حسب CNN وغيرها فإن المخابرات الأميركية ومخابرات أوروبية اطلعت على تسجيلات من داخل القنصلية السعودية قدمتها المخابرات التركية تثبت مقتل جمال خاشقجي، وأجهزة المخابرات ترجح أن تلك التسجيلات هي حقيقية وليست مزورة.
ولكن السؤال الكبير هو كيف حصل الأتراك على تلك التسجيلات؟ الجواب المنطقي الوحيد هو أنهم كانوا يتجسسون على القنصلية السعودية، وهذا بحد ذاته هو فضيحة لتركيا أسوأ من فضيحة السعوديين التي ستظهرها التسجيلات، لأن فضيحة السعوديين تتعلق بمسألة هي إلى حد كبير مسألة ثنائية بين السعودية وتركيا، وأما فضيحة التجسس على قنصلية أجنبية فهي فضيحة دولية، لأن تجسس الأتراك على القنصلية السعودية يعني أنهم على الأغلب يتجسسون على بعثات دبلوماسية أخرى إلى جانب البعثة السعودية.
أنا لاحظت اليوم تبدلا في لهجة الإدارة الأميركية وفي لهجة الإعلام الأميركي تجاه القضية. الأميركان على ما يظهر لا يعتقدون أن تركيا سوف تجرؤ على الإعلان بشكل رسمي عن امتلاكها لتلك التسجيلات خوفا من الفضيحة، وذلك يعني أن تركيا لن تتمكن من تقديم أية أدلة حقيقية تثبت مقتل جمال خاشقجي. لهذا السبب رأينا ترمب اليوم يقول أنه سوف يعاقب السعودية “عقابا شديدا” في حال ثبت مقتل خاشقجي. قوله لهذا الكلام يدل على أن مساعديه قالوا له أن تركيا لن تتمكن أبدا من إثبات مقتل خاشقجي وأن مصيره سوف يظل مجهولا.
طالما أن تركيا لن تتمكن من إثبات مقتل خاشقجي فذلك يعني أن اتهام السعوديين بقتله سوف يكون مجرد كلام بلا دليل، وأميركا لن تكون مضطرة لاتخاذ إجراءات ضد السعودية. بالتالي الأميركان الآن لم يعودوا يشعرون أنهم مضغوطون وصاروا يتجاهلون الابتزاز التركي ويتعاملون معه على أنه مجرد تهويل غير جدي. الإعلام الأميركي اليوم صار يشكك في الرواية التركية حول مقتل خاشقجي.
الأتراك سربوا قصة ساعة خاشقجي لتخويف الأميركان عبر الإيحاء بأنهم يملكون “قصة تغطية” يمكن أن يستخدموها لتبرير امتلاكهم التسجيلات، ولكن الإعلام الأميركي سارع إلى بيان عدم جدية ذلك الكلام.
المحصلة هي أن قصة جمال خاشقجي انتهت عمليا. القصة وصلت إلى أقصى ما ستصل إليه. هذا الكلام هو ليس قناعة الأميركان فحسب وإنما البريطانيين أيضا، بدليل أن البريطانيين تحدثوا اليوم عن أنهم يدرسون فرض عقوبات على مسؤولين سعوديين في حال ثبت مقتل جمال خاشقجي. قولهم لهذا الكلام يدل على اعتقادهم بأن مقتله لن يثبت أبدا.
هذا يفسر أيضا رفض السعوديين السماح بتفتيش قنصليتهم بعدما كانوا قد أبدوا الموافقة على ذلك. هم غيروا موقفهم لعلمهم بأن القصة انتهت وأن أردوغان وصل إلى طريق مسدود.
كل ما سيرد غدا في الإعلام التركي (بما في ذلك إعلام التافه حمد) سوف يكون مجرد تهويل بلا قيمة. لعبة أردوغان انتهت وهو لن يتمكن من فعل أي شيء سوى الاستمرار في بث التهويل والإشاعات التي ما عادت تخيف أحدا.
السعوديون عندما ارتكبوا جريمتهم كانوا يتوقعون أن تركيا سوف تداري عليها وتطوي ملفها بسرعة، لأن هذه الجريمة هي في أساسها ضربة لتركيا ولمخابراتها، وليس من مصلحة الأتراك أن يلفتوا الأنظار إلى أنهم تلقوا هذه الضربة من السعودية. رد الفعل التركي كان مفاجئا وغير متوقع. الأتراك شنوا حملة دعائية كبيرة وأوحوا للناس بأن لديهم القدرة على إثبات ارتكاب السعودية للجريمة، ولكن الآن يتبين أن ما كان الأتراك يفعلونه هو مجرد تهويل وخداع. صحيح أن لديهم تسجيلا مؤذيا للسعودية، ولكن هذا التسجيل لا يمكن أن يستخدم بشكل رسمي لإدانة السعودية، وبالتالي هم لا يستطيعون فعلا أن يثبتوا ارتكاب السعودية للجريمة.
الحملة الدعائية التركية ألحقت ضررا كبيرا بصورة السعودية وبصورة محمد بن سلمان، ولكن الأتراك أضروا بأنفسهم أيضا عندما كشفوا أنهم يتجسسون على البعثات الدبلوماسية. في المحصلة أنا أعتقد أن خسارة تركيا من كل هذه القصة هي أكبر بكثير من خسارة السعودية. أولا، تركيا تلقت ضربة موجعة باغتيال جمال خاشقجي في إسطنبول، لأن هذا الرجل كان شبيحا كبيرا لتركيا ومن الوارد أنه كان عميلا رسميا للمخابرات التركية. قتل هذا الرجل في إسطنبول هو ضربة أليمة لتركيا ولمخابراتها. ثانيا، الأتراك ضاعفوا فضيحتهم وخسارتهم عندما كشفوا أنهم يتجسسون على البعثات الدبلوماسية. هذا الكشف هو ليس مجرد خسارة “برستيج” وإنما هو خسارة عملية كبيرة للمخابرات التركية، لأن كل البعثات الدبلوماسية الموجودة في تركيا صارت تعلم الآن أن المخابرات التركية تتجسس عليها. هذه البعثات سوف تحتاط سعيا لوقف التجسس التركي، والمحصلة هي خسارة معلوماتية كبيرة للمخابرات التركية.
الأتراك هم حتما الخاسر الأكبر من هذه القصة، ولكن السعودية خسرت الكثير أيضا. الملك السعودي و/أو ابنه أخطآ كثيرا بارتكاب هذه الجريمة. لا أدري كيف سيتمكن محمد بن سلمان من إصلاح الضرر الجسيم الذي لحق بصورته.
أول خطوة لإصلاح الضرر هي أن يقتنع ابن سلمان (وأبوه معه) بأن الإجراءات “البشارية” (نسبة إلى بشار الأسد) هي مجرد غباء وأنها لا تفيد شيئا. أنا صرت الآن أعتقد أن سبب مشكلة ابن سلمان قد يكون هوسه الزائد بموقع تويتر. هو على ما يبدو يشاهد تغريدات بعض الأشخاص ويأخذ هذه التغريدات بحساسية وانفعال كبيرين. أوضح مثال هو قصة كندا. يبدو أن ثائرة ابن سلمان ثارت عندما شاهد تغريدة السفارة الكندية على حساب غانم الدوسري ولهذا قرر إعلان الحرب ضد كندا. الأفضل لابن سلمان هو أن يقلل اهتمامه بموقع تويتر إذا كان لا يقدر على ضبط أعصابه.
إذا كانت تركيا تتجسس فعلياً على السفارة السعودية فهذه فضيحة أولاً للسعودية لأنه لم تستطع حماية قنصليتها من التجسس حيث أنه لكل تقنية تجسس فإن هناك تقنية مضادة متوفرة لدولة مثل السعودية. بقية الدول تستطيع حماية قنصلياتها.