الفراغ (3)

هذا المقال يتعلق بالفيزياء، وأنا لست متعمقا في الفيزياء، ولكنني سأكتب بعض المعلومات العامة التي أعرفها.

الفيزياء تقسم إلى قسمين:

  • فيزياء كلاسيكية classical physics (قبل القرن العشرين)
  • فيزياء حديثة modern physics (منذ القرن العشرين)

هناك اختلافات عديدة بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الحديثة. أحد أهم الاختلافات يتعلق بمفهوم الفراغ أو الفضاء space.

الفراغ الإقليدي

الفيزياء الكلاسيكية تستند إلى الهندسة الإقليدية Euclidean geometry المنسوبة إلى اليوناني إقليدس (Eu̓kleídēs) Εὐκλείδης الذي عاش في الإسكندرية بين القرنين الميلاديين الثالث والرابع.

الفراغ space في الهندسة الإقليدية يحلل إلى “أبعاد” dimensions. المقصود بالأبعاد هو الاتجاهات الأساسية التي يمكن للمرء أن يتحرك فيها في الفراغ.

three dimensions space Euclidean

هناك عدد لا نهائي من الاتجاهات التي يمكن للمرء أن يتحرك فيها في الفراغ، ولكن كل هذه الاتجاهات يمكن اعتبارها مركبة من ثلاثة اتجاهات أساسية تسمى “الأبعاد الثلاثة” three dimensions (اختصارا 3D).

الفيلسوف الفرنسي René Descartes اخترع طريقة لوصف مواقع النقاط في الفراغ على أساس الأبعاد الثلاثة. هذه الطريقة تسمى نظام الإحداثيات الديكارتي Cartesian coordinate system. لوصف موقع نقطة ما في الفراغ بناء على هذا النظام فإننا يجب أن نحدد ثلاثة أرقام تسمى إحداثيات coordinates. الإحداثيات تكتب بين قوسين على هذا النحو (0, 0, 0). كل رقم من الإحداثيات يحدد موقع النقطة على أحد الأبعاد الفراغية الثلاثة.

طبعا لا يوجد شيء يلزمنا بأن نفهم الفراغ المحيط بنا على أساس الأبعاد الديكارتية. هذه الأبعاد هي مجرد اصطلاح هندسي وليست أكثر من ذلك. من الممكن لنا أن نرسم الأبعاد بصورة مختلفة عن الصورة التي رسمها ديكارت. الرسم التالي يوضح أبعادا غير ديكارتية:

هذا الرسم يعبر عن فراغ إقليدي ثلاثي الأبعاد، ولكن محاوره أو أبعاده هي ليست ديكارتية، لأنها مائلة. المحاور أو الأبعاد الديكارتية هي ليست مائلة.

الفراغ الإقليدي لا يجب بالضرورة أن يكون ثلاثي الأبعاد. الصورة التالية هي لفراغ إقليدي ثنائي الأبعاد:

من الممكن أيضا أن يكون هناك فراغ إقليدي أحادي البعد:

الفراغ الإقليدي أحادي البعد هو عبارة عن خط مستقيم. الفراغ الإقليدي ثنائي البعد له شكل مربع غير محدود (مستوي plane). الفراغ الإقليدي ثلاثي البعد له شكل مكعب غير محدود.

الفراغ غير الإقليدي

الرياضيون (دارسو الرياضيات) أدركوا في القرن 19 أن الفضاء الإقليدي هو ليس الفضاء الوحيد الذي يمكن تخيله هندسيا. من الممكن لنا أن نتخيل فضاءات هندسية تختلف عن الفضاء الإقليدي.

أحد الفضاءات الممكنة هو مثلا الفضاء الكروي spherical.

تخيل الفضاء الكروي هو ليس أمرا صعبا، لأننا في الحقيقة نعيش في فضاء كروي هو سطح الكرة الأرضية.

الأبعاد في الفضاء الإقليدي هي خطوط مستقيمة. الأبعاد في الفضاء الكروي ثنائي الأبعاد هي ليست خطوطا مستقيمة وإنما دوائر.

المقصود بذلك هو أنني عندما أتحرك في الفضاء الكروي ثنائي الأبعاد فإنني لا أستطيع أن أتحرك في خطوط مستقيمة وإنما أنا مجبر على التحرك في مسارات دائرية. أنا لست مضطرا لأن أكمل دورة كاملة ولكنني أستطيع أن أقطع مسافة على شكل قوس تسمى geodesic.

ما يلي مثال للتوضيح: لنفرض أنني أريد أن أسافر من بغداد إلى شنغهاي في الصين. أثناء رحلتي أنا سأشعر بأنني أسير في خط مستقيم من الغرب إلى الشرق، ولكنني في الحقيقة أسير في قوس وليس في خط مستقيم، لأن سطح الكرة الأرضية هو منحن وليس مستقيما.

سطح الكرة الأرضية هو منحن عند كل النقاط ويخلو من الخطوط المستقيمة (لأن الكرة الأرضية هي كرة). من يريد أن يتحرك في خط مستقيم على ظهر الكرة الأرضية لا بد له أن يحفر في الأرض. بغير ذلك فإنه مجبر على السير في أقواس.

نحن لا نحس بهذا الأمر لأننا صغيرون جدا بالنسبة لحجم الكرة الأرضية.

بعض قوانين الهندسة الإقليدية لا تسري على الفضاء الكروي. على سبيل المثال، مجموع زوايا المثلث في الفضاء الإقليدي هو 180 درجة، ولكن هذه القاعدة هي غير صحيحة في الفضاء الكروي. لو رسمنا مثلثا في الفضاء الكروي فإن مجموع زواياه سيكون أكبر من 180 درجة.

لو أردت أن أنتقل من نقطة إلى أخرى في الفضاء الإقليدي فإن هناك طريقا واحدا يعتبر الطريق الأقصر بين النقطتين هو القطعة المستقيمة الواصلة بينهما. لو أردت أن أنتقل من نقطة إلى أخرى في الفضاء الكروي فإنني أستطيع أن أسلك عددا لا نهائيا من الطرق ذات الشكل القوسي geodesic والتي تعتبر جميعها الطريق الأقصر بين النقطتين.

سأضرب مثالا للتوضيح: لو أنني أردت أن أسافر من القطب الشمالي للكرة الأرضية إلى القطب الجنوبي فما هو الطريق الأقصر الذي يجب أن أسلكه؟

هناك عدد لا نهائي من الطرق ذات الطول المتساوي. من الممكن مثلا أن أسير على خط الطول 0 (خط غرينتش) إلى أن أصل إلى القطب الجنوبي، ومن الممكن أن أسير على خط الطول 2 أو 3 أو 4 إلخ. كل خطوط الطول الممتدة بين القطبين الشمالي والجنوبي لها طول متساو، وجميعها تعتبر الطريق الأقصر بين القطبين.

إذن هناك عدد لا نهائي من الطرق التي يمكن أن نصفها بالطريق الأقصر بين نقطتين في الفضاء الكروي. هذا الأمر يتنافى مع القانون الإقليدي الذي يقول أن هناك طريقا واحدا يعتبر الطريق الأقصر بين نقطتين هو الخط المستقيم.

إذن قوانين الهندسة الإقليدية هي ليست بالضرورة صحيحة في الفضاء الكروي.

الفضاء الكروي هو مجرد مثال على الفضاءات غير الإقليدية. من الممكن نظريا أن نتخيل عددا لا نهائيا من الفضاءات غير الإقليدية. المطلوب هو أن نتلاعب بشكل الأبعاد. الأبعاد الإقليدية هي خطوط مستقيمة. لو غيرنا شكل الأبعاد أو بعضها فإننا نستطيع أن نوجد عددا لا يحصى من الفضاءات غير الإقليدية.

من الفضاءات غير الإقليدية الفضاء الذي يسمى بالفضاء الإهليلجي elliptic.

الأبعاد في الفضاء الإهليلجي ثنائي الأبعاد لها شكل إهليلج أو قطع ناقص ellipse. هذا يعني أنني لو كنت في هذا الفضاء فإنني لا أستطيع أن أتحرك إلا في مسارات إهليلجية الشكل. مجموع زوايا المثلث في هذا الفضاء هو أكبر من 180 درجة.

مثال آخر هو فضاء القطع الزائد hyperbolic:

الأبعاد في فضاء القطع الزائد ثنائي البعد لها شكل القطع الزائد hyperbola. مجموع زوايا المثلث في هذا الفضاء هو أقل من 180 درجة.

خلاصة ما سبق هي أن تغيير شكل الأبعاد ينتج فضاءات غير إقليدية.

عدد الأبعاد

نحن كبشر معتادون على العيش في بيئة ثلاثية الأبعاد، ومن السهل لنا أن نتخيل فضاءات ثنائية أو أحادية الأبعاد لأننا نتعامل مع أجسام ثنائية وأحادية الأبعاد في حياتنا اليومية.

الشيء الصعب علينا كبشر هو تخيل فضاءات يزيد عدد أبعادها عن ثلاثة. وجود هكذا فضاءات هو ليس مستحيلا من الناحية الهندسية، ولكن تصوره صعب علينا لأننا لا نتعامل معه في حياتنا اليومية.

هذه الأفلام تشرح معنى البعد الفراغي الرابع:

البشر لا يملكون القدرة على الإدراك رباعي الأبعاد. الإدراك رباعي الأبعاد بالنسبة للبشر هو مجرد فكرة خيالية وليس أكثر من ذلك.

لو فرضنا أن هناك كائنا يملك القدرة على الإدراك رباعي الأبعاد فهذا الكائن سوف يكون قادرا على إدراك عدد لا نهائي من الفراغات ثلاثية الأبعاد في آن واحد. هو سوف يراها كلها وكأنها فراغ واحد.

الفراغ الإقليدي أحادي البعد هو عبارة عن خط مستقيم. الفراغ الإقليدي ثنائي البعد له شكل مستوٍ plane.

كم هو عدد الخطوط المستقيمة المتوازية التي يمكن أن نرسمها في مستوٍ؟ الجواب هو عدد لا نهائي. إذن الفراغ ثنائي الأبعاد يحوي عددا لا نهائيا من الفراغات أحادية البعد.

الفراغ الإقليدي ثلاثي الأبعاد له شكل مكعب غير محدود. كم هو عدد المستويات المتوازية التي يمكن أن يستوعبها المكعب غير المحدود؟ الجواب هو عدد لا نهائي. إذن الفراغ ثلاثي الأبعاد يحوي عددا لا نهائيا من الفراغات ثنائية الأبعاد.

بنفس الطريقة يمكننا أن نقول ما يلي: الفراغ رباعي الأبعاد يحوي عددا لا نهائيا من الفراغات ثلاثية الأبعاد.

هذه الفراغات ثلاثية الأبعاد يجب أن تكون مرصوصة بجوار بعضها في “البعد الرابع”. بما أننا لا نستطيع أن ندرك البعد الرابع فنحن لا نستطيع أن ندرك الكيفية التي ترتص بها الفراغات ثلاثية الأبعاد بجوار بعضها في البعد الرابع. نحن فقط نعرف أن هذا الأمر هو ممكن دون أن نكون قادرين على تصوره.

الرسم التالي يشرح المبدأ الذي أتحدث عنه:

وجود البعد الرابع هو أمر ممكن منطقيا، ولكن عقولنا لا تستطيع أن تتخيله أو تدركه، لأنه شيء لم يسبق أن تعاملنا معه.

بنفس الطريقة التي افترضنا بها وجود بعد رابع يمكننا أيضا أن نفترض وجود بعد خامس وسادس وسابع إلى ما لا نهاية.

إسقاط جسم رباعي الأبعاد

المكعب cube هو جسم ثلاثي الأبعاد. هل يمكننا أن نرسم مكعبا على الورق؟

الجواب هو لا. من المستحيل أن نرسم مكعبا على الورق، لأن سطح الورق ثنائي الأبعاد، والمكعب جسم ثلاثي الأبعاد.

ما يمكن أن نرسمه هو إسقاط projection ثنائي الأبعاد للمكعب.

الشكل أعلاه هو ليس مكعبا ولكنه إسقاط projection ثنائي الأبعاد للمكعب. عندما نرى هذا الإسقاط فنحن ندرك أن الشكل المقصود به هو مكعب ثلاثي الأبعاد لأننا نملك معرفة مسبقة بالمكعب ثلاثي الأبعاد. الإسقاط بحد ذاته هو ثنائي الأبعاد وليس ثلاثي الأبعاد. لولا خبرتنا المسبقة بالبعد الثالث لما كنا استطعنا أن نتخيل المكعب من خلال هذا الإسقاط.

دارسو الهندسة الفراغية يتحدثون عن شكل هندسي رباعي الأبعاد يسمونه tesseract أو 8-cell. هذا الشكل هو النظير رباعي الأبعاد للمكعب، أي أنه بالنسبة للمكعب كما المكعب بالنسبة للمربع.

هم يصفون هذا الشكل على نحو نظري، ولكنهم لا يقدمون أي تمثيل ملموس له، لأن هذا أمر مستحيل.

في بعض صفحات الإنترنت (من قبيل صفحات ويكيبيديا) هناك إسقاطات ثلاثية الأبعاد للـ tesseract من قبيل الشكل التالي:

هذا الشكل هو مجسم ثلاثي الأبعاد يدور حول نفسه. هذا الشكل هو ليس الـ tesseract، ولكنه مجرد إسقاط ثلاثي الأبعاد للـ tesseract.

بعض الناس يزعمون أن مثل هذه الأشكال تساعدنا على تخيل الـ tesseract، ولكنني أشك في مصداقية هذا الزعم. لو فرضنا أنني لا أملك القدرة على الإدراك ثلاثي الأبعاد فهل كنت سأستطيع أن أتخيل المكعب من مشاهدة إسقاطه ثنائي الأبعاد على الورق؟ لا أظن ذلك. أنا لا أظن أن تخيل الـ tesseract هو أمر ممكن من خلال مشاهدة إسقاطه ثلاثي الأبعاد.

حسب فهمي للموضوع فإن الـ tesseract يمكن أن يكون له العديد من الإسقاطات ثلاثية الأبعاد المختلفة، مثلما أن المكعب يمكن أن يكون له العديد من الإسقاطات ثنائية الأبعاد المختلفة.

الشكلان التاليان هما إسقاطان ثنائيا الأبعاد لمكعب:

cube projections

كلا هذين الشكلين هما إسقاط ثنائي الأبعاد لمكعب، ولكنهما يبدوان مختلفين جدا لأنهما مأخوذان من زاويتين مختلفتين.

بنفس الطريقة أنا أظن أن الـ tesseract له العديد من الإسقاطات ثلاثية الأبعاد المختلفة، وكل واحد منها يبدو مختلفا جدا عن الآخر.

أنا لا أدري كيف يمكن لأي إنسان أن يتخيل الـ tesseract. أنا أصلا أشك في قدرة الدماغ البشري على تخيله.

لكي أتخيل الـ tesseract لا بد أن أتخيل أن هناك “عوالم موازية” للعالم الفراغي ذو الأبعاد الثلاثة الذي أنا موجود فيه. بعد ذلك يجب أن أتخيل أن هناك مكعبات متطابقة موجودة في كل عالم من هذه العوالم المتوازية. الـ tesseract هو مجموع هذه المكعبات المتطابقة الموجودة في عدة عوالم متوازية ثلاثية الأبعاد.

هذا الحديث هو أشبه بالحديث عن الله والملائكة، أي أننا نتحدث عن أمور غيبية لم يسبق لنا أن أدركناها حسيا. من السهل أن تصف أمورا غيبية، ولكن هل من الممكن أن تتصور هذه الأمور في عقلك؟ أنا لا أظن ذلك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s