وصف أميركا بأنها دولة صليبية معادية للمسلمين هو شيء سمعناه كثيرا في أدبيات داعش وغيرها من الجماعات الجهادية.
هذا الوصف هو تعميم ينم عن جهل وعنصرية، ولكنه ليس خاليا بالمطلق من الحقيقة. الفكر الصليبي المعادي للمسلمين هو شيء حقيقي موجود فعلا في أميركا.
بعض الشباب واليافعين في العالم العربي يبنون قناعاتهم حول أميركا بناء على ما يشاهدونه في أفلام وبرامج هوليوود وفي ألعاب الفيديو والإنترنت ونحو ذلك. هذه المقاربة هي ليست صحيحة لأن هوليوود وألعاب الفيديو لا تمثل كل المجتمع الأميركي.
أغلبية الأميركيين هي ليسوا صليبيين، ولكن هذا لا يعني أن كل أميركي هو غير صليبي. نفي وجود الصليبية في أميركا هو جهل لا يختلف عن جهل الجهاديين الذين يصفون أميركا بأكملها بأنها صليبية.
عند الحديث عن الصليبية يجب ألا نخلط بينها وبين ظاهرة “الإسلاموفوبيا” الأوروبية. الإسلاموفوبيا في أوروبا هي ظاهرة حديثة العهد بدأت قبل بضعة عقود كرد فعل على مجيء مهاجرين (مسلمين وغير مسلمين) إلى أوروبا. هذه الظاهرة هي مجرد نزعة عنصرية. هي تحاول أن تظهر نفسها وكأنها تيار فكري ولكنها في جوهرها ليست تيارا فكريا وإنما مجرد تعصب وخوف من الأجانب.
الإسلاموفوبيا في أوروبا هي مثل العنصرية ضد الأجانب الموجودة في المملكة السعودية. هذه ليست تيارات فكرية وإنما مجرد غرائز غير عقلانية تحاول أن تظهر وكأنها أفكار عقلانية.
الإدارة الحالية في أميركا (إدارة ترمب) تمثل تزاوجا بين التيار الصليبي التقليدي في أميركا وبين “الإسلاموفوبيا” المستوردة حديثا من أوروبا. الإسلاموفوبيا الأوروبية ليس لها تاريخ في أميركا لأن أميركا نفسها لم تستقبل أعدادا مهمة من المهاجرين المسلمين خلال العقود الماضية. استيراد الإسلاموفوبيا الأوروبية إلى أميركا حصل مؤخرا، خاصة خلال أحداث تدفق اللاجئين السوريين على أوروبا.
أردوغان أرسل بعض اللاجئين السوريين إلى أوروبا لكي يبتز الأوروبيين وينتزع منهم أموالا. الإعلام الأوروبي، خاصة الإعلام اليميني العنصري، بالغ كثيرا في تصوير هذه الظاهرة التي تسبب بها أردوغان. الإعلام العنصري الأوروبي خلق أسطورة شعبية مفادها أن ملايين السوريين المسلمين زحفوا على أوروبا. هذه الأسطورة التي لا أساس لها في الواقع انتقلت إلى أميركا وتحولت إلى قصة مفضلة لدى ترمب وأمثاله من سفهاء الأحلام، رغم أنها لا تعني أميركا.
هذه الإسلاموفوبيا الشعبية هي مجرد سفاهة ويجب عدم الخلط بينها وبين الصليبية.
الصليبية في أميركا هي على ما أظن تياران اثنان وليست تيارا واحدا:
- الصليبية النخبوية هي فكر يوجد بشكل خاص في جامعات ومراكز بحثية، وبالتالي هي توجد لدى أناس من نخبة المجتمع بما في ذلك سياسيين.
- الصليبية الشعبية توجد لدى من يسمون بالإنجيليين.
في القرون الوسطى كانت هناك عداوة متبادلة بين الأوروبيين المسيحيين وبين المسلمين. هذه العداوة الدينية التاريخية تجلت أحيانا في كتابات وأبحاث المستشرقين. خلال القرنين 19-20 هذه العداوة خفت كثيرا في كل من أوروبا والعالم الإسلامي، ولكنها ظلت قوية إلى حد ما في الجامعات والمراكز البحثية الأميركية. هذه العداوة الدينية القديمة التي ظلت حية في الجامعات الأميركية هي ما نقصده بالصليبية النخبوية.
السؤال هو لماذا ماتت الصليبية في أوروبا ولكنها ظلت حية في أميركا؟
السبب على ما أظن هو أن الأميركيين، بخلاف الأوروبيين، لا يحتكون مع المسلمين ولا يتعاملون معهم إلا بشكل محدود جدا. في المقابل هناك في أميركا تواجد مهم ومؤثر لليهود المتعصبين وللتيار المسيحي المسمى بالتيار الإنجيلي.
الصليبية في أميركا لا تختلف في جوهرها عن فكر داعش. الصليبيون يعتقدون أنه يجب على أميركا أن تقتل المسلمين وتدمرهم. هذا هو جوهر فكرهم، ولكنهم لا يصرحون بذلك. هم في الغالب يتلطون خلف شعار “تأييد إسرائيل” و”الحلف مع إسرائيل” و”صداقة إسرائيل” ونحو ذلك.
بعض العرب يسيئون فهم الصليبية النخبوية في أميركا ويصدقون أن هذا الفكر يهدف فعلا لدعم إسرائيل. ليس صحيحا أن الصليبية تهدف لدعم إسرائيل. الفكر الصليبي في أميركا هو ذو جذور مسيحية قديمة تسبق بكثير قيام إسرائيل في عام 1948. أغلب معتنقي هذا الفكر هم مسيحيون أو من خلفية مسيحية. نحن لا ننكر أن الفكر الإنجيلي المؤيد لإسرائيل له دور في هذا الفكر، ولكن من السخف أن نعتقد أن كل المسيحيين المعتنقين لهذا الفكر هم حريصون جدا على اليهود وأن حماية اليهود هي شغلهم الشاغل. لو كانوا يهتمون فعلا بحماية إسرائيل لكانوا أوجدوا حلا سياسيا لقضية إسرائيل.
قصة “حماية إسرائيل” و”التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل” هي في الحقيقة ليست سوى شماعة يستغلونها لتبرير عداوتهم للمسلمين. لو لم تكن قصة إسرائيل موجودة لكانوا اخترعوا قصة أخرى لتبرير قتل المسلمين، وهذا حصل فعلا: دونالد ترمب جعل من محاربة داعش حجة لحرب إبادة شنها ضد المسلمين.
الحرب الأميركية ضد داعش لم تكن في أصلها حربا صليبية، ولكن دونالد ترمب حولها إلى حرب صليبية. دونالد ترمب انتقد في حملته الانتخابية سير الحرب ضد داعش وأخذ المواقف التالية:
- طالب بقتل عائلات الإرهابيين (بما فيها النساء والأطفال).
- طالب بتسوية المدن بالأرض وعدم ترك شيء فيها.
- أثنى على أعمال الإبادة التي يقوم بها روسيا وبشار.
عندما تولى ترمب السلطة أمر الجيش الأميركي بقصف الرقة عشوائيا وتدميرها بالكامل. بعد ذلك التدمير كان المفترض أن تكون هناك أعمال إغاثة تمهيدا لإعادة الإعمار، ولكن ترمب أوقف خطة الإغاثة وهو لا يفعل شيئا لإعادة إعمار الرقة أو غيرها من المدن التي دمرها. هو يريد أن ينسحب من تلك المدن ويسلمها لبشار.
تفسير سياسة ترمب ليس أمرا صعبا لأن الرجل نفسه أوضح أنه لا يميز بين المسلم الإرهابي وغير الإرهابي. هو أراد منع المسلمين بالمطلق من دخول أميركا. سياسته العملية في سورية كانت عبارة عن قتل للناس دونما هدف سوى القتل. القول بأن ما فعله ترمب في الرقة كان حربا ضد داعش هو خطأ. لو قبلنا بذلك فيجب أن نقبل أيضا أن ما فعله بشار في حلب هو حرب ضد الإرهاب.
نحن دعمنا الحرب الأميركية لأننا اعتقدنا أن تلك الحرب تستهدف داعش وليس السوريين، وأنها ستفتح الباب أمام إعادة الإعمار وأمام تأسيس حكومة شرعية لسورية تحيل بشار إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن ترمب أخذ الحرب في اتجاه آخر. هو حول الحرب الأميركية إلى جزء من حرب الإبادة التي يشنها بشار والروس والإيرانيون.
حقيقة فكر ترمب لا تختلف بشيء عن فكر داعش. من يؤيدون هذا الفكر في أميركا هم من نسميهم بالصليبيين. تلطيهم خلف شعار “دعم إسرائيل” لا ينبغي أن يخدع أحدا.
السوريون علقوا أولا في ورطة داعش التي صنعها أردوغان وحمد بن خليفة بهدف دعم بشار، والآن هم علقوا مع داعش أخرى موجودة في البيت الأبيض.
دواعش البيت الأبيض الصليبيون يعتقدون أن العرب هم في وضعية ضعيفة وأن الظرف هو مؤات للنيل منهم. هذا هو سبب القرارات التي اتخذوها من قبيل نقل السفارة الأميركية للقدس ومحاولتهم فرض تسوية مجحفة على الفلسطينيين. هم ليسوا مهتمين بحل قضية سورية أو قضية فلسطين بل هم يرون أن الكوارث التي صنعها حمد بن خليفة في العالم العربي خلقت وضعا مثاليا يتيح لهم النيل من السوريين والفلسطينيين. هم يرون في حرب اليمن فرصة للنيل من المملكة السعودية وانتزاع التنازلات منها.
حمد بن خليفة أعاد المشرق العربي إلى ما كان عليه في زمن الاستعمار عندما كان العرب دون حول ولا قوة.
كيف يجب أن نتعامل كعرب مع هذا الوضع المزر؟ الطريقة التي يتبعها الملك السعودي وابنه في التعامل مع دواعش البيت الأبيض هي طريقة حكيمة. السعودية كانت في ورطة عندما أتى ترمب للسلطة لأن هذا الرجل أظهر في حملته الانتخابية أنه يرغب في صنع أزمة بين أميركا والسعودية متذرعا بأن السعودية لا تدفع المال لأميركا مقابل الحماية الأميركية. السعودية هي ليست البلد الوحيد في العالم الذي يحظى بـ”الحماية الأميركية”، بل الحقيقة هي أن السعودية لا تحوي قواعد عسكرية أميركية كما اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها. ترمب ركز بشكل خاص على السعودية وأراد افتعال أزمة معها بسبب عدائه للمسلمين. الملك السعودي تألف قلبه بدفع المال له وبالسكوت النسبي عن سياساته التي توصف بأنها “داعمة لإسرائيل”، ولكنها في الحقيقة ليست سياسات داعمة لإسرائيل بقدر ما أنها عدوان داعشي على الفلسطينيين والمسلمين.
لا يوجد أمام السوريين شيء يفعلونه سوى انتظار خروج السعودية من حرب اليمن، لعلها بعد ذلك تكون في وضع أفضل يسمح لها بلعب دور في القضية السورية.
دولة الإمارات تلعب دورا مهما إلى جانب السعودية في حرب اليمن وفي مقاومة الشيطان حمد، ولكننا لا ندري إن كانت سترغب في التدخل في القضية السورية ضد بشار. محمد بن زايد أظهر سابقا أنه لا يفهم القضية السورية ويظن أن حالة بشار تشبه حالته شخصيا.
بفهم من كلامك أن العلاقات الأمريكبة السعودية على وشك التأزم
“نحن دعمنا الحرب الأميركية لأننا اعتقدنا أن تلك الحرب تستهدف داعش وليس السوريين، وأنها ستفتح الباب أمام إعادة الإعمار وأمام تأسيس حكومة شرعية لسورية”
هذا ملخص مهم للذين يؤمنون أن أمريكا يمكن أن تساعدهم..
المشكلة ليست هنا.. المشكلة أن الذين يفكرون هكذا سيعودون ويلعقون أحذية أمركيا مرّة أخرى وكأنهم لم يتعلموا من المرات السابقة.. ثم تعود أمريكا وتدعس عليهم مرة جديدة… وهكذا..
الحقيقة ان قوانين الحرب لاتعرف سوى المصالح وقانون المصلحة وحده لايكفى لبناء قيم فى ظل مجتمعات اصبحت المادة لديها تسمو على حياة الانسان