الدماغ البشري (10)

caudal midbrain
مقطع في الدماغ الأوسط الذيلي (عند مستوى التليلتين السفليتين inferior colliculi)

في المقال الأخير من هذه السلسلة بدأنا الحديث عن مقطع الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon وتحدثنا عن ساقي المخ crura cerebri وبدأنا الحديث عن الغطاء tegmentum.

في ذلك المقال تحدثنا عن “المنطقة الغطائية المركزية” central tegmental area التي تضم التشكل الشبكي reticular formation، وبينا أن بعض أنوية التشكل الشبكي هي في الحقيقة متسربة إلى خارج هذه المنطقة.

أنوية الرفاء raphe nuclei هي من أنوية التشكل الشبكي ولكنها تقع على الجهة الإنسية medial للطرق العصبية الصاعدة التي تحد المنطقة الغطائية المركزية من الجهة البطنية (مثل الطريق المسنّن-الثلمي dentatothalamic tract والشريط الإنسي medial lemniscus).

النواة بين السويقية

على الجهة البطنية لأنوية الرفاء توجد نواة تسمى “النواة بين السويقية” interpeduncular nucleus. هذه النواة هي مكونة بمعظمها من خلايا تثبيطية مفرزة للـ GABA. هذه النواة هي مرتبطة وظيفيا بجزء من الدماغ البيني diencephalon يسمى “العُنَيِّن” habenula (العُنَيِّن يقع على الجهة الإنسية الظهرية للثلم thalamus بالقرب من الغدة الصنوبرية pineal gland).

الدراسات بينت أن العنين يلعب دورا هاما في تنظيم السلوك والتفكير. سوف نؤجل الحديث عن وظيفة العنين إلى وقت لاحق، ولكن الآن سنقول باختصار ما يلي: منظومة العنين هي مثبطة للسلوك والتفكير، أي أنها تؤدي دورا معاكسا لدور المنظومات المفرزة للنواقل أحادية الأمين monoamines والـ acetylcholine (النواقل أحادية الأمين تشمل الـ norepinephrine والـ dopamine والـ serotonin).

النواة بين السويقية تتلقى أليافا نازلة من نواة “العنين الإنسيmedial habenula “. بعض الباحثين أتلفوا نواة العنين الإنسي لدى فئران المختبر، والنتيجة كانت أن هذه الفئران أصبحت ذات نشاط زائد hyperactive، ومندفعة impulsive/compulsive (بسبب النشاط الزائد لمنظومة الـ dopamine)، وزائدة القلق anxiety (بسبب النشاط الزائد لمنظومة norepinephrine)، وأصبحت تتخذ قرارات متسرعة وغير حكيمة delay discounting (بسبب النشاط الزائد لمنظومة الـ norepinephrine)، كما أنها عانت من مشاكل في عمل الذاكرة طويلة الأجل long-term memory (ربما بسبب الخلل في عمل منظومة الـ serotonin). هذه النتائج تدل على وظيفة النواة بين السويقية—هذه النواة هي مثبطة للأنظمة التنشيطية الموجودة في الدماغ الأوسط.

المادة السوداء

على الجهة الوحشية lateral للنواة بين السويقية هناك نواة عريضة تسمى “المادة السوداء” substantia nigra. هذه النواة هي في الحقيقة نواتان اثنتان وليست نواة واحدة؛ القسم البطني من المادة السوداء يسمى “القسم الشبكي” pars reticulata وهو مكون من خلايا تثبيطية مفرزة للـ GABA. القسم الظهري من المادة السوداء يسمى “القسم المضغوط” pars compacta وهو مكون من خلايا مفرزة للـ dopamine.

وظيفة القسمين الشبكي والمضغوط هي متناقضة. القسم المضغوط هو أحد مواقع المنظومة الدوبامينية (الطرق المفرزة للدوبامين dopaminergic pathways) المسؤولة عن توليد الرغبة أو الشهية أو الإرادة أو الحاجة إلخ (كل هذه الألفاظ استخدمت في وصف عمل الطرق الدوبامينية). القسم المضغوط من المادة السوداء ينتمي لمنظومة دماغية تسمى “العقد القاعدية” basal ganglia. هذه المنظومة تضم عددا من الأنوية والعقد المسؤولة عن اختيار السلوك المناسب للإنسان أو الحيوان بناء على تجاربه السابقة. القسم المضغوط يلعب في هذه المنظومة دورا محفزا للسلوك.

القسم الشبكي من المادة السوداء ينتمي أيضا لمنظومة العقد القاعدية، ولكنه يلعب في هذه المنظومة دورا مثبطا للسلوك (إلى جانب أنوية تثبيطية أخرى من قبيل القسم الداخلي من الكرة الشاحبة internal globus pallidus والنواة تحت الثلمية subthalamic nucleus).

إذن وظيفة القسم الشبكي هي معاكسة لوظيفة القسم المضغوط؛ وظيفة القسم الشبكي تشبه وظيفة النواة بين السويقية التي أشرنا إليها في الأعلى: كلتا هاتين النواتين هما تثبيطيتان مفرزتان للـ GABA، ولكن الفرق بينهما هو أن القسم الشبكي من المادة السوداء يثبط السلوك ولا يؤثر كثيرا على التفكير (حسب علمي). أيضا القسم المضغوط من المادة السوداء هو محفز للسلوك ولا يؤثر كثيرا على التفكير (حسب علمي).

في المستقبل سوف أتحدث عن عمل هذه المنظومات بتوضيح أكثر.

المنطقة الغطائية البطنية

المقطع التالي هو للدماغ الأوسط عند مستوى التليلتين العلويتين superior colliculi:

rostral midbrain
مقطع في الدماغ الأوسط المنقاري (عند مستوى التليلتين العلويتين superior colliculi)

هذا المقطع لا يختلف جوهريا عن مقطع الدماغ الأوسط الذيلي سوى في أمرين:

  • ظهور النواة الحمراء red nucleus في القسم البطني من الغطاء
  • ظهور المنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area

بالنسبة للجسم الركبي الإنسي medial geniculate body فهو يقع في مؤخرة الثلم thalamus وليس جزءا من الدماغ الأوسط (رغم ظهوره في هذا المقطع).

المنطقة المسماة “المنطقة الغطائية البطنية” ventral tegmental area (اختصارا VTA) تحوي نسبة عالية (50-60%) من الخلايا المفرزة للـ dopamine، وتحوي أيضا خلايا مفرزة للـ GABA، أي أن تكوينها يشبه تكوين المادة السوداء، وهي في الحقيقة تشترك في الأصل الجنيني مع المادة السوداء. منطقة VTA هي إحدى أهم مواقع المنظومة الدوبامينية في الدماغ البشري. الخلايا المفرزة للـ dopamine في VTA هي محفزة للتفكير، ودورها تحديدا هو تحفيز الرغبة أو الشهية أو الإرادة أو الحاجة إلخ.

الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من القسم المضغوط من المادة السوداء تذهب نحو “المُخطَّط” striatum، الذي هو جزء من العقد القاعدية basal ganglia يقع في قلب نصف الكرة المخية، وأما الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA فهي تذهب إلى بقية مناطق الدماغ الأمامي (forebrain) prosencephalon.

الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA توصف بأنها محفزة للرغبة والشهية ونحو ذلك، ولكن بناء على نتائج الدراسات الحديثة أنا أظن أن الوظيفة الدقيقة لهذه الألياف هي تحفيز الخيال والتفكير القائم على الخيال.

الدراسات الحديثة بينت أن الألياف المفرزة للـ dopamine الصادرة من VTA هي على ما يبدو مسؤولة عن الخيال بكل أشكاله. كلمة “الخيال” بمعناها الواسع يمكن أن تشمل الهلوسات، وأيضا الأحلام التي يراها الإنسان أثناء نومه. الألياف المفرزة للـ dopamine المسؤولة عن تحفيز الهلوسات والأحلام تسمى “الطريق الأوسط-الحَوْفي” mesolimbic pathway. النشاط الزائد في هذا الطريق هو ربما سبب الهلوسات التي يراها المصابون بمرض schizophrenia.

عبارة “التفكير القائم على الخيال” تشمل نوعين من التفكير على الأقل:

  • التفكير الرغبوي (تخيل الإنسان للأشياء التي يريدها)
  • التفكير الإبداعي (تخيل الإنسان لكيفية الوصول إلى الأشياء التي يريدها)

هذان النوعان من التفكير يحصلان في القشرة أمام الجبهية prefrontal cortex، التي هي مقر “ذاكرة العمل” working memory. الألياف المفرزة للـ dopamine التي تغذي القشرة أمام الجبهية تسمى “الطريق الأوسط-القشري” mesocortical pathway.

النظريات الحديثة حول مرض schizophrenia (السكيزوفرينيا أو الشيزوفرينيا) ترى أن من أسباب هذا المرض انقطاع التواصل العصبي بين المناطق المخّية المولدة للخيال (التي يغذيها الطريق الأوسط-الحَوْفي mesolimbic pathway) والمناطق المخّية المسؤولة عن معالجة الخيال (التي يغذيها الطريق الأوسط-القشري mesocortical pathway). انقطاع التواصل بين هاتين المنظومتين (أو بالأحرى وجود خلل في هذا التواصل) يجعل الإنسان عاجزا عن إدراك حقيقة خيالاته: هو يتصور أنها مدركات حسية نابعة من العالم الخارجي ولا يدري أنها خيالات نابعة من مناطق أخرى في مخه.

ما سبق هو تلخيص بسيط يدل على أهمية الخلايا المفرزة للـ dopamine في التفكير البشري. في مقالات قادمة سوف أتحدث بمزيد من التفصيل عن هذه القضايا الهامة.

أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine

في الأعلى استعرضنا أهم الأنوية المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأوسط (القسم المضغوط pars compacta من المادة السوداء substantia nigra، والمنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area)، واستعرضنا بعض الأنوية المثبطة لهذه الأنوية (القسم الشبكي pars reticulata من المادة السوداء الذي يعاكس القسم المضغوط، والنواة بين السويقية interpeduncular nucleus التي تعاكس المنطقة الغطائية البطنية وأنوية الرفاء raphe nuclei وغير ذلك).

ذكرنا في الأعلى أن المادة السوداء والمنطقة الغطائية البطنية لهما أصل جنيني واحد، بمعنى أنهما في المرحلة الجنينية تَكُونان نواة واحدة وبعد ذلك هذه النواة تنقسم إلى نواتين. أنا أظن أن أصل هذه النواة يعود إلى القسم الإنسي medial من التشكل الشبكي، ربما في نفس موقع النواة بين السويقية interpeduncular nucleus.

النواة بين السويقية ربما تعود إلى نفس هذا الأصل المشترك. المادة السوداء تحوي خلايا مفرزة للـ GABA في قسمها الشبكي، والمنطقة الغطائية البطنية تحوي أيضا خلايا مفرزة للـ GABA كما ذكرنا في الأعلى. من الممكن أن نتخيل أن كل هذه الأنوية تتحدر من أصل واحد كان يحوي خلايا مفرزة للـ dopamine وأخرى مفرزة للـ GABA. هذا الأصل المشترك كان يقع ربما على الجهة البطنية لأنوية الرفاء.

أشرت في مقال سابق إلى الدراسة التي بحثت تواجد الخلايا المفرزة للـ serotonin في الحيوانات ثنائية الجانب bilaterians. حسب تلك الدراسة فإن الخلايا المفرزة للـ serotonin كانت توجد في وسط الجهاز العصبي لثنائيات الجانب الأولى urbilaterians.

مقارنة بين الجهاز العصبي لدودة حلقية (على اليسار) والجهاز العصبي لفأر (على اليمين). الخلايا المفرزة للـ serotonin تظهر باللون الأحمر، الخلايا المفرزة للـacetylcholine تظهر باللون البنفسجي، الخلايا الربطية interneurons تظهر باللون الوردي، الخلايا الحسية الجذعية تظهر باللون الأزرق الفاتح، الخلايا المفرزة للـ vasotocin تظهر باللون البرتقالي، خلايا “الساعة الجزيئية” molecular clock تظهر باللون الأخضر، الخلايا الحسية المستقبلة للضوء photoreceptors تظهر باللونين الأبيض والأصفر (نوعان مختلفان)

حسب هذه الدراسة فإن جميع أنظمة الناقلات أحادية الأمينmonoamine (التي تشمل الـ norepinephrine والـ dopamine والـ serotonin) هي متحدرة من أصل واحد:

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3070214/

Many of the molecular components of DA [dopamine] systems, such as biosynthetic enzymes, transporters, and receptors, are shared with those of other monoamine systems, suggesting the common origin of these systems.

هذه الدراسة بحثت تحديدا في تطور أنظمة الـ dopamine في الحيوانات الحبلية chordates. الخلايا المفرزة للـ dopamine لدى الحيوانات الحبلية توجد في أربعة مواقع:

  • البصلة الشمية olfactory bulb
  • شبكية العين retina
  • الدماغ البيني diencephalon (لدى الثدييات في “ما تحت الثلم” hypothalamus)
  • الدماغ الأوسط mesencephalon

الباحثون يقسمون الخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ إلى مجموعات مرقمة. الرسم التالي يظهر هذه المجموعات في الدماغ البشري:

المجموعتان A8 و A9 توجدان في القسم المضغوط من المادة السوداء. المجموعة A10 توجد في المنطقة الغطائية البطنية ventral tegmental area. المجموعات الملونة باللون الأزرق توجد في ما تحت الثلم hypothalamus

حسب الدراسة المشار إليها فإن أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine يعود إلى الدماغ الأمامي prosencephalon. مؤلفا الدراسة يريان أن الخلايا المفرزة للـ dopamine كانت لدى الحبليات الباكرة موجودة حول القسم الأمامي من تجويف الأنبوب العصبي ضمن منطقة مكونة من نوعين من الخلايا:

  • خلايا عصبية-هرمونية neuroendocrine cells (خلايا عصبية تفرز الهرمونات في الدم)
  • خلايا مستقبلة للضوء photoreceptor cells

الرسم التالي (مصدره نفس الدراسة) يوضح المنطقة التي نتحدث عنها (في الكائن الموجود على جهة اليسار):

RVB de base

الكائن (البدائي) الموجود على جهة اليسار يحوي في دماغه الأمامي منطقة مكونة من نوعين متداخلين من الخلايا: خلايا عصبية-هرمونية تظهر باللون الأحمر، وخلايا مستقبلة للضوء تظهر باللون الأزرق. حسب الدراسة فإن بعض الخلايا العصبية-الهرمونية كانت مفرزة للـ dopamine وبعضها الآخر كانت مفرزة لهرمونات أخرى (من قبيل الهرمون الحيواني المسمى vasotocin). وظيفة الخلايا العصبية-الهرمونية كانت إفراز الهرمونات بناء على الإشارات الواردة من الخلايا المستقبلة للضوء المتداخلة معها.

إذن الدراسة تعتبر أن الخلايا المفرزة للـ dopamine هي من الخلايا العصبية-الهرمونية neuroendocrine cells. أنا أشك في صحة هذا التصنيف، لأن الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ البشري (والحيواني أيضا على الأغلب) لا تطرح الـ dopamine في الدم. الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في ما تحت الثلم hypothalamus تتحكم بإفراز الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية (الحقيقية)، ولكنها لا تطرح أية هرمونات في الدم بشكل مباشر. إذن هذه الخلايا هي مجرد خلايا عصبية ربطية وليست خلايا عصبية-هرمونية.

الملفت هو أن مؤلفي الدراسة لم يذكرا شيئا حول الخلايا المستقبلة لحس الشم. نفس الأمر لاحظته في الدراسة المتعلقة بثنائيات الجانب التي أشرت لها في مقال سابق. كلتا الدراستين أشارتا إلى وجود مستقبلات ضوئية في الدماغ الأمامي للحبليات الباكرة وثنائيات الجانب الباكرة، ولكنهما لم تذكرا شيئا عن المستقبلات الشمية.

حسب هذه الدراسة فإن جينات المستقبلات الشمية (OR) olfactory receptor هي قديمة وتعود إلى زمن الحبليات الأولى. أنا أشرت في مقال سابق إلى حيوان حبلي بدائي التكوين يسمى lancelet أو amphioxus، وقلت وقتها أن هذا الحيوان هو ربما الأكثر شبها بالحيوانات الحبلية الأولى. حسب الدراسة المشار إليها فإن جينات المستقبلات الشمية OR هي موجودة لدى هذا الحيوان:

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2817399/

Amphioxus is called an “acraniate,” meaning a headless organism. It lacks an identifiable olfactory organ, and almost nothing is known of its sensitivity to chemical stimuli (Lacalli 2004). Nevertheless, many vertebrate-type OR-like genes were found in the amphioxus genome. Therefore, the origin of vertebrate-type OR genes can be traced back to the common ancestor of chordates. (Recently, Grus and Zhang [2009] suggested the same time for the origin of the OR gene family.) Satoh (2005) reported that at least one OR-like gene is broadly expressed in bipolar neurons embedded within the rostral epithelium of adult amphioxus. Further studies will be necessary to examine the cell types in which amphioxus OR genes are expressed.

بناء على هذا الكلام فإن حيوان الـ lancelet يملك جينات المستقبلات الشمية، ومؤخرا عُثر في هذا الحيوان على مستقبلات شمية مطمورة بين خلايا جلده المنقاري rostral epithelium. إذن المستقبلات الشمية كانت موجودة لدى الحبليات الباكرة وكانت تقع في الجهة المنقارية.

السؤال هو ما العلاقة بين المستقبلات الشمية وبين الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine التي كانت تقع في الدماغ الأمامي؟ الدراسات لم تذكر شيئا حول هذا الموضوع، ولكن على الأغلب أن هناك علاقة. لو نظرنا إلى عالم الحيوانات الفقارية فسنجد ظاهرة فيزيولوجية مهمة هي الفرمونات pheromones. الفرمونات هي جزيئات كيميائية شبيهة بالهرمونات ولكنها تفرز في الهواء وتنتقل من حيوان إلى حيوان آخر. الحيوان يستقبل الفرمونات عبر المستقبلات الشمية. استقبال الفرمونات يولد في الدماغ إشارات عصبية تؤثر في السلوك “الغريزي” المرتبط بمنطقة ما تحت الثلم hypothalamus (كالسلوك الجنسي مثلا)، وبالتالي الفرمونات هي وسيلة للتواصل بين الحيوانات المختلفة التي تنتمي إلى نفس النوع species.

الدراسة المتعلقة بتطور أنظمة الـ dopamine التي أشرنا إليها في الأعلى تجاهلت المستقبلات الشمية. حسب تلك الدراسة فإن منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي كانت “منطقة استقبال ضوئي”photoreceptive territory :

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3070214/#s4

[…] DA cells in the ancestral chordate were located in a photoreceptive territory of the anterior neural tube, which is homologous to both retina and hypothalamic region […] These DA cells were probably multifunctional and able to modulate neural functions such as sensory input, motor control, and hormonal regulation.

[…]

Recent data about the DA systems of ascidia suggest that DA cells of the sensory vesicle on the one hand, and DA cells of the hypothalamus and the retina of vertebrates on the other hand, may have originated from a common neuroendocrine, photoreceptive territory surrounding the ventricle of the neural tube in ancestral chordates.

هذه الدراسة تقول أن منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine (“منطقة الاستقبال الضوئي”) تمايزت لاحقا وأنتجت ما تحت الثلم hypothalamus والحويصلات البصرية (وهذه بدورها أنتجت شبكيتي العينين). الدراسة لا تذكر شيئا عن أصل البصلتين الشميتين olfactory bulbs، ولكن الملفت هو أن الدراسة تعيد أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في البصلتين الشميتين إلى نفس منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine التي كانت تقع حول القسم الأمامي للأنبوب العصبي:

Neural precursors of the DA cells of the olfactory bulb arise from the subventricular zone of the telencephalon and migrate to the olfactory bulb by the rostral migratory stream. This neurogenesis persists all life long in all vertebrates studied so far, and it is strongly affected by activity (Lazarini and Lledo, 2011).

منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي للحبليات الباكرة كانت على ما أظن تتعامل مع حس الشم إلى جانب حس البصر، ولكن من الممكن أن حس الشم كان هامشيا مقارنة مع حس البصر. الدراسة المتعلقة بحس الشم التي أشرنا إليها في الأعلى ذكرت أن حس الشم لدى حيوان lancelet هو هامشي أو غير واضح. إذن يمكننا أن نتخيل أن حس الشم لدى الحبليات الباكرة كان هامشيا مقارنة مع حس البصر، ولكنه كان موجودا.

منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي تمايزت لاحقا وأنتجت الأعضاء الحسية التالية:

  • البصلتان الشميتان olfactory bulbs (في الدماغ النهائي telencephalon)
  • الحويصلان البصريان optic vesicles (ولاحقا الشبكيتان retinae) (في الدماغ البيني diencephalon)

هذه الأعضاء هي ليست كل الأعضاء الحسية التي نشأت من الدماغ الأمامي؛ هناك أعضاء أخرى أقل أهمية أو أقل شهرة. من هذه الأعضاء “العين الثالثة” أو “العين الجدارية” التي توجد لدى بعض الحيوانات الفقارية (والتي أشرت إليها في مقال سابق). الحيوانات الفقارية تملك أيضا بصلتين شميتين إضافيتين تسميان “البصلتين الشميتين الملحقتين” accessory olfactory bulbs. هاتان البصلتان تقعان فوق البصلتين الشميتين الرئيسيتين وهما تتصلان مع مستقبلات حسية خاصة توجد ضمن عضوين أنفيين يسميان (VNO) vomeronasal organ.

لو أردنا الحديث بشكل دقيق فإن الأعضاء الحسية التي نشأت من الدماغ الأمامي هي ما يلي:

  • 4 بصلات شمية من الدماغ النهائي (بصلتان أساسيتان وبصلتان ملحقتان)
  • 3 حويصلات بصرية من الدماغ البيني (العينان الجانبيتان والعين الجدارية)

هذه الأعضاء الحسية تحوي خلايا عصبية وعصبية-هرمونية مشتقة من خلايا المنطقة البدائية التي كانت تقع حول مقدمة تجويف الأنبوب العصبي. الخلايا التي بقيت حول مقدمة تجويف الأنبوب العصبي أنتجت لدى الفقاريات المتأخرة ما يسمى بالدماغ البيني diencephalon، وخاصة الجزء المسمى “ما تحت الثلم” hypothalamus. هناك قسم من هذه الخلايا تمدد أيضا نحو الدماغ الأوسط وأنتج الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأوسط.

مما سبق يتبين أن أصل الخلايا المفرزة للـ dopamine يعود ربما إلى منطقة الخلايا العصبية-الهرمونية والخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي (لدى الثدييات هي موجودة في ما تحت الثلم hypothalamus).

لو نظرنا إلى الرسم التالي فسنرى أن الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي هي استمرار منقاري لأنوية الرفاء:

أنوية الرفاء (الخلايا المفرزة للـ serotonin) تظهر على هذا الرسم باللون الأحمر. على الجهة المنقارية لهذه الخلايا توجد الخلايا العصبية-الهرمونية neuroendocrine التي تظهر باللون البرتقالي (هذه الخلايا توجد لدى الثدييات في ما تحت الثلم hypothalamus). بناء على كلام الدراسة التي أشرنا إليها في الأعلى فإن الخلايا المفرزة للـ dopamine في الدماغ الأمامي هي متداخلة مع الخلايا العصبية-الهرمونية، أي أنها جزء من الخلايا ذات اللون البرتقالي. الخلايا ذات اللون الأخضر هي خلايا “الساعة اليومية” circadian clock (توجد لدى الثدييات في النواتين فوق التصالبيتين suprachiasmatic nuclei في القسم المنقاري من ما تحت الثلم hypothalamus). الخلايا ذات اللونين الأبيض والأصفر هي مستقبلات ضوئية.

بما أن الخلايا المفرزة للـ dopamine هي على ما يبدو مجرد امتداد منقاري (في الدماغ الأمامي) للخلايا المفرزة للـ serotonin فهذا يطرح احتمالية الأصل المشترك لهذه الخلايا. هذه الاحتمالية هي واردة كما قالت الدراسة التي نقلت منها في الأعلى. الـ dopamine والـ serotonin هما جزيئان متشابهان كيميائيا: كلاهما ينتميان إلى أحاديات الأمين monoamines. الـ dopamine هو مشتق كيميائيا من حمض أميني يسمى tyrosine، والـ serotonin هو مشتق من حمض أميني يسمى tryptophan.

أصل الخلايا المفرزة للـ norepinephrine

في الدماغ الأوسط توجد خلايا مفرزة لناقل آخر من أحاديات الأمين هو الـ norepinephrine. لو نظرنا في المقطعين C و D من الشكل التالي فسنرى أن الموضع الأزرق locus coeruleus (المفرز للـ norepinephrine) يقع على الجهة الظهرية لأنوية الرفاء:

أنا بصراحة لم أقرأ أي شيء مفيد حول أصل الخلايا المفرزة للـ norepinephrine، ولذلك ما سأقوله الآن هو ليس أكثر من اجتهادات أو تخرصات شخصية.

الـ norepinephrine هو من الناحية الكيميائية شديد الشبه بالـ dopamine. كلا هذين الجزيئين ينتميان إلى تصنيف كيميائي يسمى catecholamines (هذا التصنيف يضم أيضا الـ epinephrine الذي هو مشتق كيميائيا من الـ norepinephrine). الـ dopamine هو مصدر الـ norepinephrine في الجسم البشري. تحويل الـ dopamine إلى norepinephrine يتم عبر تفاعل كيميائي بسيط ينفذه أنزيم واحد كما يظهر في الرسم التالي:

هذا الرسم يوحي بوجود صلة قرابة وثيقة بين الـ dopamine والـ norepinephrine. من الممكن أن هذين الناقلين يتحدران من أصل مشترك حديث نسبيا.

حسب ما فهمت من بعض المصادر فإن الـ norepinephrine هو غير موجود لدى الحيوانات غير الفقارية. الحيوانات غير الفقارية تملك ناقلا آخر يسمى (OA) octopamine. هذا الناقل يؤدي نفس الوظائف التي يؤديها الـ norepinephrine لدى الحيوانات الفقارية. بعض الباحثين حقنوا حيوان الـ lobster بالـ serotonin، فكانت النتيجة أن الحيوان صار يتصرف وكأنه الزعيم في مجتمعه، ولكنهم عندما حقنوه بالـ octopamine تغير سلوكه وصار يتصرف وكأنه فرد حقير في مجتمعه. إذن من الممكن أن الـ octopamine هو مولد للخوف أو القلق، وهي نفس وظيفة الـ norepinephrine لدى الفقاريات.

الـ octopamine هو جزيء أحادي الأمين مشتق من الـ tyrosine، ولكنه ليس مشتقا من الـ dopamine.

على ما يبدو فإن ظهور الفقاريات (أو ربما الحبليات) ترافق مع التخلي عن الـ octopamine والانتقال نحو الـ norepinephrine، ولكن السؤال هو ما سبب هذا التغيير؟

أنا بصراحة لا أعرف ما هو السبب، ولكن إحدى الأفكار التي طُرحت هي أن الانتقال نحو الـ norepinephrine هدفه الربط بين إنتاج الـ norepinephrine وإنتاج الـ dopamine.

إنتاج الـ octopamine في الجسم يتم بمعزل عن إنتاج الـ dopamine، وبالتالي من الممكن نظريا أن يكون هناك حيوان يملك في جهازه العصبي كمية كبيرة من الـ octopamine وكمية منخفضة من الـ dopamine. في المقابل إنتاج الـ norepinephrine هو مرتبط بإنتاج الـ dopamine، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك حيوان يملك في جهازه العصبي كمية كبيرة من الـ norepinephrine وكمية منخفضة من الـ dopamine، لأن إنتاج الـ norepinephrine يمر عبر إنتاج الـ dopamine.

أنا ذكرت سابقا أن الـ norepinephrine هو مسؤول عن اتخاذ القرارات، وأما الـ dopamine فهو مسؤول عن تشغيل منظومة العقد القاعدية basal ganglia التي تنظم السلوك بناء على التجارب السابقة التي مر بها الحيوان. الحيوان الذي يعتمد على منظومة العقد القاعدية في اتخاذ قراراته هو أكثر أمانا من غيره، لأنه يعتمد على خبراته وتجاربه المتراكمة (مثلا هو يعلم ما هي الأشياء الخطيرة حتى يتجنبها وما هي الأشياء الجيدة حتى يطلبها). الحيوان الذي لا يستخدم منظومة العقد القاعدية هو عمليا يتصرف وكأنه حشرة، بمعنى أنه يتحرك في بيئته دون أية معرفة مسبقة بالأشياء الخطيرة والأشياء غير الخطيرة. هذا الحيوان هو معرض للأذى أكثر من الحيوان الذي يستفيد من تجاربه السابقة.

لو فرضنا أن هناك حيوانا فقاريا لديه نسبة عالية من الـ octopamine ونسبة منخفضة من الـ dopamine فما هو السلوك المتوقع لهذا الحيوان؟ هذا الحيوان سوف يتخذ قراراته بسرعة زائدة ودون اعتماد كبير على منظومة العقد القاعدية، أي أنه سوف يكون حيوانا متسرعا ومتهورا، وبالتالي مهددا بالفناء.

ربما يكون هذا هو السبب الذي أدى لانقراض الحيوانات الفقارية المعتمدة على الـ octopamine. هذه الحيوانات انقرضت لأنها كانت تتصرف على نحو متهور ودون استفادة من تجاربها السابقة. وجود نسبة عالية من الـ octopamine ونسبة منخفضة من الـ dopamine يقلل مناسبة fitness الحيوان (وفق مفاهيم نظرية التطور evolution فإن الحيوان غير المناسب unfit هو معرض للانقراض أكثر من الحيوان المناسب fit).

بناء على هذه النظرية (التي هي نظرية شخصية من عندي ولم أقرأها في أي مكان) فإن التخلى عن الـ octopamine ترافق مع ظهور منظومة العقد القاعدية basal ganglia لدى الحيوانات الفقارية الباكرة. الحيوانات الفقارية التي استفادت من منظومة العقد القاعدية هي التي بقيت وتكاثرت، وأما الحيوانات الفقارية التي لم تستفد من هذا الاختراع الجديد وظلت تتصرف كما لو أنها حيوانات غير فقارية فكان مصيرها الانقراض والفناء.

الاستفادة من منظومة العقد القاعدية تعني حكما الاعتماد الكبير على الـ dopamine، لأن هذا الناقل هو الذي يشغّل منظومة العقد القاعدية. الفقاريات الموجودة حاليا لا تتخذ أي قرار دون مشاورة العقد القاعدية، ولهذا السبب هذه الحيوانات تعتمد على الـ norepinephrine (المشتق من الـ dopamine) ولا تعتمد على الـ octopamine (المستقل عن الـ dopamine). الاعتماد الكامل على الـ norepinephrine في اتخاذ القرارات يعني أن تجاهل العقد القاعدية هو أمر غير ممكن، لأن الوصول إلى اتخاذ قرار عبر إفراز الـ norepinephrine يتطلب حكما إفراز الـ dopamine، وبالتالي لا يمكن لقرار أن يتخذ دون إفراز الـ dopamine.

مما سبق نستنتج أن الـ norepinephrine هو ناقل حديث نسبيا، وهو مشتق من الـ dopamine، بالتالي من الممكن أن الخلايا المفرزة للـ norepinephrine (الموضع الأزرق) كانت في الأصل مفرزة للـ dopamine. هذا يوصلنا إلى أن أصل الموضع الأزرق ربما يعود إلى الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي. طبعا هذا الكلام هو مجرد تخيلات من عندي وليس مبنيا على كلام قرأته في مصادر علمية.

أنا لا أعرف ما هي الخلايا المفرزة للـ octopamine لدى الحيوانات غير الفقارية، ولكن الـ octopamine هو من أحاديات الأمين، وبالتالي المفترض هو أنه يشترك في الأصل مع الـ serotonin والـ dopamine.

في مقال سابق أشرت إلى دراسة تحدثت عن تطور الجهاز العصبي ذاتي الحكم autonomic nervous system لدى الفقاريات. حسب ما ورد في تلك الدراسة فإن الفقاريات البدائية لم تكن تملك عقدا محيطية مفرزة للـ norepinephrine. جميع الأعصاب الحشوية الصادرة من الحبل الشوكي لدى تلك الحيوانات كانت مفرزة للـ acetylcholine. الأعصاب المتعاطفة sympathetic المفرزة للـ norepinephrine كانت تخرج من جذع الدماغ (ربما كانت تخرج من “الحقل الغطائي الجانبي” lateral tegmental field الذي هو حسب علمي المنطقة الوحيدة المفرزة للـ norepinephrine في جذع الدماغ إلى جانب الموضع الأزرق).

إذن وجود العقد المحيطية المفرزة للـ norepinephrine هو ظاهرة حديثة نسبيا.

أحاديات أمين أخرى

في الأعلى أنا تحدثت عن ناقلين مهمين من أحاديات الأمين هما الـ dopamine والـ norepinephrine. بناء على ما ورد في الأعلى فإن أصل الخلايا المفرزة لهذين الناقلين ربما يعود إلى الخلايا المفرزة للـ dopamine الموجودة في الدماغ الأمامي prosencephalon.

في الدماغ البشري توجد نواقل أخرى من أحاديات الأمين؛ من هذه النواقل مثلا الناقل المسمى melatonin. هذا الناقل يفرز من خلايا الغدة الصنوبرية pineal gland الموجودة في مؤخرة الثلم thalamus والتي تشكل جزءا من منظومة تسمى “ما فوق الثلم” epithalamus. منظومة “ما فوق الثلم” هي مرتبطة تطوريا بالعين الثالثة أو العين الجدارية parietal eye التي أشرنا إليها آنفا.

الـ melatonin من الناحية الكيميائية هو وثيق الصلة بالـ serotonin. العلاقة بين الـ serotonin والـ melatonin تشبه العلاقة بين الـ dopamine والـ norepinephrine.

melatonin serotonin

وجود خلايا مفرزة للـ melatonin ضمن الغدة الصنوبرية (وثيقة الصلة بالعين الجدارية) يتوافق مع النظرية التي ذكرناها في الأعلى حول الدور الأصلي للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ الأمامي: هذه الخلايا كانت في الأصل مسؤولة عن التعامل مع المستقبلات الضوئية (وربما أيضا مع المستقبلات الشمية).

على ما أظن فإن وجود الـ melatonin ضمن خلايا الدماغ الأمامي المفرزة لأحاديات الأمين يدعم النظرية التي تقول بوجود أصل مشترك لجميع الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين. الـ melatonin هو وثيق الصلة بالـ serotonin؛ وجود الخلايا المفرزة للـ melatonin ضمن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ الأمامي يوحي بأن بعض هذه الخلايا ربما كانت في الماضي مفرزة للـ serotonin.

في القسم الظهري من ما تحت الثلم hypothalamus (تحديدا في النواة الحدبية-الحلمية tuberomammillary nucleus) توجد خلايا مفرزة لناقل أميني يسمى histamine. هذا الناقل هو شبيه بأحاديات الأمين ولكنه لا ينتمي إليها كيميائيا. هذا الناقل يلعب دورا كبيرا خارج الجهاز العصبي (هو مهم خاصة في الجهاز المناعي، وهو يلعب دورا مهما في الاستجابة المناعية التي تسمى شعبيا “الحساسية” allergy)، ولكن وجود الـ histamine في الجهاز العصبي المركزي ينحصر في النواة الحدبية-الحلمية.

الوظيفة الأساسية للـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية هي التنشيط activation أو تحفيز اليقظة (لهذا السبب فإن “مضادات الهيستامين” antihistamines المستخدمة في علاج “الحساسية” تسبب النعاس)، وعلى ما يبدو فإن إفراز الـ histamine من النواة الحدبية-الحلمية هو مرتبط بالإيقاع اليومي circadian rhythm، أي أنه مرتبط بشدة الضوء الساقط على العينين. الـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية يساهم في تنظيم إفراز بعض الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية الموجودة في ما تحت الثلم، ويساهم في تنظيم بعض المنعكسات الحشوية المعقدة التي تدار من ما تحت الثلم.

وظائف الـ histamine المفرز من النواة الحدبية-الحلمية هي الوظائف الكلاسيكية لأحاديات الأمين المفرزة من خلايا الدماغ الأمامي؛ أحاديات الأمين المفرزة من خلايا الدماغ الأمامي هي عموما منشطة أو محفزة لليقظة، وإفرازها كان في الأصل مرتبطا بشدة الضوء الساقط على المستقبلات الضوئية، وهي تساهم في تنظيم إفراز الهرمونات من الخلايا العصبية-الهرمونية الموجودة في ما تحت الثلم، وتساهم في تنظيم بعض المنعكسات الحشوية المعقدة التي تدار من ما تحت الثلم. هذه الوظائف هي الوظائف الأصلية للـ dopamine قبل أن تتمدد بعض الخلايا المفرزة له نحو الدماغ الأوسط وتكتسب وظائف جديدة من قبيل تحفيز السلوك الجيد وتحفيز التفكير الخيالي (الـ dopamine المفرز من خلايا ما تحت الثلم hypothalamus عند الإنسان هو مثبط لإفراز هرمون prolactin المسؤول عن تحفيز إفراز الحليب من الثديين، ويبدو أيضا أنه مثبط لإفراز هرمونGnRH المسؤول عن تحفيز إنتاج خلايا التكاثر الجنسي في المبيضين والخصيتين، أي أن الـ dopamine المفرز في ما تحت الثلم هو على ما يبدو مثبط للتكاثر الجنسي. هذه الوظيفة تشبه وظيفة أحاديات الأمين الأخرى: الـ serotonin والـ norepinephrine كلاهما مثبطان للرغبة الجنسية، والـ norepinephrine هو مسؤول عن الذروة الجنسية orgasm، أي أنه ينهي العملية الجنسية).

الـ histamine هو جزيء “شقيق” لأحاديات الأمين، بمعنى أنه يشبه أحاديات الأمين كيميائيا وإن كان لا ينتمي إليها، وهو يؤدي نفس الوظائف الكلاسيكية لأحاديات الأمين المفرزة في ما تحت الثلم. على ما يبدو فإن تطور هذا الناقل هو نفس تطور أحاديات الأمين المفرزة في الدماغ الأمامي: هو في الأصل كان مسؤولا عن التعامل مع مستقبل ضوئي.

الـmelatonin هو استثنائي بين أحاديات الأمين المفرزة في الدماغ الأمامي من حيث أن إفرازه يزداد في غياب الضوء، وهو يسبب النعاس. كل أحاديات الأمين الأخرى هي منشطة أو محفزة لليقظة. الـ acetylcholine هو أيضا منشط أو محفز لليقظة.

الأصل المشترك لأحاديات الأمين

تحدثنا في مقال سابق عن “التقطع المتتالي” metamerism الذي يميز أجسام الحيوانات ثنائية الجانب bilaterian، وبينا أن هذا التقطع يظهر في الجهاز العصبي، خاصة أثناء المرحلة الجنينية الباكرة. الجهاز العصبي المركزي لدى الجنين البشري (وغير البشري) يكون مقطعا إلى قطع متتالية تسمى “القطع العصبية” neuromeres. هذه القطع العصبية تتمايز لاحقا إلى ما يلي:

  • القطع النخاعية myelomeres (قطع الحبل الشوكي الذي يسمى باللاتينية “النخاع الشوكي” medulla spinalis)
  • قطع الدماغ الخلفي rhombomeres
  • قطع الدماغ الأوسط mesomeres
  • قطع الدماغ الأمامي prosomeres

بينا في مقالات سابقة أن قطع الحبل الشوكي أو القطع النخاعية myelomeres هي الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي، واقترحنا آلية تفسر التعقيد المشاهد في القطع الدماغية. هذه الآلية هي آلية “التكتل ثم التخصص”. الخلايا تتكتل في البداية بهدف زيادة طاقتها الإنتاجية الكلية، ولكنها بعد ذلك تتخصص نوعيا.

طالما أن قطع الحبل الشوكي هي الأكثر بدائية في الجهاز العصبي المركزي فهذا يعني أن دراسة هذه القطع يمكن أن تساعدنا على فهم الشكل الأصلي للقطع الدماغية، ونحن فعلنا هذا بالفعل: في البداية تحدثنا عن مقطع الحبل الشوكي وبعد ذلك بدأنا الحديث عن المقاطع الدماغية.

الملفت في مقطع الحبل الشوكي هو أنه يخلو (حسب علمي) من خلايا مفرزة لأحاديات الأمين. مقطع الحبل الشوكي يحوي في القرنين الأمامي والجانبي خلايا تأثيرية مفرزة للـ acetylcholine، ويحوي في القرن الخلفي خلايا ربطية تفرز عددا من النواقل أهمها على ما أعتقد هو الـ glutamate (بعض الخلايا الربطية في القرن الخلفي تعتبر خلايا حسية من الرتبة الثانية second-order sensory neurons).

إذا كان الحبل الشوكي يخلو من الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين فمن أين إذن أتت هذه الخلايا إلى الدماغ؟

أنا لا أظن أن هذه الخلايا ظهرت في الدماغ من العدم. على الأغلب أن هذه الخلايا كانت موجودة في الحبل الشوكي سابقا ولكنها اختفت منه لسبب تطوري. ما يدعم هذه الفرضية هو الصورة التالية:

الرسم الذي على اليسار يعبر عن الجهاز العصبي لدودة حلقية، والرسم الذي على اليمين يعبر عن الجهاز العصبي لفأر. الملفت في هذين الرسمين هو الفرق في توزع الخلايا المفرزة للـ serotonin؛ في الجهاز العصبي للدودة الحلقية هناك خلايا مفرزة للـ serotonin في كل قطعة عصبية، ولا يوجد تكتل لهذه الخلايا في الدماغ. في الجهاز العصبي للفأر لا يبدو أن هناك خلايا مفرزة للـ serotonin في الحبل الشوكي، وهناك تكتل لهذه الخلايا في الدماغ.

أنا أظن أن الجهاز العصبي للدودة الحلقية هو أقرب للوضع الأصلي الذي كان موجودا لدى ثنائيات الجانب البدائية urbilaterians. على ما يبدو فإن الخلايا المفرزة للـ serotonin كانت في الأصل موجودة في كل القطع العصبية المكونة للجهاز العصبي المركزي، ولكن هذه الخلايا اختفت من الحبل الشوكي عند الفقاريات (أو ربما هي ما زالت موجودة ولكن بعدد قليل جدا). في المقابل هذه الخلايا تكتلت في الدماغ وأنتجت أنوية الرفاء raphe nuclei في جذع الدماغ والخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في ما تحت الثلم hypothalamus.

ما يبدو لي هو أن الطريقة التي تطورت بها الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين في الدماغ تتماشى مع مبدأ “التكتل ثم التخصص”. لو نظرنا إلى جذع الدماغ فسنجد أن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي متكتلة على شكل عمود من الأنوية هو أنوية الرفاء، ولكن هذه الخلايا تفرز ناقلا واحدا هو الـ serotonin، أي أنها متكتلة ولكنها ليست متخصصة. لو صعدنا أكثر نحو الدماغ الأمامي فسنجد أن تكتل الخلايا ازداد ولكنها باتت متخصصة، بمعنى أنها لم تعد تفرز ناقلا واحدا فقط ولكنها صارت تفرز عددا من النواقل المختلفة (الـ dopamine والـ melatonin والـ histamine وربما أيضا الـ norepinephrine أو octopamine).

لو صح هذا التصور فهو قد يعني أن الخلايا المفرزة للـ serotonin هي “الأصل المشترك” للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين المختلفة، بمعنى أن الخلايا المفرزة للـ dopamine والـ histamine إلخ هي كلها متحدرة من خلايا مفرزة للـ serotonin شبيهة بالخلايا الموجودة في أنوية الرفاء. هذا الطرح هو مجرد نظرية شخصية من عندي.

الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين

ما هي الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين؟

لو قبلنا النظرية التي طرحتها في الأعلى (والتي هي من بنات أفكاري) فهذا يعني أن الخلايا المفرزة للـ serotonin هي ربما الأصل المشترك للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين. إذن لو عرفنا الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة للـ serotonin فنحن سنعرف الوظيفة الأصلية للخلايا المفرزة لأحاديات الأمين.

أنا تحدثت في مقال سابق (باختصار) عن الوظيفة الأصلية للـ serotonin لدى ثنائيات الجانب: هذا الناقل يولد في الجهاز العصبي شعور “الشبع” أو “اللذة”.

كلمة “الشبع” هي على ما أعتقد كلمة ذات معنى فلسفي معقد نسبيا ولا تصلح لوصف وظيفة فيزيولوجية في جسم حيوان بدائي. لو أردنا وصف وظيفة الـ serotonin لدى الديدان بعبارات علمية دقيقة فيجب أن نقول ما يلي: إفراز الـ serotonin في الجهاز العصبي للدودة يحصل عندما تعثر الدودة على كمية وافرة من الغذاء، وهذا الإفراز يؤدي إلى تثبيط الحركة الانتقالية inhibition of locomotion للدودة، بمعنى أن الدودة تتوقف عن الحركة الانتقالية من مكان إلى آخر.

بالإضافة إلى ذلك الـ serotonin هو محفز لليقظة (كسائر أحاديات الأمين).

المقصود بكلمة “اليقظة” arousal هو القدرة الحسية. عندما يكون الحيوان يقظا فإنه يكون أقدر على الاستقبال الحسي.

الـ acetylcholine هو أيضا محفز لليقظة، ولكنه (حسب علمي) محفز للحركة الانتقالية.

إذن الفرق الأساسي بين الـ serotonin وبين الـ acetylcholine هو أن الأول مثبط للحركة الانتقالية والثاني محفز لها.

هذا قد يكون الفرق الأصلي بين الـ serotonin والـ acetylcholine: كلا هذين الناقلين هما محفزان للاستقبال الحسي، وعلى ما أعتقد فإن كليهما محفزان للحركة الحشوية (مثلا حركة الجهاز الهضمي)، ولكن الـ serotonin هو مثبط للحركة الهيكلية أو الانتقالية، بخلاف الـ acetylcholine الذي هو محفز للحركة الهيكلية أو الانتقالية.

لو نظرنا إلى أحاديات الأمين التي يفترض أنها أحدث عمرا من الـ serotonin (كالـ dopamine والـ norepinephrine إلخ) فسنجد أنها تشترك عموما مع الـ serotonin في خاصية التحفيز الحسي أو تحفيز اليقظة، ولكن تأثيرات هذه النواقل على الحركة هي متباينة. الـ dopamine والـ norepinephrine هما محفزان للحركة الانتقالية ولكنهما مثبطان للحركة الحشوية، أي أن تأثيرهما على الحركة هو معاكس لتأثير الـ serotonin.

يرجى الانتباه إلى أن النظرية التي تقول بأن الـ serotonin هو أقدم من أحاديات الأمين الأخرى هي مجرد تخرص وأنا لا أملك دليلا عليها. من الممكن أن جميع أحاديات الأمين هي متحدرة من أصل مشترك يختلف عن الـ serotonin. لا يوجد لدي دليل على أن الـ serotonin هو أقدم من أحاديات الأمين الأخرى.

الأهم في كل ما سبق هو أن الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي مرتبطة وظيفيا بالمستقبلات الحسية. أحاديات الأمين هي في الغالب محفزة للاستقبال الحسي، ولكنها أحيانا تثبطه (كما في حالة الـ melatonin الذي هو محفز للنوم). الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين تعتمد على الإشارات الحسية الواردة من المستقبلات الحسية وترسل إشارات تأثيرية متباينة نحو الغدد والخلايا العضلية الحشوية والخلايا العضلية الهيكلية. الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين هي إذن نوع من الخلايا العصبية الربطية التي تربط بين المستقبلات الحسية والخلايا التأثيرية (الإفرازية والتحريكية). من الممكن أن سبب تمايز الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين الموجودة في الدماغ الأمامي هو ارتباطها بنوع (أو أكثر) من المستقبلات الحسية “الخاصة” (خاصة المستقبلات الضوئية). على سبيل المثال، من الممكن أن سبب تطور الـ melatonin هو ارتباطه بالعين الجدارية، التي هي عضو حسي خاص لا يوجد مثيل له في مناطق الجسم الأخرى. أيضا من الممكن أن الـ dopamine تطور في الأصل بسبب ارتباطه بالمستقبلات الضوئية التي أصبحت موجودة لاحقا ضمن شبكيتي العينين، ومن الممكن أن الـ histamine تطور بسبب ارتباطه بنوع خاص من المستقبلات الضوئية (أو غير الضوئية).

المقصود من هذه النظرية هو أن أحاديات الأمين تكاثرت وتمايزت بسبب ارتباطها بمستقبلات حسية خاصة من أنواع مختلفة، خاصة المستقبلات الضوئية. هذه النظرية تفسر وجود الخلايا المفرزة لأحاديات الأمين بكميات كبيرة وبأنواع متعددة في الدماغ الأمامي، وخاصة في الدماغ البيني الذي هو مرتبط تطوريا بحس البصر.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s