بداية البداوة الرعوية في شرق آسيا

جميع الثقافات البرونزية شرق الآسيوية التي ذكرناها حتى الآن لم تكن ثقافات بدوية. الحياة البدوية في شرق آسيا بدأت لأول مرة في ثقافة تسمى Slab Grave Culture. هذه الثقافة بدأت في 1100 قبل الميلاد واستمرت حتى 500 قبل الميلاد.

عصر الحديد في منغوليا بدأ تقريبا في 800 قبل الميلاد، وفي الصين في 600 قبل الميلاد. بالتالي ثقافةSlab Grave  تعتبر ثقافة برونزية متأخرة وحديدية باكرة.

ثقافة Slab Grave امتدت في القسمين الشرقي والأوسط من منغوليا، ولكنها لم تمتد نحو القسم الغربي من منغوليا وجبال ألطاي. القسم الشمالي الغربي من منغوليا كان تابعا لثقافة Karasuk وبعدها ثقافة Tagar. منطقة بحيرة بيكال بضفيتها كانت تابعة لثقافة Slab Grave، وخاصة الضفة الشرقية والمنطقة المسماة Transbaikalia.

الخلاصة هي أن منغوليا خلال عصر الحديد الباكر كانت مقسومة إلى قسمين، قسم شرقي تابع لقبائل Slab Grave، وقسم غربي تابع لقبائل Karasuk و Tagar. الباحثون الروس يقولون أن قبائل Slab Grave كانت منغولانية Mongoloid، وأما قبائل Karasuk فهي محل جدل (تحدثنا عنها في الجزء السابق). الأرجح في رأيي هو أن قبائل Karasuk كانت خليطا من الإيرانيين ومن شعب آخر (ربما ينيسي Yeniseian يحمل العلامة Haplogoup Q). بالنسبة لقبائل Tagar فهي كانت قبائل إسقوثية إيرانية.

قبائل Slab Grave كانت على الأغلب ألطائية اللغة. هذه القبائل هي أولى القبائل البدوية الألطائية. خلال الألفية الثانية قبل الميلاد كانت هناك فقط قبائل بدوية إيرانية (وربما تخارية Tocharian). هذه القبائل البدوية الإيرانية (والتخارية) لم تدخل أبدا إلى منغوليا بشكل جدي. هي ربما دخلت بهدف التجارة والتعدين فقط ولكن ليس بهدف الاستقرار في السهل المنغولي. في الألفية الأخيرة قبل الميلاد بدأ الألطائيون بتشكيل قبائلهم البدوية واستيطان السهل المنغولي لأول مرة، وخاصة أقسامه الشرقية والوسطى.

من أين أتت قبائل Slab Grave؟ هذا السؤال ليس له جواب أكيد. بعض الباحثين الروس قالوا أن هذه القبائل هي متحدرة من ثقافة Glazkov البرونزية التي كانت تسكن في منطقة بحيرة بيكال خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. هذا الطرح يبدو منطقيا لعدة أسباب. من هذه الأسباب أن ثقافة Glazkov كانت قريبة من ثقافةAndronovo  البدوية الإيرانية (التي امتدت نحو منخفض Minusinsk وغطت مناطق ثقافة Afanasevo). من الممكن أن أصحاب ثقافة Glazkov تعلموا البداوة من ثقافة Andronovo وما لحقها من ثقافات ذات طابع إيراني في منطقة منخفض Minusinsk.

الباحثون الروس الذين قرأت طروحاتهم يعتقدون أن ثقافة Glazkov كانت تتحدث لغة طنغوسية، وبالتالي القبائل التي شكلت ثقافة Slab Grave كانت أيضا تتحدث لغة طنغوسية حسب رأيهم. بالنسبة لي هذا الطرح هو ليس طرحا منطقيا.

الاحتمال الآخر هو أن قبائل Slab Grave كانت تتحدث لغة منغولية. هذه النظرية هي شائعة في العديد من المصادر، ولكنها لا تتوافق مع السيناريوهات التي تبنيتها في مقالاتي. في زمن ثقافة Slab Grave كانت هناك في منشوريا ثقافة مستقلة تسمى Upper Xiajiadian culture. هذه الثقافة هي ثقافة زراعية برونزية بدأت في حدود 1000 قبل الميلاد وانتهت في حدود 600 قبل الميلاد. الباحثون لاحظوا في هذه الثقافة بوادر انتقال نحو البداوة الرعوية وتشكيل قبائل بدوية رعوية على غرار قبائل Slab Grave والقبائل الإسقوثية. البعض يعتقدون أن هذه الثقافة كانت طنغوسية، ولكنها في رأيي كانت منغولية، لأن المنغوليين تاريخيا شكلوا قبائل بدوية رعوية (بعد الأتراك وليس قبلهم)، وأما الطنغوس فأنا لم أسمع بأنهم شكلوا قبائل بدوية رعوية.

ثقافة Upper Xiajiadian culture تعبر ربما عن الشعب الذي سماه الصينيون 东胡 Dōng Hú. حسب المصادر الصينية القديمة فإن هذا الشعب كان يسكن في منشوريا منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل. لاحقا هذا الشعب أنتج قبائل بدوية أهمها قبيلتان كبيرتان هما 鲜卑 Xiān bēi و 乌桓 Wū huán. كلتا هاتين القبيلتين كانتا تتحدثان نفس اللغة حسب ما ذكره الكتاب الصينيون القدماء. بعض الباحثين المعاصرين يرون أن هاتين القبيلتين كانتا تتحدثان اللغة المنغولية.

هناك احتمال آخر بالنسبة لقبائل Slab Grave وهو أنها كانت تتحدث لغة ألطائية منقرضة غير معروفة لنا. هذا الاحتمال يمكن أن يكون صحيحا لو فرضنا مثلا أن ثقافة Slab Grave هي متحدرة من ثقافة Zhukaigou البرونزية في جنوب منغوليا (تحدثت عنها سابقا). هذه الثقافة كانت متأثرة بالهندو-أوروبيين على الأغلب، ولكن لا يوجد دليل على أن لغتها كانت هندو-أوروبية. الأرجح هو أنها كانت تتحدث لغة ألطائية. من الممكن أن هذه اللغة الألطائية كانت منغولية أو تركية، ولكن من الممكن أيضا أنها كانت لغة ألطائية منقرضة غير معروفة الآن.

الاحتمال الأخير هو أن قبائل Slab Grave كانت تتحدث اللغة التركية البدائية Proto-Turkic. بالنسبة لي هذا الاحتمال هو احتمال جدي جدا. الافتراض بأن هناك لغة ألطائية انتشرت في السهول الأوراسية قبل اللغة التركية هو مجرد فرضية غيبية لا يوجد ما يدعمها. مثل هذه الفرضيات الغيبية هي غير محبذة في العلم الحديث. المحبذ في العلم الحديث هو بناء النظريات على أساس المعطيات الملموسة. المعطيات الملموسة التي بأيدينا هي أن الأتراك هم أول أمة ألطائية انتشرت في السهول الأوراسية. حسب علمي لا يوجد دليل ملموس على أن هناك لغة ألطائية انتشرت نحو الغرب قبل اللغة التركية.

الأتراك اليوم هم أكثر عددا بكثير من المنغوليين والطنغوسيين (عدد المنغوليين والطنغوسيين هو أقل من 10 ملايين، وأما عدد الأتراك فهو بحدود 170 مليون). هذا يتوافق مع كون الأتراك أولى الأمم الألطائية التي كونت قبائل بدوية وانتشرت في السهل الأوراسي في زمن باكر. كثير من الناطقين بالتركية اليوم كانوا في الماضي ينطقون بلغات أخرى (خاصة إيرانية). الانتشار الباكر للأتراك في السهل الأوراسي أتاح الوقت لتتريك عدد هائل من الإيرانيين الذين كانوا يسكنون في غرب منغوليا وآسيا الوسطى وسهل البحر الأسود-قزوين وأذربيجان، ولاحقا أيضا تم تتريك الأناضول الناطق باليونانية.

من يدرس الأتراك عرقيا وجينيا ولغويا سيكتشف بسهولة أنهم أكثر الأمم الألطائية اختلاطا مع الإيرانيين والهندو-أوروبيين. هذا الأمر لوحده يدعم الطرح القائل بأن الأتراك هم أولى الأمم الألطائية التي تعلمت البداوة من الإيرانيين وانتشرت غربا.

بسبب كل ما سبق أنا سأفترض أن الثقافة المسماة Slab Grave Culture هي ثقافة الأتراك البدائيين Proto-Turks. هذه الثقافة بدأت في 1100 قبل الميلاد وانتهت في 500 قبل الميلاد. تاريخ انتهائها يتوافق مع تاريخ تفرق اللغة التركية البدائية Proto-Turkic إلى عدة لغات كما ذكر بعض دارسي اللغات التركية.

الشكل التالي يلخص بعض الأمور التي ذكرتها. هذا الشكل يظهر مواطن الأتراك البدائيين والمنغوليين البدائيين في 600 قبل الميلاد، أي قبيل تفرق كل من هاتين الثقافتين. يرجى الانتباه إلى أن هذا الشكل هو مجرد نظرية.

الجزء التالي