كتبنا سابقا عن العلاقة بين دونالد ترمب ومؤسسات الحكومة الأميركية وتوقعنا أن تتمرد عليه تلك المؤسسات.
هذا التوقع كان شائعا في أميركا. كثيرون توقعوا أن يفشل ترمب في التعامل مع الحكومة الأميركية لأسباب عدة أبسطها هو أن ترمب لا يفهم أصلا كيف تعمل الحكومة الأميركية.
كثيرون يقولون الآن أن ترمب لا يفهم حتى مبدأ فصل القوى separation of powers (الفصل بين السلطات)، بدليل صدامه الأخير مع القضاء. بعدما أصدر ترمب قرارا تنفيذيا بحظر دخول المسلمين أصدر قاض فدرالي في ولاية واشنطن حكما قضائيا بتعليق ذلك القرار التنفيذي. هذا كان شيئا طبيعيا لأن القضاء في أميركا هو سلطة مستقلة وليس خاضعا للرئيس، ولكن اللافت كان ردة فعل ترمب.
في البداية ترمب أهان القاضي (الذي هو بالمناسبة جمهوري وليس ديمقراطيا) مشيرا إليه في تغريدة بعبارة “المسمى بقاضي” so‑called judge، ثم واصل التهجم على هذا القاضي وعلى قضاة الاستئناف الذين نظروا في القضية.
عندما صدر حكم الاستئناف كتب ترمب تغريدة غريبة قال فيها “أراكم في المحكمة!”.
هذه التغريدة دفعت برنامج SNL للسخرية من ترمب بتصويره في موقع المدعي ضد قضاة الاستئناف في “محكمة الشعب” التلفزيونية.
هذه المواجهة بين ترمب والقضاء أظهرت أن ترمب لا يفهم حقوق القضاء ولا يحترم تلك الحقوق. لهذا السبب الناس يقولون الآن أن ترمب لا يفهم مبدأ الفصل بين السلطات (الذي هو من أسس الدستور الأميركي).
القضاء هو إحدى مؤسسات الحكومة الأميركية. هذه ليست المؤسسة الحكومية الأولى التي اصطدمت مع ترمب. ترمب اصطدم سابقا مع المخابرات الأميركية. هو دخل في مواجهة كبيرة مع وكالات المخابرات الأميركية حول قضية التدخل الروسي في الانتخابات.
هناك مؤشرات واضحة على أن الصراع بين ترمب والمخابرات الأميركية ما زال مستمرا. ترمب اشتكى سابقا من قيام المخابرات بتسريب الملف السري الذي أعده عميل بريطاني والذي يحوي معلومات مؤذية جدا لترمب، واليوم ترمب يشتكي مجددا من قيام المخابرات بتسريب معلومات تتعلق بقضية مايكل فلن الذي استقال بالأمس.
التسريبات التي يشتكي منها ترمب هي شيء حقيقي وملموس. المخابرات الأميركية تسرب معلومات للإعلام حول أمور سرية تتعلق بعلاقات ترمب المشبوهة مع روسيا، وهذه التسريبات هي مؤذية جدا لترمب.
عندما سربوا الملف السري الذي أعده عميل بريطاني (والذي يقول أن الروس يبتزون ترمب بسبب امتلاكهم لمعلومات تفضحه) هم قالوا في بادئ الأمر أنهم لا يستطيعون تأكيد أي شيء وارد في ذلك الملف، ولكن لفتني قبل أيام أنهم سربوا لقناة CNN (العدو الأول لترمب) معلومات جديدة:
هم الآن يقولون أنهم تأكدوا من صحة بعض المعلومات الواردة في الملف، ولكنهم لم يتأكدوا بعد من صحة القصة الرئيسية في الملف التي تتعلق بفضيحة لترمب يبتزه الروس بها.
طبعا لا بد أن هذا الكلام نزل على ترمب نزول الصاعقة. إذا تمكنوا من تأكيد بعض الملف فمن الممكن أنهم سيؤكدون بقيته لاحقا، وتلك ستكون نهاية ترمب.
الملف يقول أن الروس يبتزون ترمب، ولكن ما نلمسه في الواقع هو أن المخابرات الأميركية تبتز ترمب بذلك الملف. هم سربوه في البداية دون أن يؤكدوا شيئا منه، والآن هم يؤكدون بعضه، وفي المستقبل ربما يؤكدونه بكامله. هذه القصة تبدو وكأنها سيف مسلط على رقبة ترمب تستفيد منه المخابرات الأميركية لترويض ترمب ومنعه من التمادي في أجندته الروسية.
من الوارد أن هذه القصة هي السبب الذي دفع ترمب لإقالة مايكل فلن. هذا الرجل هو متهم بأنه أقرب الشخصيات في إدارة ترمب إلى بوتن. من الوارد أن ترمب أقاله لأن ترمب بات يشعر بأن الخناق يضيق عليه شخصيا.
إقالة مايكل فلن حصلت على خلفية معلومات سرية سربتها المخابرات الأميركية إلى الإعلام. تلك المعلومات تتعلق بكلام دار بين فلن والسفير الروسي حول العقوبات التي فرضها أوباما. من الوارد أن ترمب يخشى من تسريبات مستقبلية تمسه شخصيا (مثلا: تأكيد صحة ملف العميل البريطاني).
يبدو أن ترمب بدأ يشعر بجدية وخطورة الاتهامات التي توجه له بسبب علاقاته مع روسيا. هو بات يفهم أن هذه القضية يمكن أن تطيح به. لهذا السبب هو اتخذ قرارا كبيرا بإقالة مايكل فلن.
إقالة مايكل فلن تؤشر إلى نجاح المخابرات الأميركية في ترويض ترمب. هم يجبرونه على التخلي عن توجهاته الروسية السيئة.
ترمب بات يفهم الآن أن علقته مع المخابرات هي علقة وخيمة. هو أخطأ كثيرا عندما تهجم على المخابرات وأهانها وقال أنه يصدق الروس أكثر منها. هو ألقى ذلك الكلام الكبير دون أن يدري عواقبه.
ترمب هو في صدام كبير مع الإعلام، وأيضا علاقاته مع الكونغرس هي سيئة. الأعضاء الجمهوريون في الكونغرس يسايرونه قدر الإمكان بسبب شعبيته في صفوف الناخبين الجمهوريين، ولكن الأعضاء الديمقراطيين يقاومون تعييناته الحكومية. قبل أيام حصلت سابقة في التاريخ الأميركي عندما اضطر مايك بنس للذهاب إلى مجلس الشيوخ لكسر التعادل حول تعيين بتسي دفوس (لم يسبق في التاريخ الأميركي أن حصل تعادل كهذا بسبب تعيين لوزير في الحكومة).
سوء العلاقات بين الرئيس والكونغرس هو أمر عادي في أميركا (هذه نتيجة طبيعية للنظام السياسي “الرئاسي” الذي يجعل رئيس السلطة التنفيذية منتخبا من الشعب وليس من البرلمان)، ولكن الأمر غير العادي هو الصدام بين ترمب والقضاء. أيضا الصدام بين ترمب والإعلام هو غير عادي، ناهيك عن الصدام بين ترمب والمخابرات الذي هو ربما الأخطر بالنسبة لترمب.
ملاحظة: هذه ليست كل صدامات ومشاكل ترمب، ولكن لا يمكنني أن أسرد هنا كل صداماته ومشاكله لكثرتها.