القصف الإسرائيلي الأخير لبشار الأسد وداعميه هو تطور نوعي لأكثر من سبب.
أولا، موقع القصف هو بعيد عن دمشق والجولان، بخلاف ما جرت عليه عادة القصف الإسرائيلي. على ما يبدو فإن القصف استهدف مطار T4 أو مواقع محيطة به. القصف الإسرائيلي كان في العادة يستهدف مطار المزة في دمشق وهذه هي المرة الأولى التي يستهدف فيها مطارا آخرا.
ثانيا، الإسرائيليون أصدروا بيانا قالوا فيه أنهم قاموا بالقصف، وهذا شيء غير مسبوق. إسرائيل في السابق لم تكن تتحدث عن غاراتها في سورية.
ثالثا، حسب تحليل موقع دبكا فإن بشار الأسد أطلق صاروخا على إسرائيل وهذا الصاروخ انفجر فوق غور الأردن بعدما اعترضه الدفاع الجوي الإسرائيلي. لو صح تحليل موقع دبكا فهو يعني أن بشار الأسد قام أخيرا بالرد المنتظر على إسرائيل (في الزمان والمكان المناسبين).
هناك أسئلة كثيرة:
السؤال الأول هو سؤال بسيط: هل اعترف الإسرائيليون بالغارة لأن بشار الأسد رد عليها بإطلاق صواريخ؟ أم أنهم اعترفوا بها لأن نيتهم هي إحراج بوتن؟
ثانيا، هل بشار الأسد قرر الرد من تلقاء نفسه أم أن بوتن هو الذي حرضه على ذلك؟
عقيدة بشار الأسد العسكرية تستبعد مبدأ الرد على إسرائيل. لو تبين أن بشار الأسد رد هذه المرة على إسرائيل فلا بد أن نبحث عن السبب الذي دفعه للتصرف بخلاف عقيدته. هل السبب هو طبيعة الغارة الإسرائيلية وكونها تطورا نوعيا؟ أم أن السبب هو ضغط من بوتن؟
كما تعلمون فإن اللقاء الأخير بين نتنياهو وبوتن انتهى نهاية سيئة. بوتن خلال اللقاء سخر من نتنياهو وقال له بأن إيران ستخرج من سورية بعدما يسيطر بشار الأسد على شرق سورية بمعونة الروس والأميركيين والأكراد. ردا على ذلك قال نتنياهو لبوتن أن إسرائيل ستستهدف الإيرانيين داخل سورية. الآن الطائرات الإسرائيلية أغارت على القوات الإيرانية التي تعمل لإيصال بشار الأسد إلى شرق سورية. هذه الغارة هي محرجة لبوتن لأكثر من سبب، أهمها هو أن الغارة تظهر تفاهة الكلام الذي تفوه به بوتن حول أسلوب إخراج إيران من سورية. بوتن قال أن وصول بشار الأسد إلى شرق سورية سيخرج إيران من سورية، ولكن الغارة الإسرائيلية تلفت الأنظار إلى أن القوات التي تعمل لإيصال بشار الأسد إلى شرق سورية هي قوات إيرانية (قيادي من حزب الله قتل في الغارة. حزب الله نفى مقتله في منطقة تدمر ولكنه على ما يبدو قتل هناك).
هذه الغارة أتت بعد الوعيد العلني الذي تفوه به نتنياهو أمام بوتن خلال اللقاء الأخير. نتنياهو قال لبوتن أنه سيقصف القوات الإيرانية في سورية، وإذا به الآن يقصف القوات التي تتقدم نحو شرق سورية والتي زعم بوتن أنها ستخرج إيران من سورية.
من الوارد أن هذه الغارة أغضبت بوتن ودفعته للضغط على بشار الأسد لكي يرد عليها.
السؤال المهم هو: ما الذي سيحدث لاحقا؟ هل سوف يرضخ بوتن وسوف يقبل بالصفقة التي يعرضها عليه الإسرائيليون؟
الإسرائيليون يريدون الحصول من بوتن على رخصة لاحتلال “منطقة آمنة” قرب الجولان. الرخصة التي يطلبونها هي ربما لملك الأردن وليس لجيشهم، بمعنى أن من سيدخل فعلا لتأسيس المنطقة الآمنة المنشودة هو ربما ملك الأردن وليس إسرائيل. في مقابل هذه الرخصة الإسرائيليون وملك الأردن هم مستعدون للتطبيع مع بشار الأسد وإعادته إلى الجامعة العربية (بل وحتى مصالحته مع الملك السعودي كما ورد في مقال لموقع دبكا، ولكن هل الإسرائيليون وملك الأردن يقدرون على مثل ذلك؟ هم ربما يقدرون على مصالحة بشار الأسد مع السيسي ولكن ليس مع الملك السعودي).
لو استجاب بوتن لما يطلبونه فهذا سيضعه في مشكلة مع الإيرانيين. الإيرانيون بالمناسبة لم يكونوا متحمسين لصفقة درع الفرات مع أردوغان. الموقف الإيراني العلني كان وما زال رافضا لتلك الصفقة، وبعض التحليلات تحدثت عن مشكلة بين الإيرانيين والروس بسببها. ولكنني شخصيا لا أعطي أهمية للموقف الإيراني العلني. الإيرانيون لا يعترفون أبدا بأية تسويات سياسية يعقدونها. الفلسفة السياسية للنظام الإيراني ترفض مبدأ التسويات وتعتبرها أمرا معيبا. الإيرانيون لا يقبلون بالتسويات إلا بعد أن تفرض عليهم فرضا، وبعد ذلك هم لا يعترفون بأنهم دخلوا في تسوية وإنما يستمرون في الإنكار والبعبعة ضد الطرف الذي تنازلوا له. بسبب معرفتي لهذا النهج الإيراني فأنا لا أصدق أن الإيرانيين كانوا بالفعل ضد صفقة درع الفرات. تلك الصفقة خدمت مصلحة الإيرانيين بأكثر من طريقة (أبعدت الأميركان عن حلب، وخلقت سابقة استعمارية في سورية تخدم المشروع الإيراني الاستعماري).
الصفقة التي يطلبها الإسرائيليون هي بالنسبة للإيرانيين أسوأ بكثير من صفقة درع الفرات. المنطقة الآمنة التي يريدها الإسرائيليون هي قريبة من دمشق، وهي تحجز بين إيران والجولان. هذه الصفقة هي مدمرة للمشروع الإيراني في سورية، ولا بد أن الإيرانيين يرفضونها بشدة. لهذا السبب بوتن هو عاجز عن القبول بها. لو قبل بوتن بالمنطقة الآمنة الإسرائيلية فمن الوارد أن الإيرانيين لن يقبلوا بها وسيعملون لإفشالها.
هذا يوصلنا إلى احتمال مهم وهو أن الصاروخ الذي أطلق على إسرائيل (حسب تحليل موقع دبكا) كان إيرانيا وليس روسيا. بشار الأسد هو مشهور بأنه لا يعصي الأوامر الروسية حتى ولو تعارضت مع أوامر إيرانية، ولكن إيران هي متغلغلة جدا في “سورية المفيدة” ولا أظن أن إيران تعجز عن إطلاق صاروخ من سورية المفيدة نحو إسرائيل لو أنها أرادت ذلك. إذا كان الصاروخ إيرانيا فهو رسالة تحذيرية إلى بوتن وليس إلى إسرائيل، تماما مثل الإعلان الذي أصدرته قبل فترة جماعات موالية لإيران في العراق تحدثت فيه عن استعدادها للذهاب إلى الجولان. إيران تصعد ضد إسرائيل عندما تخشى من أن يتنازل لبوتن لإسرائيل. التنازل لإسرائيل لا يناسب أبدا المشروع الإيراني، بخلاف التنازل لتركيا.
بشار الأسد وأنصاره يكرهون التدخل التركي أكثر بكثير من كراهيتهم للتدخل الإسرائيلي، ولكن هذا الموقف لا يعبر على الأغلب عن سياسة إيران. مشروع إيران الأساسي هو في دمشق ولبنان والجولان. المناطق التي احتلها الأتراك في شمال سورية لا تؤثر على جوهر المشروع الإيراني. كما كتبنا سابقا: حروب إيران في شمال سورية هي مجرد حروب استباقية دفاعية. الإيرانيون دمروا مدينة حلب لأنهم خافوا من أن تتحول المدينة إلى مركز لمشروع يهدد احتلالهم في الجنوب (ولكن خشية الإيرانيين لم يكن لها أساس لأن أردوغان هو أكثر من كان يرفض تحرير مدينة حلب وهو فعليا الذي دمر المدينة وليس الإيرانيين أو الروس. ما فعله الإيرانيون في حلب لم يكن مبررا. هو كان مجرد قتل طائفي أعمى، وأنا أرجح كثيرا أن بشار الأسد هو الذي جر الإيرانيين إلى تلك المذبحة الطائفية. في الماضي نقلنا تصريحات لمتحدثين من حزب الله وإيران قالوا فيها أنهم لا يريدون القتال في حلب لأنها معركة عبثية. حتى الإيرانيون بإجرامهم لم يكونوا متحمسين لتلك الجريمة الضخمة التي ارتكبها بشار الاسد في حلب).