ألمانيا واليابان دمرتا خلال الحرب العالمية الثانية، ولكنهما بعد الحرب ببضعة عقود عادتا مجددا لكي تكونا من دول العالم المتقدمة.
هذا المثال يعبر عن حقيقة مهمة وهي أن التقدم أو التخلف هو مسألة ثقافية توجد في العقول وليس في الأبنية.
لو فرضنا أن الدمار في حلب هو مجرد دمار عمراني لما كنت حزنت كثيرا، لأن الأبنية يمكن أن تعمر مجددا.
المأساة الحقيقية في حلب هي ليست الدمار العمراني وإنما الدمار الثقافي.
حلب الآن تغص بالمتطرفين والمجرمين والسراق، وتغص بالعنصريين والطائفيين، وتغص بعديمي الأخلاق الذين يملكون الكثير من المال دونما ذرة أخلاق.
المجتمع في حلب هو مفكك على نحو عجيب. كل شخص هناك يغني على ليلاه. لا يوجد أي حس جماعي أو ثقافة جماعية. كل شخص يهتم بنفسه فقط ولا يهتم حتى بجيرانه. كل شخص ينظر إلى الآخرين على أنهم أعداء. الأخلاق هي غائبة وليس لها أي دور.
الوضع هناك يشبه الغابة.
من المؤسف أن مدينة حلب وصلت إلى هذه الحال، ولكنه شيء متوقع نظرا لما مرت به المدينة خلال حقبة الدولة الدمشقية.
لا أدري كيف يمكن إصلاح الوضع في هذه المدينة. المشكلة هي أنه لا توجد جهة مؤهلة للإصلاح. أنا كنت آمل خلال سنوات الثورة أن يتم تأسيس حكومة محلية وأن تقوم هذه الحكومة ببعض الخطوات التمهيدية، ولكن هذا لم يحصل (بسبب تركيا التي فضلت دعم داعش وإذكاء الفتن الطائفية والعرقية بدلا من مساعدة السوريين على إعادة إعمار بلدهم).
طبعا ليس من الممكن إصلاح الوضع في حلب لوحدها دون إصلاح الوضع في المناطق المحيطة بها أيضا. أنا أتحدث الآن عن حلب ولكن ما أقوله ينطبق على مناطق أخرى في سورية وليس حلب فقط (كل المناطق التي تقع خارج سورية المفيدة تعاني ظروفا شبيهة بظروف حلب).
في مدينة حلب يوجد الكثير من الناس الأذكياء الذين يعرفون أكثر مني كيف يصلحون أوضاع المدينة، ولكنني سوف أقول رأيي كمراقب للأوضاع. إذا وُجدت في المستقبل جهة حكومية مهتمة بإعادة إعمار حلب فأنا أرى أن هذه الجهة يجب ألا تركز كثيرا على إعادة الإعمار المادية، لأن هذا لن يكون شيئا مجديا. الشيء الأكثر جدوى في حلب هو إعادة الإعمار الثقافية.
إعادة الإعمار الكلاسيكية تتطلب الكثير من المال وتتطلب حكومة وطنية مستقلة تهتم بمصالح البلد. هذه الأمور هي ليست متوفرة في حلب. أنا أعلم أن هذا الكلام لن يعجب البعض ولكنني سأقوله على كل حال: الوضع الموجود في حلب هو بصراحة شكل من أشكال الاحتلال أو الاستعمار. هناك حكومة بعيدة تحتل حلب. طالما أن المدينة تحت الاحتلال فلا توجد فائدة من إعمار الإعمار التقليدية، لأنها لن تنجح.
حكومة دمشق تهدف لتنمية وتعظيم دمشق، وأنا أزعم أن تقزيم حلب وتدميرها هو من أهداف تلك الحكومة، لأن الدمشقية السياسية كانت دوما ترى في حلب تهديدا (الدمشقية السياسية كانت ترى أن كل الشعب السوري هو تهديد لها، ولكن حلب بالذات كانت تعتبر التهديد الأكبر). طالما أن حكومة دمشق تنظر إلى حلب كتهديد فهذا يعني بالضرورة أن تلك الحكومة لن تكون حريصة على تنمية حلب وإنما العكس. على كل حال، هذه الحكومة ما كانت أبدا لتقدم مصالح حلب على دمشق.
إعادة إعمار حلب بالمعنى التقليدي للكلمة تتطلب أموالا طائلة. من أين ستأتي هذه الأموال؟ هي ستأتي إما من الموارد الداخلية لسورية أو من الخارج. حكومة دمشق تتحكم بكل هذه الأمور (حكومة دمشق تتحكم بالعائدات الداخلية، وتتحكم بالتجارة الخارجية، والمساعدات الخارجية، والاتفاقات الدولية، وعائدات السياحة، وكل شيء). طالما أن كل الموارد المالية (سواء الداخلية أم الخارجية) هي بيد حكومة دمشق فلن يكون هناك أمل بإعادة إعمار تقليدية لمدينة حلب.
الأموال التي ستصل إلى حلب مستقبلا ستكون مجرد فتات ولن تكفي لبناء مساكن وشق طرق وإنشاء وسائل مواصلات وبناء مدارس وجامعات ومشافي ومحطات للطاقة وضخ المياه وغير ذلك. لا أعلم كم هي الكلفة الإجمالية لإعمار حلب، ولكن لا بد أنها كلفة ضخمة جدا وخرافية، لأن المدينة هي مدمرة منذ عقود. ليس صحيحا أن الثورة السورية هي التي دمرت حلب. الثورة السورية دمرت المساكن في حلب (معظم هذه المساكن كانت مساكن عشوائية)، ولكن البنية التحتية في المدينة هي مدمرة منذ عقود (ربما منذ زمن الانتداب الفرنسي). حلب قبل الثورة السورية كانت تعاني من تفشي الأمية والأوبئة ونقص الطاقة وغياب وسائل المواصلات (لا أريد أن أسرد كل شيء، ولكن المدينة لم تكن تشبه المدن العصرية في أي شيء. هي كانت عبارة عن تجمع ضخم لمساكن معظمها عشوائية).
الاستثمارات الخاصة لن تساعد في إعمار حلب، لأن معظم هذه الاستثمارات ستذهب إلى دمشق (كما كان الحال قبل الثورة).
ما أقوله باختصار هو أن حلب لن تملك ما يكفي من الأموال لاتباع نمط إعادة الإعمار التقليدي، لأن المدينة هي بصراحة تحت الاحتلال ولا تملك من أمرها شيئا (أنا آمل أن ينتهي هذا الاحتلال وأن يتم هدم الدولة الدمشقية واستبدالها بدولة جديدة، ولكنني لا أعلم متى سيحصل ذلك). لهذا السبب لن يكون من المجدي اتباع نمط إعادة الإعمار التقليدي. بدلا من ذلك يجب التركيز على الإعمار الثقافي والمعرفي. الفتات المالي الذي سيصل إلى حلب يجب أن ينفق على التعليم والتنمية البشرية، ويجب أن يكون الإنفاق في هذه المجالات على نحو ذكي وحصيف.
هناك طرق يمكنها أن تخفض كثيرا من كلفة تعليم وتثقيف المجتمع. أنا أشرت في الماضي لبعض هذه الطرق. أهمها في رأيي هو التعليم باللغة الإنكليزية. التعليم باللغة الإنكليزية من شأنه أن يخفض كلفة تعليم المجتمع وتثقيفه (لن تكون هناك حاجة لإنفاق أموال على الترجمة، وسيصبح من السهل التواصل بين الطلاب المحليين وبين العالم الخارجي).
النموذج الذي أقترحه يشبه النموذج اللبناني. لبنان لا ينتج الكثير من الأمور المادية، ولكنه يجني المال بسبب امتلاكه لجامعات كثيرة تدرس باللغتين الإنكليزية والفرنسية. هذه الجامعات تنتج سنويا الكثير من الخريجين الذين يندمجون بسهولة في الاقتصاد العالمي. هذه الثروة البشرية هي ربما مصدر الدخل الرئيسي للبنان.
هذا النموذج الاقتصادي هو ليس رائعا، ولكنه يناسب أوضاع حلب. كل المطلوب هو تأسيس نظام تعليمي جيد (نسبيا) وإنتاج خريجين ذوي مستوى عال (نسبيا) ومؤهلين للاندماج في الاقتصاد العالمي.
السؤال هو: هل ستسمح حكومة دمشق بتطبيق مثل هذا النموذج في حلب؟ لو ظل كل شيء بيد دمشق فسوف تظهر الكثير من العوائق التي ستفشل كل شيء.
في النهاية لا أظن أن أي شيء يمكن أن ينجح دون هدم الدولة الدمشقية، ولكن يجب على الحلبيين (والسوريين بشكل عام) أن يركزوا على التنمية البشرية. سورية هي من أكثر بلدان العالم تخلفا ولا توجد فائدة من السعي لتأسيس صناعات متقدمة في سورية. السوريون يجب أن يركزوا على المجالات التي يمكنهم أن ينجحوا فيها. أنا أرى أن الشعب السوري يمكنه أن يتحول إلى شعب واع ومثقف جدا إذا توفرت له مدارس وجامعات ذات مستوى جيد.
إذا صار الشعب واعيا ومثقفا فسوف يتغير كل شيء نحو الأفضل. كل شيء سيصبح أسهل بعد ذلك.
ما رأيك في وضع سورية قبل الثورة مقارنة مع الأردن و لبنان من كافة النواحي ؟