العقل (3)

العقل الفيزيائي

في المقال الأخير تحدثت عن المذهب الفلسفي الثنائي dualism وتحدثت عن مذهب “ثنائية الخصائص” property dualism الذي يتبناه الثنائيون المعاصرون. أتباع هذا المذهب يقولون أننا لا نفهم المكونات الحقيقية للعقل (بمعنى الوعي) وأن كل فهمنا ينحصر في مكونات المستوى الأدنى.

في مقابل هذه النظرة هناك النظرة الأحادية المادية أو الأحادية الفيزيائية physicalist monism التي يتبناها غالبية الباحثين والفلاسفة في العالم الغربي. هذه النظرة ترى أن الدماغ الفيزيائي هو الشيء الوحيد الحقيقي وأما الحديث عن عقل غير فيزيائي (سواء كان روحيا أم “ماديا منبثقا” emergent) فهو حديث مرفوض.

رغم أن النظرة الأحادية الفيزيائية هي النظرة الغالبة إلا أن هناك خلافا حول التفاصيل. الخلاف يتعلق بطبيعة “الحالات العقلية” mental states وعلاقة هذه الحالات بالحالات الفيزيائية physical states.

المقصود بالحالة العقلية هو جميع الأفكار الموجودة في العقل خلال لحظة معينة. لو اعتبرنا أن العقل هو فيلم سينمائي فإن الحالة العقلية تعبر عن مشهد واحد من الفيلم (مثلا لنفرض أنني أفكر الآن في الخروج من البيت لتناول الطعام، وأنني أشعر بالجوع، وأنني أرى أمامي لوحة معلقة على الحائط، وأنني أسمع صوت التلفاز. مجموع هذه الأفكار وغيرها من الأفكار التي توجد في عقلي هو حالتي العقلية خلال هذه اللحظة). المقصود بالحالة الفيزيائية هو مثلا حالة الدماغ الفيزيائية خلال لحظة معينة (كيفية توزع الإشارات العصبية ونحو ذلك).

السلوكية

في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن توجد معلومات كثيرة حول الدماغ البشري، ولهذا السبب غالبية الباحثين كانوا يتجاهلون موضوع العقل والوعي ويركزون على دراسة السلوك. هذا المذهب يسمى المدرسة السلوكية behaviorism.

بعض السلوكيين نفوا وجود الحالات العقلية واعتبروها مجرد أوهام. هذه المدرسة تسمى “السلوكية الجذرية” radical behaviorism وهي مرتبطة بالباحث الأميركي B. F. Skinner.

Skinner كان يرى أن سلوك الإنسان تحدده مبادئ المنعكسات (خاصة المبادئ التي تسمى operant conditioning). بالنسبة له الحالات العقلية هي مجرد تعابير لغوية يستخدمها الناس لوصف السلوك أو الميل نحو السلوك behavioral disposition. مثلا عندما يكون الإنسان على وشك أن يفعل شيئا أو يخطط لفعل شيء فإن الناس يقولون أنه “يريد” أن يفعل هذا الشيء، إذن مفهوم “الإرادة” هو ليس أكثر من وصف لغوي يعبر عن الميل نحو السلوك أو الاستعداد للقيام بالسلوك. لا توجد ظاهرة فيزيائية حقيقية اسمها “الإرادة”. ما ينطبق على الإرادة ينطبق على جميع الحالات والعمليات العقلية الأخرى.

وفقا لمنطق Skinner فإن العقل لا يمكن أن يكون هو سبب السلوك، لأن العقل هو شيء وهمي ليس له وجود فيزيائي. سبب السلوك البشري هو قوانين المنعكسات. بناء على ذلك الإنسان ليست له إرادة حرة free will حقيقية. الإرادة الحرة هي وهم. الإنسان في الحقيقة هو مسير وفق قوانين المنعكسات التي تحكم جميع الحيوانات.

الوظائفية والتماثلية

المذهب السلوكي (الذي يتجاهل العقل) انحسر في النصف الثاني من القرن العشرين بسبب تطور العلم وظهور اكتشافات واختراعات جديدة لها علاقة بالتفكير البشري.

أحد أهم الاختراعات في القرن العشرين هو الكومبيوتر. كثير من الباحثين والفلاسفة لاحظوا تشابها بين آلية عمل أجهزة الكومبيوتر وبين آلية عمل العقل البشري. هذه الملاحظة دفعت الكثيرين للافتراض بأن الدماغ البشري هو في المحصلة جهاز كومبيوتر من طبيعة معقدة.

السؤال المهم الذي برز آنذاك هو السؤال التالي: لو أن البشر تمكنوا من صناعة جهاز كومبيوتر معقد شبيه بالدماغ البشري فهل سيكون لهذا الجهاز عقل؟ كثيرون أجابوا على هذا السؤال بنعم.

المقارنة بين العقل البشري والكومبيوتر أدت إلى ظهور مدرسة فلسفية تسمى “الوظائفية” functionalism. هذه المدرسة ترى أن أي جهاز يؤدي نفس الوظائف التي يؤديها الدماغ البشري سوف تكون لديه حالات عقلية مماثلة للحالات العقلية البشرية.

المميز في هذه المدرسة هو أنها ساوت بين الحالات العقلية والوظائف الدماغية. هذا الطرح يختلف عن الطرح المنافس الذي يسمى نظرية التماثل identity theory أو الفيزيائية الإرجاعية reductive physicalism.

نظرية التماثل تقول أن الحالات العقلية هي عينها الحالات الدماغية:

الحالات العقلية = الحالات الدماغية

معنى هذا الكلام هو أن الأفكار التي تدور في عقل الإنسان هي نفسها الإشارات العصبية التي تتحرك في الدماغ.

نظرية التماثل لا تسمح بظهور الحالات العقلية البشرية لدى أجهزة الكومبيوتر، لأن أجهزة الكومبيوتر لا يمكنها أن تحوي نفس الحالات الدماغية البشرية. المعنى هو أن أجهزة الكومبيوتر لا يمكنها أن تحوي نفس التشكيلة من الإشارات والتشابكات العصبية التي توجد في الدماغ البشري، وطالما أن هذه الإشارات والتشابكات العصبية هي عينها الحالات العقلية فهذا يعني أن الحالات العقلية لا يمكن أن تكون في أي جهاز سوى الدماغ البشري.

نظرية التماثل هي متزمتة في تعريفها للحالات العقلية، وهذا ما دفع البعض لتخفيفها إلى نظرية سميت token identity theory. هذه النظرية ترى أن الحالة العقلية الواحدة تعادل أكثر من حالة فيزيائية، بمعنى أن الحالة العقلية هي في الحقيقة عبارة عن نوع type من الحالات الفيزيائية وليست حالة فيزيائية بعينها. هذه النظرية تسمح بظهور الحالات العقلية البشرية لدى أجهزة الكومبيوتر.

نظرية التماثل القديمة صارت تسمى type identity theory تمييزا لها عن النظرية المعدلة.

فهم الفرق بين النظرية الوظائفية functionalism ونظرية التماثل identity theory هو ليس أمرا سهلا بالنسبة لشخص مثلي غير متمرس في الفلسفة، ولكن ما فهمته هو أن النظرية الوظائفية تتعامل مع الحالات العقلية على أنها الوظائف التي يؤديها الدماغ أو الكومبيوتر، أي أن الحالات العقلية هي مفهوم نظري وليس ماديا. الحالات العقلية في منظور هذه المدرسة هي مثل برامج الكومبيوتر. لو أنك نظرت في جهاز الكومبيوتر أثناء عمله فإنك لن تستطيع أن تشاهد البرامج بعينيك—كل ما ستشاهده هو إشارات كهربائية تنتقل بين أجزاء الكومبيوتر. عدم رؤيتك للبرامج لا يعني أنها غير موجودة.

المحصلة هي أن المدرسة الوظائفية تعتبر العقل مفهوما غير مادي. هذا الموقف يشبه ظاهريا موقف السلوكيين الجذريين الذين نفوا وجود العقل واعتبروه مجرد أقاويل شعبية، ولكن في الحقيقة هناك فرق مهم بين النظرتين الوظائفية والسلوكية:

  • الوظائفيون لا ينفون أو يتجاهلون وجود العقل (وإن كانوا يعتبرونه مفهوما نظريا)
  • الوظائفيون يعطون العقل قوة سببية، بمعنى أن العقل في منظورهم هو سبب السلوك. هذا الموقف يختلف تماما عن موقف السلوكيين.

العقل في منظور الوظائفيين هو شيء نظري ولكنه رغم ذلك يؤثر سببيا في الدماغ المادي. أنصار نظرية التماثل رأوا مشكلة في هذا الكلام لأنه يشبه كلام الثنائيين من حيث أنه يفصل العقل عن الدماغ الفيزيائي.

نظرية التماثل ترى أن العقل هو عينه الدماغ الفيزيائي.

الثنائية المستترة

في الأعلى بينت الاختلاف بين السلوكيين والتماثليين والوظائفيين. رغم اختلافها في التفاصيل إلا أن جميع هذه المدارس تنتمي إلى الأحادية الفيزيائية physicalist monism.

في القرن العشرين كان هناك فلاسفة يصنفون أنفسهم على أنهم من الأحاديين الفيزيائيين، ولكنهم رغم ذلك كانوا يعارضون جميع المدارس سالفة الذكر. هؤلاء يصنفون تحت عنوان غريب هو “الفيزيائيون غير الإرجاعيون” non-reductive physicalists. المقصود بكلمة “غير إرجاعيين” non-reductive هو أنهم لا يعتقدون بإمكانية مساواة الحالات العقلية مع السلوك أو الحالات الفيزيائية للدماغ أو الوظائف العقلية. باختصار هم لا يعتقدون بإمكانية مساواة العقل مع أي شيء ندركه بحواسنا.

هؤلاء يقولون أن العقل مادي، ولكنهم لا يعلمون ما هو العقل بالضبط. ما يعلمونه فقط هو أن العقل ليس من الأشياء التي ندركها بحواسنا.

هؤلاء الأشخاص لا يملكون فكرا محددا ولكنهم يعارضون الأفكار المطروحة بناء على حجج بدت لي شبيهة بكلام الثنائيين. أنا أظن أن هؤلاء الناس هم في الحقيقة ثنائيون مستترون.

هؤلاء عارضوا النظرية الوظائفية معارضة شديدة وطرحوا عددا من الحجج لإثبات عدم صحتها. من هذه الحجج حجة سميت “دماغ الصين” China brain. هذه الحجة تقول ما يلي: لنفرض أن كل إنسان في الصين صار يتحرك على نحو مماثل للإشارات العصبية في الدماغ، بحيث أن الأمة الصينية صارت أشبه بدماغ كبير يلعب فيه البشر دور الإشارات العصبية لنقل المعلومات. هل ستكون الصين في مثل هذه الحالة واعية ولها عقل؟

هذه الحجة بدت لي سخيفة. الجواب وفق النظرية الوظائفية هو نعم. لو أن الصين تحولت إلى دماغ كبير فالمفترض وفق النظرية الوظائفية أن يكون للصين عقل. هذا الأمر ليس فيه أية غرابة إذا كنا نقبل منطق النظرية الوظائفية.

أنا لا أفهم ما هي قيمة هذه الحجة وما هو الهدف منها. هي لا تنفي شيئا ولا تطرح أي معلومة. هي أشبه بسؤال استغرابي.

هناك حجة أخرى سميت “الغرفة الصينية” Chinese room. هذه الحجة تقوم على المنطق الدائري circular reasoning. هذه الحجة تقول ما يلي: لنفرض أن هناك إنسانا لا يفهم أية كلمة صينية، ولكننا علمنا هذا الإنسان كيف يجيب على أي سؤال يطرح عليه باللغة الصينية (أي أنه يستطيع أن يرد باللغة الصينية على أي سؤال مطروح باللغة الصينية). هذا الشخص لا يفهم أية كلمة صينية ولكنه يعرف كيف يجمع الكلمات الصينية مع بعضها في جمل لكي يرد على أي سؤال. هل يمكننا أن نقول أن هذا الشخص يفهم اللغة الصينية؟ الجواب هو لا. إذن الكومبيوتر لا يفهم الكلام البشري حتى لو تمكن من الرد على أسئلة البشر والتحادث معهم. انتهت الحجة.

هذه الحجة (في رأيي) هي حجة ساقطة ومثال ممتاز على المنطق الدائري. الإنسان الموصوف في هذه الحجة هو إنسان خرافي لا يمكن أن يكون حقيقيا. لا يمكن لإنسان أن يكون قادرا على التحدث باللغة الصينية دون أن يفهم اللغة الصينية. هذا الطرح هو نفس النتيجة التي يريد أن يصل إليها صاحب الحجة، ولكنه وضعها ضمن الفرض.

صاحب هذه الحجة اسمه John Searle. هو لديه نظرية حول العقل تنص على ما يلي “الحالات العقلية لها سبب فيزيائي في الدماغ، ولكن الحالات العقلية تنتمي إلى مستوى أعلى higher-level من المستوى الفيزيائي”.

ما هو الفرق بين هذا الطرح وبين “ثنائية الخصائص”؟ لا يوجد فرق يذكر. في الحقيقة كل من ينتمون إلى التصنيف المسمى non-reductive physicalism يطرحون طروحات شبيهة بثنائية الخصائص. هم دائما يقولون أن العقل ينتمي إلى “مستوى أعلى” من المستوى الفيزيائي. هم يختلفون حول موضوع العلاقة السببية بين العقل وبين الدماغ. بعضهم يقولون أن العقل يؤثر سببيا في الدماغ (وبالتالي العقل هو سبب السلوك)، وبعضهم الآخر يرون أن العقل هو نتيجة لعمل الدماغ. النظرة الثانية تسمى “فوق الظواهرية” epiphenomenalism. أصحاب هذه النظرة يرون أن الحالات العقلية هي شيء مادي حقيقي، ولكنها من “مستوى أعلى” من المستوى الفيزيائي، وهي ليست سببا لعمل الدماغ ولكن عمل الدماغ هو سبب وجودها. العقل وفق هذه النظرة ليست له وظيفة.

المذهب فوق الظواهري يتفق مع المذهب السلوكي في أن العقل هو ليس سبب السلوك. نظرية التماثل والنظرية الوظائفية تريان أن العقل هو سبب السلوك.

الفكرة التي تقول أن العقل ينتمي لـ”مستوى أعلى” من المستوى الفيزيائي انتشرت بشكل كبير في العقود الأخيرة. لا أدري ما هو السبب، ولكن يبدو لي أن هذه الفكرة نابعة من العجز عن فهم الدماغ البشري. في العقود الأخيرة من القرن العشرين حصلت تطورات مهمة في دراسة الدماغ البشري (سميت “الثورة المعرفية” cognitive revolution)، ولكن رغم هذه التطورات والاكتشافات إلا أن الباحثين ما زالوا حتى الآن يجهلون آليات عمل الدماغ. هذا على ما يبدو خلق حالة من الإحباط دفعت بعض الناس نحو تبني الأفكار ذات الطابع الغيبي. البشر عندما يعجزون عن فهم شيء يلجؤون إلى التفسيرات الغيبية والخرافية.

رأيي الشخصي هو أن انتشار الأفكار المصنفة تحت عنوان “ثنائية الخصائص” property dualism و”الفيزيائية غير الإرجاعية” non-reductive physicalism يعود إلى الجهل والعجز عن فهم الدماغ البشري.

هل كل الوظائف العقلية حقيقية؟

في المقال الماضي أشرت إلى أن بعض الوظائف العقلية التي يتحدث عنها الفلاسفة والباحثون تبدو لي وظائف وهمية وغير حقيقية. أنا مثلا شككت في وجود الوظائف التي تسمى introspection و subjectivity.

السلوكيون المتشددون نفوا وجود الوظائف العقلية بالمطلق. أنا لا أؤيد هذا المذهب. هناك على ما أظن وظائف عقلية حقيقية يقوم بها الدماغ البشري، وهذه الوظائف هي سبب لجزء من السلوك البشري. أنا اقتنعت بكلام السلوكيين حول دور المنعكسات في السلوك البشري، ولكن من غير الواقعي أن ننسب كل السلوك البشري إلى المنعكسات. في رأيي أن السلوك البشري هو مركب من عنصرين اثنين: المنعكسات والوظائف العقلية. المنعكسات تعبر عن السلوك الغريزي البدائي (الغالب لدى الحيوانات)، وأما الوظائف العقلية فهي تعبر عن القدرة المعرفية cognition (التي تميز الحيوانات الذكية وعلى رأسها الإنسان).

هناك مدرسة فلسفية تسمى “المادية الإلغائية” eliminative materialism. هذه المدرسة ترى أن سبب عدم فهم الباحثين والفلاسفة لعمل الدماغ البشري يعود في قسم منه إلى وجود مفاهيم نظرية مغلوطة لدى هؤلاء الباحثين والفلاسفة. هذه المفاهيم المغلوطة لا تستند على أدلة ملموسة ولكنها تستند على “علم نفس شعبي” folk psychology. عندما نطلب من هؤلاء الباحثين والفلاسفة أن يثبتوا لنا حقيقة المفاهيم التي يتحدثون عنها فإنهم كثيرا ما يردون بعبارات من قبيل “المعرفة الفطرية” و”المعرفة البديهية”. المفاهيم المستندة على الفطرة والبديهة هي ليست دائما صحيحة، بل على العكس لو رجعنا إلى التاريخ فسنجد أن كثيرا من المفاهيم التي كانت “بديهية” في السابق لم تعد مقبولة في زمننا الحالي.

القدماء كانوا يعتقدون بالتنجيم، وكانوا يعتقدون بالعرافة (قراءة الكف والفنجان ونحو ذلك)، وكانوا يعتقدون بالسحر، وكانوا يعتقدون بالجن، وكانوا يعتقدون بالأرواح، وغير ذلك. هذه المفاهيم بالنسبة لهم كانت حقائق أكيدة، ولكن حاليا لا يوجد أي باحث علمي في الغرب يقبل هذه المفاهيم. هناك حاليا إجماع لدى الباحثين والفلاسفة الغربيين على أن هذه المفاهيم هي مفاهيم خرافية.

من الوارد جدا (بل من المرجح) أن بعض المفاهيم التي يتحدث عنها فلاسفة العقل حاليا هي أيضا مفاهيم خرافية، وهذا أحد الأسباب التي تجعل هؤلاء الفلاسفة يعجزون عن فهم الدماغ البشري.

بعض الباحثين يبحثون في الدماغ البشري عن مناطق تنفذ الوظائف التي يسمونها introspection و subjectivity، وعندما لا يجدون مناطق تنفذ هذه الوظائف فإنهم يفترضون أن هناك عقلا غير محسوس (من “مستوى أعلى”) ينفذ هذه الوظائف. الحل الأسهل في رأيي هو أن هذه الوظائف هي وظائف وهمية لا حقيقة لها.

أنا شعرت أن كثيرا من الوظائف العقلية التي يتحدث عنها الباحثون والفلاسفة هي مجرد أوهام. أنا مثلا أتساءل عما إذا كانت هناك وظيفة عقلية حقيقية تسمى “الإبداع” creativity. في رأيي أن الإبداع هو خليط من الخيال imagination والمعالجة المنطقية reasoning والذاكرة memory. الإبداع في رأيي هو ليس وظيفة عقلية حقيقية ولكنه حدث عقلي مركب من عدة وظائف عقلية. من الطبيعي ألا تكون هناك منطقة محددة في الدماغ مسؤولة عن الإبداع. طبعا كلمة الإبداع هي كلمة كبيرة للغاية ويمكن أن تشمل الإبداع اللغوي أو الفني أو الرياضي إلخ، وبالتالي من الممكن للمناطق الدماغية المسؤولة عن الكلام والإحساس وتحريك الجسم أن تتدخل أيضا في “الإبداع”. كلمة الإبداع هي كلمة عامة للغاية إلى درجة أنها بلا معنى إذا كنا نتحدث عن الدماغ.

كثير من الوظائف العقلية التي يتحدث عنها الفلاسفة هي على هذه الشاكلة. هي مجرد كلمات عامة مائعة مشوشة ليس لها معنى ملموس. الغريب هو أنهم يقحمون هذه الكلمات المائعة في موضوع دقيق كموضوع العقل البشري. العقل البشري هو في المحصلة جهاز كومبيوتر. كيف لنا أن نفهم شيئا دقيقا ومعقدا كجهاز الكومبيوتر إذا كنا نستخدم مصطلحات هلامية؟

أنا أظن أن معظم الوظائف العقلية التي ذكرها الفلاسفة يمكن اختزالها أو إرجاعها إلى عدد قليل من الوظائف. أنا تمكنت من إرجاع جميع الوظائف العقلية التي قرأتها إلى ست وظائف فقط:

  • إدراك المحسوسات perceptions
  • حفظ المعلومات في الذاكرة واسترجاعها memory
  • المعالجة المنطقية reasoning
  • اتخاذ القرارات decision-making
  • الخيال imagination
  • العواطف emotions

كل الوظائف العقلية التي مرت علي حتى الآن يمكن فهمها على أنها مركبة من هذه الوظائف الست. من الممكن حتى حذف بعض هذه الوظائف: مثلا أنا أتساءل عما إذا كانت هناك بالفعل وظيفة تسمى “اتخاذ القرارات”؟ من الممكن أن هذه الوظيفة هي مجرد فرع من وظيفة المعالجة المنطقية reasoning. هذا السؤال يتعلق بالجدل بين الفلاسفة حول وجود الإرادة الحرة free will. لو كانت هناك لدى الإنسان إرادة حرة فهو ربما يتخذ قرارات غير منطقية. أنا شخصيا أشعر بأن هذا الكلام هو غير صحيح. في رأيي أن الإنسان لا يمكنه أن يتخذ أي قرار لا يتوافق مع معالجته المنطقية. لو فرضنا أن عقل الإنسان يمكنه أن يتخذ قرارا يخالف المعالجة المنطقية فهذا يشبه القول بأن معالج الكومبيوتر يمكنه أن يجري عملية تخالف تعليمات البرنامج الذي ينفذه. هذا الكلام يبدو لي عبثيا.

الفلاسفة تحدثوا عن مفاهيم من قبيل “الإرادة” و”الرغبة” و”الأمل”، وهم كانوا يتوقعون أن يجدوا مناطق في الدماغ تنفذ هذه الوظائف. هم طبعا لن يجدوا هكذا مناطق. لو كان الدماغ يحوي منطقة خاصة بكل مصطلح من مصطلحات الفلاسفة فهذا يعني أن حجم الدماغ يجب أن يكون بحجم بناية.

مفهوم “الإرادة” هو على ما أظن ليس وظيفة عقلية حقيقية (كيف نبرمج جهاز كومبيوتر لكي ينفذ وظيفة “الإرادة”؟). التفسير الصحيح للإرادة هو ربما قريب من التفسير الذي ذكره السلوكيون (ميل سلوكي behavioral disposition). الإرادة هي شعور وليست وظيفة عقلية. الإنسان عندما “يريد” شيئا فإنه لا ينفذ وظيفة عقلية ولكنه يشعر بأنه عازم على تنفيذ سلوك معين. في رأيي أن آلية الإرادة هي كما يلي: عندما يتخذ الدماغ قرارا بتنفيذ سلوك معين فإن هذا يؤدي إلى تنشيط حس أو شعور معين في الدماغ، وهذا الشعور هو ما يسميه الناس “الإرادة”.

مفهوم “الأمل” هو ربما مزيج من الخيال والمعالجة المنطقية. الآلية قد تكون كما يلي: الدماغ يتخيل سلوكا معينا، المعالج يقرر أن هذا السلوك ضروري، ولكنه غير ممكن التنفيذ في الوقت الحالي، وبالتالي هو مؤجل إلى أن يتحقق شرط أو شروط معينة. وصول المعالج إلى هذه النتيجة يولد في الدماغ الشعور الذي يسميه الناس “الأمل”.

“الرغبة” هي شعور يظهر في الدماغ عندما يتخذ المعالج قرارا وسطيا بين قراري “الإرادة” و”الأمل”. على ما أظن فإن الفرق بين هذه الأحساسيس الثلاثة يتعلق بالشدة intensity. عندما يتخذ المعالج قرارا بالتنفيذ الأكيد فهذا يولد شعور الإرادة، وعندما يتخذ المعالج قرارا بالتنفيذ المشروط أو المؤجل فهذا يولد شعورا أضعف هو شعور الرغبة. شعور الأمل أو التمني يتولد عندما يكون قرار المعالج بالتنفيذ مرتبطا بشروط صعبة.

مفاهيم “المعرفة” والاعتقاد” و”التصديق” و”الشك” ونحو ذلك تنبع ربما من تصنيف المعالج للمعلومات حسب صحتها. من المحتمل جدا أن المعالج يقوم بتصنيف المعلومات الواردة إليه حسب مصداقيتها: بعض المعلومات تصنف على أنها موثوقة، والبعض الآخر يصنف على أنه أقل موثوقية، وهكذا. عندما يقرر المعالج أن معلومة معينة هي موثوقة فهذا يولد شعور “القناعة” أو “التصديق”، وعندما يقرر المعالج أن معلومة معينة هي غير موثوقة فهذا يولد شعور “الشك”، وهكذا. الفرق بين هذه الأحساسيس يتعلق بالشدة intensity وليس بالنوع quality.

الخلاصة التي أريد أن أقولها هي أن كثيرا من “الوظائف العقلية” هي ليست وظائف حقيقية ولكنها أحداث عقلية مركبة من عدة وظائف دماغية، وكثير من “الوظائف العقلية” هي في الحقيقة مجرد أحاسيس تتولد بسبب القرارات التي يتخذها المعالج الدماغي. كثير من هذه الأحاسيس هي متشابهة من حيث النوعية ولكنها تختلف من حيث الشدة.

لو قبلنا هذه الاستنتاجات فسيتبين لنا أن الدماغ هو أبسط بكثير مما يصوره الفلاسفة. الدماغ ببساطة هو عبارة عن كومبيوتر.

الدماغ البشري = كومبيوتر؟

الدماغ البشري هو شيء معقد ما كان يمكن للفلاسفة القدماء أن يفهموه (باستثناء David Hume الذي أشعر بأنه كان يفهم الدماغ البشري على نحو جيد نسبيا)، ولكن البشر المعاصرين يمكنهم أن يفهموا الدماغ البشري بشكل أفضل لو أنهم قارنوه مع أجهزة الكومبيوتر الموجودة حاليا.

في رأيي أن آليات عمل الدماغ (الذي هو نفسه العقل) تشبه آليات عمل الكومبيوتر من حيث المبدأ، وإن كانت أعقد.

أجهزة الكومبيوتر تتكون من الأجزاء الأساسية التالية:

  • أجهزة الإدخال input devices
  • أجهزة الإخراج output devices
  • المعالج CPU
  • الذاكرة memory

هذه الأجزاء تشبه مكونات الجهاز العصبي للإنسان. أجهزة الإدخال والإخراج في الكومبيوتر يقابلها في البشر الجهاز العصبي المحيطي peripheral nervous system. بالنسبة للمعالج والذاكرة فهما يوجدان لدى البشر ضمن الجهاز العصبي المركزي، وتحديدا في الدماغ.

المعالج في الدماغ البشري هو الجزء أو الأجزاء الدماغية التي تؤدي وظيفة المعالجة المنطقية reasoning (المعالجة المنطقية تشمل أيضا المعالجة الحسابية). قشرة الفص الجبهي frontal lobe لها دور أساسي في هذا الموضوع.

بالنسبة للذاكرة فهي في الكومبيوتر تنقسم إلى عدة أقسام: هناك ذاكرة دائمة وذاكرة مؤقتة (الذاكرة المؤقتة تسمى RAM). نفس الأمر يوجد في الدماغ البشري: هناك في الدماغ البشري ذاكرة دائمة تسمى “الذاكرة طويلة الأجل” long-term memory وذاكرة مؤقتة تسمى “الذاكرة قصيرة الأجل” short-term memory أو “ذاكرة العمل” working memory.

في رأيي أن ما يسميه الناس باسم “الوعي” يقع ضمن الذاكرة قصيرة الأجل أو ذاكرة العمل. ذاكرة العمل تخزن المعلومات لفترة قصيرة بهدف معالجتها منطقيا أو بهدف تحويلها إلى الذاكرة طويلة الأجل، أي أن دور هذه الذاكرة هو نفس دور ذاكرة الـ RAM في أجهزة الكومبيوتر. هذه الذاكرة هي أنسب مكان يمكن أن نضع فيه “الوعي”.

في أجهزة الكومبيوتر ذاكرة الـ RAM هي ذاكرة قصيرة الأجل وظيفتها تخزين البيانات مؤقتا بهدف معالجتها أو نقلها إلى الذاكرة الدائمة. عندما تأتي بيانات من خارج الكومبيوتر (مثلا من قرص خارجي أو من الإنترنت) فإنها تدخل أولا إلى ذاكرة الـ RAM وبعد ذلك تنتقل إلى المعالج CPU. المعالج يعالج البيانات ثم يعيدها مجددا إلى ذاكرة الـ RAM، وبعد ذلك تذهب البيانات إلى قرص التخزين الدائم أو يتم حذفها أو إخراجها من الكومبيوتر عبر أجهزة الإخراج إلخ. ذاكرة الـ RAM هي المكان الذي يتم فيه تنفيذ البرامج والتطبيقات التي يراها المستخدم على شاشة الكومبيوتر. ذاكرة الـ RAM هي مصدر كل الأشياء التي تظهر على شاشة الكومبيوتر.

المعالج يقوم بنقل بعض البيانات من ذاكرة الـ RAM إلى الشاشة، والشاشة تقوم بتحويل البيانات إلى صورة. هناك بيانات تظل مخفية في ذاكرة الـ RAM ولا يراها المستخدم على الشاشة. هذا يذكرني بالفرق بين “العقل الواعي” conscious و”العقل غير الواعي” unconscious. من الممكن أن “العقل غير الواعي” (أو قسم منه على الأقل) هو موجود في الذاكرة المؤقتة كالعقل الواعي.

أنا لدي تصور خاص حول الآلية التي يشعر بها الإنسان بالفرق بين العقل الواعي والعقل غير الواعي. هذا التصور هو مجرد فكرة خطرت لي وليس نظرية علمية.

بعض الناس قد يتصورون أن العقل الواعي له مكان في الدماغ يختلف عن مكان العقل غير الواعي. أنا أظن أن هذا غير صحيح. العقل الواعي وغير الواعي كلاهما يوجدان في مكان واحد هو الذاكرة المؤقتة (التي توجد في مناطق عديدة من المخ وليس في مكان واحد). في رأيي أن الفرق بين العقل الواعي والعقل غير الواعي ربما يتعلق بالشدة intensity. الأفكار التي تستهلك قدرا كبيرا من طاقة المعالج الدماغي تظهر في الوعي، والأفكار التي تستهلك قدرا ضئيلا من طاقة المعالج الدماغي لا تظهر في الوعي.

سوف أضرب مثلا. لنفرض أنني دخلت إلى غرفة فيها 5 أشخاص. كل شخص من هؤلاء يتحدث ويروي قصة. لو أن أصواتهم جميعا لها نفس الشدة فإنني لن أفهم الكثير مما يقولونه، ولكن لو فرضنا أن شخصا واحدا يتحدث بصوت مرتفع وبقية الأشخاص يتحدثون بصوت منخفض فإنني سوف أفهم قسما كبيرا من الكلام الذي يقوله الشخص ذو الصوت المرتفع.

لو طبقنا فكرة هذا المثال على الدماغ فيمكننا أن نتخيل نظرية تشرح الفرق بين العقل الواعي والعقل غير الواعي. الأفكار الموجودة في العقل الواعي هي ربما الأفكار “الصاخبة” التي تستهلك قدرا كبيرا من طاقة المعالج.

لو فرضنا أن الفرق بين العقلين الواعي وغير الواعي يتعلق بالشدة فهذا يعني أن وصول بعض أفكار العقل غير الواعي إلى العقل الواعي هو ليس أمرا مستحيلا. لنعد إلى المثال الذي ذكرته. عندما كنت في الغرفة التي فيها 5 أشخاص أنا سمعت في المقام الأول الشخص ذا الصوت العالي، ولكنني رغم ذلك سمعت بضعة كلمات من الأشخاص ذوي الأصوات المنخفضة. لنفرض مثلا أن 97% من الكلام الذي سمعته هو من الشخص ذي الصوت العالي، ولكنني سمعت أيضا 3% من الأشخاص ذوي الأصوات المنخفضة.

فرويد رأى أن مكونات العقل غير الواعي تتسرب أحيانا إلى العقل الواعي وتؤدي إلى ظواهر من قبيل “زلات اللسان”. ما هو تفسير هذا التسرب؟ من الممكن أن التسرب يحدث وفق الآلية التي ذكرتها في المثال. من الممكن أن بعض “الأصوات المنخفضة” تصل إلى العقل الواعي وتؤدي إلى ظواهر من قبيل زلات اللسان.

عندما ينام الإنسان فإن نشاط المعالج الدماغي ينخفض. في هذا الوقت لن تكون هناك “أفكار صاخبة” في الدماغ، وبالتالي لن يكون هناك “عقل واعي”. في مثل هذه الحالة سوف يسهل الاختلاط بين مكونات العقل الواعي والعقل غير الواعي. هذا قد يكون تفسير ظاهرة الأحلام. الإنسان يرى في أحلامه أفكارا حديثة وصلت إلى دماغه قبل أن ينام، ولكنه يرى أيضا أفكارا قديمة وأفكارا مكبوتة في العقل غير الواعي.

عندما نطفئ جهاز الكومبيوتر فإن محتويات ذاكرة الـ RAM تتلاشى وتختفي، وهذا هو نفس ما يحدث عندما يفقد الإنسان وعيه. فقدان الوعي هو باختصار إطفاء الذاكرة المؤقتة في الدماغ.

العواطف

في الدماغ البشري هناك ميزة يرى الكثيرون أنها لا توجد في أجهزة الكومبيوتر هي العواطف. الباحثون تقليديا ينظرون للعواطف نظرة دونية ويميزون بينها وبين وظائف الدماغ “العليا” (التي يقصدون بها أساسا ما أطلقت عليه مسمى “المعالجة المنطقية” reasoning). العواطف هي جزء أساسي من آلية التفكير البشري، ولكن ذنبها الوحيد هو أنها بدائية (ذات طابع انعكاسي أو غرائزي)، وهي يمكن أن تكون قوية أحيانا وأن تفرض نفسها على “الوظائف العليا”. العواطف أو الغرائز هي طبعا موجودة لدى كل الحيوانات، وأما المعالجة المنطقية فهي في الأساس ميزة للحيوانات الذكية (كالرئيسيات والدلافين والفيلة). المعالجة المنطقية لدى الإنسان هي قوية ويمكنها في كثير من الأحيان أن تكبح العواطف. حسب نظرية فرويد في التحليل النفسي فإن نشوء العقل غير الواعي لدى الإنسان سببه قدرة الإنسان على كبح عواطفه وغرائزه. إذن هناك ارتباط بين نشوء العقل غير الواعي وازدياد قوة المعالجة المنطقية. هذا يتوافق مع مفهومي للعقل الواعي والعقل غير الواعي. بما أن المعالج الدماغي لدى الإنسان قوي فهذا يسهل “التشويش” على الغرائز وإخراجها من الوعي.

لنأخذ الكلب كمثال. الكلب لديه غرائز كالإنسان، ولكن معالجه الدماغي ضعيف. طالما أن معالجه ضعيف فهو لا يستطيع أن “يشوش” على غرائزه، وبالتالي هذه الغرائز “ترنّ” في وعيه بقوة وتجبره على أن يستجيب لها.

موضوع العواطف البشرية هو موضوع معقد لأن هذه العواطف ليست مثل بعضها ولكنها مصنفة ضمن طبقات. هناك عواطف بدائية أصيلة (مثلا الخوف والجوع والكره). العواطف البدائية هي أشبه بالمنعكسات ويمكننا أن نشبهها بتطبيقات الكومبيوتر التي تتنشط في الأحوال الطارئة أو الخطيرة (مثلا عندما توشك بطارية الكومبيوتر المحمول على النفاد يظهر تحذير على الشاشة يطالب المستخدم بالبحث عن مصدر بديل للطاقة. هذا المثال يشبه الشعور بالجوع الذي يظهر في وعي الإنسان عندما يكون هناك نقص في الغذاء). عند الإنسان توجد أيضا عواطف مكبوحة (مثلا الشعور بالحب أو الإعجاب). تفسير العواطف المكبوحة هو معقد بعض الشيء، لأن هذه العواطف ليست بدائية ولكنها نشأت عند الإنسان لأسباب تطورية معقدة. مثلا عاطفة الحب حسب التحليل النفسي نشأت في الأصل بسبب كبح عاطفتي الكره والخوف. الدماغ البشري يكبح هاتين العاطفتين عندما يشعر أن التعبير عنهما لا يفيد مصلحة الإنسان.

كيف يكبح الإنسان عاطفتي الكره والخوف ويحولهما إلى حب؟ أنا في حياتي لم أقرأ أي تفسير فيزيولوجي لهذه العملية، ولكنني أستطيع أن أتخيل تفسيرا يتوافق مع نظريتي حول العقل الواعي والعقل غير الواعي.

الكبح في مفهومي يعني “التشويش”. المعالج الدماغي يكبح فكرة معينة عبر التشويش عليها بأفكار أخرى. عاطفة الحب هي قوية للغاية، وبالتالي التشويش عليها يتطلب جهدا كبيرا من المعالج. هذا هو ما يحدث في الواقع. الحب عمليا هو شكل من أشكال الوسواس القهري obsessive-compulsion. معنى الوسواس القهري هو أن الدماغ يكرر فكرة معينة باستمرار دون هدف معين.

لنفرض مثلا أن رجلا رأى امرأة وأنه أحبها. حسب فرويد فإن الشعور الحقيقي الذي انتابه عندما رأى المرأة هو الخوف والكره، ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن هذا الشعور لأكثر من سبب (أحد الأسباب على ما أذكر هو عقدة أوديب). المعالج في دماغه يريد أن يشوش على شعوره الحقيقي وأن يخفيه من وعيه، ولهذا السبب هو يلهيه ببعض الأفكار القوية التي تظل تدور في رأسه باستمرار ولا تفارق وعيه (هذه الأفكار تتعلق في الغالب بالمرأة التي أحبها).

موضوع العواطف هو إذن موضوع معقد، ولكنها في المبدأ مجرد منعكسات قوية تشبه برامج الكومبيوتر التي تتعلق بالأمور الخطيرة (من قبيل نفاد طاقة البطارية أو اكتشاف فيروس في الجهاز ونحو ذلك).

لغة برمجة في العقل؟

أجهزة الكومبيوتر تستقبل وتخرج البيانات بأشكال عديدة (صور، أصوات، كتابة، إلخ)، ولكن في ذاكرة الـ RAM كل البيانات تتحول إلى شكل واحد هو لغة البرمجة التي يعمل على أساسها برنامج التشغيل operating system.

هذا دفع الباحثين للتساؤل عما إذا كانت هناك لغة برمجة تستخدم داخل العقل، وما هي طبيعة هذه اللغة؟

Noam Chomsky هو ربما من أوائل من طرحوا فكرة وجود لغة باطنية في العقل تختلف عن اللغة الظاهرية التي يستخدمها البشر فيما بينهم. Chomsky صاغ نظرية لغوية تسمى “القواعد اللغوية التحويلية التوليدية” transformational-generative grammar. حسب هذه النظرية فإن اللغة البشرية لها شكلان: شكل باطني deep structure يوجد في العقل، وشكل ظاهري أو سطحي surface structure هو الشكل الذي يخرج من فم الإنسان. التحويل بين الشكلين الظاهري والباطني يتم وفق قواعد تسمى “القواعد التحويلية” transformational rules.

Chomsky تخلى لاحقا عن هذه النظرية وتبنى غيرها، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها. Chomsky هو معروف في أميركا والغرب بأنه يميل للطروحات النظرية أكثر من الطروحات المبنية على التجارب الملموسة. لهذا السبب هو كثيرا ما يقلب رأيه دونما سبب سوى تقلب مزاجه الشخصي. هو أيضا لا يهتم كثيرا بنتائج التجارب والدراسات العلمية بل يسعى أحيانا للتشكيك فيها والتقليل من شأنها. هذا النمط غير التجريبي في التفكير يتوافق أيضا مع آراء Chomsky السياسية (هو ما زال يروج للشيوعية والاشتراكية ونحو ذلك من الأفكار البالية).

هناك ظواهر تدعم فكرة وجود لغة باطنية في العقل تختلف عن اللغة المحكية. من هذه الظواهر مثلا الظاهرة المسماة بالمعرفة الصامتة tacit knowledge. في بعض الأحيان الإنسان لا يستطيع أن يجيب عن سؤال ليس بسبب عدم معرفته للجواب ولكن لأنه لا يستطيع أن “يعبر” عن الجواب باللغة المحكية. هذه الظاهرة ربما تعبر عن صعوبة يواجهها بعض الناس في ترجمة اللغة الباطنية العقلية إلى اللغة الظاهرية المحكية.

طبيعة اللغة الباطنية هي محل جدل، ولكنها على الأغلب مكونة من رموز من نوع ما. كثير من الباحثين يطلقون على رموز اللغة العقلية مسمى “الرموز العقلية” mental representations. أي شيء يدخل إلى العقل البشري (سوء كان صورة أم كتابة أم صوتا إلخ) يتم تحويله إلى رموز عقلية.

بعض الناس قالوا أن اللغة العقلية هي نفسها اللغة المحكية، بدليل أن الناس “يفكرون” باللغة المحكية. هذا الكلام على ما أظن هو مجرد وهم. اللغة المحكية التي يسمعها الإنسان في عقله لا تمثل سوى جزءا ضئيلا مما يدور في الدماغ أو في الذاكرة المؤقتة. أنا لا أدري ما هو سبب وجود هذه الأفكار باللغة المحكية داخل العقل، ولكنني أظن أن مصدر هذه الأفكار قد يكون نفس المنطقة المسؤولة عن ترجمة اللغة العقلية إلى اللغة المحكية (التي هي ربما منطقة بروكا Broca’s area). على ما يبدو فإن منطقة الترجمة لا تهدأ أبدا وهي تستمر في الترجمة حتى عندما يكون الإنسان صامتا ولا يتكلم. لهذا السبب الإنسان يسمع الترجمة في عقله. ولكن هذه الترجمة التي يسمعها الإنسان في عقله الواعي لا تعبر عن كل ما يدور في الدماغ.

طبعا الإنسان يستطيع أن يتحكم إراديا بمنطقة الترجمة، وهو يستطيع إسكات هذه المنطقة لو أراد ذلك، ولكن على ما يبدو فإن الإنسان تعود على تنشيط هذه المنطقة (بسبب كثرة كلامه أثناء الحياة اليومية) ولهذا السبب هو يستمر في تنشيطها واستخدامها حتى عندما يكون صامتا.

كيف يتذكر الإنسان؟

عندما يرى الإنسان صورة ما فإن الصورة تنتقل عبر العينين والجهاز العصبي المحيطي إلى قشرة المخ لكي يتم تحليلها ومعالجتها (يتم تحويلها إلى أشكال وألوان إلخ)، وبعد ذلك يتم إرسال النتيجة إلى الذاكرة المؤقتة. في هذه اللحظة يقول الإنسان أنه “رأى” الصورة (التعبير الصحيح ربما هو “وعاها”). لاحقا الصورة سوف تزول من الذاكرة المؤقتة وتذهب إلى أحد مكانين: إما أن تذهب إلى الذاكرة الدائمة (وهذا يعني أن الإنسان سوف يكون قادرا على “تذكرها” أو إعادتها إلى وعيه في وقت لاحق)، أو أنها ستتلاشى وتزول (وهذا يعني أن الإنسان سوف “ينساها” نهائيا ولن يكون قادرا على إعادتها إلى وعيه).

عندما يريد الإنسان أن يتذكر الصورة فإن المعالج في دماغه ينقلها من الذاكرة الدائمة إلى الذاكرة المؤقتة. عندما تصل الصورة إلى الذاكرة المؤقتة يقول الإنسان أنه “تذكر” الصورة. لو فشل الدماغ في إيصال الصورة إلى الذاكرة المؤقتة لسبب ما فإن الإنسان سيقول أنه حاول تذكرها ولكنه فشل في ذلك (ربما لأنها فقدت من الذاكرة الدائمة لقدمها).

هل هناك “شاشة عرض” داخل الدماغ؟

المؤلف Daniel Dennet ألف في عام 1991 كتابا أسماه Consciousness Explained (تفسير الوعي). في هذا الكتاب هو انتقد بشدة مفهوما أسماه “المادية الديكارتية” Cartesian materialism. المقصود بالمادية الديكارتية هو الاعتقاد بأن هناك مكانا معينا في الدماغ تجتمع فيه جميع المعلومات التي تظهر في “الوعي”. حسب Dennet فإن الدماغ البشري لا يحوي “مسرحا” أو “شاشة عرض” على نمط الشاشة التي يراقبها الإنسان الصغير في هذه الصورة:

في رأي Dennet أن معلومات الوعي هي متوزعة في جميع أنحاء الدماغ ولا يوجد مكان معين تترابط فيه هذه المعلومات مع بعضها لكي تظهر في الوعي.

Dennet بنى كلامه على نتائج الدراسات التي أجريت على الدماغ البشري وبينت أن الدماغ لا يحوي منطقة معينة خاصة بالوعي، ولكن غياب منطقة خاصة بالوعي لا يدعم بالضرورة المزاعم التي يطرحها. من الوارد أن هناك آلية معينة (وليس مكانا) يتم من خلالها الربط بين المعلومات التي تظهر في الوعي. هذه الآلية في رأيي قد تكون نفس آلية الذاكرة المؤقتة (التي هي منتشرة في أنحاء عديدة من الدماغ وليس لها مكان محدد). أنا لا أدري ما هي طبيعة الذاكرة المؤقتة في الدماغ البشري ولا أدري إن كانت هذه الذاكرة هي عبارة عن وحدة متكاملة أم أنها مجرد مناطق متفرقة وغير مرتبطة ببعضها، ولكن المقارنة مع الكومبيوتر توحي بوجود آلية تربط بين المواقع المختلفة للذاكرة المؤقتة. من الممكن أن المعالج هو الذي يربط بين المواقع المختلفة للذاكرة المؤقتة.

الإنسان الصغير هو إحساس وليس وظيفة عقلية

الكلام الذي سأقوله الآن هو تكرار لما ذكرته في مقال سابق ولكن مع بعض التطوير.

في رأيي أن الوظائف المسماة introspection و subjectivity هي ليست وظائف عقلية حقيقية ولكنها مجرد أحاسيس.

في المقال السابق أنا ربطت بين هذه الأحاسيس وبين خاصية إدراك الذات وإدراك الذوات الأخرى، ولكن الأفضل ربما هو أن نربط بين هذه الأحاسيس وبين وظيفة المعالج الدماغي في إدارة الذاكرة المؤقتة.

من الممكن أن شعور introspection يتولد عندما يقوم المعالج الدماغي بنقل أو معالجة البيانات الموجودة في الذاكرة المؤقتة.

شعور subjectivity يتولد عندما ينقل المعالج المدركات الحسية perceptions إلى الذاكرة المؤقتة.

والله أعلم.

3 آراء حول “العقل (3)

  1. امممممم .. لا اعلم
    يبدو انك تسرعت في كتابتك لهذا الجزء والجزء الذي سبقه
    الاجزاء الاولى تتحدث عن تطور الانسان اما هذان فيبدوان سلسلة واخرى وبحث منفصل
    لربما كان الافضل لو انك تحدثت عن تطور ثقافة وسلوك المجاميع البشرية
    طبعا اسجل اعجابي بالاجزاء الستة الاولى .. تحيااااتي لك

    • كلامك صحيح… أنا أنوي فصل هذين الجزئين وتحويلهما إلى موضوع منفصل…

      سوف أقوم بإعادة هيكلة الموضوع وسوف أستكمل الحديث عن تطور الإنسان…

      ولكن المقال القادم الذي سأنشره هو متعلق بالدماغ البشري وآلية عمله…

      • نرجو من الله أن يكون هاني بصحة جيدة.. وأن تعود الكهرباء إلى حلب بأقرب فرصة كي يعود لنا.. فقد اشتقنا لتحليلاتك يا هاني بيك..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s