مؤتمر أستانا الأخير وردود الفعل الدولية عليه تدل على أن المجتمع الدولي يضغط باتجاه تقسيم سورية، وأميركا هي على ما يبدو الدولة الوحيدة في العالم التي ترفض ذلك.
مقررات مؤتمر أستانا تهدف لحصر التدخل الأميركي في محافظتي الحسكة والرقة، وأما بقية المناطق السورية فالمؤتمر منحها للروس والأتراك والإيرانيين. هذه هي خلاصة اتفاق أستانة. هو اتفاق تقسيمي بامتياز. توقيع أردوغان على هذا الاتفاق ينسف تماما كل ما يدعيه حول معارضته لتقسيم سورية ومعارضته لقيام منطقة خاضعة لنفوذ حزب پيد.
أردوغان هو أكثر من عمل (وما زال يعمل) على تقسيم سورية. هو يريد اقتطاع أجزاء من سورية وضمها إلى تركيا، وهو يغطي على هذا المشروع التوسعي الاستعماري بحديثه الفارغ حول الأكراد وحزب پيد. الأمر المؤسف هو أن بعض السوريين يؤيدون ما يسعى له أردوغان وإن كانوا لا يقرون بذلك علنا. لا أدري كيف يفكرون ولكنني أظن أنهم ينظرون إلى المسألة كما يلي: هم ينظرون إلى أردوغان بوصفه “أسد السنة” الذي يحارب الشيعة والعلويين، وبناء على هذه النظرة هم لا يمانعون الاحتلال والضم التركي. هم يعتبرون أن هذا احتلال سني أو تحرير سني من الشيعة والعلويين (هذا التفكير هو نتيجة طبيعية للدعاية الطائفية التي روجها آل سعود طوال سنوات).
بالنسبة لإيران فهي تريد ضم دمشق إلى لبنان وتأسيس دويلة يهيمن عليها شيعة مؤيدون لإيران تمتد على طول حدود إسرائيل الشمالية. هذه الدويلة ستكون قاعدة لشن هجمات وحروب على إسرائيل. الإيرانيون يتصورون أن محاربة إسرائيل ستعطيهم أهمية إقليمية ودولية وستجعل العالم يتعامل معهم كقوة دولية كبرى.
بوتن لا يملك مطامع توسعية جدية في سورية ولكن هدفه الأساسي هو إذلال أميركا وتحطيم هيبتها. هو يريد أن يوجه للعالم رسالة مفادها أن أميركا فشلت في سورية أمام المثلث الروسي-التركي-الإيراني. أميركا لم تعد تلك القوة العظمى التي لا يعجزها شيء. هي باتت دولة بمستوى روسيا وتركيا وإيران. أميركا ستحصل على ربع سورية في حين أن المثلث الروسي-التركي-الإيراني سيحصل على الأرباع الثلاثة الباقية. بالتالي يجب على أميركا أن تتواضع وأن تتعامل مع روسيا بندية.
بالنسبة لآل سعود فأنا لاحظت أن عبد الرحمن الراشد كتب قبل أيام مقالا واقعيا حول الأزمة السورية، ولكنه كتب بعد ذلك مقالا آخر صحح فيه “خطأه”، ما يدل على أن المقال الأول كان مجرد “فلتة” ولا يعكس سياسة رسمية. في المقال الثاني هو دعا للتعامل بإيجابية مع خطة أستانا، أي أنه يريد منا القبول بالخطط الروسية-التركية-الإيرانية وعدم فعل شيء ضدها، تماما كما هي سياسة محمد بن سلمان.
من الملفت أن ألمانيا رحبت بخطة أستانا. أنا كتبت سابقا حول مواقف أصدقاء بوتن في أوروبا وكيف أنهم يضغطون على أميركا للرضوخ لبوتن وعدم مواجهته.
لا أحد في العالم هو جاد في مواجهة بوتن باستثناء أميركا. تركيا وإيران هي دول معتدية وهي رأس حربة العدوان. السعوديون والأوروبيون يتظاهرون بالحياد ولكن حيادهم هو سلبي وليس إيجابيا. هم في الحقيقة يُخذّلون أميركا ويضغطون عليها لكي تتوقف عن دعم السوريين وتقبل بما يمليه بوتن.
أميركا تريد مواجهة بوتن لأسباب تتعلق بأميركا ذاتها وليس بسورية. الأميركان يريدون الحفاظ على هيبتهم ولا يريدون لهذه الهيبة أن تنكسر في سورية.
طبعا لا أحد يعلم كيف سيتطور الموقف الأميركي مستقبلا. نحن نخشى أن تقع أميركا مستقبلا تحت ضغط يجبرها على تغيير موقفها والقبول بعقد صفقة مع بوتن وأذياله.
حاليا أنا أرى أن أميركا هي مرتاحة وليست مضطرة لتقديم تنازلات لبوتن. أقوى ورقة بيد بوتن هي أردوغان، وفي الفترة الأخيرة رأينا كيف أن أميركا تمكنت من تحييد هذه الورقة.
الأكراد يتوقعون تكرار صفقة درع الفرات مجددا في عفرين وما حولها. لو حصل ذلك فإن الهدف الرئيسي منه في رأيي سيكون تعميق حالة الاستقطاب العربي-الكردي بهدف فرض التقسيم العربي-الكردي كأمر واقع. بوتن وأردوغان قد يشعلان حربا عربية-كردية شاملة في محافظة حلب لاعتقادهم بأن ذيول هذه الحرب ستمتد شرقا وستؤدي لانهيار مشروع قسد، وبعد ذلك لن يكون هناك مفر أمام أميركا من القبول بخطة أستانا التي تحصر الدور الأميركي في النطاق الكردي.