۞المحتويات
۞مقدمة
منذ عام 2011 إلى اليوم كتبنا في هذه المدونة مئات المقالات عن الأحداث الجارية في سورية. هذا المقال يحوي ملخصا لأهم ما كتبناه مع بعض الإضافات.
أنا ربما من الأشخاص القليلين في العالم الذين لم يتراجعوا عن أي شيء مهم كتبوه سابقا بشأن الأزمة السورية، ولهذا أنا قادر على كتابة مقال كهذا. المقال عموما لا يحوي أية اختلافات مهمة عما كنا قد كتبناه في الماضي. قد تكون هناك اختلافات في التفاصيل ولكن ليس في الأحداث الكبيرة والرؤية العامة. هذا في رأيي هو مؤشر على الحيادية. لو لم تكن نظرتنا للأحداث حيادية وموضوعية لكنا قد كتبنا خيالات وأماني كما كتب غيرنا.
۞1. أسباب الحرب
الحروب والأحداث التاريخية الكبيرة لها نوعان من الأسباب: أسباب مباشرة أو سطحية وأسباب غير مباشرة أو عميقة. على سبيل المثال، السبب المباشر أو السطحي للحرب العالمية الأولى هو الصراع بين القومية الصربية في البوسنة والهرسك وبين حكومة إمبراطورية النمسا-هنغاريا التي كانت تضم البوسنة والهرسك. هذا الصراع دفع قوميا صربيا من البوسنة إلى اغتيال وريث عرش النمسا-هنغاريا Franz Ferdinand بينما كان يزور مدينة سراييفو في 28 حزيران/يونيو 1914. بعد ذلك أعلنت النمسا-هنغاريا الحرب على صربيا. روسيا ردت على ذلك بدخول الحرب إلى جانب صربيا، وهذا دفع ألمانيا لإعلان الحرب ضد روسيا، وهذا بدوره دفع فرنسا وبريطانيا لإعلان الحرب ضد ألمانيا.
لا أظن أن أحدا من المؤرخين يكتفي بتفسير الحرب العالمية الأولى بأنها نتيجة للصراع بين القومية الصربية وإمبراطورية النمسا-هنغاريا. كل أو معظم المؤرخين يرون أن هناك أسبابا أعمق لهذه الحرب، ولكنهم يختلفون في تحديد الأسباب العميقة. البعض يحملون القومية الألمانية والإمبراطور الألماني مسؤولية نشوب الحرب، والبعض الآخر يشيرون إلى القومية الفرنسية ورغبة الفرنسيين في استعادة الألزاس-لورين التي خسروها خلال حرب العام 1870. بغض النظر عن التفاصيل، الأمر الأكيد هو أن جذور هذه الحرب تعود إلى القرن 19.
الحكومات تسعى أحيانا لطمس الأسباب العميقة للحروب. على سبيل المثال، الحكومات الأميركية سعت تاريخيا لطمس الأسباب العميقة للحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت في عام 1861 وروجت رواية رومانسية فنطازية تصور تلك الحرب على أنها كانت لأجل تحرير العبيد. قضية العبودية كانت من الأسباب شبه المباشرة التي أدت للحرب الأهلية الأميركية (السبب المباشر الحقيقي هو انفصال الولايات الجنوبية)، ولكن القول بأن الحرب حصلت فقط بسبب العبودية هو كلام لا يصدقه حتى الجمهور الأميركي (قرأت ذات مرة أن استطلاعا للرأي أظهر أن ثلثي الأميركيين لا يصدقون أن تلك الحرب كانت بسبب العبودية).
الحرب السورية –كسواها من الحروب– لها أسباب مباشرة وأخرى عميقة.
۞1.1. الأسباب العميقة
لو أردنا أن نبالغ في الحديث عن أسباب الحرب العميقة فيمكننا أن نرجع إلى زمن ابن تيمية وأن نتحدث عن عداوة أهل السنة للنصيريين تاريخيا، ولكنني أظن أن مثل هذا الطرح هو غير علمي وينطوي على سخافة. هو يشبه طروحات الإسلاموفوبيين من مؤيدي بشار الذين يرون أن سبب الحرب هو مجيء الإسلام إلى سورية في القرن الميلادي السابع.
الصراع بين متعصبي أهل السنة وبين العلويين النصيريين هو حقيقة تاريخية، ولكن هذا الصراع انتهى في ثمانينات القرن العشرين. خلال تسعينات القرن العشرين لم تكن هناك دلائل أو مؤشرات على استمرار الصراع. الصراع اشتعل مجددا في الحرب السورية الحالية، ولكن هذا الصراع هو ليس السبب الذي أشعل الحرب لأن الصراع لم يكن موجودا لسنوات كثيرة قبلها.
رأينا الذي شرحناه سابقا هو أن الحرب السورية حصلت لسببين عميقين هما في الحقيقة الركيزتان الإديولوجيتان لنظام عائلة الأسد: القومية الدمشقية والاشتراكية.
القومية الدمشقية دفعت نظام عائلة الأسد لإهمال تنمية المحافظات التي سميناها بالمستعمرات المحيطية (حلب وإدلب ودير الزور والرقة والحسكة). إهمال تلك المحافظات بشكل مزمن أدى في النهاية إلى مجاعة ضربت تلك المحافظات بدءا من العام 2007، وهو ما دفع الأمم المتحدة للتدخل لمساعدة المتضررين (الأمم المتحدة قدمت مساعدات غذائية ومولت بناء صفوف دراسية وغير ذلك. مشاريع الأمم المتحدة الإغاثية حصلت في مخيمات للاجئين أقيمت في ريف دمشق وأيضا في مناطق متضررة كريف حلب).
تدخل الأمم المتحدة أحرج بشار، ولهذا السبب هو قرر على نحو مفاجئ أن يزيد من إنفاق حكومته على المستعمرات. هذا التوجه الجديد أضر بالمحافظات المركزية التي كانت محظية تاريخيا بسبب مجاورتها لدمشق (مثلا ريف دمشق، ودرعا، وحمص) وأدى إلى ظهور استياء شعبي في تلك المحافظات. بداية الأحداث السورية كانت من تلك المحافظات تحديدا.
الاشتراكية هي السبب العميق الثاني للحرب. الاشتراكية في سورية (كما في كل البلدان الاشتراكية الأخرى) أدت إلى نشوء طبقة طفيلية من الأشخاص الذين يعتاشون على حساب غيرهم، هي الطبقة التي تسمى بموظفي القطاع العام. هؤلاء كانوا يحصلون على رواتب وامتيازات من الحكومة لم تكن متاحة لسواد الشعب. بما أن معظم العلويين كانوا ينتمون إلى هذه الطبقة الطفيلية فإن قسما من الناس في سورية ساووا بين هذه الطبقة وبين العلويين، ولكن هذه المساواة هي غير صحيحة لأن الطبقة كانت أكبر من العلويين (تقريبا كل علوي في سورية كان ينتمي إلى هذه الطبقة، ولكن ليس كل من انتمى إلى هذه الطبقة من العلويين).
النهاية الحتمية لكل نظام اشتراكي هي الإفلاس. هذا حصل بالفعل في سورية في ثمانينات القرن العشرين. آنذاك لم يكن حافظ الأسد يملك قرشا واحدا وكان يعتمد بالكامل على المساعدات الخارجية التي كانت تأتيه أساسا من الاتحاد السوفييتي ومن إيران (وأظن أيضا من ليبيا). من عاشوا في سورية في تلك الحقبة يتذكرون الشح الشديد في الأغذية والمواد الأساسية. ما أنهى تلك الحالة كان بداية تصدير النفط في نهاية عقد الثمانينات.
تصدير النفط ما كان سوى حل مؤقت، ولكن حافظ الأسد تجاهل ذلك ولم يقم بأي إصلاح حقيقي في نظامه خلال عقد التسعينات. الإصلاحات كانت تستلزم الصدام مع الطبقة الطفيلية التي تعتاش على المال العام، وهذه كانت معضلة لحافظ لأن الطبقة الطفيلية تضم العلويين وأمثالهم ممن دعموا النظام خلال الحرب مع الإخوان المسلمين.
حافظ أورث ابنه بشار نظاما يعتمد على عائدات تصدير النفط لسد العجز الكبير في الموازنة. بشار أدرك (بعدما أمضى عدة سنوات في السلطة) أن نظامه يتجه نحو الإفلاس بسبب تنامي عجز الموازنة وعدم وجود اكتشافات نفطية جديدة. هو وجد نفسه مضطرا لإجراء الإصلاحات التي جَبُن والده عن القيام بها. الإصلاحات التي قام بها قللت من الامتيازات التي كانت الطبقة الطفيلية تحصل عليها تاريخيا، وهذا أثار الغضب ضده في صفوف هذه الطبقة. لهذا السبب رأينا خلال الأحداث السورية أن بعض الفئات الداعمة تاريخيا للنظام (مثلا البعثيون) لم تساند بشار كما ساندت والده خلال أحداث السبعينات والثمانينات.
۞2.1. الأسباب المباشرة
الموقف الرسمي الأميركي يشير إلى “الربيع العربي” بوصفه السبب المباشر للحرب السورية.
كل من عاش أحداث العام 2011 يعلم أن الربيع العربي هو بالفعل سبب للحرب السورية، ولكن هناك سببا مباشرا آخرا لا تعترف به الحكومة الأميركية رغم كونه السبب الأهم.
الربيع العربي في سورية ما كان يستلزم بالضرورة اندلاع الحرب. كان من الممكن أن ينتهي الربيع العربي دون حصول حرب. حتى لو فرضنا أن الحرب كانت قدرا محتوما فإنها ما كانت ستصل إلى ما وصلت إليه دون التدخل الخارجي. لهذا السبب أنا لا أحبذ التركيز على الربيع العربي كسبب للحرب وأفضل التركيز على السبب الأهم، ألا وهو التدخل الأميركي في سورية.
التدخل الأميركي الهدام في سورية خلال العام 2011 والأعوام التي سبقته هو حقيقة جلية. الحديث عن هذا التدخل في السنوات الأولى للأزمة كان يثير حفيظة المعارضين لظنهم بأنه تخوين لهم. بشار في المقابل كان يحب ذلك الحديث لظنه بأنه يخدمه. نحن هنا لا نهتم برأي المعارضة ولا برأي بشار ولكننا نتحدث عن وقائع.
بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وجد الأميركيون أنفسهم غارقين في مستنقع، ليس فقط بسبب المشاكل التي واجهوها داخل العراق وإنما أيضا بسبب موقف الدول المجاورة للعراق. ثلاث من تلك الدول (إيران وسورية وتركيا) عارضت بشدة الإطاحة بنظام صدام وشنت حربا إعلامية ضد التدخل الأميركي في العراق (قطر أيضا شنت حربا إعلامية شعواء ضد التدخل الأميركي). اثنتان من الدول المجاورة للعراق (إيران وسورية) لم تكتفيا بالحرب الإعلامية ولكنهما دعمتا التمرد المسلح في العراق.
أميركا لم ترغب بخوض مواجهة عسكرية مع إيران وسورية رغم نشاطهما العدائي ضدها في العراق، لأن أميركا لم تر أن هناك جدوى من ذلك. لو شنت أميركا حربا على نظام بشار وأسقطته فإن هذا ما كان سيحل مشكلة العراق ولكنه كان سيضع الأميركان أمام مشكلة أخرى في سورية على غرار مشكلة العراق (بل وربما أسوأ بسبب كون سورية مجاورة لإسرائيل). لهذا السبب تفادى الأميركان المواجهة العسكرية مع إيران وسورية وفضلوا الضغط على النظامين بهدف “تغيير سلوكهما”. المطلوب من نظام بشار تحديدا كان الابتعاد عن إيران.
النهج الأميركي تجلى في تقرير لجنة Baker-Hamilton لعام 2006 الذي أوصى الحكومة الأميركية بالتخلي عن فكرة إسقاط النظامين الإيراني والسوري والحوار مع النظامين، وهو ما سمي آنذاك reengagement policy. لاحقا كشفت وثائق ويكيليكس أن أميركا بدأت في العام 2006 (نفس العام الذي صدر فيه تقرير Baker-Hamilton) بتمويل جماعات سورية معارضة لنظام بشار، وأن هذا التمويل سمح لجماعة سورية معارضة بتأسيس محطة تلفزيونية مناوئة لنظام بشار في لبنان حملت اسم “بردى”. في هذه المدونة تحدثنا عن قناة بردى قبل ظهور تسريب ويكيليكس وقلنا أن وجود هذه القناة الممولة من أميركا هو دليل دامغ على أن أميركا سعت لخلخلة نظام بشار عشية الربيع العربي في العام 2011. الحكومة الأميركية لا يمكن أن تمول قناة معارضة لنظام حكم في دولة معينة إلا إذا كان ذلك بهدف خلخلة نظام الحكم في تلك الدولة (أشهر مثال هو وسائل الإعلام الممولة من الحكومة الأميركية التي كانت موجهة ضد الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة). أميركا لا تفعل شيئا كهذا مع دول صديقة أو غير معادية، وحتى إن كانت أنظمة تلك الدول غير ديمقراطية.
إلى جانب تمويل قناة “بردى” كان الأميركان يضغطون على إيران وسورية عبر محكمة رفيق الحريري (التي كانت في بادئ الأمر موجهة ضد بشار ولاحقا وُجهت ضد حزب الله ثم قُتلت بعد الصفقات التي عقدها أوباما مع بشار وإيران خلال أحداث الحرب السورية). الأميركان كانوا أيضا يضغطون عبر التحقيق الدولي في قضية “المفاعل النووي” في محافظة دير الزور السورية.
المطلب الأميركي الأساسي الموجه لبشار في تلك الحقبة كان ترك حلفه مع إيران. بشار كان يظهر الرفض والتحدي للمطلب الأميركي، وأشهر مثال هو العشاء الشهير الذي جمعه في عام 2010 مع أحمدي نجاد وحسن نصر الله في دمشق، والذي وصف آنذاك في إعلام “محور المقاومة” بأنه تحد للضغوط الأميركية على بشار.
بعد حرب تموز 2006 في لبنان بدأ بشار ببرنامج تسلحي. في خريف 2006 عقد صفقة مع روسيا لشراء طائرات MiG-31 و MiG-29M/M2 وأسلحة مضادة للطائرات هي SA-18/ 9K38 Igla و Pantsir S1 (SA-22) و Buk M2 (SA-17). أيضا بشار اشترى أسلحة من إيران وكوريا الشمالية، والأخطر من ذلك هو أنه اتفق مع الإيرانيين والكوريين الشماليين على نقل تقنيات لتصنيع الصورايخ إلى سورية. أيضا الإسرائيليون تحدثوا عن تعاون بين بشار وكوريا الشمالية لبناء مفاعل نووي في سورية.
إسرائيل أثارت ضجة بسبب هذه النزعة التسلحية لدى بشار وركزت على القول بأن الأسلحة التي تصل إلى بشار سوف تنتقل إلى حزب الله. مصادر إسرائيلية زعمت أيضا أن المفاعل النووي الكوري الشمالي في شرق سورية كان مشروعا إيرانيا أقيم على الأراضي السورية لإبقائه بعيدا عن الأضواء ولعدم تحميل إيران المسؤولية في حال انكشافه.
هذا هو ملخص الحقبة التي سبقت بداية الحرب السورية في عام 2011. السياسة الأميركية المعلنة في تلك الحقبة (2006-2011) كانت تنص على تجنب إسقاط بشار مع الضغط عليه لإرغامه على ترك حلفه مع إيران.
عندما اندلعت مظاهرات “الربيع العربي” في سورية في آذار/مارس 2011 كان هدف الأميركيين المعلن هو استغلال المظاهرات للضغط على بشار لإرغامه على تغيير سلوكه. هذا الموقف المعلن استمر حتى آب/أغسطس من نفس العام عندما ألقى أوباما خطابا طالب فيه بشار بترك السلطة. ذلك الخطاب فسر في بعض الإعلام على أنه تغير في الموقف الأميركي وبداية لتحرك أميركي لإسقاط بشار، ولكننا لم نره كذلك وظللنا نقول أن السياسة الأميركية لن تتغير عمليا وأن أميركا ستواصل نفس ما كانت تفعله دون التورط في عمل عسكري مباشر ضد بشار. السبب الأساسي الذي دفعنا لقول ذلك الكلام كان تحليلا نظريا منطقيا: السياسة الأميركية في ذلك الوقت كانت تحقق نجاحا باهرا. هي كانت تقوض نظام بشار وتقوض سورية كدولة وتقوض “محور المقاومة”. ما هو السبب الذي سيجعل أميركا تترك تلك السياسة الناجحة وتعود إلى سياسة شبيهة بسياسة التدخل في العراق التي يرى الأميركان عموما وأوباما خصوصا أنها كانت كارثة؟ هدف أوباما الأساسي في الشرق الأوسط كان الانسحاب من العراق وإقفال ذلك الملف، فهل يعقل أنه سيتدخل عسكريا في سورية ويفتح ملفا جديدا على غرار ملف العراق؟
تحليلنا للموقف الأميركي كان بسيطا وبديهيا، والأحداث اللاحقة أثبتت صحته بطبيعة الحال، ولكن العجيب هو أن ذلك التحليل كان يعتبر دفاعا عن بشار عندما كنا نطرحه في عامي 2011 و2012، لأن قطر أقنعت الثوار السوريين بأن سقوط بشار سوف يكون بتدخل عسكري على الطريقة الليبية. ثقة الثوار السوريين بحصول ذلك التدخل العسكري الذي وعدت به قطر كانت عالية جدا إلى درجة أنهم ظلوا ينتظرونه طوال الحقبة التي نسميها بالحرب الزائفة.
نحن لا نعلم يقينا ما هي دوافع الموقف القطري في ذلك الوقت، ولكن بغض النظر عن الدوافع: السياسة القطرية كانت متماشية مع السياسة الأميركية التي كانت تدفع بقوة نحو إشعال نزاع مسلح في سورية.
كما وضحنا في الأعلى، أميركا كانت تسعى لخلخلة نظام بشار منذ العام 2006، ولكن الهدف من ذلك لم يكن التهيئة لتدخل أميركي لإسقاط نظام بشار، بل على العكس تماما، الأميركان في ذلك الوقت كانوا ينظرون بعداء بالغ إلى فكرة إسقاط بشار عبر تدخل أميركي. هم كانوا يعتبرون أن ما حصل في العراق كان خطأ كارثيا وآخر ما سيفعلونه هو تكرار نفس العمل في سورية.
الجهود الأميركية ضد نظام بشار كانت مجرد حرب ناعمة أو باردة. هي مجرد عمل عدائي محض يهدف لتدمير أو إضعاف بلد يعتبره الأميركان معاديا لهم ولكنهم لا يرغبون في خوض “حرب ساخنة” ضده. أميركا سبق أن شنت هكذا حرب ضد الاتحاد السوفييتي وضد غيره.
هدف الحرب الباردة هو تماما كهدف الحرب الساخنة. عندما تخوض أميركا هكذا حرب فهي لا تفكر في خدمة البلد المعادي ولكنها تفكر في تقويضه وتدميره، لأن هذه حرب. عندما تخوض حربا ضد دولة فأنت تسعى لتقويض تلك الدولة وليس تحسين أوضاعها.
عندما اندلعت مظاهرات “الربيع العربي” في سورية اعتبر الأميركان ذلك فرصة ذهبية لزعزعة سورية وإضعافها. هم طبعا لا يعترفون بحقيقة موقفهم آنذاك، ولكنه كان واضحا جدا. ما يلي بعض التكتيكات التي اتبعها الأميركان في عام 2011 لمنع حصول حوار سياسي بين بشار والمتظاهرين:
- وزارة الخارجية الأميركية كانت تحرض على الاستمرار في التظاهر عبر إصدار بيانات تحريضية مضللة في كل يوم خميس (عشية المظاهرات في أيام الجمعة) وعبر توجيه السفير الأميركي في دمشق للاتصال بالمتظاهرين والذهاب لمواقع المظاهرات بهدف إيصال رسائل خاطئة ومضللة للمتظاهرين.
- البيت الأبيض كان أيضا يرسل رسائل تحريضية مضللة من قبيل زعم أوباما بأن “أيام الأسد هي معدودة” ونحو ذلك من الكلام الفارغ الذي لم يكن له أي هدف سوى التحريض وصب الزيت على النار.
- التقليل من شأن تنازلات بشار ومحاولاته للتحاور مع المتظاهرين في ذلك الوقت ووصف كل ما يقوم به بأنه متأخر وغير كاف ونحو ذلك.
- التركيز على قضايا هامشية وجعلها حجة للتصعيد ومنع الحوار، مثل النقاش حول ما إذا كان بشار قد أعطى أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين أم لا (هذا النقاش هو مهم في الأحوال الطبيعية ولكنه هامشي وسخيف عندما يستخدم كذريعة لمنع حوار سياسي في بلد يوشك على السقوط في حرب أهلية سيهلك فيها ملايين الناس).
- توفير الغطاء لقطر وتركيا لتأسيس “الجيش السوري الحر” والبدء في إرسال السلاح إلى سورية بحجة الدفاع عن المتظاهرين.
الأمور أعلاه، وخاصة الأمر الأخير، هي الأسباب المباشرة التي أدت لاشتعال الحرب في سورية. في رأينا أن تشكيل الجيش السوري الحر والبدء في إرسال السلاح إلى سورية هو الشرارة المباشرة للحرب، وبما أن أميركا هي المسؤول عن ذلك فإن أميركا هي الجهة التي أشعلت الحرب السورية.
ظاهريا الدور القطري يبدو أهم من الدور الأميركي في إشعال الحرب السورية، ولكن أميركا هي التي غطت قطر وسمحت لها بإرسال السلاح إلى سورية لأول مرة في صيف 2011 (تقريبا في نفس الوقت الذي دعا فيه أوباما لرحيل الأسد). دون الغطاء الذي وفرته CIA لقطر وتركيا (ولاحقا أيضا للسعودية) فإن هذه الدول ما كان يمكن لها أن ترسل السلاح والمال إلى داخل سورية بهدف تأسيس تمرد، لأن دعم تمرد داخل أي بلد هو عمل عدائي يعتبر من أعمال الحرب، وهو كان سيجلب ردود فعل دولية ضد قطر وتركيا لا قبل لهاتين الدولتين بها دون الغطاء الأميركي.
البعض سيقول أن هذا الكلام هو تبرئة لبشار من مسؤولية إشعال الحرب. عندما نحدد سبب اشتعال الحرب يجب أن نبحث عن العامل المستجد الطارئ. بشار الأسد وحكمه الدموي لم تكن أمورا مستجدة في العام 2011. هذا كان واقعا في سورية منذ عقود. بشار الأسد قتل معارضين وعذبهم قبل العام 2011 دون أن يؤدي ذلك لاشتعال حرب. الربيع العربي كان أمرا مستجدا في العام 2011 وهو لعب دورا في التهيئة للحرب، ولكن الربيع العربي لوحده ما كان سيصنع الكثير دون التحريض والمال والسلاح الذي أتى من الخارج.
البعض قد يقولون (وهم يقولون بالفعل) أن أميركا أساءت التقدير في عام 2011 وظنت أن المظاهرات سوف تسقط بشار. هذه النقطة تحديدا كانت من أكثر الأمور التي ناقشناها في عام 2011 وفندناها مطولا. ملخص ما قلناه آنذاك هو ما يلي: الأميركان سوف يخلون مسؤوليتهم لاحقا عبر الزعم بأنهم تصرفوا بحسن نية وأنهم أساؤوا التقدير وظنوا أن المظاهرات سوف تسقط بشار، ولكن هذا الكلام سوف يكون مجرد عذر غير مقنع، وذلك لسببين:
- أميركا لم تكن ترى سورية دولة صديقة وإنما دولة معادية وكانت دائما تتعامل معها على هذا الأساس. بالتالي يجب أن نفترض أن أميركا تصرفت في عام 2011 من منطلق عدائي وبسوء نية.
- الأوضاع في سورية والمنطقة في عام 2011 كانت واضحة للأميركان، ولو فرضنا جدلا أنها لم تكن واضحة لهم في آذار/مارس 2011 فإنها كانت بلا شك واضحة في الصيف عندما منحوا الغطاء لقطر لإرسال السلاح إلى سورية. لو كانوا يعتقدون أن المظاهرات ستسقط النظام لما كانوا أرسلوا السلاح إلى سورية وأشعلوا الحرب (في ذلك الوقت هم كانوا ينفون إرسال السلاح إلى سورية ولكنهم لاحقا اعترفوا).
۞2. أطوار الحرب
مؤرخو الحرب العالمية الثانية يسمون أحد أطوارها الباكرة باسم الحرب الزائفة phony war لأنه لم يشهد مواجهات عسكرية مهمة. سوف نستخدم نفس هذه التسمية للطور الأول من الحرب السورية الذي سبق التدخل العسكري الأميركي في أيلول/سبتمبر 2014، لأن ما جرى في سورية خلال ذلك الطور لم يكن حربا بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنما مجرد فوضى عبثية. أميركا خلال العام الأول من ذلك الطور لم تكن جادة في محاربة بشار ولم تكن تفعل شيئا. في العامين اللاحقين قررت أميركا أن تتدخل ولكنها عجزت عن تحويل قرارها إلى واقع بسبب الموقف التركي. بالنسبة لبشار فهو في العام الأول كان يبدو كحكومة تحارب متمردين، ولكنه في العامين اللاحقين انهار وخسر صفته كحكومة. عمليات بشار العسكرية بعد العام الأول فقدت معناها العسكري وتحولت إلى مجرد إجرام عبثي.
في رأينا إذن أن الحرب السورية مرت بطورين:
- الحرب الزائفة التي استمرت من صيف 2011 إلى التدخل العسكري الأميركي في أيلول/سبتمبر 2014.
- الحرب الحقيقية التي بدأت فعليا مع التدخل العسكري الأميركي في أيلول/سبتمبر 2014.
۞1.2. الحرب الزائفة (من صيف 2011 إلى أيلول/سبتمبر 2014)
الجهات التي نشطت في سورية خلال الحرب الزائفة هي:
- بشار الأسد وحزب الله بدعم من إيران
- الفصائل الجهادية المدعومة من تركيا وقطر
- الفصائل “المعتدلة” المدعومة من أميركا والسعودية
روسيا لم تكن طرفا في الحرب السورية قبل أزمة القرم التي بدأت في شباط/فبراير 2014. التدخل الروسي في سورية بدأ في أيلول/سبتمبر 2015، أي بعد حوالي عام على التدخل الأميركي في سورية. التدخل الروسي في سورية هو مرتبط كليا بأزمة القرم وليس له سبب (سواء عميق أم مباشر) سوى أزمة القرم حصرا.
خلال فترة الحرب الزائفة كانت هناك اتهامات لروسيا بدعم بشار، ولكن تلك الاتهامات كانت في الغالب اتهامات فارغة. هي استندت بشكل شبه كامل على استخدام روسيا (مع الصين) لحق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرارات هدفت لفرض حصار دولي على سورية ونزع الشرعية عن نظام بشار. روسيا والصين عندما استخدمتا الفيتو ضد تلك القرارات لم تكونا تقصدان الدفاع عن نظام بشار ولكنهما كانتا تعارضان فلسفة القرارات وتريان أنها تخالف القانون الدولي.
۞1.1.2. العام الأول (من صيف 2011 إلى صيف 2012)
أميركا كانت نظريا تقود قطر وتركيا (ولاحقا السعودية) منذ بداية الحرب. كل شيء قام به هؤلاء كان تحت الغطاء الأميركي. الغطاء الذي وفرته CIA هو الذي سمح لتلك الدول بإرسال السلاح والأموال إلى الجماعات التي قاتلت ضد بشار. إذن أميركا كانت نظريا تقود حركة التمرد المناوئة لبشار، ولكن الواقع هو أن أميركا في العام الأول من الحرب الزائفة لم تكن تشارك عمليا في تدريب وتسليح المتمردين. القيادة الأميركية كانت إلى حد كبير مجرد قيادة اسمية. هي كانت مجرد تغطية دون مشاركة حقيقية. مشاركة CIA العملية في تدريب وتسليح المتمردين أو الثوار السوريين بدأت (على ما يبدو) في النصف الثاني من العام 2012.
سوف نتحدث في الأسفل عن السبب الذي دفع الأميركان لتغيير سياستهم والمشاركة العملية في تدريب وتسليح الثوار السوريين، ولكننا قبل ذلك سوف نسأل: لماذا امتنعت أميركا عن المشاركة العملية منذ البداية؟
هناك جوابان على هذا السؤال:
أولا، المشاركة الأميركية المباشرة كان من شأنها استفزاز روسيا والصين وغيرهما، لأن هكذا عمل هو مخالف للقانون الدولي.
ثانيا، السياسة الأميركية في ذلك الوقت كانت لا ترغب في أن تتولى أميركا بنفسها عملية إسقاط النظام السوري (بسبب التجربة السيئة في العراق). الأميركان لم يكونوا ضد إسقاط بشار، ولكنهم أرادوا أن يكون سقوطه بسبب عمل داخلي سوري مدعوم من دول إقليمية مع قيادة أميركية “من الخلف”.
الأميركان على الأغلب لم يكونوا يتوقعون أن تنجح فكرة “القيادة من الخلف” في إسقاط بشار (هذا كان رأينا في تلك الفترة، لأن ما كنا نراه آنذاك لم يكن يدل على وجود مشروع جدي للإطاحة ببشار)، ولكن هذه المسألة لم تكن مهمة بالنسبة للأميركان، لأن مسألة سقوط بشار كانت مجرد تحصيل حاصل بعد اندلاع الحرب.
أميركا لم تكن لديها مشكلة شخصية مع بشار وإنما مع “محور المقاومة”. المطلوب كان إخراج سورية من محور المقاومة أو إضعاف سورية بحيث تغدو غير نافعة لذلك المحور. سورية في السنوات التي سبقت الحرب كانت تشهد بعض النمو الاقتصادي بسبب الإصلاحات التي قام بها بشار، وهذا النمو الاقتصادي كان يمكّن بشار من شراء السلاح وتأسيس معامل للسلاح. عندما بدأت مظاهرات الربيع العربي في سورية كان هم الأميركان الأول هو استغلال ذلك لكبح نمو الاقتصاد السوري وتدميره، لأن هذا يحرم بشار من الأموال التي كان ينفقها على التسلح.
أميركا نجحت في عام 2011 في إشعال الحرب في سورية ونجحت أيضا في فرض عقوبات اقتصادية أوروبية وعربية على سورية. هذه كانت مكاسب كبيرة تحققت في عام واحد. بعد كل تلك المكاسب رأى الأميركان أنفسهم رابحين، خاصة وأن الحرب كانت مستمرة ولم يكن هناك ما يشير إلى قرب نهايتها، بالتالي لم يكن هناك سبب يحفز أميركا على التدخل في سورية لخلع بشار. الأمور كانت تسير على نحو “ممتاز” والتدخل الأميركي المباشر في سورية كان مجرد هدر للمال دونما سبب.
ولكن في نهاية العام الأول من الحرب (تقريبا في منتصف 2012) تغيرت السياسة الأميركية. المخابرات الأميركية صارت تشارك بشكل عملي في تدريب وتسليح المتمردين السوريين. سبب ذلك على ما يبدو هو اكتشاف الأميركيين لأن قطر كانت تخدعهم:
WASHINGTON — Most of the arms shipped at the behest of Saudi Arabia and Qatar to supply Syrian rebel groups fighting the government of Bashar al-Assad are going to hard-line Islamic jihadists, and not the more secular opposition groups that the West wants to bolster, according to American officials and Middle Eastern diplomats.
That conclusion, of which President Obama and other senior officials are aware from classified assessments of the Syrian conflict that has now claimed more than 25,000 lives, casts into doubt whether the White House’s strategy of minimal and indirect intervention in the Syrian conflict is accomplishing its intended purpose of helping a democratic-minded opposition topple an oppressive government, or is instead sowing the seeds of future insurgencies hostile to the United States.
“The opposition groups that are receiving the most of the lethal aid are exactly the ones we don’t want to have it,” said one American official familiar with the outlines of those findings, commenting on an operation that in American eyes has increasingly gone awry.
The United States is not sending arms directly to the Syrian opposition. Instead, it is providing intelligence and other support for shipments of secondhand light weapons like rifles and grenades into Syria, mainly orchestrated from Saudi Arabia and Qatar. The reports indicate that the shipments organized from Qatar, in particular, are largely going to hard-line Islamists.
هذا الكلام الذي نشر في عام 2012 هو بمثابة وثيقة تاريخية مهمة لمن يريد أن يفهم حقيقة ما حصل في سورية في العام الأول من الحرب. معظم السلاح والمال الذي أرسلته قطر عبر تركيا إلى سورية في ذلك العام ذهب إلى جماعات جهادية، رغم أن الأميركان كانوا قد طلبوا من قطر وتركيا عدم دعم تلك الجماعات ودعم جماعات أخرى “أكثر علمانية”.
سياسة قطر وتركيا العلنية في العام الأول من الحرب كانت تناقض سياستهما السرية. في العلن هم تبنوا “المجلس الوطني السوري” الذي تأسس في إسطنبول في آب/أغسطس 2011 وطرح نفسه كجسم علماني يصلح لحكم سورية. الرئيس الأول لذلك المجلس كان العلماني برهان غليون، والرئيس الثاني بعده كان الكردي العلماني عبد الباسط سيدا، والرئيس الثالث كان المسيحي جورج صبرة (الذي تحول إلى نجم مفضل للإعلام القطري). الإعلام القطري كان يحرص على إبراز رؤساء هذا المجلس وغيرهم من الشخصيات البعيدة عن الفكر الجهادي وكان يسوق تلك الشخصيات بوصفها رموز الثورة السورية. ولكن على أرض الواقع كانت سياسة قطر وتركيا شيئا مختلفا تماما: هم تعمدوا عصيان التوجيهات الأميركية ودعموا الجماعات الجهادية بدلا من أن يدعموا الجماعات المعتدلة.
ما فعلته قطر وتركيا يسمى نفاقا أو خداعا. هم أظهروا سياسة علنية تناقض السياسة التي نفذوها في الواقع. هم أظهروا الدعم لحكومة علمانية أو معتدلة في سورية، ولكنهم في الواقع دعموا الجماعات الجهادية بدلا من دعم الجماعات المعتدلة.
شاع في الإعلام العربي تفسير السياسة القطرية والتركية على أنها محاباة لجماعة الإخوان المسلمين، ولكن هذا التفسير في رأينا لا يمكن أن يكون صحيحا. قطر وتركيا لم تدعما جماعات إخوانية ولكنهما دعمتا جماعات سلفية جهادية. السياسة القطرية والتركية دمرت مصالح جماعة الإخوان المسلمين كما دمرت مصالح غيرها من السوريين (سوف نناقش هذه القضية بمزيد من التفصيل في الأسفل).
الخداع القطري-التركي هو ربما السبب الذي دفع أميركا لتغيير سياستها والمشاركة العملية في تدريب وتسليح المتمردين. في ذلك الوقت كان بشار ينفي وجود أية معارضة معتدلة وكان يقول أن كل المتمردين هم جهاديون إرهابيون. سياسة قطر وتركيا كانت تخلق واقعا في سورية يطابق تماما دعاية بشار. لو ترك الأميركان ذلك لكانت الأمور سارت نحو سيناريو ينقذ بشار. منعا لذلك قرر الأميركان التدخل المباشر. أيضا الأميركان كانت لهم مصلحة أمنية في منع تحول سورية إلى بؤرة للجماعات الجهادية الإرهابية.
من المحتمل أيضا أن تغير السياسة الأميركية كان بسبب التغيرات الميدانية المهمة التي حصلت في سورية بدءا من صيف 2012، والتي سنتحدث عنها في الأسفل.
۞2.1.2. العام الثاني (من صيف 2012 إلى صيف 2013)
في العام الأول من الحرب كان نظام بشار ما يزال قائما. هو كان يسيطر على المدن المهمة وكان يتصرف كحكومة تحارب متمردين. ولكن في العام الثاني حصلت تغيرات جذرية: نظام بشار انهار وتقوقع في دمشق، وحربه ضد المتمردين بدأت تتحول إلى إجرام واسع النطاق (قصف عشوائي للمدن بالبراميل المتفجرة والصواريخ، مجازر طائفية مثل مجزرة الحولة، وربما أيضا استخدام الكيماوي).
المواقع التي قصفها بشار في مدينة حلب بحلول كانون الثاني/يناير 2015
بشار لم يعد قادرا على الاحتفاظ بالمحافظات البعيدة عن دمشق مثل حلب والرقة والحسكة ودير الزور. لهذا السبب هو اتخذ قرارا في صيف عام 2012 بالانسحاب من تلك المحافظات مع الاحتفاظ في كل محافظة بمربع أمني (بعض الأحياء) في مركز المحافظة وبعض القواعد العسكرية والمطارات المهمة.
الإعلام (بما في ذلك إعلام بشار نفسه) صور انسحابات بشار على أنها فتوحات وانتصارات للجيش الحر، ولكن الحقيقة هي أن الجيش الحر كان مجرد ميليشيات فوضوية عبثية غير قادرة على تحقيق مثل تلك الانتصارات المزعومة (أنا أذكر أن المخابرات الأميركية قدرت آنذاك أن هناك أكثر من ألف ميليشيا في سورية تحمل مسمى “الجيش الحر”). السبب الحقيقي لتلك النكسات التي تعرض لها بشار هو أن بشار نفسه قرر الانسحاب نحو دمشق والانكفاء هناك. قرأنا آنذاك أنه فعل ذلك بناء على نصائح أتته من خبراء إيرانيين.
بشار لم يعترف أبدا بأنه انسحب من أي مكان في سورية. هو ألف قصصا خيالية للتغطية على انسحاباته من المدن المختلفة. مثلا هو زعم أنه ترك مدينة الرقة في عهدة العشائر وأن العشائر خانت العهد وسلمت المدينة للإرهابيين. بالنسبة للحسكة فهو زعم أنه تركها بعهدة أكراد حزب YPG وأن هؤلاء خانوه لاحقا. بالنسبة لحلب فهو زعم أنها ضاعت منه بسبب خيانة “محمد المفلح” رئيس فرع المخابرات العسكرية.
الفوائد التي حققها بشار من الانسحاب كانت متعددة:
أولا، تجميع قواته في دمشق سمح له بحماية المدينة وتوفير أجواء طبيعية فيها خلال زيارات المسؤولين والصحفيين الأجانب. بشار في تلك المرحلة بدأ يولي أهمية قصوى لصورته أمام المسؤولين الدوليين والإعلام الدولي لأنه بدأ يفقد الأمل في كسب الحرب عسكريا وبدأ ينظر إلى الحرب على أنها حرب إعلامية ودعائية في المقام الأول.
ثانيا، بمجرد انسحاب بشار من المدن كان يقطع عنها إمدادات الوقود والكهرباء وكان يلقي باللائمة على “الإرهابيين” الذين كانوا حسب زعمه يقطعون خطوط الكهرباء وإمدادات الوقود. بذلك هو تجنب تقنين الوقود والكهرباء في دمشق دون أن يتحمل مسؤولية قطع هذه الأمور عن حلب وغيرها.
ثالثا، انسحاب بشار من حلب وغيرها أعطاه مبررا لتدمير تلك المدن وتسويتها بالأرض بحجة أنها خارجة عن سيطرته وواقعة في قبضة الإرهابيين.
هذه فوائد جناها بشار من الانسحاب، ولكن في المقابل كانت هناك خسارة استراتيجية جسيمة هي فقدانه لصفته كحكومة شرعية لسورية. هو بات حكومة لدمشق فقط (أو لدمشق وما حولها). من المحتمل أن هذا التطور الجديد ساهم في دفع الأميركان لتغيير سياستهم والانخراط المباشر في دعم وتسليح المتمردين. هم ربما رأوا في انسحابات بشار فرصة وأرادوا أن تقوم المعارضة بملأ الفراغ في المناطق التي انسحب منها. ولكن ما أرادوه لم يحصل لأنهم اصطدموا بعقبة غير متوقعة هي تركيا.
۞3.1.2. الموقف التركي
عندما نتحدث عن الموقف التركي فنحن نتحدث أيضا عن الموقف القطري، لأن الموقف القطري هو على ما يبدو مطابق دائما للموقف التركي.
عندما عزمت أميركا على الإطاحة بصدام حسين في عام 2003 أخذت تركيا موقفا رافضا بشدة لذلك. البرلمان التركي (في تصويت شهير) رفض السماح لأميركا باستخدام الأراضي التركية في الهجوم على صدام. الإعلام التركي شن حملة شرسة ضد التدخل الأميركي في العراق وهذه الحملة ظلت مستمرة لسنوات بعد سقوط صدام. (الإعلام القطري شن أيضا حملة شرسة ضد التدخل الأميركي وضد النظام الجديد في العراق، فهل كان ذلك بسبب الموقف التركي؟)
الموقف التركي لم يكن حبا في صدام حسين. الأتراك آنذاك شرحوا موقفهم كما يلي: “سقوط نظام صدام سوف يؤدي إلى نشوء فراغ سياسي، وهذا سيؤدي لنشوء دولة كردية”.
الأتراك يتحدثون دائما عن خطر التقسيم ونشوء دولة كردية، ولكنهم عندما يتحدثون عن ذلك لا يفكرون فعلا في التقسيم ونشوء دولة جديدة بقدر ما أنهم يفكرون في الفدرالية والحكم الذاتي. الصراع الداخلي في تركيا لا يدور حول التقسيم لأن الأكراد في تركيا لا يطالبون بذلك. هم يطالبون بنظام لا مركزي أو فدرالي، وهذا تحديدا هو ما يرفضه الأتراك ويصفونه بـ”التقسيم” على سبيل التضليل وبهدف تبرير حربهم ضد الأكراد.
فصائل المعارضة العراقية اتفقت قبل سقوط نظام صدام على حل القضية الكردية على أساس الفدرالية. هذا قد يكون السبب الذي جعل تركيا ترفض بشدة سقوط نظام صدام.
من حيث المبدأ يجب أن نفترض أن موقف تركيا من بشار الأسد هو كموقفها من صدام حسين، لأن الحالتين متطابقتان. ولكن تركيا تصرفت على نحو مختلف في القضية السورية.
ما فعلته تركيا في سورية هو الآتي:
- سياسيا: أسست في إسطنبول “المجلس الوطني السوري” وبعده “الائتلاف الوطني السوري” وطرحت هذين الجسمين أمام المجتمع الدولي كبدائل لنظام بشار.
- عمليا على الأرض: لم تقم بتمكين الأجسام السياسية التي أسستها في إسطنبول وإنما مكنت جماعات جهادية متطرفة لا يمكن مطلقا للمجتمع الدولي أن يتعامل معها هي داعش وجبهة النصرة.
الأجسام والمجالس “المعتدلة” التي تأسست في إسطنبول ظلت في إسطنبول ولم تنتقل أبدا إلى المناطق المحررة في سورية. من سيطر على المناطق المحررة في سورية كان الفوضى أولا ثم داعش وجبهة النصرة لاحقا.
قد يقول قائل أن تركيا لم تتعمد تمكين داعش والنصرة وأن هذا حصل رغما عن الإرادة التركية.
مثل هذا الطرح هو غير منطقي. تركيا كانت منذ بداية الحرب المنفذ الوحيد لدخول السلاح والمال والرجال إلى شمال سورية، ومن يتحكم بهذه الأمور يتحكم بقوة الجماعات الناشطة هناك. لو نظرنا إلى المناطق المحاذية لحدود الأردن فسنرى أن نفوذ الجهاديين هناك هو ضعيف جدا بالمقارنة مع نفوذ الجماعات المعتدلة، لأن الأردن منع دخول المدد إلى الجهاديين ووجهه نحو المعتدلين. ما حصل في شمال سورية هو العكس: المدد الآتي عبر تركيا ذهب بمعظمه إلى داعش والنصرة، وهذا استمر طوال فترة الحرب الزائفة رغم الضغوط الأميركية المتواصلة على تركيا لتوجيه الدعم نحو المعتدلين ووقف وصوله إلى داعش والنصرة.
من الأمور التي تكررت خلال سنوات الحرب الزائفة استيلاء جبهة النصرة على مخازن سلاح تابعة للجماعات المدعومة من أميركا. تلك المخازن كانت توضع بالقرب من الحدود التركية لأن الأميركان كانوا يتوقعون أن تركيا ستحميها وستمنع استيلاء جبهة النصرة عليها، ولكن تركيا لم تفعل ما توقعه الأميركان.
الأميركان والسعوديون دعموا جماعات معتدلة في شمال سورية ولكن جبهة النصرة دمرت تلك الجماعات. من الأمثلة الشهيرة “حركة ثوار سوريا” بقيادة جمال معروف التي تأسست في كانون الأول/ديسمبر 2013، و”حركة حزم” التي تأسست بعدها بشهر في كانون الثاني/يناير 2014. تركيا لم تدعم تلك الجماعات ضد جبهة النصرة.
كثير من التحليلات (المنطقية) رأت أن جبهة النصرة ما كانت لتقدم على تصفية الجماعات المعتدلة أو الاستيلاء على مخازن سلاحها دون ضوء أخضر تركي، لأن جبهة النصرة تعتاش من المدد الذي يصلها عبر الحدود التركية. لو غضبت تركيا على جبهة النصرة وقطعت المدد عنها فإن مصيرها كان الموت والزوال.
يجب الانتباه أيضا إلى أن الإعلام التركي والقطري دأب طوال سنوات الحرب على تحريض السوريين ضد أميركا. حسب ذلك الإعلام فإن أميركا هي سبب كل المصائب: هي سبب بقاء بشار وسبب المجازر. أميركا هي الشيطان الذي يتآمر ليس فقط على سورية وإنما على تركيا أيضا. هذا التحريض المتواصل ضد أميركا هو بحد ذاته دليل على عدم رغبة الأتراك والقطريين في وجود معارضة معتدلة في سورية، لأن أية معارضة معتدلة سوف تحتاج للتعاون مع أميركا. عندما تحرض المعارضين ضد أميركا وتقنعهم بأن أميركا هي شيطان فهذا يعني أنك لا تريدهم أن يتعاونوا مع أميركا، أي أنك لا تريد وجود معارضة تعتبرها أميركا معتدلة.
هذه القصة التي حصلت في أيلول 2016 هي نموذج يوضح ما نقصده:
قوات خاصة أميركية دخلت إلى بلدة الراعي شمال حلب بناء على تنسيق مسبق مع تركيا. المفاجأة كانت أن مقاتلي المعارضة الموجودين في البلدة تظاهروا ضد العسكريين الأميركيين وطردوهم بعدما وصفوهم بالكلاب والخنازير وتوعدوهم بالذبح.
هذه الحادثة هي مثال على حوادث كثيرة شوهت صورة المعارضة السورية. سبب هذه الحادثة وأمثالها هو التحريض الإعلامي التركي والقطري ضد الأميركيين.
في هذه الحالة الأتراك أرسلوا الجنود الأميركيين إلى البلدة دون أن يعلموا المقاتلين الموجودين في البلدة بقدومهم، فكانت النتيجة ما رأيناه في المقطع.
هذه الحادثة حصلت بعد عملية “درع الفرات”، أي أنها حصلت على أرض خاضعة للاحتلال التركي والوصاية التركية المباشرة.
هل من يشاهد المقطع يصدق أن تركيا عجزت عن منع المهزلة التي ظهرت فيه؟
ما ظهر في المقطع يعبر عن حقيقة السياسة التركية التي لم ترغب يوما في قيام تعاون بين المعارضة السورية وبين الأميركان.
مبدأ وجود معارضة معتدلة داخل سورية هو من أساسه مرفوض لدى تركيا.
بعد انسحاب بشار من شمال سورية في عام 2012 كان المفترض أن تملأ المعارضة المعتدلة الفراغ، ولكن ما حصل هو أن داعش والنصرة ملأتا الفراغ. هذا كان نتيجة حتمية للسياسة التركية.
في الفترة التي تلت انسحاب بشار أنا كنت مدهوشا مما يجري وكنت أطرح باستمرار الأسئلة التالية:
- طالما أن بشار انسحب فلماذا لا تدعم تركيا “الائتلاف الوطني” لكي يسيطر على المناطق التي انسحب منها بشار؟ لماذا لا تدعم تركيا تأسيس حكومة بديلة لبشار في المناطق المحررة؟ لماذا تترك تركيا تلك المناطق في حالة فراغ وفوضى؟ هل الفوضى هي البديل الذي تطرحه تركيا لبشار؟
- لماذا لا تتدخل تركيا لوقف الاضطهاد الذي تتعرض له القرى الشيعية في ريفي حلب وإدلب؟ هل هذا الاضطهاد الطائفي هو البديل الذي تطرحه تركيا لبشار؟
- لماذا لا توجه تركيا جماعات المتمردين لاستكمال محاصرة مدينة حلب؟ لماذا تقوم تلك الجماعات بشن هجمات عبثية على الأحياء السكنية في حلب الغربية بدلا من استكمال محاصرة المدينة ومن ثم السيطرة عليها؟
هذه بعض الأسئلة الكبيرة التي كنا نطرحها آنذاك. الجواب الصحيح على هذه الأسئلة (وغيرها) هو أن تركيا لم ترغب أبدا في قيام بديل لبشار في شمال سورية أو في تحرير مدينة حلب. خطة الأتراك طوال سنوات الحرب الزائفة كانت تضييع الوقت إلى أن يعود بشار مجددا ويحتل المناطق التي انسحب منها بعد أن يستكمل تدميرها.
تركيا لم ترغب في قيام أية حكومة للمعارضة. ما سمي بالحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف تأسست في بداية عام 2013 بضغط سعودي وقوبلت بعدم حماس تركي. هذه الحكومة ظلت مقيمة في مدينة عنتاب التركية ولم تتمكن من السيطرة على أية أراض داخل سورية، لأن تركيا لم ترغب أبدا في تمكينها وكانت ضد تأسيسها. أنا أظن أن تأسيس هذه الحكومة كان فكرة أميركية وليس سعودية. السعوديون طوال سنوات الأزمة لم يكونوا يفهمون كثيرا ما الذي يدور في سورية (هم بصراحة كانوا كالأطرش في الزفة) ومعظم أفعالهم كانت بسبب طلبات ونصائح أميركية.
الملك السعودي السابق عبد الله كان يظن أن تركيا وقطر هما دولتان سنيتان حليفتان ضد إيران، وأن تركيا تعمل في سورية لمواجهة إيران. حاليا نحن نعلم أن أردوغان كان يساعد إيران على تجاوز الحصار عبر إمدادها بالأموال عبر رضا ضراب، وأنه لم يفعل أي شيء في سورية ضد إيران بل كل همه منذ بداية الحرب كان منع قيام بديل لبشار. اعتقادات الملك السعودي الخاطئة وسوء فهمه للدور القطري-التركي جعلت السعوديين يتخبطون في شمال سورية إلى أن خسروا كل نفوذهم هناك، تماما كما حصل في اليمن.
الإعلام العربي دأب على القول بأن تركيا وقطر تدعمان حركة الإخوان المسلمين. خلال سنوات الحرب الزائفة أنا تمنيت أن أرى هذا الدعم لحركة الإخوان على أرض الواقع، ولكنني لم أر الإخوان المسلمين إلا في إسطنبول وعنتاب (رئيس “الحكومة المؤقتة” في عنتاب كان من الإخوان المسلمين أو محسوبا عليهم). لو أن الإخوان المسلمين أتوا إلى سورية وسيطروا على المناطق المحررة لكانت سورية الآن في أفضل حال، لأن الإخوان هم قادرون على التعاون مع أميركا والمجتمع الدولي.
تركيا وقطر لم تدعما أحدا في سورية سوى الحركات الجهادية المتطرفة التي يستحيل لأحد أن يتعاون معها. القول بأن تركيا وقطر دعمتا جماعة الإخوان المسلمين هو مجرد خرافة. أنا استمعت للعديد من شخصيات الإخوان المسلمين وقرأت العديد من تصريحاتهم، ومن خلال ما سمعته وقرأته لم أشعر بأنهم راضون عن السياسة التركية، بل هم في الحقيقة ممتعضون منها كغيرهم من جماعات المعارضة السورية. بعض الشخصيات المحسوبة على الإخوان المسلمين (عبيدة النحاس) زاروا المناطق المحررة التي يسيطر عليها قسد والأميركان. مثل هذا العمل هو تحد كبير لتركيا وقليل من المعارضين السوريين الآخرين جرؤوا عليه.
لا أحد من المعارضين السوريين هو راض في قرارة نفسه عن السياسة التركية، ولكن كثيرين منهم يشعرون بأنهم مكرهون على مسايرة تركيا لأسباب تتعلق بظروفهم الشخصية. بعضهم يتلقى رواتب من تركيا أو قطر، وبعضهم لا يستطيع الانتقال من تركيا إلى بلد آخر.
۞4.1.2. العام الثالث (من صيف 2013 إلى أيلول/سبتمبر 2014)
مع حلول هذا العام كان بشار قد فقد كل أمل في كسب الحرب عسكريا وبات يبحث عن كسبها بطرق أخرى. هو ركز على طريقين ظن أنهما قد يوصلناه إلى النصر: صناعة صورة إعلامية لنفسه بأنه منتصر، وعقد صفقات مع إسرائيل والأميركان على غرار الصفقة التي عقدها والده في عام 1967 بشأن الجولان.
عندما حصل هجوم الغوطة الكيماوي في آب/أغسطس 2013 استبعدنا أن يكون بشار قد نفذ فعلا ذلك الهجوم. الجهة التي نفذت الهجوم أرادت خرق “الخط الأحمر” الذي رسمه باراك أوباما بهدف جر أميركا إلى تدخل عسكري ضد بشار. آخر من له مصلحة في ذلك هو بشار.
مقال “مذهب أوباما” الشهير الذي نشر في عام 2016 ذكر أن أوباما نفسه اعتقد بعد الهجوم بأنه “يسير نحو فخ نصبته جهات حليفة ومعادية” أرادت منه أن يضرب بشار:
https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525
While the Pentagon and the White House’s national-security apparatuses were still moving toward war (John Kerry told me he was expecting a strike the day after his speech), the president had come to believe that he was walking into a trap—one laid both by allies and by adversaries, and by conventional expectations of what an American president is supposed to do.
هذا الكلام يحوي اتهاما مبطنا لدول حليفة لأميركا بالوقوف وراء هجوم الغوطة الكيماوي. الدول المقصودة هي بلا شك تركيا وقطر. أوباما اعتقد أن هؤلاء مسؤولون عن الهجوم، وهذا ما اعتقدناه أيضا. بالنسبة للجهات “المعادية” التي يقول المقال أنها اشتركت مع الجهات الحليفة في نصب الفخ فتفسيرنا لذلك هو أنه إشارة إلى جبهة النصرة التي كانت آنذاك فرعا لتنظيم القاعدة.
لماذا نصبت تركيا وقطر هذا “الفخ” (الذي كان في الحقيقة مجزرة مروعة)؟
الأشهر التي سبقت هجوم الغوطة الكيماوي شهدت انتكاسات لكل من داعش وبشار. داعش طردت من غرب وشمال محافظة حلب، وبشار طرد من مطار منغ العسكري شمال حلب في 6 آب/أغسطس 2013، أي قبل أسبوعين من هجوم الغوطة الذي حصل في 21 آب/أغسطس 2013. أميركا أعلنت في حزيران/يونيو 2013 عن إرسالها السلاح إلى سورية لأول مرة، وبعد ذلك بشهرين تحدث أوباما عن إرسال 50 مقاتلا دربتهم المخابرات الأميركية في الأردن إلى سورية وذلك لأول مرة في تاريخ الحرب السورية. قبل ذلك كان الأميركان ينكرون تسليح المتمردين السوريين وكانوا يقولون أنهم يرسلون مساعدات غير قاتلة، رغم أن المخابرات الأميركية دربت وسلحت مقاتلين سوريين بشكل سري منذ العام 2012 على أراضي الأردن وتركيا.
من المحتمل أن كل هذه التطورات سببت الذعر في أنقرة ودفعت المخابرات التركية لتدبير هجوم الغوطة على أمل “إنهاء الأزمة السورية قريبا” (كما يقول الأتراك دائما كلما شعروا بأن الأمور تسير على الأرض ضد مصلحة بشار). هذه طبعا مجرد نظرية. أنا لا أعلم ما هو السبب الذي دفع تركيا وقطر لارتكاب تلك المجزرة (وفقا لقناعة أوباما التي لمح إليها المقال المشار إليه في الأعلى).
الأتراك والقطريون دأبوا طوال سنوات الحرب الزائفة على مطالبة أميركا بقصف بشار، وهذه المطالبة كانت تثير حيرتنا الشديدة، أولا لأنها كانت مطالبة غير واقعية وعبثية (تتعارض كليا مع مصالح أميركا وسياستها في ذلك الوقت، ومع توجهات أوباما الشخصية التي أتى على أساسها إلى السلطة)، وثانيا لأن الأتراك والقطريين أصروا عليها حتى بعد انهيار نظام بشار في معظم المحافظات، وخاصة المحافظات المحاذية للحدود التركية. لماذا أصر الأتراك على قصف بشار في دمشق في حين أن المحافظات السورية المحاذية لحدودهم كانت خالية من بشار وتعيش حالة من الفوضى؟ ألم يكن الأولى أن تدعم تركيا المعارضة المعتدلة للسيطرة على المحافظات المحررة قبل مطالبة الأميركان بقصف دمشق ومد حالة الفوضى إلى هناك؟
تركيا صنعت في المحافظات الشمالية نموذجا بشعا: فوضى على الطريقة الليبية وجماعات جهادية واضطهاد طائفي. وبعدما صنعت هذا النموذج البشع صارت تلح على الأميركيين لقصف بشار وإسقاطه في دمشق، وكأنها كانت تقول لهم أنها تريد مد النموذج الموجود في المحافظات الشمالية إلى دمشق وحدود إسرائيل. هل كان من الممكن عقلا أن تقبل أميركا بذلك؟ طبعا هذا لم يكن أمرا ممكنا. حتى ولو قصف أوباما دمشق بعد هجوم الغوطة فإن ذلك القصف ما كان سيؤدي لسقوط بشار. الأميركان ما كانوا سيسقطون بشار دون وجود بديل مقبول قادر على ملأ الفراغ.
تركيا جعلت من خلع بشار أمرا مستحيلا عندما منعت نشوء بديل مقبول له داخل سورية، وفي نفس الوقت تركيا ألحت بإصرار على أن يقصف الأميركيون بشار ويسقطوه. كيف يمكن لنا أن نفسر هذا الموقف المتناقض؟ أنا لا أعرف التفسير ولكنني أستطيع أن أطرح رأيا أو ظنا. أنا أظن أن الأتراك لم يتوقعوا فعلا من أميركا أن تسقط بشار. هم أرادوا جر أميركا إلى أزمة وتصعيد عسكري ينتهي باتفاق يقفل الملف السوري دون خلع بشار. هذه هي النتيجة المنطقية الوحيدة التي كان السيناريو التركي سينتهي إليها لو نفذ في الواقع. الأميركان ما كانوا سيقبلون بالتورط في أزمة عسكرية طويلة الأمد، وبما أن تركيا جعلت من خلع بشار أمرا مستحيلا فإن الأميركان كانوا سيضطرون للخروج من الأزمة باتفاق يترك بشار في دمشق.
ما يدعم هذا التحليل هو أننا كنا طوال سنوات الحرب الزائفة نقرأ في إعلام حزب الله وإعلام بشار عن عروض تركية لحل الأزمة السورية على أساس تشكيل حكومة مشتركة بين الائتلاف وبشار. هذا يعني أن تركيا لم تكن مهتمة بإسقاط بشار وكل ما أرادته هو اتفاق يسمح لبعض المعارضين بالانضمام إلى حكومة يرأسها بشار.
أوباما تجنب “الوقوع في الفخ” ولم يقصف بشار، ولكنه عقد مع بشار الصفقة الكيماوية، التي هي تنازل من العيار الاستراتيجي قدمه بشار بهدف البقاء في السلطة، تماما كما فعل والده في عام 1967 عندما تنازل عن الجولان لأجل البقاء في السلطة. عندما قدم بشار ذلك التنازل الضخم توقعنا أنه سيتنازل بعده عن الصواريخ، وهو ما حصل فعلا: بشار تخلص من صواريخه بإطلاقها على مدينة حلب. بذلك هو ضرب عصفورين بحجر، تدمير حلب وإرضاء الإسرائيليين.
في الماضي نقلنا تصريحا لمصدر عسكري إسرائيلي قال فيه أن بشار أطلق أكثر من 90% من صواريخه على “المتمردين”:
TEL AVIV, Nov 18 (Reuters) – Syria has used up more than 90 percent of its ballistic missiles against rebels during a more than four-year-old civil war but a few were transferred to Hezbollah guerrillas in neighbouring Lebanon, a senior Israeli military officer said on Wednesday.
[…]
“The number of (Syrian) ballistic missiles left is less than 10 percent,” a senior Israeli officer told Reuters on condition of anonmity, but added: “That could still change. They could start making them again.”
منذ أطلق بشار صواريخه على حلب لم تعد إسرائيل تتحدث مطلقا عن تلك الصواريخ، مثلما أنها لم تعد تتحدث مطلقا عن السلاح الكيماوي. هذه الأمور باتت من الماضي. الحديث الإسرائيلي منذ ذلك الوقت انصب على التحذير من خطر حزب الله وإيران دون الإشارة إلى خطر يمثله بشار.
المدافعون عن بشار سيقولون أنه سيعوض لاحقا الأسلحة التي تخلص منها. هذا القول هو كقول المدافعين عن حافظ بأنه سيحرر الجولان مجددا بعدما سلمها لإسرائيل. لا أدري أي دفاع هو هذا.
الصفقة الكيماوية كانت أهم حدث في العام الثالث من الحرب. في تلك الصفقة تنازل بشار عن السلاح الكيماوي في مقابل تعهد أميركي لروسيا بعدم توجيه ضربة عسكرية لبشار (أميركا خرقت العهد في نيسان/أبريل 2017 وقصفت مطار الشعيرات العسكري التابع لبشار، لأن بشار استخدم السلاح الكيماوي، ما يدل على أنه لم يلتزم بالاتفاق واحتفظ ببعض السلاح الكيماوي، على فرض أن السلاح الكيماوي الذي استخدم في الهجوم أتى منه وليس من الروس).
في العام الثالث من الحرب صار بشار يبدو كمخرج سينمائي أكثر من كونه قائدا لجيش أو لجماعات مسلحة. جل همه بات ينصب على الانتصارات الإعلامية والاستعراضات الدعائية. هذا الهوس الإعلامي الدعائي تسبب في سلسلة من المجازر لمقاتلين تابعين لبشار على يد داعش، كمجزرة حقل شاعر ومجزرة الفرقة 17 ومجزرة مطار الطبقة. بشار تسبب في تلك المجازر لأنه ترك مقاتليه محاصرين في مناطق بعيدة جدا عن دمشق دون أي فائدة ترجى من تركهم هناك سوى الاستعراض الإعلامي الدعائي. هدف بشار الوحيد من تركهم كان القول للإعلام بأنه موجود في مناطق بعيدة عن دمشق.
۞2.2. الحرب الحقيقية (من أيلول/سبتمبر 2014)
في 26 حزيران/يونيو 2014 طلب باراك أوباما من الكونغرس الأميركي تخصيص مبلغ 500 مليون دولار لتمويل برنامج جديد لتدريب وتسليح متمردين معتدلين في سورية عبر وزارة الدفاع الأميركية. أوباما قال أنه لا يتوقع نجاح البرنامج وأنه يقره بهدف “رفع العتب” وليس أكثر، نظرا للاتهامات التي كانت توجه له بعدم فعل ما يكفي في سورية.
رأي أوباما كان بالطبع يعبر عن رأي حكومته بشكل عام. كل المؤسسات الأميركية في ذلك الوقت كانت محبطة من عدم تعاون تركيا، خاصة بعدما حصل لحركة حزم وحركة ثوار سوريا.
الملفت هو أن البرنامج الأميركي الجديد (الذي أقره الكونغرس في 18 أيلول/سبتمبر 2014) احتوى على أمر لم يوجد في البرامج السابقة: البرنامج ركز على محاربة داعش وجعل من ذلك أولوية.
بعد أقل من شهرين من الإعلان عن البرنامج، في 10 أيلول/سبتمبر، أعلن أوباما عن “استراتيجية شاملة لمحاربة داعش” تضمنت الإعلان عن التحالف الدولي لمحاربة داعش. الملفت هو أنه ربط في ذلك الإعلان بين عمل التحالف وبين البرنامج الجديد لتدريب المتمردين السوريين، وكأنه أراد أن يقول أن المتمردين الذين سيدربهم البرنامج هم جزء من التحالف.
بعد أقل من أسبوعين، في 22 أيلول/سبتمبر، قصفت أميركا لأول مرة مواقع لجبهة النصرة بـ 46 صاروخ كروز أطلقت من البحر (في إطار عملية قصف شملت أيضا داعش)، رغم أن الأميركان لم يعترفوا بأن القصف استهدف جبهة النصرة وقالوا أنه استهدف “تنظيم خراسان”، الذي هو تنظيم لم يسمع أحد بوجوده من قبل.
كل هذه التطورات أشرت على بداية فصل جديد ومرحلة جديدة من الحرب السورية. التركيز على محاربة داعش وجعل ذلك أولوية، وقصف جبهة النصرة، هي أمور كانت موجهة في الأساس ضد تركيا التي كانت حتى ذلك الوقت مستمرة في دعم كل من داعش وجبهة النصرة. هذا يعني أن أميركا قررت أخذ موقف حازم ضد السياسة التركية في سورية.
رد الأتراك كان غاضبا. أردوغان رفض المشاركة في عمليات التحالف الدولي ضد داعش وزعم أنه يهدف لدعم بشار. هو لم يكتف بذلك ولكنه منع التحالف الدولي من استخدام الأراضي التركية في قصف داعش، على نحو يشبه ما حصل في عام 2003 عندما منعت تركيا استخدام أراضيها في إسقاط صدام حسين.
أردوغان طلب من قطر ومن جماعة الإخوان المسلمين مهاجمة التحالف الدولي والتحريض ضده، فكانت النتيجة المواقف التالية:
- يوسف القرضاوي: أكد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أنه يختلف بالفكر والوسيلة مع تنظيم الدولة، إلا أنه يرفض محاربتهم من قبل واشنطن، وأضاف القرضاوي في تغريدة له على حسابه الشخصي على موقع تويتر أن “أميركا لا تحركها قيم الإسلام، بل مصالحها، وإن سفكت الدماء”.
- جماعة الإخوان المسلمين في الأردن: ترفض أي دور للمملكة ضمن الائتلاف الدولي ضد تنظيم الدولة. معتبرين أنها “ليست حرب الأردن”. وأكد حزب جبهة العمل الإسلامي الجناح السياسي للإخوان رفضه أي دور للقوات المسلحة الأردنية خلافا للدستور الذي يحصر مهام الجيش في الدفاع عن الوطن وسلامته.
- الإخوان المسلمين في مصر: التحالف الداعم للرئيس المعزول محمد مرسي أعلن رفضه “توريط” مصر في تحالف عسكري لخدمة ما أسماه “الحلف الصهيوني الأميركي” في إشارة إلى التحالف الذي تقيمه واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة.
http://www.alarab.co.uk/?id=32742
أعلنت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، أمس الأربعاء، عن رفضها لأي تدخل أو تحالف “دولي” ضد تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ”داعش”. جاء ذلك في وقت تحشد فيه الولايات المتحدة الأميركية حلفاءها بالمنطقة لبناء تحالف في مواجهة التنظيم، الذي بات يسيطر على أكثر من ثلثي سوريا والعراق.
ونقل الموقع الرسمي الخاص بتنظيم الإخوان المسلمين، عن رئيس المكتب الإعلامي للجماعة عمر مشوح، قوله “إن الإخوان المسلمين في سوريا لن يؤيدوا أي تحالف دولي للتدخل في سوريا دون أن تكون الرصاصة الأولى في رأس بشار الأسد”. وانتقدت الجماعة ضمنيا تصريحات قياديين في الجيش السوري الحر أبدوا فيها استعدادهم للدخول في الحرب ضد داعش.
وقال مشوح في هذا الصدد “ما صدر عن بعض الكيانات السياسية من طلب لتدخل الغرب لأجل ضرب التنظيم، دون النظام، لا يتوقع منه أن يخدم الثورة”، مضيفا إن “معركتنا الأولى والأساسية هي مع نظام الأسد، ولا يمكن أن تنحرف بنادقنا إلى غيره، لأن وجوده يعني استمرار الإرهاب بكافة أشكاله، وأن غياب الأسد ونظامه يعني توقف الإرهاب في المنطقة كلها”.
القول بأن “الرصاصة الأولى يجب أن تكون في رأس بشار الأسد” يبدو ظاهريا وكأنه نابع من الحرص على إسقاط بشار، ولكن كما وضحنا في الأعلى: هذا الكلام كان في الحقيقة أسلوبا اتبعه الأتراك بهدف تعجيز الأميركان وإرغامهم على تغيير موقفهم الرافض لبشار.
الإعلام القطري قام بترويج الدعاية التركية المناوئة للتحالف في صفوف المعارضة السورية، فكانت النتيجة إحجام الثوار السوريين عن التعاون مع التحالف وفشل البرنامج الأميركي لتدريب الثوار السوريين.
ردا على التعنت التركي قامت أميركا بدعم أكراد حزب YPG في معركة كوباني، ومن ثم تطورت العلاقة بين الجانبين إلى تحالف ناجح. حزب YPG قام بالدور الذي رفضت تركيا أن تقوم به: هو ساعد الأميركان على خلق بديل معتدل لبشار داخل سورية هو “قوات سوريا الديمقراطية”.
النهج الأميركي الجديد الذي بدأ في صيف 2014 أدى لأول مرة منذ بداية الحرب إلى تغير حقيقي في ميزان القوى داخل سورية، بمعنى أن بشار بدأ لأول مرة يخسر أجزاء من سورية لصالح قوة أخرى يمكن أن تكون بديلا له. التدخل الروسي الذي بدأ في أيلول/سبتمبر 2015 ساهم إلى حد ما في وضع حد للتمدد الأميركي، ولكن الفضل الأكبر في كبح التمدد الأميركي يعود إلى تركيا التي غيرت سياستها هي الأخرى وقررت التحالف مع بشار وداعميه بشكل علني (تركيا استمرت في توجيه الشتائم العلنية لبشار كما كانت تفعل منذ البداية، ولكنها الآن صارت تعمل مع بشار وداعميه على الأرض بشكل رسمي ووفقا لاتفاقات مكتوبة).
ما حصل عمليا هو أن تركيا وروسيا وإيران شكلوا تحالفا داعما لبشار في وجه التحالف الدولي الذي تقوده أميركا. الصراع بين هذين الحلفين غيّر وجه الحرب السورية. الحرب لم تعد مجرد فوضى عبثية ولكنها صارت حربا حقيقية بين طرفين يتصارعان للسيطرة على سورية.
المشكلة في الحلف المناوئ للحلف الأميركي هي أن هذا الحلف لا يمكن أن يكون طويل الأمد، لأن الروس لن يبقوا فيه لوقت طويل. الروس يخسرون من مشاركتهم في هذا الحلف ولا يربحون. كلما طال بقاؤهم فيه كلما ازدادت خسارتهم. الروس دخلوا في هذا الحلف بهدف الضغط على الأميركان لإرغامهم على رفع العقوبات التي فرضت على روسيا بعد أزمة القرم، أي أن غاية الروس من المشاركة في الحلف هي ليست غاية استراتيجية وإنما تكتيكية. مشاركة الروس في هذا الحلف هي مجرد تكتيك تفاوضي عالي الكلفة (مقامرة) نفذه بوتن على أمل إقناع الأميركان برفع العقوبات عن روسيا.
الروس سوف يخرجون في النهاية من الحلف، وخروجهم منه سوف يترك تركيا وإيران في وضع أضعف بكثير من وضعهما الحالي.
تحياتي دكتور، هذا المقال يجب أن يُعتمد وأن يُدرّس لأجيال وأجيال.
شكرا لك أخ حسام.
مع انني حاولت مرارا أن أقنع نفسي بأنك تكتب بحيادية الا أنني عندما أنهيت قراءة مقالك تأكدت أنك تنحاز الى المعسكر الإيراني , لقد برأت بتحليلك بشار الأسد من مجزرة الكيماوي , وتناسيت تدخل حزب الله منذ البداية في القصير وقتل وتهجير أهلها ,
تناسيت أن الشعب السوري قد قام بثورة ضد طاغية استولى على الحكم بشكل غير شرعي ,, نعم تركيا شاركت بقتل السوريين وكذلك الجميع فعلوا .