في هذه المدونة لمت أميركا كثيرا وحملتها مسؤولية الكثير من المصائب التي ألمت بسورية والعالم العربي.
أنا ما زلت عند ذلك الرأي. أميركا هي أكثر تقدما بكثير من العرب، وكان يجب عليها أن تستغل تقدمها لمساعدة العرب وليس تدميرهم وإرجاعهم إلى العصر الحجري.
الطفل الصغير قد يرتكب أخطاء ويؤذي نفسه. في هذه الحال الناس لا يكتفون بلوم الطفل ولكنهم يلومون الكبار المحيطين به والذين يفترض بهم توجيهه.
أميركا لم تسع لمساعدة العرب بقدر ما أنها استغلت جهلهم وغباءهم بهدف النيل منهم، وهي تمكنت فعلا من النيل منهم، ولكن ما فعلته انقلب في النهاية ضدها.
أميركا تسببت في إزالة الكيانين العراقي والسوري من على الخارطة (لأن هذين الكيانين تقليديا هما أكبر أعداء إسرائيل)، ولكن أميركا الآن هي مضطرة لمواجهة داعش، وبعد داعش قد يظهر شيء آخر أسوأ منها.
رغم أن أميركا تتحمل مسؤولية كبرى عن تدمير العالم العربي إلا أن هذا لا يعفي العرب من المسؤولية.
الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين هو سلوك طفولي وغير ناضج. الإنسان الناضج يجب أن يتحمل مسؤولية أفعاله.
اليوم نحن نرى السوريين مشردين في أنحاء الأرض. من الذي أوصل السوريين إلى هذه الحال المزرية؟
الجواب الصحيح هو: السوريون أنفسهم هم الذين دمروا أنفسهم. قبل إلقاء اللوم على أميركا أو غيرها لا بد من أن يتحمل السوريون مسؤولية أخطائهم الكثيرة.
أنا انتقدت في السابق النواح العربي المستمر بسبب اتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور. هذا النواح هو غير مبرر وهو بصراحة سلوك طفولي وغير ناضج.
صحيح أن تقسيم المشرق العربي حصل بسبب اتفاقية سايكس-بيكو، ولكن بريطانيا تراجعت عن هذه الاتفاقية في أربعينات القرن العشرين. خلال الحرب العالمية الثانية أعلنت بريطانيا تأييدها للوحدة العربية، وهذا شجع العراق على طرح مبادرة لتوحيد المشرق العربي. غالبية الشعب السوري آنذاك كان يريد إلغاء حدود سايكس-بيكو، ولكن حكام سورية منعوا ذلك بزعم أنه مؤامرة بريطانية!
الشيء المضحك (والذي يدلك على تفاهة العرب) أن العرب ما زالوا حتى يومنا هذا يشتمون اتفاقية سايكس-بيكو ويشتمون بريطانيا ويتهمونها بتقسيم العالم العربي، ولكنهم يتجاهلون ما حصل في أربعينات القرن العشرين. هم يتجاهلون أن بريطانيا في أربعينات القرن العشرين تبنت مشروع الوحدة العربية ودعمته، إلى درجة أن شكري القوتلي صار يصف الوحدة العربية بأنها مؤامرة بريطانية!
بريطانيا هي التي صنعت الكيان السوري الحالي. قبل الغزو البريطاني لسورية خلال الحرب العالمية الثانية كانت دولة العلويين ودولة الدروز ما تزال مفصولة عن دمشق (كثير من السوريين في زماننا يظنون أن اتفاقية العام 1936 هي التي صنعت الكيان السوري، ولكن هذا خطأ لأن تلك الاتفاقية انهارت بعد فترة وجيزة من توقيعها، وهي لم تكن ذات أثر قانوني لأن البرلمان الفرنسي لم يصدق عليها. تلك الاتفاقية لم توحد سورية لا من الناحية الواقعية ولا من الناحية القانونية).
بريطانيا ضمت العلويين والدروز إلى دمشق دون أخذ موافقتهم لأن بريطانيا ظنت أن ذلك يخدم قضية الوحدة العربية، ولكن ما حصل بعد ذلك كان شيئا مريعا: دمشق انقلبت ضد الوحدة العربية وباتت تحاربها، وهي اضطهدت العلويين والدروز ورفضت معاملتهم على أساس المساواة.
ما حصل في سورية في أربعينات القرن العشرين كان مهزلة تاريخية كبرى، ولكن الشيء العجيب هو أن السوريين لا يتطرقون له مطلقا. هم يكتفون فقط بشتم بريطانيا وتحميلها مسؤولية تقسيم سايكس-بيكو.
بريطانيا ليس لها علاقة بتقسيم المشرق العربي الذي نراه حاليا. بريطانيا أرادت في أربعينات القرن العشرين توحيد المشرق العربي، ولكن مدينة دمشق هي التي منعت ذلك (بالتواطؤ مع مصر وابن سعود).
نفس الأمر ينطبق على “وعد بلفور” الذي حوله العرب إلى كبش فداء وستار للتغطية على فضائحهم. هذا الوعد هو ليس السبب الحقيقي لقيام إسرائيل. من أقام إسرائيل هم العرب أنفسهم.
تأسيس إسرائيل لم يحصل خلال يوم وليلة. وعد بلفور صدر أثناء الحرب العالمية الأولى، في حين أن تأسيس إسرائيل حصل بعد الحرب العالمية الثانية. هذا كان مسارا طويلا استمر لعقود. ما الذي فعله العرب خلال هذه العقود؟
العرب يتجاهلون “الكتاب الأبيض” الذي أصدرته بريطانيا في عام 1939. هذا الكتاب نص على أمرين: عدم تقسيم فلسطين، ووضع حد للهجرة اليهودية إلى فلسطين. هذا الكتاب ما كان ليسمح بقيام إسرائيل.
الأهم من الكتاب الأبيض هو السياسة البريطانية العامة في الشرق الأوسط خلال أربعينات القرن العشرين. بريطانيا آنذاك كانت تؤيد توحيد المشرق العربي. هذا التوجه بطبيعة حال يتناقض مع تأسيس إسرائيل. إذا اتحد الكيان السوري مع العراق والأردن فسوف تنشأ دولة عربية ضخمة على حدود إسرائيل. كيف يمكن لإسرائيل أن تعيش بجوار هكذا دولة دون اتفاق معها؟ هذا لم يكن واردا. مجرد دعم البريطانيين لتلك الفكرة هو دليل على أنهم كانوا يريدون حل القضية الفلسطينية باتفاق سلمي بين العرب واليهود. لو كانت نية البريطانيين تأسيس دولة يهودية توسعية دون موافقة العرب لما كان البريطانيون دعموا توحيد سورية والعراق والأردن!
العرب يتجاهلون كل شيء ويركزون فقط على “وعد بلفور”، لأنهم يريدون إلقاء بلاويهم على الآخرين. بدلا من أن يتحملوا مسؤولية أفعالهم هم يفضلون لوم البريطانيين.
من هو بالفعل حزين من قيام إسرائيل يجب أن يركز على ما حصل في الأعوام التي سبقت قيام إسرائيل، أي الفترة الممتدة بين 1943-1948 (فترة حكم شكري القوتلي). تلك الفترة هي التي شهدت وضع الأسس الحقيقية لقيام إسرائيل. في تلك الفترة منع شكري القوتلي الوحدة العربية وزعم أنها مؤامرة بريطانية تهدف لدعم الصهيونية. هو تحالف مع موارنة لبنان الانفصاليين لكي يستقوي بهم على دعاة الوحدة العربية في سورية (شكري القوتلي لعب دورا محوريا في فصل لبنان عن سورية. أنا تطرقت في مقالات سابقة لدور القوتلي في هذه القضية وكيف أنه أقنع سنة لبنان بالكف عن المطالبة بالوحدة العربية والرضا بالتقسيمات الاستعمارية. يجب على السوريين أن يتذكروا أن زعماء السنة في لبنان آنذاك كانوا ينتمون لحزب”الكتلة الوطنية” الذي يتزعمه شكري القوتلي. شكري القوتلي استغل نفوذه على سنة لبنان لإقناعهم بالانفصال عن سورية والتخلي عن قضية الوحدة العربية).
بما أن شكري القوتلي دعم انفصال لبنان فلماذا لا نفترض أنه دعم انفصال إسرائيل أيضا؟ هو على كل حال لم يفعل شيئا لمنع قيام إسرائيل. هو انسحب من فلسطين إلى الحدود الدولية التي رسمتها بريطانيا والتزم بتلك الحدود بالمسطرة. أليس هذا شيئا مريبا؟
هناك الكثير من المعلومات التي تتحدث عن صلات ولقاءات بين القوتلي والصهاينة. أنا أشرت في الماضي إلى بعضها.
الشعب السوري حمل القوتلي مسؤولية قيام إسرائيل وهو ثار على القوتلي في عام 1948 لهذا السبب (القوتلي خرج من السلطة لأن الشعب السوري حمله مسؤولية قيام إسرائيل. الشعب لم يكن مخطئا في تقييمه. بما أن القوتلي منع الوحدة العربية فهو بالفعل مسؤول عن قيام إسرائيل).
في صغري كنت أظن أن بريطانيا وفرنسا قسمتا المشرق العربي وتسببتا في قيام إسرائيل، ولكنني عندما كبرت وقرأت التاريخ فهمت أن كل ذلك الكلام هو مجرد دجل. بريطانيا في أربعينات القرن العشرين كانت مع الوحدة العربية وضد قيام إسرائيل. من قسم العالم العربي وأسس إسرائيل هو ليس بريطانيا وإنما شكري القوتلي.
ما ينطبق على تلك الحقبة (التي هي أهم حقبة في تاريخنا المعاصر) ينطبق على بقية الحقب. سبب مصائب سورية في خمسينات وستينات القرن العشرين لم يكن القوى الاستعمارية وإنما السوريون أنفسهم.
قضية الوحدة العربية كانت قضية محورية في سورية منذ تأسيس الكيان السوري في زمن الانتداب الفرنسي. سياسيو دمشق كانوا يفهمون أن الشعب السوري يريد الوحدة العربية ولا يقبل بالانفصال. رغم ذلك هم تحدوا الشعب السوري وانفصلوا عن مصر في عام 1961. بسبب هذا الفعل الخياني وقعت سورية في فوضى غير مسبوقة. نتيجة هذه الفوضى كانت في النهاية نشوء نظام حافظ الأسد.
بعض التافهين في سورية يعيدون سبب المشاكل المعاصرة إلى “مؤامرة علوية” ونحو ذلك من التفاهات التي لا معنى لها. المؤامرة الحقيقية التي أوصلتنا إلى حكم عائلة الأسد هي الانقلاب الانفصالي في عام 1961. ذلك الانقلاب لم يكن انقلابا ضد مصر أو عبد الناصر. هو كان انقلابا ضد قضية الوحدة العربية، أي ضد القضية الوطنية للشعب السوري. من نفذوا ذلك الانقلاب استهدفوا القضية الوطنية للشعب السوري التي ناضل لأجلها طوال عقود. هل هناك خيانة أكبر من ذلك؟ هل هناك غباء أكبر من ذلك؟
الوحدة العربية كانت الهدف الأسمى للشعب السوري. عندما تستهدف الوحدة العربية فما الذي تتوقعه من الشعب؟ الشعب طبعا سيثور.
بدلا من شتم القوى الاستعمارية والمؤامرات النصيرية ونحو ذلك من التفاهات يجب علينا أن نفهم تاريخنا على حقيقته. يجب أن نفهم الأخطاء التي حصلت في هذا التاريخ حتى لا نقع بمثلها مجددا.
تحليل واقعي و جميل يا شقيقنا العزيز..
للاستزادة اطلّع متفضلاً على المقال التالي:
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=347619&r=0
احتراماتي
المعلومة التي تقول أن نوري السعيد كان صاحب فكرة الجامعة العربية هي على الأغلب غير صحيحة.
الجامعة العربية تأسست بنصيحة إنكليزية للمصريين. تأسيس هذه الجامعة كان يستهدف إفشال المشروع الهاشمي لتوحيد المشرق العربي. الدول الهاشمية ترددت في الانضمام لهذه الجامعة وكان هناك جدل بينها وبين مؤسسي الجامعة حول أهدافها. ملك الأردن ربط انضمامه للجامعة بإقرار مبدأ الوحدة السورية في ميثاقها، وهو ما لم يحصل (بدعوى تجنب القضايا الخلافية، لأن شكري القوتلي وموارنة لبنان كانوا يرفضون بشدة فكرة الوحدة السورية).
في الحقيقة أنا كنت قد انتبهت لهذه الفقرة واعتقد بأن الكاتب قد (شطح) في هذه الفقرة، خصوصاً ان العراق -كما اذكر- كان يرغب بأن تسمى الجامعة العربية (بتسمية التحالف العربي) ليؤكد بأنها مجرد نوع من التحالف او مجلس للتنسيق وليست مشروع حقيقي للوحدة العربية وبذلك يبقى الطريق سالكاً للمشروع الوحدوي الهاشمي والذي -من وجهة نضري- كان مشروعاً واقعياً ومنطقياً الى حد بعيد.
لكني وضعت المقالة لجنابكم الكريم لأجل موضوع الكتاب الأزرق والذي في الواقع يتعاكس مع الجامعة العربية بالشكل الذي (صنعت) فيه..
احتراماتي
لكن ماذا لو كان شكري القوتلي وبشار وال سعود جميعهم عملاء. الا يمثلون امتدادا لبريطانيا؟ الا يمثلون المؤامرة البريطانية؟ ام لمجرد انهم عملاء عرب لبريطانيا فهذا يعني لوم جميع العرب على المؤامرة البريطانية.