مقدمة
موضوع العقل البشري هو موضوع شائك للغاية. هناك أولا سؤال كبير وقديم يتعلق بطبيعة العقل البشري: هل العقل البشري هو مادي أم غير مادي؟ هذا السؤال بحثه الفلاسفة ضمن فرع من فروع الفلسفة يسمى “فلسفة العقل” philosophy of mind. هذا البحث هو مرتبط ببحث أكبر يتعلق بطبيعة الكون عموما. الفلاسفة يتجادلون منذ القدم حول طبيعة الكون: هل الكون هو مادي بحت؟ أم روحي بحت؟ أم أنه مكون من المادة والروح معا؟ هذا البحث يسمى الميتافيزيقيا (الميتافيزياء) metaphysics. الجدل الميتافيزيقي كان موضوعا حارا في القرون السابقة للقرن 19.
تقليديا هناك ثلاث مدارس في الميتافيزيقيا:
المدرسة الأولى هي المدرسة الثنائية dualism التي ترى أن الكون يتألف من مكونين اثنين (المادة والروح). من أشهر أنصار هذه المدرسة الفيلسوف الفرنسي ديكارت René Descartes.
ديكارت رأى أن الكون يتألف من مكونين أو جوهرين:
- جوهر التفكير substance pensante (الروح)
- الجوهر الممدود substance étendue (المادة)
المقصود بجوهر التفكير هو الشيء الذي يتكون منه العقل والأفكار، والمقصود بالجوهر الممدود هو الشيء الذي تتكون منه الأشياء الأخرى.
René Descartes
هذه النظرة الثنائية لجوهر الكون كانت شائعة في أوروبا في القرون الوسطى. حسب هذه النظرة فإن العقل البشري هو شيء روحي وليس شيئا ماديا. بسبب هذه الفكرة فإن علم النفس يسمى في اللغات الأوروبية psychology. هذه الكلمة صيغت من الكلمة اليونانية psychḗ ψυχή التي تعني “روح”. كلمة “نفس” في اللغات السامية أيضا تعني “روح”، وبالتالي “علم النفس” أو psychology يعني حرفيا “علم الروح”. هذه التسمية نبعت من الاعتقاد بأن العقل البشري هو نفسه الروح أو من ماهية الروح.
المدرسة الميتافيزيقية الثانية هي المدرسة الأحادية monism التي ترى أن الكون له جوهر واحد فقط.
المدرسة التي تقول أن الكون يتألف من الروح فقط تسمى المثالية idealism. الفلسفة المثالية كانت شائعة تاريخيا وهي تضم مثلا الفلاسفة الرواقيين Stoics والأفلاطونيين الجدد Neoplatonists. الفكر المثالي شائع لدى الصوفيين من مختلف الأديان. فكرة “وحدة الوجود” pantheism هي فكرة مثالية.
المثاليون يعتقدون أن وجود المادة هو وهم وأن الروح (الله) هي الشيء الحقيقي الوحيد في الكون.
George Berkeley
رمز الفلاسفة المثاليين في العصور الحديثة هو رجل الدين الإيرلندي George Berkeley الذي عاش في النصف الأول من القرن 18. هذا الرجل نفى وجود المادة بالمطلق واعتبر أن الأشياء المادية التي يدركها الناس بحواسهم هي مجرد أفكار ideas في عقولهم، وهذه الأفكار مصدرها “عقل” كبير هو الله.
المدرسة التي ترى أن الكون يتألف من المادة فقط هي المدرسة المادية materialism أو الفيزيائية physicalism. مثلا الفيلسوف الإنكليزي Thomas Hobbes (في القرن 18) أنكر وجود روح في الجسم البشري ورأى أن كل أفعال الإنسان تحدث بسبب ظواهر مادية. الفكر المادي تصاعد كثيرا في الغرب خلال القرنين 19 و 20، والسبب الأساسي لذلك هو النجاحات الكبيرة التي حققها العلم الطبيعي الحديث modern science.
Thomas Hobbes
بالإضافة إلى المثالية والمادية هناك مدرسة أحادية ثالثة تسمى الأحادية المحايدة neutral monism. أصحاب هذا المذهب يرون أن الكون مؤلف من جوهر واحد ولكن هذا الجوهر هو ليس الروح ولا المادة وإنما جوهر ثالث “محايد” يظهر أحيانا بشكل روحي وأحيانا بشكل مادي. من الأسماء المرتبطة بهذا المذهب الفيلسوف الهولندي اليهودي Baruch Spinoza الذي كان يقول بوحدة الوجود وكان يعتبر أن الله يتجلى في الكون بشكلين مادي وروحي.
المدرسة الثالثة في الميتافيزيقيا هي التعددية pluralism التي اشتهر بها الفيلسوف الألماني Gottfried Wilhelm Leibniz. هذا الفيلسوف رأى أن الكون يتألف من عدد لا نهائي من المكونات أو الجواهر المختلفة أطلق عليها مسمى monads.
البحث في الميتافيزيقيا لا ينفصل عن فرع آخر من فروع الفلسفة هو الإبستيمولوجيا epistemology (نظرية المعرفة). بعض الفلاسفة يرون أن معرفة حقائق الكون ومكوناته (خاصة المكونات غير المادية) هي أمر ممكن بواسطة التفكير المجرد (a priori). وفقا لمنطق هؤلاء فالإنسان يمكنه أن يكتشف حقائق الكون الأساسية وهو مستلق على سريره، لأن حقائق الكون الأساسية هي حقائق “بديهية”. هذا النمط من التفكير يسمى “العقلانية” rationalism، وهو مذهب فلاسفة اليونان القدماء. هذا النمط من التفكير كان يسيطر على العالم قبل النهضة الأوروبية الحديثة. النمط الفكري المضاد يسمى الفكر التجريبي empiricism. التجريبيون يرون أن حقائق الكون تعرف حصرا بالتجربة عبر الحواس (a posteriori). الفكر التجريبي طبعا هو المهيمن اليوم في العالم الغربي وأما الفكر العقلاني فهو الآن يُربط عادة بالجهل والخرافات.
Francis Bacon
الفكر التجريبي بدأ في أوروبا مع الفيلسوف الإنكليزي Francis Bacon الذي لعب دورا محوريا في صياغة مبادئ العلم الطبيعي الحديث modern science في بداية القرن 17. أيضا الفيلسوف الإنكليزي John Locke أيد الفكر التجريبي ولكنه أظهر نزعة من الشك حول صحة المعلومات التي تدرك عبر الحواس perceptions. حسب Locke فإن معرفة البشر بالأشياء المادية هي ليست دقيقة لأن الحواس البشرية تنقل معلومات غير دقيقة. الأسقف George Berkeley أخذ هذه الفكرة إلى أبعد مدى ممكن عندما أنكر بالمطلق وجود الأشياء المادية؛ هو قال أن كل ما يعرفه عقل الإنسان عن الأشياء المادية يأتيه عبر الحواس، ولا يوجد دليل على مصداقية المعلومات التي تأتي عبر الحواس. في المحصلة الأشياء التي يدركها عقل الإنسان عبر الحواس هي ليست أكثر من أفكار. بالتالي كل شيء في الوجود هو مجرد أفكار. بما أن عقل الإنسان لا يتحكم في كل الأفكار التي ترد إليه (خاصة الأفكار الحسية perceptions) فهذا يعني أن هناك “عقلا خارجيا” يقوم بتوليد هذه الأفكار، وهذا العقل هو الله.
John Locke
الفيلسوف الأسكتلندي David Hume تأثر بكلام الأسقف Berkeley ولكنه رفض الاستنتاج بأن المادة غير موجودة وأن كل الأفكار مصدرها الله. Hume اعتبر أن وجود الروح هو غير حقيقي مثلما أن وجود المادة هو غير حقيقي. فكر Hume في هذه المسألة يصنف ضمن المذهب الأحادي المحايد neutral monism.
David Hume
اسم David Hume ارتبط بمدرسة الشك skepticism لأنه مضى أبعد من أسلافه المشككين وشكك حتى في مصداقية بعض القوانين المنطقية أو “البديهية” التي توجد في عقل الإنسان. Hume شكك في مصداقية قوانين الطبيعة القائمة على مبدأ السببية causality. حسب Hume فإن العلاقة بين السبب والنتيجة هي ليست علاقة منطقية أو “بديهية” ولكنها مجرد ربط يتوصل إليه البشر بالمراقبة والتعود، أي أنها نابعة من الإدراك الحسي perception وليست نابعة من المنطق. بما أن القوانين القائمة على مبدأ السببية هي ليست قوانين منطقية وإنما نابعة من الحواس فهي إذن ليست موثوقة، وبما أن قوانين الكون عموما تقوم على مبدأ السببية فهذا يعني أن ما يعرفه البشر عن الكون هو ليس موثوقا (مثلا قوانين الفيزياء هي ليست موثوقة ويمكن أن تتغير مستقبلا، لأن هذه القوانين تقوم على مبدأ السبب والمسبب وليس على حتميات منطقية).
Immanuel Kant
الفيلسوف الألماني الشهير Immanuel Kant حاول أن يوجد صيغة وسطية بين الفكر العقلاني والفكر التجريبي والفكر الشكي. هو اتفق مع الفكر التجريبي في أن المعرفة لا تأتي سوى من الإدراك عبر الحواس، واتفق مع الفكر الشكي في أن المعرفة الناتجة من الإدراك عبر الحواس هي ليست أكيدة، واتفق أيضا مع العقلانيين في مفهوم سماه “المعرفة العابرة للحدود” أو “العابرة للتصانيف” transcendental. هذا النوع من المعرفة يوجد في العقل البشري بشكل “فطري” أو “بديهي” وهو ضروري للإدراك الحسي. هذا النوع من المعرفة هو عبارة عن مفاهيم تجريدية ومنطقية (الوقت، الزمن، السببية، التركيب، العلاقة) يستخدمها العقل لإدراك المحسوسات. حسب Kant فإن العقل لا يمكنه أن يدرك المحسوسات دون الاستعانة بهذه المفاهيم الفطرية.
Kant زعم أن فلسفته ستحسم الجدل بين الفلاسفة، ولكن الجدل لم يحسم وهو ما زال مستمرا إلى الآن.
Georg Wilhelm Friedrich Hegel
تراجع Kant عن النهج التجريبي البحت وقبوله ببعض الأفكار العقلانية شجع عددا من الفلاسفة الألمان في القرن 19 على النكوص مجددا إلى الفلسفة العقلانية. من هؤلاء مثلا الفيلسوف الألماني الشهير Georg Hegel الذي أعاد إحياء أسلوب عقلاني يوناني قديم يسمى الجدلية dialectic. هذا الأسلوب كان يتبعه فلاسفة اليونان القدماء لكي يتوصلوا إلى حقائق الكون وهم نائمون في أسرّتهم. Hegel استخدم هذا الأسلوب وصاغ من خلاله نظرية تفسر تاريخ العالم. لاحقا الفيلسوف الألماني Karl Marx اقتبس أسلوب Hegel الجدلي ودمجه مع نزعة مادية وصاغ نظرية سماها “المادية الجدلية” dialectical materialism. هذه النظرية كانت محاولة من Marx لتفسير تاريخ العالم على أساس اقتصادي. طبعا هذه النظرية هي فلسفة عقلانية لا تتفق مع المبدأ التجريبي الذي يقوم عليه العلم الحديث.
Karl Marx
الفلسفة هي موضوع كبير وأنا الآن سأتوقف عند هذا الحد ولن أستمر في سرد الأفكار والمدارس الفلسفية. المهم بالنسبة لموضوعنا هو أن الجدل حول طبيعة العقل البشري ما زال مستمرا حتى يومنا هذا. بعض الناس حاليا (بما في ذلك باحثون في علوم الجهاز العصبي neuroscience) ما زالوا يشكون في مادية العقل البشري، وبعضهم ما زالوا يثيرون قضية يسمونها “مسألة العقل والجسد” mind–body problem. أول من طرح هذه المسألة هو ربما ديكارت. من يطرحون هذه المسألة يميزون بين العقل mind والدماغ brain ويقولون أن العقل البشري سوف يظل للأبد مجهولا وخارج نطاق البحث العلمي، حتى ولو تقدم العلم إلى درجة سمحت لنا بفهم آليات عمل الدماغ البشري بشكل كامل.
ديكارت رأى أن العقل (الذي هو نفسه الروح) موجود في الغدة الصنوبرية pineal gland التي تقع في قلب الدماغ. هو رأى أن العقل/الروح يقوم بتحريك هذه الغدة وهذه الحركة تؤدي إلى “موجة روحية” تنتقل من فتحات الدماغ عبر الأعصاب إلى العضلات لتحريكها. طبعا هذا الكلام حاليا يبدو أشبه بخرافة. الناس في الغرب حاليا يجدون حرجا في تبني أفكار ديكارت بحرفيتها لأن هذه الأفكار لها طابع خرافي لا يتفق مع المناخ العلمي السائد في الغرب. لهذا السبب الثنائيون المعاصرون يحاولون أن يطرحوا أنفسهم بطرق جديدة.
قليل من الفلاسفة والباحثين في العالم الغربي اليوم يجرؤون على التصريح بوجود مكون غير مادي في الكون، لأن هذه الفكرة عفى عليها الزمن في التفكير العلمي. قبل القرن العشرين كان هناك صراع في أوروبا بين الميكانيكيين mechanists والحيويين vitalists حول مسألة وجود الروح في أجساد الكائنات الحية. الحيويون كانوا يصرون على أن التفاعلات الكيماوية التي تجري في أجسام الكائنات الحية (التفاعلات العضوية organic) هي ليست ظاهرة مادية بحتة ولكنها تتم تحت تأثير “قوة حيوية” (تسمى vital force أو élan vital). وجود هذه القوة الحيوية (التي هي نفسها الروح) هو شرط لإتمام التفاعلات العضوية، ودون التفاعلات العضوية لا يمكن لأجسام الكائنات الحية أن تعمل. إذن الحياة هي غير ممكنة دون القوة الحيوية. المدرسة “الميكانيكية” في المقابل كانت تنفي وجود القوة الحيوية وكانت ترى أن التفاعلات العضوية هي ظاهرة مادية بحتة كالتفاعلات غير العضوية.
طبعا في النهاية هذا الصراع انتهى بانتصار حاسم للميكانيكيين. حاليا لا أحد يميز بين التفاعلات العضوية وغير العضوية على أساس وجود “القوة الحيوية”. آلية التفاعلات العضوية صارت مفهومة وهي آلية مادية بحتة.
معركة “القوة الحيوية” هي واحدة من المعارك العديدة التي خسرها أنصار الفكر الثنائي خلال القرن 19. لهذا السبب المناخ الغربي العام لم يعد يتقبل الحديث عن وجود “الروح”، خاصة في المجالات العلمية.
رغم ذلك فإن الفكر الثنائي لم يمت بل هناك حتى يومنا هذا باحثون وفلاسفة يروجون له (هذا الشخص هو مثال). الثنائيون المعاصرون يميزون أنفسهم عن المذهب الديكارتي بالتفريق بين الجوهر substance والخصائص properties. حاليا مذهب ديكارت صار يسمى “ثنائية الجوهر” substance dualism تمييزا له عن مذهب غالبية الثنائيين المعاصرين الذي يسمى “ثنائية الخصائص” property dualism.
فكرة “ثنائية الخصائص” property dualism هي عبارة عن فذلكة فلسفية تعود جذورها إلى فكرة “الانبثاقية” emergentism التي يبدو أن أول من طرحها هو الفيلسوف البريطاني John Stuart Mill في القرن 19. قبل توضيح هذه الفكرة يجب أولا أن نوضح ما هو المقصود بالجوهر substance والخصائص properties.
نظرية الجوهر والخصائص هي فذلكة فلسفية قديمة لا أدري من الذي اخترعها (ربما ديكارت أو رجال الدين في القرون الوسطى). حسب هذه النظرية فإن الأشياء الموجودة في الكون تتألف من جوهر وخصائص.
لنأخذ مثالا هو كرة لونها أحمر. هذه الكرة لها جوهر هو المادة. بالإضافة إلى ذلك هذه الكرة لها مجموعة من الخصائص تشمل مثلا “اللون الأحمر” و”الشكل الدائري” إلخ. مجموع الجوهر مع الخصائص ينتج “شيئا” (object أو particular) (الشيء في مثالنا هو الكرة الحمراء).
خاصية “اللون الأحمر” هي ليست حكرا على الكرة الحمراء التي ذكرناها في المثال. هناك في الكون أشياء كثيرة تملك هذه الخاصية. لهذا السبب مفهوم الخاصية property هو مفهوم عام أو تجريدي. اللون الأحمر في مثالنا هو مجرد تجلي واحد (instance) لخاصية اللون الأحمر، ولكن هذه الخاصية تتجلى في أشياء أخرى عديدة. خاصية اللون الأحمر يمكن أن تتجلى أيضا بشكل كتابي. مثلا عندما نكتب بالإنكليزية the ball is red فهذا يعتبر تجليا لخاصية اللون الأحمر على شكل خَبَر نحوي predicate. خاصية اللون الأحمر تتجلى في الكتابة الإنكليزية هكذا is red، ولكنها في الكتابة الفرنسية تتجلى هكذا est rouge. إذن التجلي الكتابي لخاصية اللون الأحمر يمكن أن يأخذ أشكالا مختلفة في اللغات المختلفة.
الخاصية تتبع في طبيعتها الميتافيزيقية الجوهر الذي تتجلى فيه. مثلا خاصية اللون الأحمر هي خاصية مادية وليست روحية، لأن هذه الخاصية لا تتجلى سوى في الأشياء المادية. اللون الأحمر (في الرؤية) هو عبارة عن موجات كهرومغناطيسية يمكن إدراكها وقياسها بالطرق الفيزيائية، واللون الأحمر في الكتابة هو عبارة عن أحرف يمكن رؤيتها وإدراكها ماديا. إذن خاصية اللون الأحمر هي خاصية مادية. في المقابل الخصائص التي تميز الروح أو الله هي خصائص روحية وليست مادية. الخصائص الروحية لا تتجلى في الأشياء المادية.
قبل القرن العشرين كان هناك كما قلنا جدل بين الميكانيكيين mechanists والحيويين vitalists حول فهم الكيمياء العضوية (الكيمياء التي تدرس التفاعلات داخل أجسام الكائنات الحية). الميكانيكيون كانوا يرون أن الكيمياء العضوية هي في المحصلة فرع من الفيزياء، أي أن فهم التفاعلات العضوية هو ممكن عبر قوانين الفيزياء (القوانين المادية). معتقد الميكانيكيين هذا يعني أنهم كانوا يعتقدون بإمكانية “اختزال” أو “إرجاع” reduce الكيمياء العضوية إلى الفيزياء. في المقابل الحيويون كانوا يرون أن الكيمياء العضوية هي غير قابلة للاختزال أو الإرجاع إلى الفيزياء irreducible، والسبب هو وجود الجوهر الروحي (القوة الحيوية) في الكيمياء العضوية.
John Stuart Mill
الفيلسوف John Stuart Mill ومن تبعوه من الفلاسفة في القرن العشرين حاولوا أن يوجدوا طريقا وسطا بين المذهبين الميكانيكي والحيوي عبر طرحهم للفكرة التي تسمى “المادية الانبثاقية” emergent materialism. هذا المذهب يتفق مع الميكانيكيين في أن المادة هي الجوهر الوحيد في الكون، ولكن وفقا لرأي John Stuart Mill فإن بعض الأشياء المادية ذات التركيب المعقد تكتسب خصائص properties لا يمكن إرجاعها إلى الخصائص الفيزيائية irreducible.
مثلا في رأي John Stuart Mill أن التفاعلات الكيميائية لا يمكن فهمها وفق القوانين الفيزيائية. علم الكيمياء له قوانين خاصة تختلف عن قوانين الفيزياء. هو لم يكن يشير إلى مسألة القوة الحيوية ولكنه كان يتحدث عن الكيمياء بشكل عام (بما في ذلك الكيمياء غير العضوية). هو مثلا تحدث عن الكيمياء غير العضوية (ذات الطابع المادي الأكيد في ذلك الوقت) وقال أن قوانين الكيمياء غير العضوية لا يمكن فهمها وفق قوانين الفيزياء (مثلا قوانين الفيزياء المعروفة في زمنه لم تكن توضح لماذا يؤدي تفاعل الحمض مع القاعدة إلى إنتاج ملح وماء). لهذا السبب هو قسم الخصائص المادية إلى مستويين:
- خصائص المستوى الأدنى lower-level (الخصائص الفيزيائية)
- خصائص المستوى الأعلى higher-level (الخصائص الكيميائية)
خصائص المستوى الأعلى هي منبثقة emergent من خصائص المستوى الأدنى، ولكن رغم ذلك من غير الممكن اختزال أو إرجاع هذه الخصائص إلى خصائص المستوى الأدنى. قوانين المستوى الأعلى هي قوانين سببية مادية كقوانين المستوى الأدنى، ولكن من غير الممكن اختزال أو إرجاع قوانين المستوى الأعلى إلى قوانين المستوى الأدنى. قوانين المستوى الأعلى ليست بديلا عن قوانين المستوى الأدنى ولكنها إضافة أو تعزيز supplement لقوانين المستوى الأدنى.
هذا باختصار هو أساس الفكرة التي تسمى “المادية الانبثاقية” emergent materialism. غالبية الثنائيين المعاصرين يتسترون وراء هذه الفكرة ويزعمون أن “الخصائص العقلية” mental properties هي ليست خصائص فيزيائية، ومن غير الممكن في زعمهم اختزال أو إرجاع الخصائص العقلية إلى الخصائص الفيزيائية. الهدف النهائي من وراء كل هذه الفذلكة هو القول بأن الخصائص العقلية ستظل غير مفهومة حتى لو تمكن العلم من كشف الآلية الفيزيائية لعمل الدماغ بشكل كامل.
هذا الرسم يشرح وجهة نظر “ثنائية الخصائص” property dualism (التي هي وجهة نظر غالبية الثنائيين المعاصرين):
ما يريد أصحاب هذا المذهب قوله هو ما يلي:
الدماغ البشري (المادي) هو مقر العقل mind (وبالتالي العقل هو مادي)، ولكن مكونات العقل هي من مستوى أعلى من المستوى الفيزيائي الذي ندركه حاليا، وبالتالي نحن لن نفهم آلية عمل العقل حتى لو فهمنا آلية عمل الدماغ بمكوناته التي نفهمها حاليا.