أنا تحدثت سابقا عن القدود الحلبية وأشرت إلى أنها ذات أصول متنوعة.
مثلا أغنية “على العقيق اجتمعنا” هي ربما ذات أصل حجازي أو يمني، بدليل أنها ما زالت معروفة هناك.
ولكن هل الحلبيون أخذوا الأغنية مباشرة من الحجازيين أو اليمنيين؟ أنا لا أظن ذلك.
أنا أعتقد أن معظم القدود الحلبية هي مأخوذة من بلاد ما بين النهرين.
أحد الأدلة على ذلك هو أن لهجة معظم هذه الأغاني تبدو وكأنها من بلاد ما بين النهرين.
بعض الأغاني تذكر مدينة حلب بشكل صريح، ولكن ليس بوصفها موطن المغني. مثلا عندما يقول المغني “يا رايحين عحلب حبي معاكم راح” نفهم من ذلك أن المغني هو ليس في حلب. عبارة “درب حلب مشيته كله سجر زيتون” تدل على أن حلب هي ليست المقر الأصلي للمغني.
عندما يقول المغني “أخدوا حبي وراحوا شمالي، راحوا لبعيد راحوا” فمن المحتمل أنه يقصد أنهم ذهبوا إلى حلب (قارن مع عبارات مثل “يا رايحين عحلب حبي معاكم راح”).
حلب تظهر في بعض القدود الحلبية ليس بوصفها موطن المغني، وإنما بوصفها مدينة بعيدة.
أنا ذكرت سابقا أن الكتاب الشهير المسمى “ألف ليلة وليلة” هو كتاب حلبي. المستشرق الفرنسي Antoine Galland أخذ هذا الكتاب من مدينة حلب في أواخر القرن 17 (لاحقا عثر المستشرقون على مخطوطات لنفس الكتاب في مصر، ولكن الكتاب الأصلي الذي ترجم إلى العديد من اللغات واشتهر حول العالم هو الكتاب الحلبي). الأوروبيون أطلقوا على هذا الكتاب مسمى “الليالي العربية” Arabian Nights وليس “الليالي الحلبية”، لأن من يقرأ الكتاب يدرك بسهولة أن أصله ليس من حلب. لا بد أن أصل هذا الكتاب يعود إلى ما بين النهرين، ولكن الملفت هو أن الباحثين لم يعثروا أبدا على مخطوطات لهذا الكتاب في بلاد ما بين النهرين. هذا التراث الضخم انقرض تماما من بلاد ما بين النهرين ولم يبق له أي أثر سوى في حلب ومصر.
أنا أظن أن أصل “القدود الحلبية” لا يختلف عن أصل كتاب ألف ليلة وليلة. كل هذا التراث يعود في الأصل لبلاد ما بين النهرين، ولكنه انقرض من هناك بسبب الغزو المغولي (حلب أيضا تعرضت للغزو المغولي المدمر، ولكن لسبب ما تمكن الحلبيون من المحافظة على هذا التراث، وبذلك هم قدموا خدمة كبيرة للبشرية وللعرب بشكل خاص).
تسمية “القدود الحلبية” هي غير مناسبة في رأيي. التسمية الأنسب هي “القدود العربية”، ولكنني أخشى إن غيرنا التسمية أن يقال في المستقبل أن هذه القدود اخترعت في مدينة دمشق.
بعض القدود الحلبية تبدو للسامع وكأنها مصرية اللهجة. هذا ربما هو مجرد انطباع مضلل. التدقيق في كلمات هذه الأغاني يبين أنها ليست بالفعل مصرية. أنا أظن أن هذه الأغاني هي بلهجة عراقية قديمة.
قبل الغزو المغولي كانت لهجة بغداد تشبه اللهجة المصرية الحالية، ولكن لاحقا تغيرت لهجة بغداد. من المحتمل أن الحلبيين المتأخرين (ومنهم صباح فخري) ظنوا خطأ أن هذه الأغاني هي مصرية ولهذا السبب هم باتوا يغنونها وفق ما يعرفونه عن اللهجة المصرية. هذا أدى إلى تحريف الأغاني وجعلها شبيهة باللهجة المصرية، رغم أن الفروقات عن اللهجة المصرية ما تزال بادية فيها.
طبعا الأغاني بشكلها الحالي تحوي الكثير من الألفاظ الحلبية. هذه على ما أعتقد مجرد تحريفات وإضافات من عند المغنين الحلبيين.
بعض القدود الحلبية هي معروفة في مدن سورية أخرى وليس فقط في حلب. هذا لا ينفي أصلها العراقي. هي وصلت إلى المدن السورية الأخرى بنفس الطريقة التي وصلت بها إلى حلب، ومن الوارد جدا أنها وصلت إلى تلك المدن عبر حلب. حلب كانت عاصمة سورية لحوالي ألف سنة حتى نهاية الدولة العثمانية ولا بد أنها أثرت ثقافيا على سورية خلال هذه الحقبة الطويلة.