في المقال الأخير تحدثت عن الطفرة الثقافية التي حصلت مع بداية العصر الباليوليثي الأعلى قبل حوالي 50,000 عام، وذكرت اختلاف الباحثين حول تفسير هذه الطفرة.
بعض الباحثين أطلقوا على هذه الطفرة مسمى “ثورة العصر الباليوليثي الأعلى” Upper Paleolithic Revolution، وبعضهم سموها “القفزة الكبيرة للأمام” Great Leap Forward.
بسبب هذه الطفرة فإن بعض الباحثين صاروا يميزون بين صنفين من الإنسان الحكيم الحديث:
- الإنسان الحكيم الحديث تشريحيا anatomically modern Homo sapiens
- الإنسان الحكيم الحديث سلوكيا behaviorally modern Homo sapiens
“الإنسان الحكيم الحديث تشريحيا” ظهر قبل حوالي 200,000 عام، و”الإنسان الحكيم الحديث سلوكيا” (الذي هو نفسه الإنسان المعاصر) ظهر قبل حوالي 50,000 عام. من الناحية التشريحية (الشكلية) لا يوجد فرق مهم بين الصنفين. الفرق هو فقط “سلوكي”. طبعا هذا التفريق بين الحداثة التشريحية و”الحداثة السلوكية” لا يحظى بإجماع بين الباحثين.
المقصود بالحداثة السلوكية هو ظهور ثقافة بشرية ذات مستوى قريب من مستوى الثقافات البشرية المعروفة اليوم.
معنى الثقافة
ما يلي تعريف حديث للثقافة:
Culture, in anthropology, the patterns of behavior and thinking that people living in social groups learn, create, and share. Culture distinguishes one human group from others. It also distinguishes humans from other animals. A people’s culture includes their beliefs, rules of behavior, language, rituals, art, technology, styles of dress, ways of producing and cooking food, religion, and political and economic systems.
Microsoft Encarta 2009
ما يلي ترجمة:
الثقافة في الأنثروبولوجيا هي أنماط السلوك والتفكير التي يتعلمها وينتجها ويتقاسمها الناس الذين يعيشون في جماعة واحدة. الثقافة تميز مجموعة بشرية عن المجموعات البشرية الأخرى، وتميز أيضا البشر عن الحيوانات الأخرى. ثقافة شعب معين تشمل المعتقدات وقواعد السلوك واللغة والطقوس والفن والتقنيات وأنماط اللباس وطرق إنتاج وطهي الطعام والدين والأنظمة السياسية والاقتصادية.
من هذا التعريف يتبين أن الثقافة تعني في الأساس أنماط السلوك والتفكير لدى شعب معين.
السلوك والتفكير هي ليست ميزة لشعب بشري معين دون بقية الشعوب. كل الشعوب البشرية لديها سلوك وتفكير. المقصود بالثقافة هو تحديدا الخصائص السلوكية والفكرية التي تميز الشعوب البشرية المختلفة عن بعضها.
على ما يبدو فإن أول من طرح هذا التعريف للثقافة هو البريطاني Edward B. Tylor في عام 1871.
إذا عرّفنا الثقافة بأنها تعني الخصائص السلوكية والفكرية فهذا سيوصلنا إلى أن بعض الحيوانات تمتلك ثقافة، لأن بعض المجتمعات الحيوانية تمتلك خصائص سلوكية وفكرية. هناك حاليا انقسام بين الباحثين حول هذه النقطة. بعض الباحثين يرون أن معظم الرئيسيات تمتلك ثقافة وأن الثقافة ليست شيئا خاصا بالبشر. في المقابل هناك باحثون آخرون يرون أن الثقافة هي شيء خاص بالبشر. التعريف الذي نقلته في الأعلى يتبنى وجهة النظر الثانية:
Culture distinguishes one human group from others. It also distinguishes humans from other animals.
الثقافة تميز مجموعة بشرية عن المجموعات البشرية الأخرى، وتميز أيضا البشر عن الحيوانات الأخرى.
إذن الثقافة لا تعني مجرد السلوك والتفكير ولكنها تعني تحديدا السلوك والتفكير الذي يميز البشر عن بعضهم وعن بقية الحيوانات.
السلوك والتفكير
الثقافة إذن هي سلوك وتفكير. السلوك هو شيء يمكن دراسته علميا بالمراقبة، ولكن دراسة الأفكار بالمراقبة هي أمر صعب. مثلا نحن يمكننا أن نراقب القرود لكي نعرف سلوكهم، ولكن من غير الممكن معرفة أفكار القرود عبر مراقبتهم. لهذا السبب بعض الباحثين يميلون إلى تعريف الثقافة وفق السلوك فقط وبغض النظر عن التفكير، لأن الدراسة العلمية لتفكير القرود هي أمر متعذر.
ربما لهذا السبب نجد أن بعض الباحثين يصفون الثقافة البشرية المعاصرة بأنها “حداثة سلوكية” behavioral modernity. هؤلاء يكنّون عن الثقافة البشرية بالسلوك ويتغاضون عن التفكير، لأن معرفة أفكار البشر القدماء الذين عاشوا قبل عشرات آلاف السنين هي أمر متعذر.
هذه المقاربة تذكرني بالمدرسة السلوكية behaviorism في علم النفس.
المدرسة السلوكية
علم النفس psychology بدأ في أواخر القرن 19. قبل ذلك لم يكن هناك أحد يبحث في علم النفس سوى الفلاسفة والمشعوذين. مؤسس علم النفس الحديث هو الألماني Wilhelm Wundt الذي ركز على دراسة العقل البشري human mind عبر تقنية سماها introspection (النظر في الداخل). هو كان ببساطة يطلب من الناس أن يخبروه عما يدور في عقولهم. لاحقا الباحث النمساوي اللامع فرويد Sigmund Freud استخدم تقنية مشابهة تسمى free association (الربط الحر). المبدأ الأساسي لهذه التقنية لا يختلف عن المبدأ السابق: فرويد كان يعتمد على كلام المرضى عما يدور في عقولهم وأحلامهم.
فرويد طرح نظريات شهيرة فسر على أساسها كيفية عمل العقل البشري وكيفية تطور هذا العقل منذ الطفولة وحتى الكبر. نظريات فرويد أسست لمدرسة في علم النفس تسمى التحليل النفسي psychoanalysis.
نظريات فرويد أثارت حفيظة عدد من الباحثين في بداية القرن العشرين، لأن هذه النظريات ترتكز بشكل كبير على مفاهيم غير ملموسة من قبيل مفهوم “العقل غير الواعي” unconscious mind. كثير من الباحثين رفضوا الطريقة التي توصل بها فرويد إلى نظرياته. هم لم يقبلوا فكرة سؤال الناس عما يدور في عقولهم لأن هذا الأسلوب لا يعطي معلومات موثوقة وذات مصداقية.
هؤلاء المشككون كانوا يعتبرون أن البحث في موضوع العقل البشري هو بحث غير علمي، لأن دراسة العقل البشري بواسطة التجارب العلمية هي أمر متعذر. العلم الحديث يقوم على التجارب والدلائل المادية الملموسة. سؤال الناس عما يدور في عقولهم لا يقدم دلائل علمية ذات مصداقية. بالتالي لا توجد طريقة علمية لدراسة العقل البشري.
أصحاب هذا التوجه تجاهلوا مفهوم “العقل” وركزوا على دراسة السلوك. هم تأثروا كثيرا بتجارب المنعكسات التي أجراها الباحث الروسي Ivan Pavlov. هم رأوا في هذه التجارب بديلا علميا يغنيهم عن الخوض في موضوع العقل البشري، الذي هو بالنسبة لهم موضوع غير علمي. هم صاروا يفسرون سلوك البشر وفق منطق المنعكسات. السلوك البشري بالنسبة لهم هو ردود فعل responses سببها التعرض لمحفزات stimuli.
هذا التوجه يسمى المدرسة السلوكية behaviorism. مؤسس هذه المدرسة هو الأميركي John Watson الذي قال في عام 1913 ما يلي:
I believe that we can write a psychology and never use the terms consciousness, mental states, mind . . . imagery and the like.
أنا أعتقد أننا نستطيع أن نكتب علم نفس دون أن نستخدم أبدا مصطلحات الوعي والحالة العقلية والعقل… والخيال ونحو ذلك.
المدرسة السلوكية كانت ذات تأثير كبير في النصف الأول من القرن العشرين. كثير من مؤلفات علم النفس التي ألفت في تلك الفترة لم تتطرق مطلقا لمفهوم “العقل” أو “الوعي” ونحو ذلك. السلوكيون لا ينكرون بالضرورة وجود العقل ولكنهم يرون أن البحث فيه هو أمر غير علمي، لأن الوسائل المتاحة في النصف الأول من القرن العشرين لم تكن تسمح بدراسة العقل بشكل مباشر.