الأتراك لديهم مشروع توسعي استعماري في سوريا تحدثنا عنه من قبل ولن نكرر نفس الحديث في هذا المقال.
سوريا لا تقدر على مقاومة الغزو التركي إلا عبر وسيلة واحدة هي الاستعانة بالقانون الدولي والمجتمع الدولي.
ولكن المشكلة هي أن سوريا تفتقر لحكومة شرعية تمثلها أمام المجتمع الدولي.
الهدف الأول للاستراتيجية التركية في سوريا كان منع تشكيل حكومة شرعية للبلاد. الأتراك يفهمون أن عدم وجود حكومة شرعية يجعل من سوريا أرضا سائبة يمكن استباحتها.
الأتراك منعوا تشكيل حكومة لسوريا بحجة أن ذلك يقسم سوريا ويهدد الأمن القومي التركي. هم جلبوا مجموعة من المهرجين السوريين وشكلوا منهم جسما أطلقوا عليه مسمى “هيئة التفاوض”. الهدف النظري من وجود هذه الهيئة هو التفاوض مع عصابة الشبيحة في دمشق بهدف تشكيل حكومة جديدة لسوريا، ولكن الأتراك يعلمون أن هذا المسار لن يصل أبدا إلى نتيجة. هذه المفاوضات التي دعمها الأتراك هي مجرد ألعوبة وخدعة تهدف لمنع تشكيل حكومة لسوريا كما وضحنا مرارا من قبل.
خطط الأتراك وألاعيبهم هي واضحة، ولكن المجتمع الدولي لم يبد أية مقاومة لهذه الخطط.
الدول العربية يجب نظريا أن تقاوم الاحتلال التركي لسوريا، ولكن الواقع هو أن الدول العربية لا تهتم بما يجري في سوريا وكثير منها لا يفهم ما الذي جرى ويجري في هذا البلد. الحكومة السعودية تتدخل في سوريا لسبب وحيد هو تعرضها لضغوط أميركية لكي تتدخل. لولا الضغوط الأميركية لما كان السعوديون أعاروا أي اهتمام للقضية السورية. التدخل السعودي لدعم أميركا في سوريا هو سبب الحملة التركية الشرسة ضد العلاقة السعودية-الأميركية (كما نشاهد في إعلام حمد بن خليفة وغيره). الشيء المضحك هو أن السعوديين على الأغلب لا يعارضون الغزو التركي لسوريا. هم ربما يرون أن هذا الغزو يضر إيران ولا يضرهم ولذلك هم ليسوا ضده. أميركا أجبرت السعوديين على التدخل في سوريا وبالتالي هم وجدوا أنفسهم في صدام مع الأتراك لم يكونوا يريدونه وليسوا مقتنعين به.
المحصلة هي أنه لا توجد أية دولة عربية تعارض الغزو التركي لسوريا، ونفس الأمر ينطبق أيضا على الدول الأوروبية وغيرها. الدولة الوحيدة التي عملت ضد الغزو التركي لسوريا هي أميركا في زمن باراك أوباما، ولكن حتى ما فعله أوباما لم يكن بسبب موقف مبدئي ضد الغزو التركي. إدارة أوباما كانت منزعجة من تركيا لسببين، السبب الأول هو أن تركيا كانت تخلق في سوريا منظمات إرهابية مثل داعش، والسبب الثاني هو أن تركيا وأذنابها كانوا يشنون حملات إعلامية ضد أوباما ويحملونه مسؤولية الكوارث الإنسانية في سوريا. أوباما عمل ضد تركيا في سوريا لهذين السببين وليس بسبب حرصه على سيادة سوريا.
دونالد ترمب ليس مقتنعا بالوجود الأميركي في سوريا من أساسه. هو أراد سحب أميركا من سوريا بشكل كلي. هو فشل في ذلك كما توقعنا، ولكنه غير السياسة الأميركية وأعادها مجددا إلى خدمة الأهداف التركية. أميركا الآن لن تعمل على تأسيس حكومة لسوريا. بدلا من ذلك أميركا سوف تدعم لعبة المفاوضات العبثية التي يريد الأتراك من خلالها ترك سوريا بلا حكومة.
إذن سوريا سوف تبقى بلا حكومة إلى أجل غير مسمى. ما الذي يعنيه ذلك؟ هو يعني أن التمدد التركي في سوريا لن يواجه أية عوائق.
الأتراك يركزون الآن على احتلال منطقة منبج. هم يريدون احتلال هذه المنطقة لسبب ديمغرافي شرحناه سابقا. منطقة منبج (مثل جرابلس والباب إلخ) تحوي أقلية من التركمان الناطقين بالتركية. الأتراك يركزون على احتلال المناطق التي تضم أقليات ناطقة بالتركية لأن ذلك يمنحهم حجة للبقاء في تلك المناطق بحجة حماية تلك الأقليات. هم كرروا هذه اللعبة مرارا من قبل (في قبرص ولواء إسكندرون وغير ذلك).
أميركا ترفض الاحتلال التركي لمنبج، ولكن هل هذا الموقف الأميركي سوف يدوم للأبد؟ أنا أشك في ذلك. التواجد الأميركي في منبج وسوريا أصبح الآن غير قابل للاستمرار. عندما دعمنا التدخل الأميركي في سوريا كنا نعتقد أن ذلك التدخل سوف يكون مدخلا لحل الأزمة السورية عبر تأسيس حكومة شرعية للبلاد. إذا تأسست الحكومة الشرعية فإن التدخل الأميركي في سوريا سوف يكون مثل التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق على سبيل المثال. هو سيكون تدخلا ذا هدف محدد واضح: دعم الحكومة الشرعية لكي تبسط سيادتها على البلاد. ولكن ما نراه الآن هو صورة مختلفة تماما. أميركا لن تدعم تأسيس حكومة لسوريا ولن تدعم حلا جديا للأزمة السورية. الأميركان ينوون ترك الوضع الراهن على حاله، وهو ما لا يمكن أن يستمر لزمن طويل، لأن تركيا (بخلاف أميركا) لا تريد بقاء الوضع الراهن ولا تنوي الانكفاء. تركيا سوف تستمر في العمل لتوسيع نفوذها وسوف تستمر في الضغط على أميركا وسوف تزيد من شدة الضغط. أميركا هي الآن متهمة من تركيا ومن غيرها بأنها تدعم حركة انفصالية في سوريا. حتى الدول العربية تتهم أميركا بذلك. هل يعقل أن أميركا سوف تظل في سوريا لكي تدعم حركة انفصالية؟ هذا شيء غير منطقي وغير قابل للدوام.
أميركا كانت نظريا العائق الوحيد أمام الابتلاع التركي لسوريا. هذا العائق يتلاشى الآن. لا يوجد شيء يمنع تركيا من ابتلاع سوريا.
ما يحصل في سوريا الآن يشبه ما حصل فيها بعد الحرب العالمية الأولى. آنذاك سمح المجتمع الدولي لتركيا بابتلاع مساحات شاسعة من الأراضي السورية لأن الدول لم تر نفسها معنية بالتدخل. الدول في ذلك الزمن خشيت الصدام مع الأتراك، ونفس الواقع هو موجود اليوم أيضا. الدول لا تريد أن تصطدم مع تركيا لأجل قضية تراها غير مهمة.
حماية سوريا هي في الأساس مسؤولية السوريين وليست مسؤولية المجتمع الدولي. السوريون هم المسؤول الأول عما يحصل وسيحصل.
على كل حال، لا أحد يدري ما الذي سيحصل فعلا في المستقبل. ما نقوله الآن هو توقعات مبنية على ما نراه حاليا. من الممكن أن تحصل مفاجآت غير متوقعة تغير مسار الأمور. المواجهة الأخيرة بين السعودية وتركيا قد تدفع السعوديين لتغيير سياستهم. أميركا أيضا يمكن أن تغير سياستها.