الجهاز العصبي. بالتالي هو في موقع ممتاز لكي يربط البيانات ببعضها ويقرر تحفيز السلوك من عدمه. في الحقيقة الدماغ الأوسط ما يزال يؤدي هذا الدور عند البشر، ولكن الإشارات التي ينتجها الدماغ الأوسط عند البشر هي ذات طابع فضفاض. علماء النفس والجهاز العصبي يطلقون على هذه الإشارات مسمى “الحافز” motivation أو “الدافع” drive أو “الحاجة” need. هذه الكلمات هي وصف لوظيفة الدماغ الأوسط. الدماغ الأوسط هو الذي “يحفز” أو “يدفع” أو “يحيج” الإنسان للقيام بالسلوك (مهما كانت طبيعة السلوك). إذن دور الدماغ الأوسط هو محوري بالنسبة للسلوك البشري. بدون الحافز أو الدافع أو الحاجة فإن الإنسان سيتجمد ولن يتفاعل مع بيئته (وهو ما يحصل بالفعل في بعض الأمراض التي تصيب الدماغ الأوسط، من قبيل مرض باركنسون Parkinson’s disease). هذه الوظيفة التي يؤديها الدماغ الأوسط هي فضفاضة المعنى، ولكنها رغم ذلك محورية لعمل الجهاز العصبي. هذا إن دل على شيء فهو يدل على مدى بدائية هذه الوظيفة وقدمها.

على الأرجح أن وظيفة الدماغ الأوسط كانت محددة أكثر لدى الحيوانات الفقارية القديمة. في تلك الحيوانات الدماغ الأوسط كان ربما “ينشئ” أو “يبدأ” السلوك وليس “يحفز” السلوك. هناك فرق بين “البدء” بالسلوك و”تحفيز” السلوك. التحفيز يعني وجود جهة أخرى يجب أن تتخذ القرار النهائي. في الدماغ البشري هذه الجهة هي القشرة المخية. القشرة المخية تطورت لدى الثدييات على نحو كبير وظهرت فيها مناطق واسعة تؤدي وظيفة الربط association بين البيانات. هذا التطور في القشرة المخية همش دور الدماغ الأوسط وحوله من “منشئ” أو “بادئ” للسلوك إلى “محفز” أو “دافع” له.

بما أن الدماغ الأوسط كان ربما هو صاحب قرار السلوك في الحيوانات القديمة فهذا يفسر لماذا كان حجمه كبيرا في تلك الحيوانات وكان شكله يشبه شكل المخ في دماغ الثدييات. هو كان يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها المخ عند الثدييات: هو كان يقرر السلوك.

في المقال القادم سأكمل بأسلوب فيه توضيح أكثر.

الدماغ البشري (1)

تكوين الدماغ البشري معقد، وآلية عمله أعقد، ولكنني في هذا الموضوع سأحاول أن أبسط الأمور.

أنا افترضت في مقال سابق أن آلية عمل الدماغ من حيث المبدأ هي نفس آلية عمل الكومبيوتر، أي أن مكونات الدماغ الأساسية هي ما يلي:

  • أجهزة الإدخال والإخراج
  • الذاكرة
  • المعالج

بالإضافة إلى هذه المكونات هناك شيء مهم يجب أن نضيفه هو مصدر الطاقة power supply. مصدر الطاقة لدى أجهزة الكومبيوتر هو تيار الكهرباء. بالنسبة للدماغ البشري فالمسألة فيها بعض التعقيد، لأن الدماغ هو موجود داخل جسم حي، والدماغ نفسه مكون من خلايا حية.

جهاز الكومبيوتر هو مكون من قطع غير حية. هذه القطع لا تحتاج للطاقة لكي تستمر في الوجود. جهاز الكومبيوتر يحتاج الطاقة فقط لكي يعمل، أي أن الطاقة الكهربائية عمليا لا تغذي جهاز الكومبيوتر ولكنها تغذي الوظائف التي يقوم بها جهاز الكومبيوتر. من الممكن أن نفصل الطاقة كليا عن جهاز الكومبيوتر ورغم ذلك فإنه لن يتلف. كل ما سيحصل هو أن وظائفه ستتوقف.

الدماغ البشري هو مكون من خلايا حية (هي الخلايا العصبية التي تسمى “نيورونات” neurons). هذه الخلايا تحتاج للطاقة بشكل دائم فقط لكي تستمر في الوجود. لو أننا قطعنا الطاقة عن الدماغ فهو سيتلف خلال دقائق. إذن الدماغ البشري يحتاج الطاقة لكي يوجد وليس فقط لكي يعمل.

الكومبيوتر فيه دارة واحدة كبيرة تغذيه بالطاقة الكهربائية، وهذه الدارة تعطي عددا من الدارات الفرعية الأصغر. الدماغ البشري يعمل وفق مبدأ مشابه، ولكن الفرق هو أن الدماغ البشري يحوي عددا هائلا من الدارات الفرعية هو تقريبا 100 مليار دارة. هذا العدد هو عدد الخلايا العصبية المكونة للجهاز العصبي. كل خلية عصبية (وكل خلية حية) تحوي دارة أو دارات خاصة لإنتاج الطاقة اللازمة لعمل الخلية. سبب هذا النظام المعقد هو أن الكائنات الحية كانت في الأصل تتكون من خلية واحدةunicellular . لاحقا ظهرت الكائنات متعددة الخلايا multicellular عن طريق التكاثر الخلوي والالتصاق بين الخلايا الناتجة. إذن الكائن متعدد الخلايا هو في الأصل مجموعة من الكائنات الملتصقة مع بعضها والمتحدة وظيفيا. هذا المبدأ يشبه نوعا ما مبدأ التوائم السيامية.

فكرة الكائنات متعددة الخلايا تشبه من حيث المبدأ فكرة التوائم السيامية

مصدر طاقة الخلايا الحيوانية (الخلايا المكونة لأجسام الحيوانات) هو الطاقة الكيميائية المختزنة في جزيئات المركبات العضوية organic. مصدر المركبات العضوية هو الخلايا الحية (سواء النباتية أم الحيوانية أم غير ذلك). الحيوانات تعتمد في غذائها بشكل كامل على المركبات العضوية المكونة في أجسام الكائنات الحية الأخرى. الخلايا الحيوانية تقوم بتحطيم الجزيئات العضوية الكبيرة (السكريات والبروتينات والدهون) إلى جزيئات صغيرة (عملية التحطيم تسمى “تفاعلات الهدم” catabolism). عملية التحطيم تؤدي إلى تحرير الطاقة الكيمائية المختزنة في الجزيئات العضوية الكبيرة. هذه الطاقة تستخدم لتغذية تفاعلات كيميائية من أنواع أخرى (منها مثلا “التفاعلات البنائية” anabolism). إذن ما يحصل داخل الخلايا الحية هو أشبه بدورة كيميائية يتم خلالها تحطيم جزيئات عضوية كبيرة للحصول على الطاقة واستخدام هذه الطاقة لتغذية تفاعلات عضوية أخرى تفيد الخلايا الحية والكائن الحي. هذه الدورة هي عمليا “الحياة”. أي جسم يحوي في داخله دورة كيميائية كهذه الدورة ويملك القدرة على التكاثر هو “كائن حي”.

بالنسبة للخلايا العصبية فهي تعتمد بشكل أساسي على الجزيئات السكرية كمصدر للطاقة—تحديدا هي تعتمد على جزيئات سكر الغلوكوز glucose. جزيئات الغلوكوز تصل إلى الخلايا العصبية عبر الدم (الدورة الدموية). لو انقطع وصول جزيئات الغلوكوز إلى الخلايا العصبية لأي سبب (مثلا توقف الدورة الدموية) فهذا سيؤدي إلى تلف الخلايا العصبية وتوقفها عن العمل بشكل نهائي خلال دقائق قليلة. لا يمكن بعد ذلك إعادة الحياة إلى الخلايا العصبية أو تعويضها بخلايا أخرى (لأن الخلايا العصبية هي غير قابلة للتجدد عبر الانقسام، بخلاف خلايا الجلد مثلا).

أجهزة الإدخال والإخراج

أجهزة الإدخال المتصلة مع الدماغ هي “أعضاء الحس” sense organs. هذه الأعضاء توصل البيانات من خارج الدماغ إلى داخله. شعبيا هناك خمسة أعضاء حسية مشهورة هي العينان والأذنان والأنف والفم والجلد. هذا التقسيم هو ليس دقيقا من الناحية العلمية ولكنه يفيد في توضيح ما أقصده بأجهزة الإدخال input devices.

أعضاء الحس تتصل مع الدماغ بواسطة أعصاب nerves تسمى “الأعصاب الحسية” sensory nerves. الأعصاب هي أشبه بالأسلاك الكهربائية التي تصل أجهزة الإدخال مع الكومبيوتر.

أجهزة الإخراج توصل توصل البيانات من داخل الدماغ إلى خارجه. هناك الكثير من أجهزة الإخراج المتصلة مع الدماغ، ولكن جميع هذه الأجهزة يمكن اختصارها بعبارتين: أعضاء الحركة وأعضاء الإفراز (التي تفرز جزيئات كيميائية).

مثلا الجهاز التنفسي هو من أجهزة الإخراج لأن الدماغ يستخدمه لإنتاج الكلام (الكلام يخرج من الفم ولكن آلية إنتاجه تتطلب مشاركة جميع أعضاء الجهاز التنفسي). آلية إنتاج الكلام في الجهاز التنفسي تعتمد بشكل كامل على حركة الهواء وتقلص العضلات في السبيل التنفسي (السبيل الصوتي). حركة الهواء في السبيل التنفسي تحدث بسبب تقلص عضلات جدار الصدر والحجاب الحاجز diaphragm، وبالتالي المحصلة هي أن إنتاج الكلام في الجهاز التنفسي يحدث بسبب تقلص العضلات.

أيضا لغة الإشارة (التواصل عن طريق حركات اليدين وتعابير الوجه) تعتمد على تقلص العضلات.

الدماغ يقوم بتقليص العضلات عن طريق أعصاب تسمى “الأعصاب المحركة” motor nerves.

بالإضافة إلى تقليص العضلات الدماغ يقوم أيضا بإخراج البيانات أو الرسائل على شكل جزيئات كيميائية. هذه الجزيئات تسمى “نواقل عصبية” neurotransmitters. النواقل العصبية تصنع داخل الخلايا العصبية وهي تستخدم داخل الدماغ نفسه في نقل الإشارات من خلية عصبية إلى خلية عصبية أخرى. الدماغ يستخدم هذه النواقل أيضا للتأثير في أعضاء الجسم الأخرى. الأعصاب التي تنقل النواقل العصبية إلى خارج الجهاز العصبي تسمى أحيانا “الأعصاب الإفرازية” secretory nerves.

الدماغ أيضا يقوم بتصنيع بعض الهرمونات hormones وطرحها في الدم بشكل مباشر (عن طريق الفص الخلفي من الغدة النخامية pituitary gland). الهرمونات هي عبارة عن جزيئات عضوية معقدة (بعضها ذات طبيعة بروتينية وبعضها ذات طبيعة دهنية) يتم إفرازها من أعضاء تسمى الغدد glands وتنتقل عبر الدم وتحدث تأثيرات في أعضاء الجسم.

لو درسنا جميع وسائل الإخراج التي يستخدمها الدماغ فسنجد أنها في المحصلة تعتمد على تقلص العضلات أو على إفراز النواقل الكيميائية. إشارات تقلص العضلات تنقل عبر الأعصاب المحركة، وإشارات الإفراز تنقل عبر الأعصاب الإفرازية.

مجموع الأعصاب الحسية والمحركة والإفرازية يسمى “الجهاز العصبي المحيطي” peripheral nervous system. هذه التسمية هي عمليا مجرد مرادف لكلمة “أعصاب”.

الجهاز العصبي المركزي

“الجهاز العصبي المركزي” central nervous system هي تسمية تشمل كلا من الدماغ brain والحبل الشوكي spinal cord (الحبل الشوكي يسمى في معظم لغات العالم “النخاع الشوكي”، ولكن هذه التسمية نادرة الاستخدام في الإنكليزية).

الجهاز العصبي المركزي هو معقد التكوين، والسبب هو أن هذا الجهاز لم يتكون خلال يوم وليلة ولكنه تطور تدريجيا خلال مئات ملايين السنين. الجهاز العصبي المركزي هو أعقد شيء في جسم الإنسان، وهذا التعقيد هو الميزة الأساسية التي تميز الإنسان عن بقية الحيوانات.

لتسهيل فهم الجهاز العصبي المركزي يجب في رأيي أن نفهم تاريخ هذا الجهاز وكيف تطور خلال مئات ملايين السنين. الجهاز العصبي هو مكون من أنسجة عصبية (النسيج tissue هو عبارة عن عدد كبير من الخلايا المتشابهة الملتصقة مع بعضها والتي تؤدي وظيفة واحدة). النسيج العصبي مكون من خلايا عصبية (نيورونات neurons). الخلية العصبية هي خلية متخصصة في نقل الإشارات العصبية.

أنواع الأنسجة الخلوية لدى الحيوانات الفقارية vertebrates (ومنها الإنسان)

كل الخلايا الحية التي تحوي نواة nucleus (الخلايا “حقيقية النواة” eukaryote) هي مشحونة كهربائيا. السبب هو وجود أنزيمات في أغشية هذه الخلايا تعمل على نقل بعض الأيونات ions (الجزيئات المشحونة كهربائيا) من داخل الخلية إلى خارجها (من السائل داخل الخلوي intracellular fluid إلى السائل خارج الخلوي extracellular fluid). هذا النوع من الأنزيمات يسمى “مضخات الأيونات” ion pumps. هذه المضخات ظهرت لأول مرة مع ظهور الخلايا ذات النواة eukaryotes قبل حوالي 1500 مليون عام.

في الأحوال الطبيعية (مثلا في الخلايا البدائية التي لا تملك نواة prokaryotes) الشحنة الكهربائية الإجمالية للسائل داخل الخلوي يجب أن تكون مساوية للشحنة الكهربائية الإجمالية للسائل خارج الخلوي، لأن الانتشار الجزيئي molecular diffusion يعمل على تحقيق التوازن الكهربائي-الكيميائي electrochemical equilibrium على جانبي غشاء الخلية. مضخات الأيونات تعمل على تخريب هذا التوازن. مثلا مضخات أيون الكالسيوم Ca2+ (التي يعتقد أنها أقدم أنواع المضخات الأيونية) تعمل على نقل أيون الكالسيوم من داخل الخلية إلى خارجها بشكل أعمى وبغض النظر عن تركيزه في الداخل والخارج. هذه المضخات لا تتأثر بالانتشار الجزيئي بل هي تقاومه وتعمل ضده. هي تستفيد من الطاقة الكيميائية الناتجة من تفاعلات الهدم catabolism وتسخر هذه الطاقة لمقاومة الانتشار الجزيئي وخلق وضع غير متوازن على جانبي غشاء الخلية.

مقطع عرضي في غشاء خلوي تظهر فيه مضخات أيونية (بروتينات ناقلة carrier proteins)

بعد مضخات أيون الكالسيوم ظهرت أنواع أخرى من المضخات تضخ أيون البوتاسيوم K+. مضخات أيوني الكالسيوم والبوتاسيوم تهيمن لدى الحيوانات المكونة من خلية واحدة (“الحيوانات البدائية” protozoans). الحيوانات الأكثر تعقيدا تعتمد بشكل أكبر على مضخات أيون الصوديوم Na+ (المهمة لعمل الخلايا العصبية). مضخات أيون الصوديوم ظهرت لأول مرة لدى مجموعة من الحيوانات تسمى “الحيوانات الخيطية” filozoans. هذه الحيوانات كانت في الأصل وحيدة الخلية unicellular (مكونة من خلية واحدة)، ولكن أحد فروعها تطور قبل أكثر من 650 مليون عام وأصبح متعدد الخلايا multicellular (أي أنه يصبح يتكون من أنسجة tissues). هذا الفرع متعدد الخلايا يسمى “الحيوانات” animals (باللاتينية animalia)، ويسمى أيضا “الحيوانات التالية” metazoans. الحيوانات animals هي حسب علمي أول مجموعة ظهرت لديها الخلايا العصبية بالمعنى الحقيقي للكلمة.

تطور الجهاز العصبي لدى الحيوانات animals هو مرتبط بمدى اعتمادها على مضخات أيون الصوديوم. مثلا الحيوانات المسماة “الإسفنجيات” poriferans (والتي هي من أكثر أنواع الحيوانات بدائية) تعتمد بشكل كبير على مضخات أيون الكالسيوم، وهي لا تملك جهازا عصبيا حقيقيا. الحيوانات المسماة “المِشْطِيات” ctenophores و”اللاسعات” cnidarians تعتمد بشكل أكبر على مضخات أيون الصوديوم، وهي تملك جهازا عصبيا، ولكن هذا الجهاز هو مكون من نسيج عصبي بدائي يسمى “شبكة عصبية” nerve net. الشبكة العصبية هي عبارة عن مجموعة من الخلايا العصبية المتصلة مع بعضها على شكل شبكة، ولكنها لا تحوي دماغا أو أية منطقة مركزية وظيفتها الإشراف على عمل الشبكة.

حيوان إسفنجي poriferan
ctenophore
حيوان مشطي ctenophore
حيوان لاسع cnidarian
حيوان لاسع cnidarian
شبكة عصبية في حيوان لاسع

المرحلة التالية في تطور الحيوانات كانت ظهور الحيوانات “ثنائية الجانب” bilaterians. أجسام هذه الحيوانات تتميز بوجود رأس وفم وشرج، وداخل الجسم يوجد نسيج عصبي ممتد على طول الجسم على شكل حبل يسمى “الحبل العصبي” nerve cord. من هذا الحبل تخرج الأعصاب نحو بقية مناطق الجسم.

تصوران افتراضيان لأول حيوان ثنائي الجانب urbilaterian

الحيوانات الحبلية chordates هي فرع من ثنائيات الجانب bilaterians. في هذه الحيوانات حصل تطور مهم يتعلق بتوزع مضخات الصوديوم في الخلايا العصبية (مضخات الصوديوم صارت تتركز في جانب واحد من الخلية العصبية). هذا التطور ترافق مع بروز نزعة نحو “الرأسنة” cephalization (مشتقة من كلمة “رأس” cephalē). المقصود بالرأسنة هو أن الحبل العصبي (الذي له شكل أنبوب) صار يميل إلى الانتفاخ في جهة واحدة من الجسم (هي الرأس). هذا الانتفاخ هو أساس فكرة “الدماغ” الذي ظهر لاحقا.

تصور افتراضي لجسم حيوان حبلي بدائي. كلمة gut تعني “أمعاء”، وكلمة anus تعني “شرج”
مخطط لجسم حيوان حبلي بدائي يعيش حاليا اسمه lancelet أو amphioxus (باللاتينية Branchiostoma). الحبل العصبي nerve cord يظهر باللون الأصفر. الرقم 1 يشير إلى الانتفاخ الدماغي في منطقة الرأس، والرقم 17 يشير إلى الأعصاب. الرقم 2 يشير إلى الحبل الظهري notochord (الذي هو دعامة الجسم بدلا من العمود الفقري الموجود لدى الفقاريات). جهاز الدوران الدموي يظهر باللون الأحمر. الرقم 15 يشير إلى الغدد التناسلية (المبايض أو الخصى). الرقم 19 يشير إلى الكبد. العضو ذو اللون الأخضر هو الفم. المناطق ذات اللون البني-الأخضر هي الجهاز الهضمي (يبدأ من الفم وينتهي في الشرج). على ما يبدو فإن جهاز الإخراج البولي لا يظهر على هذا الرسم.

ما يلي صور أخرى لنفس الحيوان lancelet (هذا الحيوان ينتمي للحبليات الرأسية cephalochordates التي هي شكل بدائي من الحبليات ما زال يعيش اليوم في معظم بحار العالم):

Lancelet

كلمة lancelet هي تصغير لـ lancet التي تعني “مبضع جراحي”.

الحيوانات الفقارية vertebrates تطورت من حيوان حبلي بدائي شبيه بـ lancelet. هذا التطور حصل قبل أكثر من 500 مليون عام. الفرق الأساسي بين الفقاريات والحبليات غير الفقارية هو أن الفقاريات تملك عمودا فقاريا vertebral column يشكل دعامة عظمية للظهر بدلا من الحبل الظهري notochord (بقايا الحبل الظهري تشكل لدى الفقاريات ما يسمى “النواة اللبية” nucleus pulposus التي توجد داخل “الأقراص بين الفقارية” intervertebral disc).

مقطع في العمود الفقري تظهر فيه “النواة اللبية” nucleus pulposus باللون البنفسجي. في هذا الرسم النواة اللبية هي في حالة فتق (متمددة إلى خارج مكانها الطبيعي) وهي تضغط على العصب المتصل مع الحبل الشوكي. هذه الحالة المرضية تسمى “فتق النواة اللبية” nucleus pulposus herniation أو “فتق القرص الشوكي” spinal disc herniation، وهي نفس الحالة التي يسميها الناس “مرض الديسك”

الفقاريات تصنف تقليديا ضمن خمس مجموعات:

  • الأسماك fish
  • البرمائيات amphibians
  • الزواحف reptiles
  • الطيور birds
  • الثدييات mammals

هذا التصنيف هو تصاعدي من الأقل تطورا نحو الأكثر تطورا. الأسماك هي أقل الفقاريات تطورا، والثدييات هي أكثر الفقاريات تطورا.

هذا التصنيف هو مجرد تصنيف شعبي وليس تصنيفا علميا، بمعنى أنه لا يعبر عن شجرة تطورية صحيحة. الباحثون كانوا يعلمون ذلك منذ زمن بعيد وكانوا يحاولون أن يرسموا شجرة تطورية علمية (phylogenetic)، وهم تمكنوا من تحقيق تقدم كبير مؤخرا بسبب الدراسات الجزيئية والجينية، ولكن المشكلة هي أن الأشجار التي يرسمونها هي معقدة للغاية. أنا لن أنقل الأشجار التي يرسمونها ولكنني سأعرض شجرة مبسطة:

vertebrate evolution tree

هذه الشجرة هي مختصرة جدا ولكنها رغم ذلك مفيدة لفهم السياق العام لتطور الفقاريات. الفقاريات البدائية كانت كلها تعيش في الماء (كل أو معظم الحيوانات البدائية كانت تعيش في الماء). كلمة “الأسماك” fish هي ليست تصنيفا علميا صحيحا لأن هذه الكلمة تشمل أنواعا مختلفة من الفقاريات البدائية التي تطورت بشكل مستقل وفي أزمنة مختلفة. ما يسمى بـ “الأسماك” هو عمليا كل الفقاريات التي تعيش في الماء.

أكثر الفقاريات بدائية هي على ما أظن الكائنات التي تسمى “الأسماك بلا فكين” jawless fish. هذه التسمية هي ليست تصنيفا علميا ولكنها تسمية تشمل بعض الفقاريات البدائية للغاية من قبيل الحيوان المسمى lamprey. هذا الحيوان هو طفيلي يعيش في البحر ويتغذى من امتصاص دماء الأسماك (وفي بعض الأحيان يتسبب بنفوق أعداد كبيرة منها).

lamprey
الـ lamprey له رأس وعينان ولكنه لا يملك فكين
سمكة ضحية للـ lamprey

هناك حيوان شبيه بالـ lamprey ولكنه أكثر بدائية منه اسمه hagfish. هذا الحيوان لا يملك عمودا فقريا حقيقيا، ولهذا السبب بعض الباحثين يرفضون تصنيفه ضمن الفقاريات.

hagfish

الأسماك بلا فكين كـ lamprey و hagfish هي ربما أكثر الكائنات المعاصرة شبها بالفقاريات الأولى التي ظهرت قبل حوالي 500 مليون عام.

الأسماك الغضروفية cartilaginous fish تأتي في المرتبة الثانية من حيث التطور بعد الأسماك بلا فكين. هذه الكائنات تملك هكيلا غضروفيا بدلا من الهيكل العظمي، وأبرز مثال عليها هو سمك القرش.

سمك القرش

بعد الأسماك الغضروفية ظهرت الأسماك العظمية bony fish التي تشمل معظم الأسماك المعروفة حاليا.

قبل 400 مليون عام حدثت طفرة كبيرة في تطور الفقاريات أدت إلى ظهور الفقاريات “رباعية الأرجل” tetrapods. هذه الكائنات امتلكت لأول مرة الأطراف الأربعة (الذراعان والرجلان). الفقاريات التي كانت تعيش قبل ذلك كانت تملك رأسا وجسما ولكنها لم تكن تملك ذراعين ورجلين.

مجموعة من رباعيات الأرجل الباكرة. الصورة مبنية على مستحاثات

رباعيات الأرجل هي أولى الفقاريات التي خرجت من الماء إلى البر. البرمائيات amphibians (كالضفادع والسلمندر) هي ربما الأكثر بدائية من بين رباعيات الأرجل الموجودة حاليا، بمعنى أنها الأكثر شبها برباعيات الأرجل الأولى. البرمائيات تستطيع أن تعيش خارج الماء بعد أن يكتمل نموها، ولكنها لا تستطيع أن تعيش خارج الماء في مراحل حياتها الباكرة (المرحلة الجنينية). لهذا السبب البرمائيات تضع بيوضها في الماء أو في الأماكن الرطبة.

الحيوانات السلوية amniotes هي شكل متطور من رباعيات الأرجل. هذه الحيوانات لا تحتاج لأن تعيش في الماء مطلقا ولا حتى في المرحلة الجنينية. لهذا السبب هي تضع بيوضها خارج الماء وفي أماكن جافة. سر هذه الحيوانات هو أن أطفالها يحاطون في المرحلة الجنينية بغشاء يسمى السَّلَى amnion. هذا الغشاء يشكل حول الجنين كيسا مملوءا بالماء اسمه “الكيس السلوي” amniotic sac (يسمى أيضا “كيس الماء” water sac).

جنين بشري داخل الكيس السلوي في الرحم

الكيس السلوي هو أشبه “ببحر صناعي” يحيط بجنين الحيوانات السلوية ويغنيه عن العيش في البحر الحقيقي.

الحيوانات السلوية انقسمت قبل حوالي 300 مليون عام إلى فرعين كبيرين، فرع يسمى sauropsids (“سحليات الشكل”) وفرع يسمى synapsids (“ملتحِمات القوس”) أو theropsids (“وحشيات الشكل”). الفرع الأول أنتج الزواحف reptiles التي هيمنت على العالم طوال الحقبة المسماة Mesozoic Era (“حقبة الحياة الوسطى”). هذه الحقبة تسمى أيضا “عصر الزواحف” Age of Reptiles. خلال هذه الحقبة كانت توجد زواحف عملاقة هي الديناصوراتdinosaurs  (معنى الكلمة هو “السحالي الفظيعة” terrible lizards). الديناصورات تعرضت لكارثة أدت إلى انقراض معظمها قبل 66 مليون عام. الطيور birds هي الفرع الوحيد المتبقي من الديناصورات، ولكن معظم الطيور المعاصرة هي صغيرة الحجم.

    تطور الطيور من الديناصورات
تطور الطيور من الديناصورات

الحيوانات المسماة synapsids كانت معاصرة للزواحف الباكرة ولكنها كانت مهمشة وصغيرة الحجم. الثدييات mammals هي فرع من هذه الحيوانات. الميزة الأساسية للثدييات هي غدة الثدي mammary gland التي تفرز الحليب. الثدييات عموما تلد ولا تبيض. الاستثناء الوحيد هو فرع باكر من الثدييات يسمى monotremes. الثدييات التي تنتمي لهذا الفرع تعيش في أستراليا وهي تشمل مثلا الحيوان المسمى platypus.

platypus

بقية الثدييات تسمىtherians  (“الوحوش”). هذه الكائنات ظهرت قبل حوالي 200 مليون عام وهي تتميز عن كل الحيوانات الأخرى بأنها تلد بدل أن تبيض. الفرع المسمى marsupials (“الجيبيات”) له عدد من الخصائص الغريبة التي تميزه عن بقية الثدييات: إناث الحيوانات المنتمية لهذا الفرع يملكن رحما مقسوما إلى حجرتين، وهناك مهبل خاص يوصل إلى كل حجرة من الحجرتين، أي أن الأنثى تملك مهبلين. الذكر يملك قضيبا متفرعا إلى فرعين. عند الجماع الذكر يدخل فرعي قضيبه في مهبلي الأنثى. عندما تحمل الأنثى فإنها تلد الطفل بسرعة بالغة (خلال خمسة أسابيع)، والسبب هو أن الكيس السلوي لا يتثبت على جدار الرحم بواسطة مَشِيمة placenta. المشيمة هي عضو هام يربط الكيس السلوي بالجدار الداخلي للرحم، ومن خلال المشيمة يتم تزويد محتويات الكيس السلوي (خاصة الجنين) بالغذاء والأكسجين، ويتم أيضا تخليصها من الفضلات. غياب المشيمة عند إناث الحيوانات الجيبية يعني أن الجنين لا يمكنه أن يظل في الرحم لفترة طويلة وإلا فإنه سيموت. لهذا السبب الجنين يخرج من الرحم بسرعة بالغة ويعيش داخل جيب على بطن الأم إلى أن يكتمل نموه.

أشهر مثال على الحيوانات الجيبية هو ربما الكنغرو kangaroo

بقية الثدييات تسمىeutherians  (“الوحوش الحقيقية”) أو placentals (“المشيميات”). هناك فروع عديدة جدا للمشيميات لا يمكن أن نخوض فيها الآن. أهم فرع من المشيميات بالنسبة لموضوعنا هو الرئيسيات primates (تحدثت عنه في مقال سابق). أقرب فروع المشيميات إلى الرئيسيات يسمى glires. هذا الفرع يضم كلا من الأرانب والقوارض (القوارض تشمل الفئران والجرذان والسناجب). الأصل المشترك للرئيسيات والأرانب والقوارض عاش قبل 100 مليون عام تقريبا.

الثدييات كانت مهمشة في عصر الزواحف Mesozoic Era، ولكن بعد الكارثة التي أصابت الديناصورات قبل 66 مليون عام بدأت حقبة جديدة تسمى Cenozoic Era (“حقبة الحياة الجديدة”). هذه الحقبة تسمى أيضا “عصر الثدييات” Age of Mammals لأن انقراض الزواحف الكبيرة أفسح المجال أمام الثدييات لكي تهيمن على العالم خلال هذه الحقبة.

حقبة Cenozoic Era ما زالت مستمرة حتى الآن ولم تنته بعد.

الإشارة العصبية

ذكرنا في الأعلى أن الخلايا الحية التي تملك نواة (“حقيقية النواة” eukaryotic) هي مشحونة كهربائيا. السبب هو وجود مضخات أيونية ion pumps في أغشية هذه الخلايا تستغل الطاقة الكيمائية الناتجة من تفاعلات الهدم catabolism لكي تتلاعب بتراكيز الأيونات في السائل داخل الخلوي intracellular fluid.

أهم أنواع المضخات الأيونية في خلايا الثدييات هي المضخة المسماة Na+/K+ ATPase. هذه المضخة تستغل الطاقة الكيميائية المختزنة في جزيء (adenosine triphosphate) ATP لكي تنقل ثلاثة أيونات من الصوديوم إلى خارج الخلية في مقابل نقل أيونين من البوتاسيوم إلى داخل الخلية. المحصلة الكيميائية لعمل هذه المضخة هي تقليل تركيز أيونات الصوديوم وزيادة تركيز أيونات البوتاسيوم داخل الخلية، والمحصلة الكهربائية هي خلق شحنة سلبية داخل الخلية (لأن المضخة تخرج ثلاثة أيونات صوديوم يحمل كل منها الشحنة 1+ وتدخل أيوني بوتاسيوم يحمل كل منهما الشحنة 1+، إذن المحصلة الكهربائية لعمل المضخة هي إخراج شحنة مقدارها 1+ في كل مرة تعمل فيها).

صورة توضح عمل مضخة Na+/K+ ATPase في الغشاء الخلوي

بالإضافة إلى المضخة السابقة هناك مضخات تنقل أيون الكالسيوم Ca2+ إلى خارج الخلية. هناك مضخة Ca2+ ATPase التي تستغل الطاقة الكيميائية المختزنة في جزيء ATP لكي تنقل أيونا واحدا من الكالسيوم إلى خارج الخلية. هذه المضخة هي ربما أقدم أنواع المضخات الأيونية، ولكن مشكلتها أن عملها بطيء ولا يفيد في الأنسجة التي تتطلب إخراج كميات كبيرة من أيون الكالسيوم في وقت قصير (مثلا الأنسجة العصبية والعضلية). لهذا السبب هناك مضخة أخرى أسرع من هذه المضخة هي Na+/Ca2+ exchanger. هذه المضخة لا تستهلك الطاقة الكيميائية ولكنها تستفيد من الفارق في تركيز الصوديوم بين السائل خارج الخلوي والسائل داخل الخلوي لتوليد الطاقة. هي تسمح لثلاثة أيونات صوديوم بالدخول إلى الخلية في مقابل إخراج أيون كالسيوم واحد. هذا الأمر لا يؤثر على تركيز الصوديوم داخل الخلية سوى بشكل مؤقت، لأن هذه المضخة لا تعمل أصلا إلا في مناسبات معينة (عندما يكون هناك تركيز عال من الكالسيوم داخل الخلية، كما يحصل مثلا عند تقلص الخلايا العضلية).

الرسم التالي يلخص أنواع المضخات التي ذكرناها:

المحصلة النهائية لعمل المضخات التي ذكرناها هي أن تركيز الصوديوم والكالسيوم يكون منخفضا داخل الخلية مقارنة بالسائل خارج الخلوي، وتركيز البوتاسيوم يكون مرتفعا داخل الخلية مقارنة بالسائل خارج الخلوي. هناك أيضا شحنة كهربائية سلبية تتولد داخل الخلية. هذه الشحنة تؤدي إلى طرد الأيونات ذات الشحنة السلبية إلى خارج الخلية، خاصة أيون الكلور Cl الذي ينخفض تركيزه داخل الخلية إلى رقم ضئيل جدا. خروج أيون الكلور من الخلية لا يفيد في تعديل الشحنة الكهربائية لأن الخلية تحوي في داخلها الكثير من الجزيئات العضوية الثقيلة ذات الشحنة السلبية (خاصة الأحماض الأمينية amino acids المكونة للبروتينات). هذه الجزيئات العضوية الثقيلة لا يمكنها أن تخرج عبر الغشاء الخلوي، وبالتالي عمليا لا يوجد حل لتعديل الشحنة السلبية سوى بإدخال جزيئات ذات شحنة إيجابية من الخارج، وهذا الأمر لا يحدث في الأحوال الطبيعية.

لهذا السبب الخلايا في الأحوال العادية هي مشحونة سلبيا. الشحنة السلبية تؤدي إلى توليد مجال كهربائي بين السائل داخل الخلوي والسائل خارج الخلوي. هذا المجال الكهربائي يولد ما يسمى في الفيزياء باسم “فرق الكمون الكهربائي” electric potential difference أو الفولتاج voltage. قيمة فرق الكمون الكهربائي داخل الخلايا البشرية تتراوح في الأحوال العادية بين 60- و 80- ميلي فولت. فرق الكمون الكهربائي يترافق مع فرق كمون كيميائي ناجم عن الفرق الكبير في تراكيز الأيونات بين السائل خارج الخلوي والسائل داخل الخلوي. محصلة الكمونين الكهربائي والكيميائي تسمى “الكمون الكهربائي-الكيميائي” electrochemical potential.

في البيولوجيا الكمون الكهربائي-الكيميائي للخلايا في الأحوال العادية يسمى “كمون الراحة” resting potential.

الخلايا العصبية تستفيد من هذا الكمون لتوليد الإشارات العصبية.

ما يحصل باختصار هو أن الخلايا العصبية تسمح لأيونات الصوديوم بالدخول إليها من جهة واحدة. بما أن الخلية العصبية هي طويلة جدا (في بعض الأحيان طولها يمكن أن يصل إلى متر كامل لدى البشر) فهذا يؤدي إلى خلق فرق في الكمون داخل الخلية نفسها: في أحد طرفي الخلية هناك ارتفاع سريع في قيمة الكمون بسبب دخول أيون الصوديوم بكميات كبيرة، وفي الطرف الآخر من الخلية الكمون ما زال على حاله. هذا الفرق في الكمون داخل الخلية يؤدي إلى انتشار كهربائي-كيميائي من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر. هذا باختصار شديد هو مبدأ الإشارة العصبية. الإشارة العصبية هي موجة كهربائية-كيميائية (مكونة أساسا من أيونات الصوديوم Na+) تنتقل من أحد طرفي الخلية العصبية إلى طرفها الآخر.

هذا الرسم من ويكيبيديا يوضح الفكرة:

الإشارات الصفراء تعبر عن أيونات الصوديوم. انتشار أيونات الصوديوم على الجانب الداخلي من الغشاء الخلوي يحفز دخول المزيد من أيونات الصوديوم من الخارج

البروتينات الناقلة في الغشاء الخلوي تقوم بإعادة الكمون السلبي إلى داخل الخلية بسرعة بالغة. لهذا السبب نلاحظ على الرسم أن الكمون الإيجابي المنتشر داخل الخلية يختفي بسرعة. في المحصلة الإشارة العصبية هي مجرد نبضة.

التغيرات الكهربائية-الكيميائية التي تحدث داخل الخلية أثناء مرور الإشارة العصبية تسمى “كمون الفعل” action potential.

كمون الفعل ليس خاصا بالخلايا العصبية ولكنه يحصل أيضا في الخلايا العضلية (ويؤدي إلى تقلصها). طريقة كمون الفعل في الخلايا العضلية تختلف عنه في الخلايا العصبية. في الخلايا العضلية ليست هناك حاجة لنقل إشارة من أحد طرفي الخلية إلى طرفها الآخر. لهذا السبب كمون الفعل في الخلايا العضلية لا يبدأ من طرف الخلية ولكنه يبدأ من وسطها أو من أي مكان فيها، وهو ينتشر في كل الاتجاهات. في الخلايا العضلية كمون الفعل يؤدي إلى تدفق أيون الكالسيومCa2+  إلى داخل الخلايا، وهذا تحديدا هو سبب تقلص اللييفات العضلية myofibrils.

كمون الفعل في الخلايا العضلية

طريقة كمون الفعل في الخلايا العضلية هي أكثر بدائية من طريقته في الخلايا العصبية، لأن الخلايا العصبية هي اختراع أحدث من الخلايا العضلية. الخلايا العصبية ظهرت لأول مرة مع ظهور الحيوانات متعددة الخلايا، والنقل العصبي بالطريقة الموجودة لدى البشر بدأ يظهر لأول مرة مع ظهور الحبليات chordates. النقل العصبي تطور لدى الحبليات بشكل متدرج. أحد التطورات المهمة التي حدثت لدى الحبليات الباكرة هو تركيز مضخات الصوديوم في منطقة معينة من الخلية العصبية، وبعد ذلك ظهر غمد الـ myelin الذي زاد من سرعة النقل في الخلايا العصبية بشكل كبير.

neuron
الخلية العصبية بشكلها الحديث تتألف من “جسم” body يحوي “شَجَرِيات” dendrites ومن استطالة طويلة تسمى “المحور” axon. المحور في الخلايا ذات النقل السريع يكون مغطى بغمد sheath من مادة اسمها myelin. الخلايا التي تنتج هذا الغمد في الجهاز العصبي المحيطي اسمها خلايا Schwann، وفي الجهاز العصبي المركزي اسمها “الخلايا قليلة الشجريات” oligodendroctyes
neuron synapse
مناطق التشابك بين الخلايا العصبية والخلايا الأخرى تسمى synapses
تشابك محور عصبي مع ليف عضلي (الليف العضلي هو مجموعة من الخلايا العضلية الملتحمة مع بعضها طوليا)
نقل الإشارة عبر منطقة التشابك العصبي synapse يتم بواسطة جزيئات كيميائية تسمى “نواقل عصبية” neurotransmitters. هذه الجزيئات تتحرر من حويصلات في منطقة التشابك العصبي بسبب وصول كمون الفعل إليها

أجسام الحيوانات طورت مبدأ النقل العصبي بشكل تدريجي، وهذا ما منحها القدرة على نقل البيانات بسرعة فائقة. لاحقا الجهاز العصبي تطور لدى الثدييات على نحو غير مسبوق، وخاصة لدى الرئيسيات، وبالأخص لدى البشر.