كثير من العراقيين يحملون ألقابا تنسبهم إلى قبائل عربية قديمة (مثل الأسدي، والطائي، والخزاعي، ونحو ذلك).
مثل هذه الأسماء هي غير شائعة خارج العراق. هي ميزة خاصة بالعراقيين.
أنا لا أدري ما هي خلفية هذه الأسماء. هل هي ألقاب قديمة متوارثة من عصور الإسلام الباكرة؟ أم أنها ألقاب حديثة تَسَمّى بها بعض العراقيين بناء على ما يعرفونه عن أصولهم؟
من أغرب الألقاب العراقية التي سمعتها لقب “العبادي” الذي يتسمى به رئيس الوزراء الحالي. هذا اللقب يَنْسِبُ صاحبَه إلى عِباد الحِيرة.
الحيرة هي مدينة عربية قديمة في العراق. موقعها بجوار الكوفة (حاليا النجف). عمر بن الخطاب مَصَّرَ الكوفة (أي أسسها) بجوار الحيرة، وهذا أدى إلى انزواء الحيرة لمصلحة الكوفة.
الكلام التالي لابن الكلبي (في تاريخ الطبري) يتعلق بسكان الحيرة:
وكانَ ناسٌ مِنَ الْعَرَبِ يُحْدِثُونَ فِي قَوْمِهُمُ الْأَحْداثَ، أَوْ تَضِيقُ بِهِمُ الْمَعِيشةُ، فَيَخْرُجُونَ إلَى رِيفِ الْعِراقِ ويَنْزِلُونَ الْحِيرةَ عَلَى ثَلاثةِ أَثْلاثٍ:
ثُلُثٌ تَنُوخُ، وهُوَ مَنْ كانَ يَسْكُنُ الْمَظالَّ وبُيُوتَ الشَّعْرِ والْوَبَرِ فِي غَرْبِيِّ الْفُراتِ فِيما بَيْنَ الْحِيرةِ والْأَنْبارِ وما فَوْقَها.
والثُّلُثُ الثّانِي الْعِـبادُ، وهُمُ الَّذِينَ كانُوا سَكَنُوا الْحِيرةَ واِبْتَنَوا بِها.
والثُّلُثُ الثّالِثُ الْأَحْلافُ، وهُمُ الَّذِينَ لَحِقُوا بِأَهْلِ الْحِيرةِ ونَزَلُوا فِيهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تَنُوخَ الْوَبَرِ ولا مِنْ الْعِبادِ الَّذِينَ دانُوا لِأَرْدَشِيرَ.
حسب هذا الكلام فإن “تنوخ” هي تسمية للعشائر التي كانت تسكن بمحاذاة الفرات من الحيرة جنوبا إلى الأنبار شمالا (آثار مدينة الأنبار تقع حاليا بجوار الصقلاوية). سكان مدينة الحيرة نفسها كانوا يسمون بالعِباد. تنوخ والعباد دانوا لأردشير مؤسس المملكة الساسانية في القرن الثالث الميلادي. العرب الذين أتوا بعد ذلك وسكنوا الحيرة هم الأحلاف. كلمة “الأحلاف” في العصر الجاهلي تحمل تقريبا نفس معنى كلمة المهاجرين في زماننا. هي تعني أناسا غرباء يأتون إلى بلدة أو منطقة معينة ويدخلون في أحلاف مع القبائل أو العشائر في تلك البلدة أو المنطقة، وهذا يسمح لهم بالإقامة هناك. في البداية هم يكونون في مرتبة دونية نظرا لكونهم غرباء، ولكنهم مع مرور الزمن يندمجون كليا في القبائل أو العشائر التي دخلوا في حلفها.
سكنة مكة في العصر الجاهلي كانوا جميعا ينتسبون إلى قبيلة واحدة هي قريش، ولكن الحال في الحيرة لم تكن كذلك. كلمة “العباد” ما كانت اسما لقبيلة. العباديون كانوا ينتسبون إلى قبائل شتى من القبائل العربية المعروفة (الأزد ولَخْم وطيء ولِـحْيان وإياد ومضر وربيعة).
أصل تسمية العباد هو غير معروف. الكتاب المسلمون ذكروا روايات أسطورية حول أصل هذه التسمية. ما يلي ورد في كتاب الأغاني:
ونَزَلَتْ تَنُوخُ بالْبَحْرَينِ سَنَتَينِ. ثم أقبل غُرابٌ في رجليه حَلْقَتا ذَهَبٍ وهم في مجلسهم، فَسَقَطَ على نَخْلةٍ في الطريق، فَيَنْعَقُ نَعَقاتٍ ثم طار؛ فذكروا قول الزرقاء، فارتحلوا حتى نزلوا الحيرة. فهم أَوَّلُ من اِخْتَطَّها،(1) منهم مالك بن زهير. واجتمع إليهم لما ابتنوا بها المنازل ناسٌ كثيرٌ من سُقّاطِ القرى.(2) فأقاموا بها زمانا ثم أغار عليهم سابور الأكبر،(3) فقاتلوه، فكان شعارهم يومئذ: يا آل عباد اللّه! فسُمُّوا العباد.
1. قوله “أول من اِخْتَطَّها” يعني “أول من أسسها”.
2. قوله “سُقّاط القرى” يعني “نازلي القرى” أي ساكنيها.
3. ملك ساساني.
أبو عبيد البكري علق على الرواية أعلاه بما يلي:
قولُه “إنما سُمُّوا عِبادًا لأن شعارهم كان يا لعباد الله” قولٌ خولف فيه. فقال ابن دريد: إنما سُمُّوا عبادا لأنهم كانوا طاعةً لملوكِ العجمِ. وقال الطبري فى قوله تعالى “وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ”: معناه مطيعون. وقال أحمد بن أبى يعقوب: إنما سُمِّيَ نصارى الحيرة العباد لأنه وفد على كسرى خمسة منهم، فقال لأحدهم: ما اسمك؟ قال: عبد المسيح. وقال للثانى: ما اسمك؟ قال: عبد ياليل. وقال للثالث: ما اسمك؟ قال: عبد ياسوع. وقال للرابع: ما اسمك؟ قال: عبد الله. وقال للخامس: ما اسمك؟ قال: عبد عمرو. فقال كسرى: أنتم عباد كلكم. فسمّوا العباد.
حسب كلام أحمد بن أبي يعقوب المقتبس أعلاه فإن العباد كانوا نصارى. هذه المعلومة مذكورة أيضا في المعاجم.
في جمهرة اللغة:
العِبادُ قومٌ من قبائلَ شتى من العربِ اجْتَمعُوا على النَّصْرانِيَّةِ، فَأَنِفُوا أن يَتَسَمَّوا بالْعَبِيدِ فَقَالُوا نحن الْعِبادُ.
في صحاح الجوهري:
العَبادُ بالفتحِ: قبائلُ شتى من بطونِ العربِ اجتمعوا على النصرانيةِ بالحيرةِ، والنسبة إليهم عبادي. وقيل لعباديٍّ: أَيُّ حِمارَيْكَ شَرٌّ؟ فقالَ: هذا ثُمَّ هذا!
ضبطه لكلمة العباد بالفتح هو ربما مجرد غلط منه، لأن المصادر الأخرى تضبطها بالكسر.
ما يلي من كتاب المناقب المزيدية لأبي البقاء الحلي:
والعِبادُ، وهُمْ معظمُ أهلِ الحيرةِ وجُلُّهم وأشرافُهم وأهلُ البُيُوتاتِ والعِزِّ منهم. وهم أصحابُ الحيرةِ ويُقالُ لهم الحيرةُ الأُولى. ومن كان بها من غيرهم فإنما كان ضَمِيمةً إليهم. واسمُهم هذا غَلَبَ على اسمِ مَنْ سِواهم مِنْ أهلِ الحيرةِ من أصحابِ الأسماءِ المذكورةِ وغيرِها، فأهلُ الحيرةِ بأَسْرِهم يُعرفونَ بالعِبادِ، غَلَبَ هذا الاسمُ عليهم حتى صارَ كالنسبِ لهم واقتنعوا به عن الانتسابِ إلى عشائرِهم وعُرِفَتْ به أَعْقابُهم مِن بَعْدِهم في الإسلامِ [حيدر العبادي؟].
واُخْتُلِفَ في معنى هذا الاسمِ وسببِه، فقيلَ إنما سموا به لأنهم كانوا أهل الفصاحة من النصارى الذين لِلُغَتِهم فَضْلٌ على غيرها من السُّرْيانيِّ كفَضْلِ لُغَةِ العربِ البادِي على لُغَةِ مَنْ يَسْكُنُ الْمَدَرَ، وبهم كان يَقْتَدِي مَن سِواهُمْ مِن أهلِ نِحْلَتِهم. وقيل بل سموا بذلك لأن شعارهم كان: نحن عباد الله. وأنشد لبعضهم:
نحن العِبادُ وربُّنا الرحمنُ … وله علينا الطوعُ والإذعانُ
وقيلَ بل نُسِبُوا بذلك الى أبٍ لهم، وليس هذا الوجهُ بشيءٍ لأنهم من قبائلَ شتى من عدنان وقحطان.
وقيلَ بل كانوا يعبدون صنمًا لهم يقال له “سبد” فقيل لهم “عباد سبد”، ولزمهم هذا الاسم. قالَ رجلٌ مِن بني ربي من نمارة من لخم جَنى جِنايةً في قَوْمِه فخلعوه فلجأ الى الحيرةِ:أَرَى سَيْفِي نَفاني مِنْ دِيارِي … وأَلْجَأَني إلى سُبُلِ الْمَخافةِ
وأَلْحَقَني الْعِبادَ عِبادَ سبدٍ … بِلا نَسَبٍ هُناكَ ولا {صرفه} [ظَرافةٍ؟]
وقيل أنهم إنما سموا بهذا الاسم لأنهم أول من سكن الحيرة مع عمرو بن عدي واختطوا بها المنازل وبنوا بها الجُدُرَ ودانوا لأردشير بن بابك، فسموا بذلك العبادَ وصارت الدارُ لهم وكل من جاءَ بعدَهم فإنه إنما لجأ إليهم.
وقد ذكر الطبري هذا الوجه، ويقويه أيضًا أنه روي أن عمرًو بنَ امرئِ القيسِ الـمَلِكَ لما مَلَكَ أَدْخَلَ في العبادِ أَهْلَ بُيُوتاتٍ مِن ربيعةَ ومضر وإياد لم يكونوا منهم من قبل، وهذا مما يدل على أن اسم العباد إنما وقع على من كان بالحيرةِ أولا.
والأَحْلافُ، وهم قومٌ لَحِقُوا بالعبادِ بعدَ نزولهم الحيرةَ فحالفوهم وانضموا إليهم ودخلوا معهم في أَمْرِهم. وهم من أحياءٍ كثيرةٍ سُمِّيَ منهم بنو لحيان من بن الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وبنو مَرِينا وهم من أشرافهم ونسبهم في جعفى منهم عدي بن أوس بن مرينا الذي كان عدي بن زيد العبادي عند النعمان الأصغر حتى قتله، ومنهم قوم من عبد القيس بن أفصى، ومن الأوس بن عمرو بن عامر، وبنو حيّة من طيء، وهم رهط أياس بن قبيصة الذي استعمله كسرى بالحيرة بعد النعمان الأصغر، ومن حنيفة بن لخم، ومن نمير بن عامر، وأهل بيت من أسيد بن خزيمة يقال لهم بنو شجرة. وقيل إنه دخل فيهم قوم من بني قريش من ولد عبد الله الأعرج بن عبد شمس بن عبد مناف يقال لهم بني العميني، وقريشُ تنكر ذلك ويقولون إن عبد الله الأعرج لم يعقب.
وقيل إن اسمَ الأحلافِ بالحيرةِ كان يَجْمَعُ قومًا مِن أربعةَ عشرَ حَيًّا. ثم جُعِلَ أهلُ الحيرةِ كُلُّهم ثلاثَ كتائبَ تَجْمَعُ هذه الأسماءِ كُلَّها وتُسَمَّى كُلُّ كَتِيبةٍ اسمًا لم تزل تُعْرَفُ بِهِ إلى آخرِ أيامِ ملوكِ الحيرةِ، أحدها دوسر، ويقال لها دوسرة، وهي كتيبةٌ كانت تَجْمَعُ فرسانَها وشجعانَها وذوي النجدةِ المنتخبين منهم. والشهباء، وقيل هي التي كان يكون فيها أهل بيت الملك، وإنما سميت بذلك لأنهم كانوا يُسَمَّوْنَ الأشاهب لجمالهم وصباحتهم، وقيل بل هي كتيبة الْفُرْسِ الذين كانوا يُسَمَّوْنَ الوضائع، سميت بذلك لبياض ألوانهم.