الدماغ البشري (4)

ملاحظة: هذا المقال فيه معلومات تفصيلية ربما لا تهم القارئ غير المهتم بالأمور الفيزيولوجية والطبية ونحو ذلك.

في المقال الأخير تحدثت عن الحبل الشوكي spinal cord. الآن سأبدأ الحديث عن جذع الدماغ brainstem.

جذع الدماغ = الدماغ الخلفي (hindbrain) rhombencephalon – المخيخ cerebellum + الدماغ الأوسط (midbrain) mesencephalon.

كلمة rhombencephalon هي في الحقيقة لا تعني “الدماغ الخلفي” ولكنها تعني “الدماغ مُعَيَّن الشكل”، لأنها مركبة من كلمة (rhόmbos) ῥόμβος التي تعني الشكل الهندسي الذي يسمى “المُعَيَّنُ” (بالإنكليزيةrhombus )، ومن كلمة (enképhalos) ἐγκέφαλος التي تعني “الدماغ” (حرفيا تعني “ما بداخل الرأس”). كلمة hindbrain الإنكليزية تعني حرفيا “الدماغ الخلفي”. بالنسبة لكلمة mesencephalon فهي تعني “الدماغ الأوسط” (قسمها الأول مأخوذ من (mésos) μέσος التي تعني “أوسط”)، وكلمة prosencephalon تعني “الدماغ الأمامي” (قسمها الأول مأخوذ من (prósō) πρόσω التي تعني “نحو الأمام”).

الدماغ الخلفي لدى الفقاريات هو مقطّع وظيفيا إلى ثمان قطع تسمى “قطع الدماغ الخلفي” rhombomeres (من rhόmbos “معيّن” و méros “قطعة”). هذه القطع تظهر بوضوح في المرحلة الجنينية الباكرة.

إلى الأسفل من قطع الدماغ الخلفي تقع قطع الحبل الشوكي (عددها 31). ظهور قطع الدماغ الخلفي والحبل الشوكي هو محكوم بجينات تسمى Hox genes. إلى الأعلى من قطع الدماغ الخلفي تقع منطقة تسمى midbrain-hindbrain boundary (“الحد بين الدماغ الأوسط والدماغ الخلفي”). هذه المنطقة هي محكومة بجينات تسمى Pax genes. إلى الأعلى من هذه المنطقة يقع الدماغان الأوسط والأمامي المحكومان بجينات تسمى Otx genes. هناك خلاف حول ما إذا كان الدماغان الأوسط والأمامي مقسمين إلى قطع وظيفية. البعض يستخدمون كلمتي mesomeres و prosomeres في الإشارة إلى قطع الدماغين الأوسط والأمامي خلال المرحلة الجنينية الباكرة، ولكن وجود هذه القطع هو محل خلاف.

مما سبق يتبين أن الدماغ الخلفي يتشارك مع الحبل الشوكي في خاصية التقطّع segmentation التي تحكمها جينات Hox. المنطقة التي تقع إلى الأعلى من الدماغ الخلفي هي محكومة بجينات من نوع مختلف ووجود التقطع فيها هو ليس أمرا واضحا. لهذا السبب البعض اعتبروا أن الدماغ الخلفي هو جزء من الحبل الشوكي (الحبل العصبي) تعرض لعملية “الرأسنة” cephalization، التي هي نفس العملية التي أنتجت الدماغ.

الأعصاب القحفية

في المقالات السابقة تحدثنا عن الأعصاب الشوكية spinal nerves التي تخرج من قطع الحبل الشوكي. هذه الأعصاب تحوي نوعين من الألياف العصبية:

  • ألياف عصبية تأثيرية effector أو إصدارية efferent (تنقل إشارات التحريك والإفراز)
  • ألياف عصبية استقبالية receptor أو إيرادية afferent (تنقل إشارات الحس)

معظم الألياف العصبية في الأعصاب الشوكية هي جسمانية somatic، أي أنها واعية أو إرادية. كلمة “جسماني” somatic هي في الأصل نقيض لكلمة “حشوي” visceral. المقصود بالأعضاء “الجسمانية” هو مكونات الجدار الخارجي للجسم (الجدار الخارجي للجسم يتكون من الجلد، والعضلات الهيكلية، والعظام، والأغشية الضامة connective التي بين الجلد والعضلات والعظام). الأطراف الأربعة (الذراعان والرجلان) هي امتدادات من جدار الجسم وهي تعتبر من الأعضاء الجسمانية. الأعضاء “الحشوية” هي الأعضاء التي توجد في جوف الجسم (أعضاء الجهاز الهضمي والجهاز القلبي الوعائي والجهاز التنفسي والجهاز البولي إلخ). الأعصاب الشوكية توصف بأنها “أعصاب جسمانية” somatic nerves لأنها تذهب إلى الأعضاء الجسمانية، ولكن بعض ألياف الأعصاب الشوكية هي غير واعية (مثلا الألياف التي تذهب إلى غدد الجلد، وإلى العضلات الملساء في الجلد المسؤولة عن نصب الشعر، وإلى العضلات الملساء في جدر الأوعية الدموية). الألياف غير الواعية الموجودة ضمن الأعصاب الشوكية تعتبر جزءا من “الجهاز العصبي ذاتي الحكم”autonomic nervous system ، الذي يسمى أيضا “الجهاز العصبي الحشوي”visceral nervous system . إذن عبارتا “أعصاب جسمانية” و”أعصاب حشوية” هما ليستا دقيقتين تماما ولكنهما تقريبيتان.

الأعصاب الشوكية هي 31 زوجا من الأعصاب (على عدد قطع الحبل الشوكي). هذه الأعصاب تغطي الأطراف الأربعة وكل جدار الجسم ما عدا النصف الأمامي من جدار الرأس (الوجه والذقن والجبهة).

النصف الأمامي من جدار الرأس تغطيه أعصاب تخرج من الدماغ تسمى “الأعصاب القِحْفية” cranial nerves.

dermatomes spinal cord segments
المنطقة الملونة بالأخضر تغطيها الأعصاب القحفية (تحديدا العصب القحفي الخامس؛ الرقم خمسة يكتب باللاتينية هكذا V)

منظر بطني ventral للدماغ تظهر فيه أزواج الأعصاب القحفية (مقطوعة) مع أرقامها باللاتينية

كلمة cranial هي صفة مشتقة من cranium. كلمة cranium هي كلمة تشريحية لاتينية اشتقت في القرون الوسطى من الكلمة اليونانية (kraníon) κρανίον. معنى الكلمة اليونانية هو “جمجمة” skull، ولكن كلمة cranium تعني الجمجمة دون عظم الفك السفلي mandible.

cranium
cranium

الكلمة العربية المقابلة لـ cranium هي “قِحْف” (بكسر القاف).

عدد الأعصاب القِحفية هو 12 زوجا، من بينها 8 أزواج تخرج من الدماغ الخلفي (على عدد قطع الدماغ الخلفي rhombomeres). الزوجان المسميان “العصب القحفي الثالث” cranial nerve III و”العصب القحفي الرابع” cranial nerve IV يخرجان من الدماغ الأوسط mesencephalon. الزوج المسمى “العصب القحفي الثاني” cranial nerve II هو “العصب البصري” optic nerve الذي يتصل مع الدماغ البيني diencephalon. الزوج المسمى “العصب القحفي الأول” cranial nerve I هو العصب الشمي olfactory nerve الذي يتصل مع الدماغ النهائي telencephalon.

الأعصاب القحفية رقم 1 و 2 و 8 هي أعصاب استقبالية receptor بحتة (العصب رقم 1 ينقل حس الشم من الأنف، العصب رقم 2 ينقل حس البصر من شبكية العين retina، العصب رقم 8 ينقل حسي السمع والتوازن من الأذن الداخلية inner ear).

الأعصاب رقم 3 و 4 و 6 و 11 و 12 هي أعصاب تحريكية motor بحتة (الأعصاب رقم 3 و 4 و 6 مسؤولة عن تحريك العين، العصب رقم 12 مسؤول عن تحريك اللسان، والعصب رقم 11 مسؤول عن لف الرأس ورفع الكتف. العصب رقم 11 هو في الحقيقة يصدر من الحبل الشوكي الرقبي وليس من الدماغ).

بقية الأعصاب القحفية (أي الأعصاب رقم 5 و 7 و 9 و 10) هي مختلطة (استقبالية receptor + تأثيرية effector) على غرار الأعصاب الشوكية.

الأعصاب القحفية رقم 3 و 7 و 9 و 10 تحوي أليافا عصبية مستقلة autonomic إلى جانب الألياف الجسمانية somatic.

معظم الألياف العصبية الحسية القادمة من النصف الأمامي من جدار الرأس (التي تنقل إشارات الحس من الوجه والذقن والجبهة) تأتي عبر العصب القحفي الخامس cranial nerve V (الذي يسمى “العصب ثلاثي التوائم” trigeminal nerve).

فروع العصب القحفي الخامس (ثلاثي التوائم)

بالنسبة للألياف العصبية التأثيرية effector الذاهبة إلى النصف الأمامي من جدار الرأس (التي تنقل إشارات التحريك والإفراز إلى الوجه والذقن والجبهة) فهي تنتقل عبر عدة أعصاب قحفية. الألياف التحريكية الذاهبة إلى محجري العينين (المسؤولة عن تحريك العينين) تنتقل عبر الأعصاب القحفية رقم 3 و 4 و 6، والألياف التحريكية الذاهبة إلى عضلات الفكين (المسؤولة عن المضغ) تنتقل عبر العصب القحفي رقم 5. بقية مناطق الوجه تستقبل أليافا تأثيرية (تحريكية + إفرازية) قادمة عبر العصب القحفي رقم 7 (الذي يسمى “العصب الوجهي” facial nerve). العصب القحفي رقم 7 هو المسؤول عن التعابير الوجهية facial expression وهو المسؤول عن إفراز الدمع من الغدد الدمعية في العينين (وأمور أخرى).

مقطع النخاع المستطيل

في المقال السابق تحدثت عن مقطع الحبل الشوكي وكيفية توزع المادتين الرمادية والبيضاء فيه.

توزع المادتين الرمادية والبيضاء في مقطع الحبل الشوكي هو أقل تعقيدا بكثير من توزع هاتين المادتين في مقاطع الدماغ، لأن الحبل الشوكي هو عضو “بدائي” مقارنة بالدماغ.

مقاطع الدماغ عموما هي معقدة للغاية. أحد أسباب التعقيد هو مبدأ “التخصص” الذي تحدثت عنه سابقا.

ذكرنا سابقا أن الأعضاء الحيوانية تطورت وفق مبدأ “التكتل ثم التخصص”.

هذا المبدأ يظهر واضحا في مقطع الحبل الشوكي. في المقال السابق بينا كيف أن المادة الرمادية في الحبل الشوكي هي متوزعة في مناطق متخصصة وظيفيا. مثلا هناك منطقة متخصصة بالتحريك الجسماني somatic motor (في مقدمة القرنين الأماميين)، وإلى الخلف منها توجد منطقة متخصصة بالتأثير المستقل autonomic effector، وإلى الخلف من هذه المنطقة توجد منطقة متخصصة بالحس المستقل autonomic sensory، وإلى الخلف من هذه المنطقة توجد منطقة كبيرة متخصصة في الحس الجسماني somatic sensory (القرنان الخلفيان). منطقة الحس الجسماني هي بدورها مقسمة إلى مناطق متخصصة وظيفيا. مثلا هناك مناطق متخصصة في الحس غير الواعي unconscious ومناطق أخرى متخصصة في الحس الواعي conscious، وهناك مناطق متخصصة في حس اللمس الدقيق fine touch والاهتزازvibration والحس الذاتي proprioception، ومناطق متخصصة في حس الألم السريع fast pain واللمس غير الدقيق crude touch والبرودة cold، ومناطق متخصصة في حس الألم البطيء slow pain واللمس غير الدقيق crude touch والدفء warmth والحكة itch.

التخصص الوظيفي موجود أيضا في المادة البيضاء. في المقال السابق بينا كيف أن المادة البيضاء تحوي طرقا عصبية صاعدة وأخرى نازلة، وكل طريق من هذه الطرق يتصل مع مادة رمادية ذات وظيفة محددة.

نزعة التخصص الوظيفي هي أشد في الدماغ مما هي عليه في الحبل الشوكي. أحد أسباب ذلك هو أن الأعصاب القحفية (المتصلة مع الدماغ) تتعامل مع أنواع إضافية من الحس غير موجودة في مناطق الجسم السفلى.

أنواع الحس التي يتعامل معها الحبل الشوكي تدخل كلها تحت مسمى “حاسة اللمس” وفق التصنيف الشعبي للحواس. الدماغ يتعامل مع أنواع إضافية من الحس:

  • حس الشم (ينقله العصب القحفي الأول CN I الذي يسمى “العصب الشمي” olfactory nerve)
  • حس البصر (ينقله العصب القحفي الثاني CN II الذي يسمى “العصب البصري”optic nerve )
  • حس السمع (ينقله “العصب القوقعي” cochlear nerve الذي هو أحد فرعي العصب القحفي الثامن CN VIII المسمى “العصب الدهليزي القوقعي”vestibulocochlear nerve )
  • حس الاتزان balance (ينقله “العصب الدهليزي” vestibular nerve الذي هو أحد فرعي العصب القحفي الثامن CN VIII المسمى “العصب الدهليزي القوقعي”vestibulocochlear nerve )
  • حس الذوق (تنقله الأعصاب القحفية رقم 7 و 9 و 10)

هذه الأحاسيس هي غير موجودة إلا في الرأس (التعامل مع هذه الأحاسيس هو على ما أظن السبب الذي أدى إلى نشوء الدماغ من الأساس). الدماغ يحوي خلايا عصبية متخصصة في التعامل مع هذه الأحاسيس. مثل هذه الخلايا هي غير موجودة في الحبل الشوكي. لهذا السبب المادة الرمادية الدماغية فيها تخصص وظيفي يفوق التخصص الوظيفي الموجود في المادة الرمادية الشوكية.

زيادة التخصص في المادة الرمادية أدت إلى زيادة تعقيد الطرق العصبية الواصلة بين مناطق المادة الرمادية. هذا أحد الأسباب التي جعلت المادة البيضاء في الدماغ تتخلل المادة الرمادية وتقسمها إلى جزر معزولة (تسمى في الغالب أنوية nuclei).

ما يلي هو مقطع في القسم الذيلي من النخاع المستطيل caudal medulla oblongata:

caudal medulla section

المادة الرمادية في هذا المقطع ليست متصلة، بخلاف الحال في مقطع الحبل الشوكي. المادة الرمادية في هذا المقطع هي مقسمة إلى مجموعة كبيرة من الجزر المفصولة عن بعضها بواسطة المادة البيضاء. كل جزيرة من الجزر تسمى نواة nucleus. كل نواة تؤدي وظيفة محددة.

المنطقة المسماة “الهرم” pyramid (في الجهة البطنية) هي ليست إلا الطريق القشري الشوكي corticospinal tract الذي ذكرناه في المقال السابق. هذا الطريق يصل بين القشرة المحركة في المخ وبين الخلايا المحركة الجسمانية في القرنين الأماميين للحبل الشوكي.

الهرم (الطريق القشري الشوكي) هو طبعا مكون من مادة بيضاء. سبب تسميته بالهرم هو الشكل الذي يحدثه على السطح الخارجي للنخاع المستطيل.

منظر بطني للنخاع المستطيل medulla oblongata والجسر pons (جسر وارليوس pons Varolii). لاحظ كيف أن الهرمين pyramids يشكلان نتوءين على السطح البطني للنخاع المستطيل، وإلى جانبيهما يوجد نتوءان آخران هما الزيتونتان olives

على الجهة الظهرية للهرم في مقطع النخاع المستطيل توجد كتلة أخرى من المادة البيضاء تسمى “الشريط الإنسي” medial lemniscus. هذا الشريط هو مجرد استمرار للطريق الحسي الصاعد من الحبل الشوكي الذي يسمى العمودان الظهريان dorsal columns.

طريق العمودين الظهريين هو طريق واع ينقل حس الاهتزاز واللمس الدقيق والحس الذاتي من الحبل الشوكي إلى الثلم thalamus، ومن الثلم إلى قشرة المخ الحسية الجسمانية somatosensory cortex. ألياف العمودين الظهريين تنتهي في القسم الذيلي من النخاع المستطيل عند نواتين تسميان “النواة النحيلة” nucleus gracilis و”النواة وتدية الشكل” nucleus cuneatus. هاتان النواتان ترسلان أليافا عصبية صاعدة تكون ما يسمى بالشريط الإنسي medial lemniscus. ألياف الشريط الإنسي تنتهي في الثلم.

على الجهة الجانبية (الوحشية) من مقطع النخاع المستطيل يظهر الطريق الشوكي المخيخي spinocerebellar tract الصاعد من الحبل الشوكي نحو المخيخ. على الجهة الداخلية (الإنسية) من هذا الطريق يظهر الطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract الذي يسمى في مقطع النخاع المستطيل أحيانا باسم “الشريط الشوكي” spinal lemniscus. هذا الطريق ينقل حس الألم والحرارة واللمس غير الدقيق إلى الثلم ومنه إلى قشرة المخ الحسية الجسمانية.

مما سبق يمكننا أن نتوصل إلى التعميم الآتي: النصف البطني ventral من مقطع النخاع المستطيل هو في معظمه مكون من المادة البيضاء (الهرمان pyramids والشريطان الإنسيان medial lemnisci والشريطان الشوكيان spinal lemnisci والطريقان الشوكيان المخيخيان tracti spinocerebellares). النصف الظهري dorsal من مقطع النخاع المستطيل هو في معظمه مكون من المادة الرمادية المتوزعة على شكل جزر تسمى أنوية.

هذا التوزع للمادة الرمادية والمادة البيضاء يختلف عن التوزع في مقطع الحبل الشوكي. في مقطع الحبل الشوكي المادة الرمادية توجد في الوسط وحولها توجد المادة البيضاء. في النخاع المستطيل المادة الرمادية تتركز في الظهر والمادة البيضاء تتركز في البطن.

توزع أنوية المادة الرمادية

أنوية المادة الرمادية في مقطع النخاع المستطيل الذيلي هي متوزعة على نحو شبيه بالتوزع الوظيفي المشاهد في الحبل الشوكي: في الناحية الظهرية توجد مجموعة من الأنوية الحسية أو الاستقبالية، وإلى الأمام منها تقع مجموعة من الأنوية التأثيرية.

الأنوية الحسية تشمل ما يلي:

  • في الناحية الظهرية توجد النواة النحيلة nucleus gracilis والنواة وتدية الشكل nucleus cuneatus. هاتان النواتان تستقبلان حس الاهتزاز واللمس الدقيق والحس الذاتي القادم من الحبل الشوكي عبر ألياف العمودين الظهريين dorsal columns.
  • إلى الأمام من النواتين السابقتين توجد “نواة الطريق المفرد” nucleus tractus solitarii (اسمها الشائع في الإنكليزية هو “النواة المفردة” solitary nucleus). هذه النواة تستقبل الحس المستقل autonomic (الحس الحشوي visceral) القادم عبر الأعصاب القحفية (الأعصاب القحفية التي تنقل حسا مستقلا هي الأعصاب رقم 10 و 9 و 7). النواة المفردة تستقبل حس الذوق القادم من بطانة الفم عبر الأعصاب القحفية رقم 7 و 9 و 10.
  • على الجانب الخارجي (الوحشي) للأنوية السابقة توجد نواة حسية كبيرة تسمى “النواة الشوكية للعصب ثلاثي التوائم” nucleus spinalis nervi trigemini. هذه النواة تستقبل حس الألم والحرارة والحكة واللمس غير الدقيق القادم من النصف الأمامي لجدار الرأس (عبر العصب القحفي الخامس).

هذه الأنوية الحسية تعادل أنوية القرن الخلفي للحبل الشوكي، ولكنها في النخاع المستطيل مفصولة عن بعضها بالمادة البيضاء.

إلى الأمام من هذه الأنوية الحسية تقع مجموعة من الأنوية التأثيرية تشمل ما يلي:

  • النواة الظهرية للعصب المبهم nucleus dorsalis nervi vagi (نواة تأثيرية مستقلة autonomic)
  • النواة المبهمة nucleus ambiguus (نواة تحريكية “جسمانية حشوية” somatovisceral)
  • نواة العصب تحت اللساني nucleus nervi hypoglossi (نواة تحريكية جسمانية somatic motor)

النواة المبهمة nucleus ambiguus هي نواة تحريكية واعية أو إرادية، ولكنها تسمى “جسمانية حشوية” somatovisceral لأنها تتحكم (عن طريق العصبين القحفيين رقم 10 و 9) بعضلات حشوية هي عضلات البلعوم والحنجرة. البلعوم والحنجرة هي أعضاء حشوية، والمفترض نظريا هو ألا يكون الإنسان قادرا على التحكم بهذه الأعضاء بشكل إرادي، ولكن الإنسان يستطيع أن يتحكم بها بشكل إرادي (الإنسان يستطيع أن يبلع بشكل إرادي ويستطيع أن يرفع حنجرته بشكل إرادي). العضلات المكونة للبلعوم والحنجرة هي عضلات مخططة (هيكلية) وليست عضلات ملساء كما هو الحال في بقية الأعضاء الحشوية. بسبب هذه التناقضات فإن النواة المبهمة تسمى “جسمانية حشوية” somatovisceral.

خلاصة ما سبق هي أن التوزع الوظيفي للمادة الرمادية في مقطع النخاع المستطيل الذيلي يشبه إلى حد ما نظيره في الحبل الشوكي. الأنوية الحسية تقع خلف الأنوية التأثيرية، وهذه الأنوية هي متخصصة وظيفيا على نحو شبيه بالتخصص الوظيفي المشاهد في الحبل الشوكي.

خلايا الربط

فيما سبق ركزنا على نوعين من الخلايا العصبية هما الخلايا التأثيرية effector (المحركة والإفرازية) والخلايا الحسية sensory. هذان النوعان هما ربما أكثر أنواع الخلايا العصبية بدائية، ولكن هناك نوع ثالث مهم هو خلايا الربط association neurons (تسمى أيضا خلايا التوصيل relay neurons أو الخلايا البينية interneurons).

خلايا الربط العصبي هي أشبه بالأسلاك التي تصل بين مكونات دارة إلكترونية. المبدأ الأساسي لعمل هذه الخلايا هو ربط الخلايا العصبية الحسية مع الخلايا العصبية التأثيرية أو مع خلايا ربط أخرى. خلايا الربط هي محورية في عمل الجهاز العصبي وبدونها ما كان يمكن للجهاز العصبي أن يقوم بوظائفه المعقدة.

خلايا الربط تلعب دورا أساسيا في تكوين الطرق العصبية الحسية الصاعدة من الحبل الشوكي. كل الخلايا الموجودة في القرنين الخلفيين للحبل الشوكي هي خلايا ربط (لأن أجسام الخلايا الحسية هي موجودة خارج الحبل الشوكي في عقد الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية). بعض خلايا الربط في القرنين الخلفيين ترسل محاورها العصبية axons نحو خلايا القرنين الأماميين (لتكوين منعكسات شوكية)، وبعضها الآخر ترسل محاورها نحو المناطق الدماغية العليا. مثلا بعض الخلايا التي تستقبل حس الألم والحرارة ترسل محاورها إلى الثلم thalamus ضمن ما يسمى بالطريق الشوكي الثلمي spinothalamic tract.

خلايا الربط التي تدخل في تكوين الطرق الحسية الصاعدة لا تسمى عادة خلايا ربط ولكنها تسمى “خلايا حسية من الرتبة الثانية” second-order sensory neurons. الخلايا الحسية الحقيقية تسمى “خلايا حسية من الرتبة الأولى” first-order sensory neurons. بالنسبة للطريق الشوكي الثلمي فهو يحوي خلايا حسية من ثلاث رتب:

  • خلايا الرتبة الأولى توجد في عقد الجذور الخلفية للأعصاب الشوكية dorsal root ganglia
  • خلايا الرتبة الثانية توجد في القرنين الخلفيين للحبل الشوكي dorsal horns
  • خلايا الرتبة الثالثة توجد في “النواة البطنية الخلفية الوحشية” ventral posterolateral nucleus في الثلم thalamus

كل هذه الخلايا تسمى خلايا حسية، رغم أن خلايا الرتبتين الثانية والثالثة هي في الحقيقة مجرد خلايا ربط.

في الحقيقة كل خلايا الجهاز العصبي المركزي هي خلايا ربط باستثناء الخلايا المحركة الجسمانية somatic motor الموجودة في القرنين الأماميين للحبل الشوكي وفي أنوية بعض الأعصاب القحفية (الخلايا المحركة الجسمانية الحشوية somatovisceral هي مشمولة).

كلمة “خلايا الربط” عندما ترد في الأبحاث والمقالات فإن المقصود بها عادة هو الخلايا التي تربط بين الطرق العصبية المختلفة. خلايا الربط الموجودة ضمن طريق حسي تعتبر خلايا حسية من رتبة ثانية أو ثالثة، ونفس الأمر ينطبق على خلايا الربط الموجودة ضمن طريق تأثيري. خلايا الربط التي تربط بين طرق عصبية مختلفة هي التي تسمى خلايا ربط لدى الباحثين.

وفق هذا المفهوم فإن خلايا الربط في الحبل الشوكي هي فقط تلك الخلايا ذات المحاور القصيرة التي تربط بين الخلايا الحسية في عقد الجذور الخلفية والخلايا المحركة في القرنين الأماميين. آلية عمل هذه الخلايا هي واضحة نسبيا وسهلة الفهم.

في الدماغ الوضع هو أعقد بكثير. خلايا الربط في الدماغ تشكل كتلا مستقلة من المادة الرمادية (تسمى أنوية nuclei أو عقدا ganglia أو بأسماء أخرى). هذه الكتل الرمادية الربطية تصدر طرقا عصبية ربطية وتستقبل طرقا عصبية ربطية بالإضافة إلى استقبالها لفروع من الطرق العصبية الحسية والتأثيرية. بما أن الكتل الرمادية الربطية هي كثيرة العدد وبما أنها تصدر وتستقبل العديد من الطرق العصبية فهذا يؤدي إلى خلق غابة كثيفة من الطرق العصبية المتشابكة التي لا يمكن فهم آلية عملها إلا بصعوبة. التعقيد الموجود في الدماغ هو ليس بسبب الطرق الحسية والتأثيرية ولكنه بسبب الطرق الربطية التي هي متشابكة ومعقدة والباحثون حتى الآن لا يفهمونها بشكل جيد.

كثرة الطرق الربطية هي السبب الأساسي لكثرة المادة البيضاء في الدماغ وتفتت المادة الرمادية إلى جزر متفرقة كما بينا في الأعلى.

معظم القشرة المخية cerebral cortex لدى البشر هي مكونة من خلايا ربطية. الباحثون يقسمون القشرة المخية إلى ثلاثة أقسام:

  • قشرة حسية تسمى القشرة الحسية الأولية primary sensory cortex
  • قشرة محركة تسمى القشرة المحركة الأولية primary motor cortex
  • قشرة ربطية تسمى قشرة الربط association cortex

القشرة الحسية الأولية والقشرة المحركة الأولية هما أيضا مكونتان من خلايا ربط، ولكن بما أنهما متصلتان بشكل مباشر مع الطرق الحسية الصاعدة والطرق المحركة النازلة فإن الباحثين يعتبرون خلاياهما جزءا من الطرق الحسية والمحركة، وبالتالي هذه الخلايا توصف بأنها خلايا حسية ومحركة وفقا للمبدأ الذي بيناه في الأعلى.

قشرة الربط تمثل معظم القشرة المخية. هذه القشرة هي المسؤولة عن الذاكرة وعن كل أنواع معالجة البيانات (بما في ذلك المعالجة المنطقية التي يسميها باحثو الجهاز العصبي “الوظائف التنفيذية” executive functions). إذن الخلايا العصبية الربطية هي شيء مهم للغاية. فهم تشابكات هذه الخلايا وآلية عملها هو التحدي الكبير الذي يواجه باحثي الجهاز العصبي المركزي.

الأنوية الربطية في جذع الدماغ

أهم ما يميز جذع الدماغ عن الحبل الشوكي هو وجود المادة الرمادية الربطية التي تؤدي وظائف معقدة نسبيا.

إذا استخدمنا لغة الكومبيوتر فإن دور خلايا الربط في جذع الدماغ هو “المعالجة” أو “تنفيذ البرامج”، ودور الطرق العصبية المتصلة معها هو شبيه ربما بما يسمى internal bus أو system bus، ودور الطرق العصبية الحسية والطرق العصبية التأثيرية هو شبيه ربما بما يسمى I/O buses.

الخلايا الربطية في جذع الدماغ تشكل عددا كبيرا من الأنوية التي تتواجد عموما على الجهة البطنية من الأنوية التأثيرية في منطقة تسمى “التشكل الشبكي” reticular formation.

مقطع في النخاع المستطيل المنقاري rostral medulla oblongata

أنوية التشكل الشبكي هي فضفاضة ويتخللها الكثير من المادة البيضاء، وهذا هو سبب تسمية المنطقة بالتشكل الشبكي.

إلى الأمام من التشكل الشبكي تقع كتلة من المادة الرمادية لها شكل محفظة مفتوحة في أحد طرفيها. هذه الكتلة تسمى “الأنوية الزيتونية” olivary nuclei. الأنوية الزيتونية تقع بداخل جسم من المادة البيضاء يسمى “الزيتونة” olive (باللاتينية oliva). الزيتونة تبرز على السطح البطني للنخاع المستطيل إلى جانب الهرم. الأنوية الزيتونية هي مرتبطة وظيفيا بالمخيخ.

caudal medulla reticular formation
مقطع في النخاع المستطيل الذيلي تظهر فيه بعض أنوية التشكل الشبكي (مصدر الصورة)
rostral medulla reticular formation
مقطع في النخاع المستطيل المنقاري تظهر فيه بعض أنوية التشكل الشبكي (نفس المصدر السابق)
reticular formation
منظر ظهري لجذع الدماغ تظهر فيه أنوية التشكل الشبكي

أنوية التشكل الشبكي تشرف على تنفيذ عدد كبير من المنعكسات المركبة الضرورية لحياة الحيوان والإنسان.

من هذه المنعكسات المركبة مثلا المنعكس المسؤول عن تنظيم التنفس.

التنفس

بعض الأنوية المسؤولة عن تنظيم التنفس في جذع الدماغ

التنفس respiration هو ليس منعكسا واحدا ولكنه شبكة من المنعكسات المرتبطة مع بعضها. في النخاع المستطيل والجسر pons هناك عدد من الأنوية المسؤولة عن التنفس. إحدى هذه الأنوية هي نواة الطريق المفرد nucleus of the solitary tract التي هي نواة حسية مستقلة autonomic (حشوية visceral) تستقبل الحس القادم من جدران القناة التنفسية عبر العصب القحفي العاشر (العصب المبهم vagus nerve) والحس القادم من المستقبلات الكيماويةchemoreceptors عبر العصبين القحفيين التاسع والعاشر.

المستقبلات الكيماوية المحيطية peripheral chemoreceptors هي موجودة في جدران الشرايين السباتية carotid arteries ضمن عقد تسمى “الأجسام السباتية” carotid bodies، وفي جدران الشريان الأبهر أو الأورطي aorta ضمن عقد تسمى الأجسام الأورطية aortic bodies. هذه المستقبلات تثار في حال نقص الأكسجين في الدم. المستقبلات الكيماوية المركزية central chemoreceptors هي موجودة على السطح البطني الوحشي ventrolateral للنخاع المستطيل. هذه المستقبلات تثار في حال زادت حموضة السائل الدماغي الشوكي cerebrospinal fluid المحيط بالدماغ والحبل الشوكي. زيادة الحموضة (نقص الـ PH) تحدث بسبب زيادة ثاني أكسيد الكربون في الدم CO2.

إثارة المستقبلات الكيماوية تؤدي إلى وصول إشارات عصبية إلى نواة الطريق المفرد عبر العصبين القحفيين التاسع والعاشر. في نواة الطريق المفرد توجد خلايا تسمى “المجموعة التنفسية الظهرية” dorsal respiratory group. إثارة هذه الخلايا تؤدي إلى وصول إشارات عصبية إلى “المجموعة التنفسية البطنية” ventral respiratory group (اختصارا VRG). القسم العلوي (المنقاري rostral) من المجموعة التنفسية البطنية يحفز الشهيق inspiration بإرساله إشارات عصبية إثارية excitatory إلى:

  • خلايا القرنين الأماميين من الحبل الشوكي المسؤولة عن تقليص عضلات التنفس (عضلات جدار الصدر والحجاب الحاجز diaphragm) عبر الأعصاب الشوكية
  • النواة المبهمة nucleus ambiguus المسؤولة عن تقليص عضلات الحنجرة larynx والبلعوم pharynx عبر العصب القحفي العاشر (العصب المبهم vagus nerve)

تقلص عضلات التنفس يزيد سعة الصدر، وهذا يسبب انخفاض ضغط الهواء داخل الطريق التنفسي (الممتد من الأنف والفم إلى حويصلات الرئتين). انخفاض ضغط الهواء داخل الطريق التنفسي يؤدي إلى تدفق الهواء عبر الأنف والفم إلى داخل الطريق التنفسي، وهذا هو ما يسمى بالشهيق. دخول الهواء إلى الطريق التنفسي يرفع ضغط الهواء داخله، ولكن الضغط في جوف الصدر المحيط بالطريق التنفسي يظل منخفضا. الفرق في الضغط بين جوف الطريق التنفسي وجوف الصدر المحيط به يؤدي إلى تمطط جدران القصبات التنفسية. هذا التمطط يثير مستقبلات حسية ميكانيكية mechanoreceptors موجودة في جدران القصبات التنفسية، وهو ما يؤدي إلى وصول إشارات عصبية إلى نواة الطريق المفرد عبر العصب القحفي العاشر. هذه الإشارات تؤدي إلى تثبيط المجموعة التنفسية الظهرية، وبالتالي تثبيط القسم المنقاري من المجموعة التنفسية البطنية، وبالتالي تثبيط الشهيق. تثبيط الشهيق يؤدي إلى بدء عملية الزفير expiration التي تحدث في العادة بشكل سلبي passive دون تقلصات عضلية (بسبب مرونة جدار الصدر الذي يسعى بشكل تلقائي للعودة إلى الوضع الذي كان عليه قبل الشهيق).

في حال كان إيقاع التنفس سريعا فإن الاعتماد على مرونة جدار الصدر يصبح أمرا غير مجد ولا بد من تقليص عضلات التنفس لتسريع خروج الهواء من الصدر. في هذه الحالة يتم تنشيط القسم السفلي (الذيلي caudal) من المجموعة التنفسية البطنية لتحفيز الزفير بشكل فاعل active إو إجباري forced.

ما سبق هو تلخيص لمنعكسات الشهيق والزفير. هذا التلخيص لا يوضح الآلية التي يتولد على أساسها الإيقاع التنفسي respiratory rhythm. الإيقاع في الموسيقى هو الدقات التي تتكرر بانتظام. في الفيزيولوجيا كلمة إيقاع تستخدم لوصف حركات أو إفرازات أو إشارات تتكرر بانتظام. المقصود بالإيقاع التنفسي هو تكرر عملية الشهيق بانتظام.

الإيقاع التنفسي ليس مرتبطا بالمنعكسات التي ذكرناها في الأعلى. لو أزلنا المستقبلات الكيماوية من الجسم فإن الإيقاع التنفسي سيستمر ولن يتوقف. لهذا السبب الباحثون يرون أن الإيقاع التنفسي هو ليس منعكسا ولكنه عملية تحدث بشكل تلقائي وبمعزل عن أية محفزات حسية. الباحثون يعتقدون أن الإيقاع التنفسي يحدث بسبب ما يسمى “مولد نمط مركزي” central pattern generator. مولدات النمط المركزية هي شبكات عصبية تولد إشارات تأثيرية بإيقاع منتظم دون الاعتماد على إشارات حسية، أي أن عملها هو شبيه بعمل معالج الكومبيوتر الذي يقوم بتنفيذ برنامج معين بشكل مستمر. مولد النمط المركزي المسؤول عن الإيقاع التنفسي هو ليس معروفا. البعض يقولون أن المجموعة التنفسية الظهرية هي المسؤولة عن توليد الإيقاع التنفسي، والبعض يقولون أن الإيقاع التنفسي يتولد في Pre-Bötzinger complex (“مجمّع ما قبلBötzinger “) الذي هو مجموعة من الأنوية تقع في أعلى المجموعة التنفسية البطنية.

هناك في الجسر pons مجموعتان من الأنوية لهما علاقة بتنظيم إيقاع التنفس. المجموعة الأولى تقع في أسفل الجسر وتسمى apneustic center. إثارة هذه المجموعة تؤدي إلى إطالة زمن الشهيق. المجموعة الثانية تقع في أعلى الجسر (ضمن ما يسمى “المجمّع جانب الذراعي” parabrachial complex) وتسمى pneumotaxic center أو “المجموعة التنفسية الجسرية” pontine respiratory group. إثارة هذه المجموعة تؤدي إلى تثبيط أو إنهاء الشهيق، أي أن عملها هو معاكس لعمل apneustic center.

الكيفية التي تتفاعل بها كل الأنوية سابقة الذكر لتوليد وتنظيم التنفس هي ليست واضحة ومحل جدل، ولكن الواضح هو أن عملية التنفس هي عملية معقدة تتم عبر تآزر مجموعة كبيرة من الأنوية الربطية والحسية والتحريكية.

ضغط الدم

أحد أهم المنعكسات المركبة التي ينظمها النخاع المستطيل هو المنعكس المسؤول عن المحافظة على ضغط الدم.

عمل الجهاز القلبي الوعائي cardiovascular system يشبه عمل شبكة الأنابيب التي تغذي بناية بالماء. لكي يصل الماء إلى كل الشقق في البناية لا بد أن يكون هناك ضغط للماء. إذا كان ضغط الماء ضعيفا فلا بد من تركيب محرك يضخ الماء.

الأوعية الدموية في الجسم الحيواني والبشري هي شبيهة بشبكة الأنابيب، والقلب هو المضخة التي تولد ضغط الدم. بدون ضغط الدم لن يجري الدم في الأوعية الدموية، وبدون جريان الدم لن يصل الأوكسجين والغذاء إلى الأنسجة الخلوية ولن يتم نقل الفضلات منها.

هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى انخفاض ضغط الدم. أحد هذه الأسباب هو مثلا الجفاف (الدم بمعظمه مكون من الماء، وفي حال نقصت كمية الماء في الجسم فهذا سيؤدي لانخفاض كمية الدم في الأوعية الدموية وبالتالي انخفاض ضغط الدم). النزف هو سبب آخر لنقص ضغط الدم. من الممكن أيضا أن ينخفض ضغط الدم بسبب توسع الأوعية الدموية التي يجري فيها. توسع الأوعية الدموية يمكن أن يحدث بسبب وجود “سموم حيوية” toxins في الجسم (مصدر السموم الحيوية قد يكون مثلا ميكروبات دخلت إلى الجسم)، أو بسبب تفاعل تحسسي ناتج عن وجود “مُحَسِّسات” allergens في الجسم، أو بسبب تناول عقاقير معينة (وغير ذلك من الأسباب). ضغط الدم يمكن أن ينخفض أيضا نتيجة لخلل في عمل القلب.

هناك أسباب عديدة يمكن أن تؤدي لانخفاض ضغط الدم، وانخفاض ضغط الدم هو شيء خطير يتعارض مع حياة الحيوان والإنسان. لهذا السبب هناك في الجسم الحيواني والبشري أكثر من آلية لرفع ضغط الدم في حال انخفاضه. أسرع هذه الآليات هي الآلية التي ينظمها النخاع المستطيل.

أنوية النخاع المستطيل المسؤولة عن تنظيم ضغط الدم تسمى “المركز التحريكي الوعائي” vasomotor center أو “المركز القلبي الوعائي” cardiovascular center (وأظن أنها تسمى بأسماء أخرى أيضا). هذه الأنوية تقع على الجانب الخارجي أو الوحشي lateral للأنوية الزيتونية (في المنطقة المسماة “النخاع البطني الوحشي” ventrolateral medulla).

medulla nuclei

تنظيم ضغط الدم يبدأ من مستقبلات حسية ميكانيكية موجودة في جدران بعض الأوعية الدموية الكبيرة تسمى “مستقبلات الضغط” baroreceptors. هذه المستقبلات هي موجودة في نفس المواقع التي توجد فيها المستقبلات الكيماوية المحيطية (الجيبان السباتيان carotid sinuses وقوس الشريان الأورطي aortic arch).

baroreceptors

جدران الأوعية الدموية الكبيرة لها طابع مرن. انخفاض ضغط الدم يؤدي إلى انخفاض الشد أو التوتر في جدران الأوعية الدموية الكبيرة. هذا الأمر يثير مستقبلات الضغط وهو ما يؤدي لانتقال إشارات عصبية عبر العصبين القحفيين التاسع والعاشر إلى نواة الطريق المفرد solitary nucleus، ومن هناك تنتقل الإشارات إلى المركز القلبي الوعائي.

المركز القلبي الوعائي مكون من منطقتين، منطقة عليا (منقارية rostral) تسمى “المنطقة الضاغطة” pressor area لأن إثارتها تؤدي إلى رفع ضغط الدم، ومنطقة سفلى (ذيلية caudal) تسمى “المنطقة المهبِّطة” depressor area لأن إثارتها تؤدي لتثبيط المنطقة العليا الضاغطة وبالتالي خفض ضغط الدم.

عندما تثار المنطقة الضاغطة فإنها ترسل إشارات عصبية إثارية excitatory عبر الطريق الشبكي الشوكي reticulospinal tract إلى القرن الجانبي من الحبل الشوكي، الذي يسمى أيضا “النواة الجانبية المتوسطة” intermediolateral nucleus.

مقطع في المادة الرمادية للحبل الشوكي تظهر فيه “النواة الجانبية المتوسطة” intermediolateral nucleus التي هي نفسها القرن الجانبي lateral horn

النواة الجانبية المتوسطة هي مصدر الأعصاب ذاتية الحكم autonomic (الحشوية visceral) في الحبل الشوكي. إثارة هذه النواة تؤدي لإرسال إشارات عبر الأعصاب ذاتية الحكم إلى القلب وجدران الأوعية الدموية. هذه الإشارات تؤدي إلى إفراز ناقل عصبي يسمى norepinephrine (أو noradrenaline) من نهايات المحاور العصبية في القلب وجدران الأوعية الدموية. هذا الناقل يؤثر في عضلة القلب فيزيد من قوة انقباضها ويزيد من سرعة الإيقاع القلبي cardiac rhythm، ويؤثر في العضلات الملساء في جدران الأوعية الدموية فيسبب تقلصها وبالتالي تضييق الأوعية الدموية. المحصلة النهائية لكل ذلك هي رفع ضغط الدم.

هذه الآلية هي أسرع آلية يملكها الجسم البشري لرفع ضغط الدم، ولكن ماذا لو ارتفع ضغط الدم إلى ما فوق الحد المطلوب؟ النواة المفردة في هذه الحالة تستقبل إشارات من مستقبلات الضغط وترسل إشارات إثارية إلى المنطقة المهبِّطة (الذيلية) من المركز القلبي الوعائي. إثارة هذه المنطقة تؤدي إلى إرسال إشارات عصبية مثبطة إلى المنطقة الضاغطة (المنقارية). بالإضافة إلى ذلك النواة المفردة ترسل إشارات إثارية إلى النواة المبهمة nucleus ambiguus، وهذه النواة بدورها ترسل إلى القلب عبر العصب المبهم vagus nerve إشارات مثبطة تؤدي إلى إبطاء الإيقاع القلبي.

هذه المنعكسات المتراكبة هي الطريقة التي ينظم بها النخاع المستطيل ضغط الدم.

هناك فرق مهم بين تنظيم ضغط الدم وتنظيم التنفس وهو أن الدماغ ليس مسؤولا عن توليد إيقاع القلب.

في الأعلى ذكرنا أن النخاع المستطيل والجسر يحويان أنوية وظيفتها توليد إيقاع التنفس وتنظيمه. النخاع المستطيل ينظّم إيقاع القلب عبر زيادة سرعته أو إنقاصها، ولكن بالنسبة لتوليد إيقاع القلب فهذه المسألة لا علاقة للنخاع المستطيل أو للدماغ عموما بها. ما يولد إيقاع القلب هو بؤر موجودة في عضلة القلب نفسه. في الأحوال الطبيعية البؤرة التي تولد إيقاع القلب هي “العقدة الجيبية الأذينية” sinoatrial node الموجودة في جدار الأذين الأيمن right atrium.

ملاحظة على الهامش: كلمة ātrium اللاتينية تعني “صالة المدخل” entry hall. الترجمة العربية “أذين” هي ترجمة خاطئة مبنية على كلمة auricle (بالفرنسية oreillette، باللاتينية auricula) التي كانت تستخدم قديما كتسمية لما يعرف حاليا بـ atrium. حسب علمي فإن كلمة auricle كتسمية لـ atrium لم تعد مستخدمة حاليا في اللغة الإنكليزية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s