خلال السنوات العشر الماضية أنتجت الكثير من المسلسلات المتعلقة بعصر الإسلام الباكر.

أنا بصراحة لم أشاهد أيا من هذه المسلسلات. هي لا تجذبني لأنها تبدو في غاية الركاكة سواء من حيث اللغة أو القصة أو التمثيل أو الإخراج أو الإنتاج. هي لا تستحق إضاعة الوقت في مشاهدتها.

قبل فترة شاهدت مقطعا من مسلسل “عمر” الذي يحكي قصة عمر بن الخطاب. المقطع جذبني لمشاهدة معظم المسلسل.

هذا المسلسل هو بصراحة قفزة نوعية في المسلسلات والأفلام المتعلقة بالعصر الإسلامي الباكر. أهم ميزة في هذا المسلسل هي اللغة الفصيحة المستخدمة فيه. لا أدري من الذي كتب السيناريو، ولكن من الواضح أنه شخص ملم باللغة العربية التي كانت مستخدمة في العصر الإسلامي الباكر. يبدو أن المخرج استعان بتقنية معينة لإجبار الممثلين على نطق السيناريو بشكل صحيح بعيدا عن اللحن اللغوي الذي يميز عادة مثل هذه المسلسلات.

السبب الأساسي الذي شدني لمشاهدة المسلسل هو لغته السليمة. عندما تشاهد ممثلين ينطقون بلغة ركيكة تعود إلى زماننا الحالي على أساس أنها لغة مستخدمة في صدر الإسلام فإنك لا تشعر بالفعل أنك تشاهد مسلسلا تاريخيا.

هناك ميزات نوعية أخرى في هذا المسلسل غير قضية اللغة. لفتني في المسلسل الكيفية التي أظهر بها كفار قريش وسجاح التميمية. في العادة هذه الشخصيات تصور في المسلسلات على نحو سطحي وأقرب للتهريج، ولكن مخرج هذا المسلسل حاول أن يصور هذه الشخصيات على نحو درامي حقيقي، وهو نجح في ذلك إلى حد ما (هو طبعا مقيد بقيود دينية معينة).

ما فشل المسلسل في تخطيه هو القيود المتعلقة بتصوير الصحابة والرسول. بالنسبة للرسول فالمخرج تجاهله بشكل شبه كامل (وخيرا فعل، لأن لا فائدة من إظهار الرسول في ظل القيود الكثيرة المفروضة على تصوير هذه الشخصية)؛ الصحابة ظهروا في المسلسل (كالعادة) كشخصيات جامدة مصطنعة (أوضح مثال هو شخصية علي بن أبي طالب التي ظهرت في المسلسل وكأنها مجرد تمثال. بالمناسبة شكل علي بن طالب كما ظهر في المسلسل يتناقض مع شكله الموصوف في الروايات).

أسوأ ما في المسلسل في رأيي هو بعض المغالطات التاريخية الفاقعة.

هذه المغالطات هي ليست خاصة بهذا المسلسل ولكنها تتكرر دائما في المسلسلات المتعلقة بهذه الحقبة، وأنا أستغرب استمرار المخرجين في تكرار هذه المغالطات السخيفة والمضحكة.

زي المقاتلين الروم

في كل المسلسلات المتعلقة بالفتح الإسلامي للشام يظهر الجنود الروم وهم يرتدون هذا الزي:

هذا الزي يظهر غالبا في الأفلام الأجنبية المتعلقة بروما في زمن يوليوس قيصر أو أغسطس قيصر. المخرجون العرب نقلوا هذا الزي إلى سورية في القرن الميلادي السابع. بعضهم تكلف ربما الكثير من الوقت والجهد لتوفير هذا الزي واستخدامه في التصوير، ولكن لا أحد منهم وجد الوقت والجهد لكي يسأل عن الزي الحقيقي الذي كان مستخدما في سورية في القرن الميلادي السابع، مع أن المسألة ليست صعبة.

الروم في القرون السابقة للفتح الإسلامي خاضوا الكثير من الحروب ضد الفارثيين والهون والترك والقوط ونحو ذلك من الشعوب التي تحارب بالرماية من على ظهور الخيل. هم تخلوا عن أسلوب الحرب الروماني القديم الذي كان متبعا في زمن يوليوس قيصر، لأن هذا الأسلوب لا يصلح لمواجهة شعوب تحارب من على ظهور الخيل (وإلا فإن النتيجة ستكون هزيمة كارثية على غرار الهزيمة في معركة حرّان). في القرن الميلادي السابع الجيوش الرومية كانت تعتمد أساسا على الخيالة ذوي الدروع الثقيلة. هيئتهم كانت ربما شبيهة بهيئة الخيالة الأوروبيين في القرون الوسطى:

الشيء المضحك في المسلسلات العربية (ومنها مسلسل عمر) هو أن الجيش الرومي يظهر مكونا بمعظمه من مشاة يرتدون زيا رومانيا قديما ويحاربون بطريقة قديمة عفى عليها الدهر. من يشاهد هذه المسلسلات يظن أن معركة اليرموك دارت في إيطاليا في القرن الميلادي الأول.

شطب اليمنيين

أكبر وأفدح مغالطة تاريخية في مسلسل عمر (وغيره) هي شطب الشعوب الحقيقية التي خاضت معركة اليرموك.

من يشاهد هذه المسلسلات يظن أن قبيلة قريش هي التي انتصرت في معركة اليرموك، وهذا بصراحة كلام مضحك، لأن قبيلة قريش هي ليست قبيلة بدوية حقيقية ولكنها مجرد مجموعة من التجار الذين يسيرون القوافل بين الشام واليمن. قريش ما كانت تستطيع أن تهزم قبيلة عربية، ناهيك عن أن تهزم جيشا روميا عرمرما.

قريش لم تكن تحارب العرب برجالها ولكنها كانت تستعين بأحلافها من البدو الذين يسكنون حول مكة، وخاصة قبيلة كنانة. حتى في الحروب بين قريش والرسول أنا لا أظن أن القرشيين حاربوا برجالهم إلا في يوم بدر.

من المعروف تاريخيا أن معظم المقاتلين العرب الذين خاضوا معركة اليرموك كانوا من اليمنيين. اليمنيون هم الذين فتحوا الشام ومصر والمغرب والأندلس، ولكن المسلسلات تتجاهلهم تماما ولا تشير لهم من قريب أو بعيد. المقاتلون العرب يظهرون في المسلسلات بزي موحد دونما تمايز في الشكل أو اللباس، وهذا شيء عجيب. في التاريخ الحقيقي لا بد أن أغلب المقاتلين الذين حاربوا في يوم اليرموك كانوا ذوي هيئة يمانية.

شطب النبيط

مسلسل “عمر” يصور سورية البيزنطية على أنها مكونة من الروم والعرب فقط.

أنا لا أعرف بالضبط ما الذي يقصده المسلسل بكلمة “الروم”، ولكن الروم الذين ظهروا في المسلسل كانوا يرتدون أزياء رومانية تعود إلى زمن يوليوس قيصر، والشيء المضحك هو أن هؤلاء ظهروا بكثافة في مدينة دمشق.

سكان سورية البيزنطية كانوا ينتمون إلى ثلاثة أجناس:

• الناطقون بالآرامية
• الناطقون بالعربية
• الناطقون بالرومية (اليونانية)

الناطقون باليونانية (الذين يسمون بـ”الروم”) كانوا أقلية ضئيلة في سورية. هم كانوا يشكلون كثافة في أربع مدن تسمى “رباعي المدن السورية” Syrian tetrapolis. هذه المدن الأربع هي أنطاكية و Seleucia Pieria (في لواء إسكندرون) وأفامية (في سهل الغاب) واللاذقية.

بالنسبة لحلب وحمص ودمشق فهي كانت مسكونة بغالبية من الناطقين بالآرامية والعربية، وأقلية ضئيلة من الروم.

الناطقون باللغة العربية في سورية لا ينحصرون في قبيلة غسان التي يشير إليها مسلسل عمر. هناك عرب أقدم من ذلك بكثير كانوا يسكنون المدن السورية. على سبيل المثال، سكان حمص كانوا منذ القرن الميلادي الأول (على الأقل) يعبدون إلها اسمه Elagabalus. هذه الكلمة هي عربية الأصل (إله الجبل). بالنسبة لجبل لبنان فالكتاب الرومان أشاروا إلى وجود العرب فيه منذ ما قبل الميلاد. ما يبدو هو أن استيطان العرب في سورية بدأ في حدود 500 قبل الميلاد (في نفس الزمن الذي ظهرت فيه مملكة الأنباط).

الناطقون بالآرامية كانوا يعرفون لدى العرب باسم النَّبَط أو النَّبِيط. هذه الكلمة كانت تطلق أيضا على العرب الذين يعملون في الفلاحة. في الزمن الإسلامي الباكر أغلب الفلاحين في المشرق العربي كانوا ينطقون بالآرامية. لهذا السبب كلمة “النبط” تشير في الغالب إلى الناطقين بالآرامية.

مسلسل عمر لم يشر إلى النبط من قريب أو بعيد. المسلسل أظهر سكان دمشق على أنهم مزيج من الروم والعرب. في التاريخ الحقيقي وجود الروم في مدينة دمشق كان على الأغلب ينحصر في الطبقة الحاكمة، وأما سواد الشعب فكانوا مزيجا من العرب والنبيط.

ترويم جيش اليرموك

الجيش “الرومي” الذي حارب في معركة اليرموك كان يحوي ربما القليل من الروم. غالبية مقاتلي هذا الجيش كانوا ربما من السوريين النبيط والعرب ومن الأرمن (بالإضافة ربما إلى مقاتلين روم من الأناضول وجورجيين من جنوب القوقاز وبعض الأوروبيين).

قائد العرب في الجيش الرومي كان جبلة بن الأيهم الغساني، وقائد الأرمن كان Vahan. بعض المصادر الإسلامية اعتبرت “ماهان” (أي Vahan) قائدا عاما للجيش الرومي، ولكن هذا ربما هو ليس صحيحا. القائد العام للجيش الرومي كان Theodore Trithourios the Sakellarios (اسمه في المصادر الإسلامية “صقلارخصي” أو “صقلار”).

الأرمن كانوا يشكلون نسبة كبيرة في جيش اليرموك لأن أرمينيا آنذاك كانت تقع إلى الشمال مباشرة من سورية، وبالتالي هي كانت قريبة جغرافيا من مكان الحرب.

دمشقة سورية

مسلسل عمر اختصر سورية في مدينة دمشق. في الحلقة 28 الدقيقة 29 تقول إحدى الشخصيات “أما الشام فقد صارت كلها إلى المسلمين إلا بيت المقدس، وعسى أن يفتحها الله علينا قريبا”. من هذا الكلام نفهم أن “الشام” لدى كاتب نص المسلسل تنحصر في المناطق التي فتحها المسلمون قبل بيت المقدس، فما هي هذه المناطق؟

• دمشق فتحت في أيلول 634
• حمص فتحت في آذار 636
• بيت المقدس فتحت في نيسان 637
• خلقيس فتحت في حزيران 637
• حلب وأنطاكية في تشرين الأول 637
• وبعد ذلك اللاذقية وجبلة وطرطوس

كاتب نص مسلسل عمر لا يعتبر خلقيس وحلب وأنطاكية والساحل السوري جزءا من الشام، وهذا بصراحة قول عجيب، لأن المناطق المذكورة كانت تحوي ربما ثلثي سكان سورية البيزنطية. مدينة دمشق آنذاك كانت ربما السادسة أو السابعة في سورية من حيث عدد السكان. أكبر مدينة كانت أنطاكية، والمدينة الثانية بعدها كانت حلب.

تجهيل العرب بأسلحة الحصار

من المغالطات الشنيعة جدا التي وردت في مسلسل عمر الزعم بأن العرب لم يكونوا يعرفون أسلحة الحصار (المنجنيق والدبابة) قبل قدومهم إلى الشام. في المسلسل هناك مشهد يظهر فيه أبو عبيدة بن الجراح وهو يطلب من بعض العرب في حمص أن يعلموه كيفية الرمي بالمنجنيق!

ما يلي ورد في سيرة ابن هشام:

الرسول أول من رمى بالمنجنيق

قال ابن هشام : ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق . حدثني من أثق به ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق ، رمى أهل الطائف .

يوم الشدخة

قال ابن إسحاق : حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف ، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار ، فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس فيها يقطعون.

من المعروف أن المسلمين استخدموا المجانيق والدبابات في حرب الطائف (التي كانت حربا شنيعة وانتهت نهاية فظيعة). أيضا نحن نعلم أن الرسول فتح العديد من حصون اليهود في الحجاز، وأنا لا أدري كيف أمكن له أن يفتحها دون أسلحة حصار.

حروب الحصار لم تكن شيئا جديدا على العرب. رواية ابن هشام تدل على أن الطائف كانت محاطة بسور مجهز بوسائل دفاعية (سكك حديد محماة بالنار).

على الأغلب أن العرب لهم باع قديم في حروب الحصار، ومن الوارد أن أسلحة الحصار كانت تصنع محليا (من يصنعها كانوا ربما من الحرفيين اليهود).

تشويه واقع حال الفرس

من الأمور الغريبة في مسلسل عمر هو كيفية تصويره لنفسيات قادة الفرس. المسلسل يظهر قادة الفرس على أنهم مذعورون من العرب ويخشون انتصار العرب عليهم.

السبب الرئيسي لهزيمة الفرس أمام العرب هو الغطرسة الهائلة التي أبداها الفرس خلال هذه الحرب. قادة الفرس رفضوا الإقرار بهزيمتهم أمام العرب وظلوا يكابرون حتى معركة نهاوند التي أدت إلى استئصال شأفتهم نهائيا.

الروم بعد هزيمتهم في سورية قبلوا بالأمر الواقع. هم اعترفوا بالهزيمة وانسحبوا شمالا إلى ما وراء جبال طوروس. العرب لم يتابعوهم لأنهم كانوا منشغلين بأمور أخرى (منها مثلا تنظيم البلاد التي فتحوها). الروم استفادوا من توقف الحرب وأعادوا بناء أنفسهم بشكل جذري. هم غيروا طريقة تكوين جيشهم وغيروا طريقة التسليح والقتال. هم درسوا هزيمتهم أمام العرب واستخلصوا منها العبر، وبعد ذلك مالوا مجددا على العرب وانتزعوا منهم قبرص وأنطاكية وحتى حلب في العصر العباسي.

سلوك الفرس كان مختلفا تماما.

العرب بعد غزوهم للعراق لم تكن لديهم نية لغزو إيران. ما يلي ورد في تاريخ الطبري:

قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز . وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم . كما قال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار ، لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم .

عمر بين الخطاب كان يريد الاكتفاء بالسواد والأهواز. هو لم يكن يريد أن يعبر جبال زاغروس ويتوغل في الهضبة الإيرانية. هو كان يتمنى لو أن هناك جبلا من نار يفصل بين السواد والأهواز وبين فارس. المقصود هو أنه كان يتمنى لو أن الفرس يقبعون وراء جبال زاغروس ولا يحاولون العودة إلى العراق والأهواز.

لو كان الفرس عقلاء لكانوا فعلوا ذلك. بعد هزيمتهم الهائلة والشنيعة في السواد والأهواز كان يجب عليهم أن ينسحبوا إلى ما خلف الجبال ويدرسوا هزيمتهم ويستخلصوا منها العبر. لو فعلوا ذلك لكانت دولتهم استمرت لقرون أخرى.

قادة الفرس رفضوا الإقرار بالهزيمة. هم ظلوا مصرين على أنهم لم يخسروا الحرب. بالنسبة لهم الإقرار بالهزيمة أمام العرب كان شيئا مستحيلا وغير وارد، لأن العرب (من وجهة نظرهم) هم مجرد حشرات وجرذان وإرهابيين وتكفيريين ونحو ذلك. هذه العنجهية والانفصال عن الواقع جعلتهم يصرون على قتال العرب حتى النهاية. هم رفضوا إيقاف الحرب وظلوا يقاتلون حتى وصل العرب إلى خراسان واستأصلوهم من الهضبة الإيرانية بالكامل.

هذه العنجهية التي سيطرت على قادة الدولة الساسانية تشبه نوعا ما العنجهية التي تسيطر اليوم على قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. من يستمع اليوم إلى قادة إيران لا يسمعهم يتحدثون أبدا عن الهزيمة. هم يتحدثون دائما عن الانتصار ويصرون على أنهم هزموا العرب وتركيا وإسرائيل وأميركا وأوروبا إلخ.

على الأغلب أن مناخ قادة الدولة الساسانية كان شبيها بمناخ قادة إيران المعاصرين. مسلسل عمر أظهر قادة الدولة الساسانية على أنهم مذعورون ومنكسرون. أنا أشك في ذلك. أنا أظن أن قادة الدولة الساسانية كانوا حتى اللحظة الأخيرة مصرين على أنهم سيربحون الحرب وسيطردون العرب من إيران والسواد وسيلاحقونهم إلى المدينة ومكة.

دخول عمرو بن العاص إلى الإسكندرية

مشهد دخول عمرو بن العاص إلى الإسكندرية فاتحا هو من أسخف المشاهد في المسلسل. عمرو بن العاص يظهر في المشهد مبهورا مذعورا وكأنه أعرابي يدخل إلى مدينة كبيرة لأول مرة في حياته. عمرو بن العاص كان يعرف الإسكندرية قبل فتحه لها، وهو كان قائد لجيش دخل المدينة فاتحا. لا يوجد سبب لإظهاره مبهورا مذعورا  أثناء دخوله للمدينة على رأس جيشه.