الـ Cossacks والإمبراطورية الروسية

تحدثت في مقال سابق عن مملكة الروس الكييفيين Kievan Rus التي هي أول مملكة روسية أو سلافية شرقية معروفة تاريخيا.

هذه الخريطة تبين أقدم انتشار معروف للقبائل السلافية الشرقية (في القرنين الميلاديين الثامن والتاسع):

المنطقة التي كان السلافيون الشرقيون يعيشون فيها هي منطقة من الغابات ذات المناخ المطير. إلى الشمال والشمال الشرقي من هذه المنطقة تقع غابات التايغا taiga الصنوبرية ذات المناخ البارد الجاف (مناخ تحت قطبي subarctic). إلى الجنوب والجنوب الشرقي من الغابات تقع منطقة سهلية واسعة ذات مناخ شبه جاف semiarid تسمى أحيانا “سهل البحر الأسود” Pontic steppe (أو “سهل البحر الأسود-قزوين” Pontic-Caspian steppe).

التنوع البيئي في أوروبا الشرقية يتوافق مع التنوع اللغوي. منطقة التايغا وجبال الأورال هي مهد عائلة اللغات الأورالية Uralic (اللغة الفنلندية هي متحدرة من هذه العائلة). منطقة الغابات المطيرة هي مهد السلافيين الشرقيين، وهي على الأغلب مهد العائلة السلافية بأكملها. بالنسبة للمنطقة السهلية التي تقع شمال البحر الأسود وشمال القوقاز حتى بحر قزوين فهي تعتبر من الناحية البيئية امتدادا لمنطقة آسيا الوسطى. طبيعة هذه المنطقة لم تكن تشجع كثيرا على الاستقرار. لهذا السبب هذه المنطقة شهدت عبر التاريخ الكثير من التقلب السكاني، وبالتالي اللغوي. أقدم الشعوب المعروفة في هذه المنطقة كانت تتحدث لغات تنتمي للعائلة الإيرانية (أو لعوائل لغوية قريبة من العائلة الإيرانية). بعد ذلك أتت الشعوب التركية من آسيا الوسطى. بالتالي يتبين أن التاريخ اللغوي لهذه المنطقة يشبه التاريخ اللغوي لآسيا الوسطى الذي تطرقت له في مقالات سابقة.

عندما ظهر الروس في التاريخ (مع ظهور مملكة الروس الكييفيين) كانت توجد في منطقة سهل البحر الأسود مملكة تركية تسمى مملكة الخَزَر Khazar.

مملكة الخزر في أقصى اتساعها

إلى الشرق من الروس الكييفيين وإلى الشمال من الخزر (قرب جبال الأورال على القسم الشمالي من نهر الفولغا) كانت توجد مملكة البلغار Bulgar (البلغار هم شعب أورالي الأصل هاجر لاحقا نحو البلقان إلى الدولة التي تسمى حاليا بلغاريا).الروس الكييفيون حاولوا أن يتمددوا جنوبا نحو سهل البحر الأسود، وهذا جعلهم في صدام مع الخزر.

في القرن 13 وصلت موجة جديدة من جهة آسيا الوسطى هي الموجة المغولية. هذه الموجة أسقطت دولة الروس الكييفيين وأوصلت شعوبا تركية جديدة إلى سهل البحر الأسود هي التتار Tatar. التتار هم مجموعة من الشعوب التركية التي تتحدث لغات تركية شمالية غربية (هذا التصنيف يضم أيضا لغة القزق أو الكزخ في الدولة المسماة حاليا كزخستان). التتار كانوا متحالفين مع المغول، ولهذا السبب فإن الناس في ذلك الزمن أطلقوا تسمية “التتار” على المغول.

خريطة تبين التوزع المعاصر للغات التركية الشمالية الغربية Northwestern Turkic
إمارات الروس الكييفيين قبيل الغزو المغولي-التتري

التتار (تحت قيادة المغول) استقروا في سهل البحر الأسود وأسسوا دولة كبيرة سميت “الجَمْع الذهبي” Golden Horde. هذه الدولة سيطرت على الروس وجعلتهم أتباعا لها يدفعون لها الجزية.

أصل الدولة الروسية المعاصرة يعود إلى إمارة موسكو، التي هي إمارة روسية شمالية كانت تابعة للجمع الذهبي. إمارة موسكو توسعت تدريجيا وتمردت في النهاية على الجمع الذهبي (في عام 1480).

توسع إمارة موسكو (اسم موسكو في اللغة الروسية هو Moskva)

إمارة موسكو تحولت إلى قيصرية (يحكمها قيصر) في عهد إيفان الرابع Ivan IV الملقب بإيفان الرهيب Ivan the Terrible (تولى الحكم في عام 1547). لكي تتمكن قيصرية موسكو من التوسع في سهل البحر الأسود (وما وراءه) كان يجب عليها أن تخضع الكثير من الشعوب السهلية القبائلية المتمرسة في ركوب الخيل والرماية. هذا لم يكن أمرا سهلا. رغم ذلك فإن قياصرة موسكو نجحوا في السيطرة على سهل البحر الأسود. ليس هذا فقط بل هم تمددوا شرقا نحو سيبيريا، وبعد ذلك سيطروا حتى على آسيا الوسطى.

السر وراء هذه النجاحات يكمن في تحالف قياصرة موسكو مع الشعوب السهلية المسماة Cossacks (بالروسية kazakí، المفرد kazak).

الـ Cossacks هم شعوب ذات لغات سلافية شرقية (أوكرانية وروسية) كانوا يسكنون في منطقة سهل البحر الأسود. من غير المعروف ما هو أصل هذه الشعوب وكيف ومتى وصلت إلى سهل البحر الأسود. النظرية التقليدية تقول أن الـ Cossacks الأوائل كانوا فلاحين أوكرانيين وروس هربوا من إمارة موسكو في القرنين 14 و15 ووصلوا إلى منطقة السهل وأسسوا مجتمعات جديدة تقوم على زراعة القمح ورعاية الماشية.

هناك باحثون أشاروا إلى التشابه الواضح بين تسمية الـ Cossacks وبين تسمية القزق أو الكزخ (الشعب التركي الذي يسكن كزخستان). كلمة Cossack في الروسية هي هكذا казак kazak، واسم القزق هو هكذا казах kazakh. كلتا الكلمتين لهما أصل واحد على ما يبدو.

بعض الباحثين يرون أن الـ Cossacks الأصليين كانوا أتراكا وأنهم “تسلفوا” (أصبحوا سلافيين) بسبب الهجرات السلافية من الشمال.

الـ Cossacks المعروفون تاريخيا كانوا (وما زالوا) يتحدثون لهجات من اللغتين الأوكرانية والروسية. هذا الأمر سهل التحالف بينهم وبين قياصرة موسكو. الـ Cossacks كانوا شعوبا سهلية متمرسة في ركوب الخيل، وهذا سهل عليهم غزو الشعوب التركية والسيبيرية التي كانت (وما زالت) تسكن في سهل البحر الأسود وسيبيريا.

توسع الإمبراطورية الروسية

منزلة الـ Cossacks تصاعدت في الإمبراطورية الروسية إلى أن أصبحوا أشبه بطبقة من المحاربين أو “القوات الخاصة”. القياصرة الروس كانوا يستعينون بهم لقمع الثورات الداخلية وليس فقط للغزو الخارجي، أي أنهم كانوا يؤدون دورا شبيها بدور الإنكشاريين في السلطنة العثمانية (ولكن طبعا الإنكشاريون لم يكونوا شعبا أو فئة إثنية كما هو حال الـ Cossacks). خلال الحرب الأهلية الروسية (في بداية القرن العشرين) انحاز الـ Cossacks إلى الجيش الأبيض المناوئ للشيوعيين. هذا كان من الأسباب التي جعلت الاتحاد السوفييتي ينكل بهم، ولكن التنكيل السوفييتي بالـ Cossacks له أسباب إضافية تتعلق بالإديولوجية الشيوعية. الـ Cossacks لا يتوافقون مع النظرة الشيوعية للمجتمع والدولة. لهذا السبب الحكومة السوفييتية سعت للقضاء عليهم. كثير من الباحثين وصفوا سياسة الاتحاد السوفييتي تجاه الـ Cossacks بالتطهير العرقي.

رغم أن الاتحاد السوفييتي كان معاديا للـ Cossacks إلا أنني وجدت أغاني سوفييتية تمجد الـ Cossacks (من تنفيذ “جوقة الجيش الأحمر” Red Army Choir). لا أدري ما هي قصة هذه الأغاني، ولكن يبدو لي أنها أغانٍ موروثة، أو هي ربما تعبر عن الاعتزاز بالتاريخ الروسي. الـ Cossacks لعبوا دورا مهما في بناء الإمبراطورية الروسية وإيصالها إلى شكلها الحالي.

هذه أغنية من أغاني الجيش الأحمر المتعلقة بالـ Cossacks.

4 آراء حول “الـ Cossacks والإمبراطورية الروسية

  1. هناك معلومة نسيت أن أذكرها في المقال رغم أنها تستحق أن تذكر:

    في زمن الحكم التتري انقسمت بلاد الروس أو السلافيين الشرقيين إلى ثلاثة أقسام:

    -روسيا الكبرى Velikorossiya (اللغة المحكية فيها هي اللغة الروسية المعروفة حاليا)
    -روسيا الصغرى Malorossiya (لغتها هي اللغة الأوكرانية)
    -روسيا البيضاء Belorússiya (لغتها هي اللغة البيلاروسية)

    هذه الأقسام الثلاثة تعادل حاليا روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا. هذه الدول أو الشعوب الثلاثة هي متحدرة من مملكة الروس الكييفيين، الذين هم نفسهم “السلافيون الشرقيون”.

  2. بالنسبة للغنية ياللي بتمجد بالقزق٫ بتوقع انا بتعود لفترة الحرب العالمية الثانية و خاصة بين سنوات ال ١٩٤٠ وال ١٩٤٣ و اللي كانت هي الاصعب على السوفييت و كانوا عحافة اليآس٫ خلال هالفترة هي صار في نوع من التراخي الشيوعي مع الكنيسة و القومية الروسية لتشجيع الكل عحرب النازيين

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s