التركيز الإعلامي الغربي المبالغ به على قصة “جمال خاشقجي” يؤكد ما قلناه قبل شهر عن نفوذ تركيا الكبير في الدول الغربية وتحكمها بالإعلام الغربي.
هذا الشخص المدعو جمال خاشقجي هو ليس مفكرا ولا مثقفا ولا صحفيا. في الماضي قرأت له بضع مقالات وشاهدته يتحدث على التلفزيون، ومما قرأته وشاهدته تولد لدي انطباع قوي بأنه مجرد شبيح. كلامه كان مجرد تشبيح يخلو من أية قيمة فكرية أو ثقافية. هو بدأ حياته كشبيح لمصلحة آل سعود ثم بعد ذلك انتقل إلى التشبيح لمصلحة تركيا وصار أشبه ببوق للمخابرات التركية. هذه هي قصته باختصار.
لا أدري لماذا أخفاه آل سعود، ولكن هذه القضية لا تندرج في إطار قمع حرية التعبير كما تزعم الحملة الإعلامية الغربية. هذا الرجل ليس لديه حرية تعبير أصلا حتى نقول أن آل سعود جردوه من تلكم الحرية. هذا الرجل هو مجرد عبد للمخابرات التركية ولا يملك حرية الكلام بشيء سوى ترويج دعاية المخابرات التركية. حاله هي كحال حمد بن خليفة الذي يدعي أن جيرانه العرب يجردونه من سيادته في حين أنه في الحقيقة يفتقر لأية سيادة وليس سوى عبد للأتراك.
تركيا رسخت نهجا غريبا في الثقافة الإعلامية الغربية وهو أن من يتحدث بالدعاية الحكومية السعودية يعادى ويوصف بأنه من “الذباب الإلكتروني” ونحو ذلك، وأما من يتحدث بدعاية المخابرات التركية فيحترم ويوصف بالمفكر والمثقف. هناك تناقض كبير في كيفية التعامل مع مروجي الدعاية السعودية ومروجي الدعاية التركية. هذا التناقض هو ليس بسبب محتوى الدعاية. محتوى الدعاية التركية هو سيء جدا ويتضمن الترويج لمجازر وتدمير دول وشعوب. سبب التناقض هو أهمية علاقات تركيا مع الغرب وقوة تغلغلها في مؤسسات الغرب، ناهيك طبعا عن المال الوفير الذي تنفقه تركيا على الدعاية والتضليل وشراء الذمم. هذا المال الوفير يأتي من المستعمرة القطرية التي هي مكرسة بالكامل لخدمة أهداف المخابرات التركية.
ما يسمى بدولة قطر هو جسم ليس له دور سوى العمل لمصلحة المخابرات التركية. هذه الدولة المزعومة هي في الحقيقة فرع للمخابرات التركية. إذا كانت المخابرات التركية تملك فرعا بهذا الحجم وبهذا التمويل فلماذا نستغرب قوة سطوتها وتأثيرها.
بات من الواضح الآن أن منطقة الشرق الأوسط تشهد حربا باردة بين السعودية وتركيا. هذه الحرب الباردة السعودية-التركية هي السبب العميق لصراعات أخرى ظاهرية مثل الصراع مع قطر والصراع مع حركة الإخوان المسلمين.
ما حصل عمليا في قصة جمال خاشقجي هو أن المخابرات السعودية وجهت ضربة للمخابرات التركية. المخابرات السعودية نالت من عنصر تابع للمخابرات التركية كان مكلفا ببث دعاية المخابرات التركية الهدامة التي تستهدف خلخلة وتقويض العالم العربي.
حسب ما فهمنا فإن جمال خاشقجي هو ليس مقيما في تركيا وإنما في أميركا. السعوديون استدرجوه إلى تركيا وأخفوه هناك. هم أخفوه تحديدا في القنصلية السعودية في إسطنبول. طبيعة هذه العملية تدل على أن الهدف الأساسي منها هو ليس التخلص من جمال خاشقجي كشخص وإنما توجيه ضربة لتركيا وللمخابرات التركية. لو كان هدف السعوديين هو شخص جمال خاشقجي لما كان من المناسب أن ينفذوا عملية خطفه أو قتله داخل قنصليتهم. تنفيذ العملية داخل القنصلية هو أشبه بتبن رسمي لها. السعوديون أرادوا أن يوضحوا أن المخابرات السعودية هي من أخفته ولم يرغبوا أن يكون ذلك خافيا.
الملك السعودي يظن أن مثل هذه الأعمال تظهر قوة السعودية وطول يدها. هذا الملك لديه فلسفة سياسية تقوم على منطق الإرهاب، وهو يطبق هذه الفلسفة في سياساته الخارجية كما الداخلية. هو يحاول على الدوام أن يرهب دول العالم ولا يتوقف عن ذلك.
عملية إخفاء خاشقجي يمكن أن تثير إعجاب من يعملون في عالم الجريمة وأجهزة المخابرات، ولكن أغلب المراقبين الآخرين سوف يرون فيها مؤشرا على العجز واليأس. حسب ما نعلم فإن تركيا لم تخطف أو تقتل أحدا داخل الأراضي السعودية. لجوء السعوديين لمثل هذه الأفعال الإجرامية هو تصعيد يدل على شعورهم باليأس من مجاراة تركيا في مجال الدعاية.
محمد بن سلمان هو ذو فكر نير فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، ولكن السياسة الإرهابية تؤثر بشكل سلبي على مشروع التنمية الاقتصادية وتحديث البلد. الأفعال الإجرامية ضد البشر (سواء الاختطاف والحبس أم القتل) هي أمور تعود لثقافة القرون الوسطى ولا تناسب دولة عصرية. هذه الأعمال الإجرامية ضد الأفراد هي نفس ما كان يفعله بشار وأعوانه قبل الثورة السورية، وعندما حصلت الثورة رأينا أنهم وسعوا نطاق الإجرام وحولوه إلى إبادة جماعية. هم أعدموا في سجونهم عشرات آلاف المعتقلين، ناهيك عمن أعدموهم خارج السجون سواء بالإعدامات الميدانية أم خلال المواجهات العسكرية غير المتكافئة أم خلال عمليات تدمير المدن. هم لم يكتفوا بإعدام البشر ولكنهم أعدموا حتى الآثار والتراث والثقافة. هم أعدموا كل شيء في سورية وجعلوها مجرد صحراء جرداء لا تساوي شيئا. عندما نشاهد تصرفات حكام السعودية فإننا نتساءل عما إذا كانوا يسيرون على نفس الطريق.
مقابلة ابن سلمان الأخيرة مع بلومبرغ كانت لافتة من حيث أن ابن سلمان أظهر فيها تفهما وتقبلا لحرية التعبير. كلامه في المقابلة كان ممتازا ويبشر بالخير، ولكن الكلام لا يتفق مع الأفعال. هل ابن سلمان هو منافق؟ أم أن السياسة الإرهابية هي مملاة من والده؟ أحد الاحتمالات التي تخطر في بالي هو أن ابن سلمان ينظر لأعمال الإرهاب والإجرام على أنها أمور مؤقتة إلى أن يستتب له الأمر ويتمكن من فرض سلطته وتنفيذ إصلاحاته.
الملك؟ أي ملك؟
جمال خاشقجي له علاقات وثيقة في واشنطن والتعبير عنه بعميل للمخابرات التركية خطأ.