عائلة الأسد سعت طوال عقود لاجتثاث التيار الإخواني المتطرف من سورية.
هذه كانت سياسة رسمية للعائلة. العائلة سنت في عام 1980 قانونا يحكم بالإعدام على كل من ينتسب لجماعة الإخوان، وهي قامت بالعديد من الإجراءات التي هدفت لتدمير جماعة الإخوان وإلغاء وجود مؤيديها من المجتمع السوري.
سياسات عائلة الأسد التطهيرية أضعفت جماعة الإخوان كتنظيم، ولكن فكر الجماعة لم يضعف بل ازداد انتشارا وتحول في النهاية إلى ثورة كاسحة. حاليا جماعة الإخوان تعتبر من “الحمائم” في الثورة السورية مقارنة مع فصائل أخرى مثل داعش وجبهة فتح الشام وأحرار الشام.
السياسة التطهيرية أدت إلى رد فعل عكسي. هذه النتيجة لا تفاجئ أحدا ممن لديهم خلفية علمية، ولكن المفارقة هي أن عائلة الأسد ومؤيديها لم يفهموا شيئا مما جرى. هم لم يفهموا لماذا فشلت سياستهم لاستئصال الفكر الإخواني.
ردة فعلهم هي نفس ردة الفعل الغوغائية المعتادة لدى الجهلة والأميين: هم يعتقدون أن سياستهم فشلت لأنهم لم تكن صارمة كما يجب. هم الآن يريدون المزيد من الصرامة في سياسات الاستئصال والتطهير.
هؤلاء ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم أكثر تقدما وانفتاحا من أعدائهم، ولكن الحقيقة هي أنني لا أكاد أجد فرقا واحدا بينهم وبين أعدائهم، ولا أظن أن أحدا من الباحثين والمراقبين الجديين يجدون مثل هذا الفرق. ما يجري في سورية منذ عقود هو ليس صراعا بين حكومة معتدلة وبين جماعة متطرفة وإنما هو في الحقيقة صراع طائفي بين جماعتين مصابتين بالهوس الديني هما عائلة الأسد (ومؤيدوها من العلويين والإسلاموفوبيين) والإسلاميون المتطرفون. هاتان الجماعتان هما بنفس المستوى من التطرف والتخلف، وأية محاولة لتفضيل إحداهما على الأخرى هي في جوهرها مجرد انحياز طائفي.
عائلة الأسد ومؤيدوها هم مهووسون دينيا بنفس قدر أعدائهم. هم يقحمون الدين في كل شيء ويحملونه مسؤولية كل شيء. بالنسبة لهم كل شيء في الحياة يدور حول الدين.
بدلا من أن يعالجوا الأسباب الحقيقية التي تؤدي للمشاكل فإنهم يقومون بإجراءات دينية متطرفة من شأنها تسعير المشاكل.
لو كانوا جادين بالفعل في مكافحة التطرف لكانوا بدؤوا بإعدام بشار الأسد. هذه الخطوة من شأنها أن تهدئ الأوضاع في سورية إلى حد كبير، لأن قضية بشار الأسد وجرائمه هي حاليا لب الصراع الأهلي في سورية.
بدلا من أن يعدموا بشار الأسد هم يتحدثون عن “إلغاء التربية الإسلامية”. ما يضحكك هو أنهم يحاولون أن يلبسوا هكذا ممارسات تطهيرية بلبوس “مكافحة التطرف”.
إذا كان مطلب إلغاء التربية الإسلامية يهدف لمكافحة التطرف فهذا يعني أن مطلب إلغاء العلويين يهدف أيضا لمكافحة التطرف. لا يوجد فرق بين الأمرين. من يرى فرقا بينهما هو فقط منحاز طائفيا.
من يقول أن الدين الإسلامي هو سبب المشاكل في سورية هو إما علوي متعصب أو إسلاموفوبي جاهل.
في العالم حصلت الكثير من الحروب الأهلية سابقا، وفي حياتي لم أسمع بأن جهة محايدة أو جهة ذات خلفية علمية اقترحت إلغاء دين معين كحل لإنهاء حرب أهلية.
إنهاء الحرب الأهلية في سورية لن يحصل عبر المزيد من التصعيد والمواجهة والتطرف. المطلوب هو العكس تماما: يجب تخفيف حدة التطرف ومحاولة تقريب الجهات المتصارعة من بعضها.
عندما نقول “تقريب الجهات المتصارعة من بعضها” فليس المقصود هو جمع مؤيدي الأسد مع أعدائهم في دولة واحدة على غرار الكيان الدمشقي البائد. هكذا طروحات هي مجرد خيال علمي كما قال الأميركان.
عندما يتحدث الأميركان عن تقسيم سورية فهذا لا يعني أنهم يتآمرون لتقسيم سورية. هم فقط يصفون ما يشاهدونه في الواقع.
في الواقع نحن نرى جهات متعددة تسعى لإلغاء بعضها.
مؤيدو الأسد يسعون لإلغاء معارضيهم (وهم قاموا بالفعل بتدمير الملايين من معارضيهم)، ومعارضو الأسد يسعون أيضا لإلغاء معارضيهم. حتى قوات سوريا الديمقراطية قامت بإلغاء معارضيها السياسيين. كل الجهات المتصارعة في سورية مارست وتمارس التطهير ضد خصومها.
عندما تنظر إلى بلد ما وترى أن مكوناته هي غارقة حتى أذنيها في التطهير المتبادل والإلغاء المتبادل فما الذي يجب أن تقوله؟ هل يجب أن تقول أن هذا البلد سيتحول إلى دولة متآلفة على غرار سويسرا؟ لو قلت هذا الكلام فهو سيكون مجرد نفاق ومجاملة.
الأميركان حاولوا جاهدين أن يوحدوا الأكراد مع العرب بهدف تأسيس بديل لبشار الأسد. هذا السيناريو هو الذي روجتُ له في هذه المدونة. ولكن الأمر المؤسف هو أن هذا المسعى واجه عقبات عميقة. الأميركان اكتشفوا أن الخلاف بين الأكراد والائتلاف هو ليس مجرد خلاف سياسي ولكنه أعمق من ذلك. الباحث الأميركي جوشوا لانديس عبر عن ذلك بقوله أن “العرب في سورية ينظرون للأكراد بوصفهم غرباء”. هو قصد أن يقول أن العرب لا يعتبرون أنفسهم شعبا واحدا مع الأكراد، وبالتالي فكرة الجمع بين الأكراد والعرب بهدف تأسيس حكومة وطنية هي فكرة خيالية وليست واقعية.
أنا أظن أن تصريحات الأميركان الأخيرة حول تقسيم سورية هي نابعة من تقييمهم لخطاب معارضة الائتلاف المتعلق بالأكراد. الأميركان كانوا يظنون أن مشكلة معارضة الائتلاف هي مع العلويين حصرا. لهذا السبب هم دعموا الأكراد لظنهم بأن معارضة الائتلاف ستتعاون في النهاية مع الأكراد ضد بشار الأسد وضد المتطرفين المتمثلين بفتح الشام وأحرار الشام وأمثال هؤلاء. نتيجة هذا التعاون المفترض يجب أن تكون تأسيس حكومة تعددية لسورية تعبر عن الأكراد والعلويين إلى جانب معارضة الائتلاف. هذا هو السيناريو المثالي الذي كنت أنا نفسي أروج له. ولكن الأميركان يكتشفون الآن أن معارضة الائتلاف سوف تستمر حتى النهاية في نفس خطها الحالي (خط فتح الشام، وأحرار الشام، والإخوان، وقناة أورينت، وقناة الجزيرة). بالتالي فكرة تأسيس حكومة وطنية جامعة في سورية هي مجرد خيال علمي ولا يوجد حل سوى التقسيم. هذا الكلام هو ليس تآمرا ولكنه مجرد تحليل بسيط للأوضاع في سورية. كيف يمكنك الجمع بين الأكراد وبين معارضة الائتلاف وبين داعمي بشار الأسد في بلد واحد طالما أن كل هؤلاء يرفضون التعايش مع بعضهم ويصرون على إلغاء بعضهم؟
الوضع في الكيان السوري يشبه كثيرا الوضع في يوغوسلافيا السابقة، بل هو في الحقيقة أسوأ.
تقسيم الكيان السوري هو ليس مؤامرة أميركية-روسية وليس “سايكس-بيكو” جديد. هذا الأمر هو نتيجة طبيعية للتطورات التي حصلت في الكيان السوري منذ تأسيسه. من يريد أن يفهم لماذا وصل الكيان السوري إلى التقسيم يمكنه أن يقرأ مقالات سابقة في هذه المدونة. أساس المشكلة هو الفكر الانفصالي الدمشقي. هذا الفكر هو الذي وضع أسس التقسيم. بعد ذلك أتت عائلة الأسد وأكملت بناية التقسيم. ثم جاء الائتلاف لكي يقص شريط افتتاح التقسيم.