قمع الظالمين قد يؤدي للعنف… لهذا السبب الأفضل هو محاولة التفاهم معهم

رأيت على حساب مجتهد أخبارا عن اعتقالات لأشخاص اعترضوا على “هيئة الترفيه”.

هذه الاعتقالات تصوَّر وكأنها اعتداء على الحقوق والحريات، ولكن هذا لا يبدو تصويرا دقيقا. من يعترضون على “هيئة الترفيه” لا يطالبون بحقوق لهم ولكنهم يريدون منع الآخرين من حقوقهم. هم يريدون منع الناس من الموسيقى. هل منع الناس من الموسيقى هو حق لأحد؟ هذا ليس حقا لأحد. من يطالبون بذلك يريدون الاعتداء على حريات الآخرين. قمع آل سعود لهؤلاء لا يبدو قمعا للحريات ولكنه يبدو صيانة للحريات.

في أميركا تاريخيا كان يوجد الكثير من العنصريين الذين يرفضون المساواة بين البيض والسود. هؤلاء كانوا يوجدون تحديدا في “الولايات الجنوبية” (التي هي حاليا الولايات الجنوبية الشرقية).

قبل الحرب الأهلية الأميركية كان الجنوبيون يرفضون تدخل الحكومة الفدرالية في قضية العبودية. هم كانوا يرون أن قضية العبودية هي شأن خاص بالولايات لا يحق للحكومة الفدرالية التدخل فيه بأي شكل كان. هم كانوا يرفعون شعار “حقوق الولايات” states’ rights وكانوا يتهمون الشماليين بعدم احترام حقوق الولايات. هذا الخلاف أدى في النهاية إلى انفصال الجنوب ومن ثم اشتعال الحرب الأهلية في عام 1861 (سبب الحرب الأهلية الأميركية هو ليس قضية العبودية بحد ذاتها وإنما انفصال الجنوب. في بداية الحرب كان لنكولن يحاول إقناع الجنوبيين بالعدول عن الانفصال وكان يعدهم في مقابل ذلك بأنه سيفعل ما يريدونه في قضية العبودية).

خلال الحرب الأهلية (في عام 1863) أصدر لنكولن مرسوم “تحرير العبيد”. ذلك المرسوم كان استفزازا ضخما للجنوبيين لأنه يتعارض جذريا مع موقفهم من قضية العبودية. لنكولن أصدر ذلك المرسوم لعدة أسباب، أهمها أنه كان يخشى من تدخل أوروبي في الحرب. هو أصدر المرسوم لكي يغير شكل الحرب أمام الرأي العام الدولي ويصورها وكأنها حرب حول العبودية. الدول الأوروبية لن تتدخل لمصلحة الجنوبيين إذا كانت الحرب تدور حول العبودية.

بعد انتهاء الحرب كان هناك احتلال عسكري شمالي للولايات الجنوبية استمر حتى عام 1877 (هذه الفترة تسمى “حقبة إعادة البناء” Reconstruction Era). بعد نهاية حقبة الاحتلال العسكري سنت الولايات الجنوبية قوانين للتمييز والفصل العنصري بين البيض والسود تسمى “قوانين جِم كرو” Jim Crow laws. هذه القوانين ظلت سارية المفعول حتى ستينات القرن العشرين عندما قامت “حركة الحقوق المدنية”.

هذا باختصار هو تاريخ العنصريين الجنوبيين في أميركا. الأمر الملفت هو أن هؤلاء العنصريين لديهم شعور مزمن بالمظلومية. هم يعتبرون أنفسهم ضحية لعدوان متواصل من الحكومة المركزية ومن “الليبراليين”. بعضهم يتحدثون عما يسمونه التمييز ضد البيض في أميركا. هم يزعمون أن الحكومة الأميركية و”الليبراليين” هم منحازون للأقليات العرقية ضد البيض. بعضهم يتحدثون عن مؤامرة تسعى لتهميش البيض في أميركا عبر تقليل عددهم وتحويلهم إلى أقلية. فكرة “المؤامرة على البيض” هي محورية في تفكيرهم.

ولكن هل هناك فعلا مؤامرة على البيض في أميركا؟ من يدرس تاريخ هؤلاء العنصريين ومن يدرس الشكاوى التي يتحدثون عنها لن يجد مؤامرة عليهم. كل ما هنالك هو أن الحكومة المركزية كانت تاريخيا تحاول أن تمنعهم من التمييز العنصري.

هم يعتبرون التمييز العنصري حقا لهم، وعندما منعتهم الحكومة من هذا الحق صاروا يشتكون من الظلم.

هذه نفس الحالة التي شاهدناها لدى معارضة الائتلاف قبل اندلاع الثورة السورية. تلك المعارضة كانت تاريخيا تتباكى مما تسميه المؤامرة النصيرية على أهل السنة والظلم النصيري لأهل السنة. من يدرس المؤامرة النصيرية التي يتحدثون عنها سيجد أن ما يغضبهم هو أن نظام حزب البعث منعهم من التمييز الطائفي ضد العلويين كما كانوا يفعلون في زمن أديب الشيشكلي وشكري القوتلي.

نظام عائلة الأسد كان نظاما طاغيا فاسدا، ولكن معارضة الائتلاف لم تكن تعارض النظام لأجل طغيانه وفساده. السبب الأساسي الذي جعلهم يعارضون النظام هو أنه “نظام نصيري متآمر على أهل السنة” حسب زعمهم. الدليل على ذلك هو أن معارضة الائتلاف لا ترى مشكلة في نظامي الشيشكلي والقوتلي، رغم أن هذين النظامين لم يكونوا يمتان إلى الديمقراطية بصلة (كما نقول دائما: أول من عدل الدستور على مقاسه هو ليس حافظ الأسد ولا بشار الأسد وإنما شكري القوتلي في عام 1948. تلك الفعلة الشنيعة التي ارتكبها القوتلي كانت سبب الثورة الشعبية التي أخرجته من السلطة. أول من ارتكب المجازر ضد المعارضة هو ليس حافظ الأسد وإنما أديب الشيشكلي الذي استخدم الجيش ضد المظاهرات في السويداء وغيرها).

معارضة الائتلاف ليس لديها اهتمام حقيقي بالديمقراطية أو حقوق الإنسان (أين هي الديمقراطية وحقوق الإنسان في المناطق التي سيطر عليها ثوار الائتلاف خلال الثورة السورية؟ هل الديمقراطية وحقوق الإنسان هي أن تحول نفسك إلى مرتزق لدى أردوغان وأن تحارب الأكراد لأجل أردوغان؟) السبب الوحيد الذي جعل معارضة الائتلاف تعارض عائلة الأسد هو اعتقاد هذه المعارضة بوجود ظلم نصيري، وقصة الظلم النصيري هي مجرد خزعبلة لا أساس لها. المقصود بالظلم النصيري هو أن معارضة الائتلاف لم تعد قادرة على استعباد العلويين وظلمهم كما كان الحال في زمن الشيشكلي والقوتلي.

العنصريون غالبا ما يدعون أنهم ضحايا لظلم واضطهاد عند منعهم من ممارسة عنصريتهم. هذا على ما يبدو هو حال معارضي “هيئة الترفيه” والمطالبين بعودة “هيئة الأمر بالمعروف” في المملكة السعودية. هؤلاء يعتبرون سماع الناس للموسيقى ظلما حاصلا عليهم، ويعتبرون الظلم والتعدي الذي كانت تمارسه “هيئة الأمر بالمعروف” حقا لهم. أطروحتهم بمجملها هي أطروحة فاسدة ومضللة.

رغم أنني أرفض أطروحتهم إلا أنني أحذر آل سعود من التمادي في قمعهم. القمع والعنف نادرا ما يحل أية مشكلة (خاصة إذا كنا نتحدث عن قمع وعنف واسع النطاق). الأسلوب الصحيح لإصلاح المجتمع هو بالنقاش والتفاهم والتوعية وليس بالفرض والإكراه.

عندما تفرض شيئا ما على إنسان فإن ذلك الإنسان سوف يعتبر نفسه مظلوما (بغض النظر عن وجاهة موقفه)، ومن يعتبر نفسه مظلوما قد يلجأ إلى العنف لاستعادة “حقوقه” التي يتخيل أنها سلبت منه.

Ku Klux Klan

عندما فرض الأميركيون الشماليون بالقوة إلغاء العبودية خلال الحرب الأهلية كانت النتيجة ظهور حركة Ku Klux Klan، التي هي حركة إرهابية اشتهرت تاريخيا بتنفيذ ما يسمى بـ lynching ضد أفراد سود. معنى كلمة lynching هو إعدام شخص متهم بجريمة (غالبا بشنقه على جذع شجرة) دون محاكمته ومنحه فرصة لتبرئة نفسه.

قمع البعثيين لمعارضة الائتلاف أدى في سبعينات القرن العشرين إلى ظهور جماعة إرهابية هي “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”. هذه الجماعة اشتهرت بتنفيذ اغتيالات ضد أفراد بعثيين وعلويين. من المحتمل أن تنظيم “سرية أبو عمارة” الذي نشط في مدينة حلب خلال الثورة السورية هو امتداد لتلك الجماعة (هو اتبع نفس نهجها).

أنا ضد العنصريين الظالمين، ولكنني ضد قمعهم بالقوة إذا كانوا تيارا شعبيا عريضا، لأن مثل هذا القمع لا يجدي نفعا وسيؤدي غالبا للعنف والحروب الأهلية. إصلاح المجتمعات لا يحصل بالفرض والإكراه. الأساس هو التوعية والتنوير.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s