الاتفاقية الجديدة بين الاحتلالين التركي والروسي تضمنت تأسيس منطقة منزوعة السلاح حول محافظة إدلب.
الدويلة الدمشقية لها تاريخ حافل مع المناطق منزوعة السلاح. في هذا المقال سوف نتحدث بإيجاز عن مثال واحد هو المناطق منزوعة السلاح التي أسسها شكري القوتلي في عام 1948 على الحدود مع فلسطين.
كما تعلمون فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة قررت في عام 1947 تقسيم فلسطين على النحو الظاهر في الرسم أدناه.
الدول العربية (بما فيها الدويلة الدمشقية التي يترأسها القوتلي) رفضت هذا التقسيم وأعلنت حربا ضد العصابات الصهيونية. نتيجة الحرب كانت سيطرة العصابات الصهيونية على قسم كبير من فلسطين. الأردن (بمساعدة من العراق) ومصر احتفظتا ببعض الأراضي الفلسطينية، ولكن دويلة القوتلي الدمشقية لم تحتفظ بشبر واحد من أراضي فلسطين.
نظام شكري القوتلي لم يكن جادا في دخوله لهذه الحرب من الأساس وذلك لأسباب شرحناها في الماضي. بإيجاز: شكري القوتلي كان يؤيد بشدة تقسيم سايكس-بيكو للمشرق العربي وهذه القضية كانت جوهر الصراع الذي كان قائما بينه وبين معارضيه. هو كان يزعم أن المطالبين بإزالة حدود سايكس-بيكو هم عملاء لبريطانيا والعراق، وكان يرى فيهم خطرا يهدد وجود الدويلة الدمشقية. للتغلب على “المؤامرة” ضد حدود سايكس-بيكو هو تحالف مع القوميين اللبنانيين. هو طبعا لم يكن يعطي أي اهتمام لقضية فلسطين وفي السابق نقلنا معلومات نشرت في جريدة الأخبار تظهر أنه كان على علاقة سرية بالصهاينة.
شكري القوتلي لم يستعد لحرب فلسطين قبل أن يدخلها، وعندما دخلها هو لم يكن يهدف لشيء سوى رفع العتب. رغم أن حرب القوتلي في فلسطين كانت مجرد تمثيلية إلا أن جيشه تمكن من السيطرة على 250 كم مربع من أراضي فلسطين. الأمر العجيب هو أن القوتلي لم يحتفظ حتى بهذه المساحة الصغيرة التي سيطر عليها جيشه. هو سلمها للأمم المتحدة في نهاية الحرب لكي تؤسس فيها ثلاث “مناطق منزوعة السلاح”.
المناطق منزوعة السلاح التي أسسها شكري القوتلي في عام 1948 تظهر على الرسم أدناه مظللة باللون الأحمر.
المناطق التي سلمها القوتلي كانت صغيرة المساحة كما يظهر من الرسم أعلاه، ولكن الرسم يظهر أيضا أنها كانت مناطق مهمة لوقوعها في منطقة بحيرة طبرية والأنهار المغذية لها.
السؤال المهم هو لماذا سلم القوتلي تلك المناطق ولم يحتفظ بها كما فعل الأردن ومصر؟
البعض قد يقولون أن القوتلي كان إنسانا “حقانيا” ولم يرض أن يظلم اليهود باغتصاب الأراضي التي منحت لهم في تقسيم الأمم المتحدة، ولكن هكذا كلام هو كلام ساقط لأن من يقرأ تفاصيل المفاوضات التي جرت آنذاك فإنه سيرى أن اليهود رفضوا أن ينسحبوا من الأراضي التي منحها تقسيم الأمم المتحدة للعرب (مثل منطقة الجليل). رفض اليهود للانسحاب من المناطق العربية يعني أن تقسيم الأمم المتحدة كان لاغيا، ولا حجة للقوتلي في ذلك التقسيم.
اتفاقية الهدنة التي عقدها القوتلي مع الصهاينة لا تقول أن المناطق منزوعة السلاح هي أراض إسرائيلية. الاتفاقية لا تحدد تبعية تلك الأراضي. القوتلي انسحب من تلك الأراضي ولكنه لم يوقع على شيء يقول أن تلك الأراضي هي تابعة لإسرائيل. من حيث القانون الدولي هي كانت أراض سائبة غير تابعة لأية دولة.
من يريد أن يفهم سلوك القوتلي في هذه القضية يجب أن يتذكر أن هذا الرجل كان يقدس حدود سايكس-بيكو وكان يرى أن المطالبين بإلغاء تلك الحدود هم متآمرون على دمشق. هو على ما يبدو انسحب من الأراضي الفلسطينية بسبب تعظيمه لحدود سايكس-بيكو وليس لأي سبب آخر. هو رفض ضم الأراضي الفلسطينية إلى دويلته الدمشقية لأنه اعتقد أن ذلك كان سيهز تقسيم سايكس-بيكو.
الإسرائيليون طبعا استغلوا كرم القوتلي وأعلنوا سيادتهم على المناطق منزوعة السلاح. موقفهم كان طبيعيا طالما أن القوتلي زهد في تلك الأراضي وتركها من دون سيادة. مطالبة إسرائيل بالسيطرة على المناطق منزوعة السلاح (التي تسمى في أدبيات الكيان الدمشقي بـ”المنطقة المحرمة”) تحولت إلى سبب للنزاع والمناوشات بين إسرائيل وبين الكيان الدمشقي. من كان يفتعل تلك المناوشات في بادئ الأمر هو الكيان الدمشقي وليس إسرائيل. أديب الشيشكلي هو الذي ابتدأ النزاعات الحدودية مع إسرائيل في عام 1951. هو كان يفتعل المناوشات الحدودية مع إسرائيل لأسباب لن نشرحها هنا (شرحناها سابقا) ولكنها باختصار تنبع من كونه طاغية معتوها ومن كونه قوميا دمشقيا.
المضحك في الأمر هو أن إسرائيل سيطرت في النهاية على “المنطقة المحرمة” وابتلعتها بالكامل، رغم أن تلك المنطقة من الناحية القانونية لم تكن ملكا لإسرائيل وكانت في بادئ الأمر تحت سيطرة الكيان الدمشقي. بعد المنطقة المحرمة دخل الكيان الدمشقي في قصة جديدة هي قصة “الجولان المحتل”.
النزاعات الحدودية هي موجودة في تاريخ دول كثيرة، ولكن الملفت في حالة الكيان الدمشقي البائد هو كثرة مثل هذه القصص في تاريخه على نحو عجيب لا مثيل له في أية دولة أخرى. النزاعات الحدودية في تاريخ الكيان الدمشقي البائد هي ذات طبيعة متسلسلة، بمعنى أن كل نزاع يستولد نزاعا آخر. مثلا النزاع على المنطقة المحرمة استولد النزاع على الجولان، والنزاع على الجولان استولد النزاع الذي نراه الآن بين بشار وإسرائيل (والذي هو نزاع لا يدور حول الجولان وإنما حول علاقة بشار مع إيران). نفس الأمر جصل على الحدود التركية: اتفاقية فرانكلين-بويون لعام 1921 استولدت النزاع على إسكندرون، والنزاع على إسكندرون استولد النزاع الذي حصل في الخمسينات والنزاع الذي حصل في أواخر التسعينات، ومؤخرا رأينا اتفاقية أستانة التي فتحت “صندوق باندورا”.
سبب هذه الغرابة في تاريخ الكيان البائد هو أن ذلك الكيان لم يكن دولة حقيقية وإنما كان عبارة عن سيرك. هو كان مسخرة وليس دولة. مشاكل ذلك الكيان الكثيرة لم تنبع من أسباب خارجية وإنما نبعت كلها من أسباب داخلية. هي نبعت تحديدا من القومية الدمشقية. القومية الدمشقية هي فكر مجنون ما كان لينتهي سوى إلى النهاية التي نراها الآن.
مستقبل المنطقة منزوعة السلاح التي تؤسس الآن على حدود إدلب لن يختلف عما سبقها في تاريخ الكيان الدمشقي البائد. هذه المنطقة سوف تكون في بادئ الأمر تحت السيطرة المشتركة التركية-الروسية، ولكنها ستؤول في النهاية إلى السيطرة التركية الكاملة، والنزاع عليها سوف يستولد نزاعات أخرى (على فرض أن دويلة بشار ستصمد لوقت طويل). أنا لا أقول هذا الكلام بسبب التجارب التاريخية فحسب وإنما بسبب المعطيات الحاضرة. دويلة بشار هي دويلة تافهة جدا وأتفه بكثير مما يتصوره بعض الناس. هذه الدويلة لا تستحق حتى أن توصف بأنها استمرارية للدويلة الدمشقية البائدة. أنا أعتبر الدويلة الدمشقية ميتة حاليا. دويلة بشار هي ليست شيئا حقيقيا وإنما مجرد ورقة شجر يستخدمها الروس والإيرانيون والأتراك للتغطية على ما يفعلونه.
اقرأ أيضا
- علاقة شكري القوتلي بالمشروع الصهيوني
- تجربة حافظ الأسد في تسليم الجولان لإسرائيل هي تكرار لتجربة شكري القوتلي في تسليم فلسطين لإسرائيل
- عن مؤامرة المخابرات البريطانية لتوحيد سورية مع العراق
- من المسؤول عن تقسيم المشرق العربي وتأسيس إسرائيل؟
- هل كان شكري القوتلي رئيسا منتخبا بشكل ديمقراطي؟
- صاحب موقع “سوريا نيوز”: تطبيق الديمقراطية هو أكبر خطيئة سياسية في تاريخ سورية
- الفلسفة الطائفية في تفسير التاريخ السوري