في المقال الأخير تحدثت عن الجيل الأول من البشر الذي يسمى الإنسان الماهر Homo habilis وإنسان رودولف Homo rudolfensis. في هذا المقال سأتحدث عن الجيل الثاني من البشر.
هناك مسألة أشرت لها سابقا وهي أن كل التصنيفات والتقسيمات التي يذكرها الأنثروبولوجيون تبدو لي وكأنها مجرد وجهات نظر. التصنيف في البيولوجيا هو ليس مسألة سهلة، لأن هناك تنوعا كبيرا داخل كل نوع حي species.
أنا أشرت إلى الخلاف حول تصنيف البشر المعاصرين. في القرنين 18 و19 كان هناك جدل حول ما إذا كان البشر المعاصرون نوعا واحدا أم عدة أنواع. Carl Linnaeus صنف البشر على أنهم نوع واحد، ولكن هناك كثيرين كان لهم رأي آخر.
إذا كان الباحثون اختلفوا حول تصنيف البشر المعاصرين فهل من المتوقع أن يتفقوا على تصنيف مئات المستحاثات البشرية التي تعود لمئات آلاف وملايين السنين؟
لا يوجد في الحقيقة اتفاق حول تصنيف المستحاثات البشرية. في الإعلام هناك عدة تصنيفات ومصطلحات تتردد أكثر من غيرها، ولكن بمجرد الرجوع لبعض المصادر يتبين سريعا أن الاختلافات جمة وأن الآراء كثيرة ومتضاربة.
عند القراءة في هذا المجال شعرت بأن كلا يغني على ليلاه.
حتى “الإنسان الماهر” هو ليس تصنيفا أكيدا. هناك باحثون يصنفون الإنسان الماهر مع القرود الجنوبية ويسمونه Australopithecus habilis.
المشكلة الرئيسية التي تظهر سريعا عند القراءة في هذا المجال هي أن باحثي الأنثروبولوجيا ينقسمون إلى مُكتِّلين lumpers ومُشطٍّرين splitters. هذا الانقسام هو موجود في كل المجالات العلمية التي تتطلب التصنيف. المقصود بالمكتلين هم الذين يميلون إلى التصنيفات الكبيرة والعامة، والمشطرون هم الذين يميلون إلى التقسيمات الدقيقة والمفصلة.
حسب ويكيبيديا فإن تشارلز داروين هو أول من أشار إلى الفرق بين المكتلين والمشطرين:
The earliest use of these terms was apparently by Charles Darwin, in a letter to J. D. Hooker in 1857. “(Those who make many species are the ‘splitters,’ and those who make few are the ‘lumpers.’)” They were introduced more widely by George G. Simpson in his 1945 work “The Principles of Classification and a Classification of Mammals.” As he put it, “splitters make very small units – their critics say that if they can tell two animals apart, they place them in different genera … and if they cannot tell them apart, they place them in different species. … Lumpers make large units – their critics say that if a carnivore is neither a dog nor a bear, they call it a cat.”
الجيل البشري الثاني
هناك خلاف كبير حول تصنيف مستحاثات الجيل البشري الذي جاء بعد الإنسان الماهر وإنسان رودولف والقرود الجنوبية.
المكتلون يطلقون على هذا الجيل مسمى الإنسان المنتصب Homo erectus.
الإنسان المنتصب ظهر قبل حوالي مليوني عام، أي بعد حوالي نصف مليون عام من بداية العصر الجليدي وظهور الإنسان الماهر.
الإنسان المنتصب هو شبيه نوعا ما بالبشر المعاصرين (بخلاف الإنسان الماهر الذي هو أشبه بالقرود). القرود تتميز بأن لها جبهة مائلة (sloping forehead) وفما بارزا للأمام (prognathism) وعظام وجنات بارزة (prominent zygomata). هذه الصفات هي كلها أقل لدى الإنسان المنتصب مما هي عليه لدى القرود ولدى الإنسان الماهر.
إعادة بناء للإنسان المنتصب
بعض الباحثين يقولون أن الإنسان المنتصب كان ضخما يصل طوله إلى 180-190 سم.حجم دماغ الإنسان المنتصب عند بداية ظهوره هو 850 سم مكعب، وهذا حجم جيد مقارنة بالقرود.
الإنسان المنتصب هو أقدم كائن بشري عثر عليه خارج أفريقيا. الباحثون يربطون هجرة الإنسان المنتصب إلى آسيا بتغير المناخ قبل مليوني عام إلى مناخ مطير. عندما كان المناخ مطيرا كانت الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا خضراء وكانت هناك جماعات من الإنسان المنتصب تعيش فيها، ولكن عندما تغير المناخ نحو الجفاف قبل 1,8 مليون عام هاجرت بعض جماعات الإنسان المنتصب إلى آسيا. هذه هي نظرية “مضخة الصحراء الكبرى” Sahara pump theory.
إذن الإنسان المنتصب هو أول كائن بشري عاش في كل من أفريقيا وآسيا.
حاليا هناك باحثون يشطرون الإنسان المنتصب إلى نوعين:
- الإنسان المنتصب الذي ظل في أفريقيا ولم يهاجر خارجها يسمونه الإنسان العامل Homo ergaster
- الإنسان المنتصب الذي هاجر إلى آسيا يسمونه الإنسان المنتصب Homo erectus
عند هؤلاء كلمة “الإنسان المنتصب” تعني حصرا الإنسان المنتصب الآسيوي. هم يعتبرون الإنسان العامل نوعا منفصلا عن الإنسان المنتصب.
المكتلون يرون الفروقات بين الإنسان العامل والإنسان المنتصب الآسيوي مجرد فروقات بسيطة كالفروقات المشاهدة حاليا بين الأعراق، وأما المشطرون فيعتبرون الكائنين نوعين منفصلين.
حاليا وجهة نظر المشطرين هي الغالبة في الإعلام، لأنها تتوافق مع نظرية الأصل الأفريقي للإنسان الحكيم الحديث (التي تسمى Out of Africa theory).
أنصار نظرية الأصل الأفريقي يعتبرون الإنسان المنتصب الآسيوي نوعا بشريا قديما منقرضا لا علاقة له بالبشر المعاصرين من قريب أو بعيد.
نظرية الأصل الأفريقي تقول أن مصدر كل البشر الموجودين حاليا خارج أفريقيا هو هجرة حديثة جدا من أفريقيا حصلت قبل أقل من 200,000 عام (حسب الدراسات الجينية قبل 70,000 عام).
هذه الهجرة قامت بعملية استبدال replacement لكل البشر الذين كانوا يسكنون خارج أفريقيا، بمعنى أن أحفاد الإنسان المنتصب الآسيوي (وغيره من الأنواع غير الأفريقية التي سنذكرها لاحقا) انقرضوا جميعا ولم يبق لهم أي أثر.
أنصار نظرية الأصل الأفريقي ينكرون إمكانية التزاوج بين الإنسان الحكيم الحديث وبين الإنسان المنتصب ونحوه من الكائنات ذات الأصل غير الأفريقي. لهذا السبب هم يصنفون الإنسان المنتصب كنوع منفصل عن الإنسان العامل والأنواع الأفريقية المتحدرة منه.
في البيولوجيا التزاوج هو ممكن فقط بين الكائنات التي تنتمي لنفس النوع species، وأما الكائنات التي تنتمي لنوعين مختلفين فهي لا يمكن أن تتزاوج. إذا حصل اتصال جنسي بين كائنين من نوعين مختلفين فهذا يسمى تهجينا hybridization. التهجين في العادة لا يؤدي إلى حمل وولادة طبيعية. الأغلب هو ألا يحصل حمل من الأساس، وإذا حصل حمل فالجنين غالبا ما يموت، وإذا ولد الجنين فهو غالبا ما يكون عقيما غير قادر على الإنجاب.
هذا هو السبب الذي يجعل أنصار نظرية الأصل الأفريقي يصنفون الإنسان المنتصب وأحفاده الآسيويين كنوع منفصل عن الإنسان العامل وأحفاده الأفارقة. هم يريدون أن يقولوا أن التزاوج بين أحفاد الإنسان المنتصب وبين أحفاد الإنسان العامل هو أمر مستحيل، وبالتالي لا بد أن كل البشر الموجودين حاليا هم من نسل الإنسان العامل حصرا، وأما الإنسان المنتصب الآسيوي وأحفاده فهم بادوا دون أن يتركوا أثرا.
أنصار نظرية الأصل المتعدد multiregional hypothesis لهم رأي آخر. هم يرون أن الفروقات بين الإنسان المنتصب الآسيوي وأحفاده من جهة وبين الإنسان العامل الأفريقي وأحفاده من جهة أخرى كانت مجرد فروقات طفيفة كالفروقات المشاهدة حاليا بين الأعراق البشرية. بالتالي التزاوج بين سلالة الإنسان المنتصب الآسيوي وبين سلالة الإنسان العامل الأفريقي لم يكن مستحيلا بل كان يحصل على الدوام. أصحاب هذه النظرية يرون أن البشر المعاصرين هم متحدرون من كل من الإنسان المنتصب والإنسان العامل في آن واحد.
أنصار نظرية الأصل المتعدد يقولون أن الفروقات العرقية بين البشر هي موجودة منذ حوالي مليوني عام (منذ هجرة الإنسان المنتصب الأولى إلى آسيا)، وأن الفروقات العرقية المشاهدة بين البشر حاليا هي مجرد امتداد للفروقات القديمة التي تعود لملايين أو مئات آلاف السنين. أنصار نظرية الأصل الأفريقي يقولون أن الفروقات العرقية بين البشر نشأت حديثا جدا (حسب المستحاثات قبل 200,000 عام، وحسب الدراسات الجينية قبل 70,000 عام).
هذا باختصار هو جوهر الصراع بين المدرستين. الإعلام الغربي ينحاز لمدرسة الأصل الأفريقي على أساس أن المدرسة الأخرى هي عنصرية. هم ربما يربطون بين أفكار المدرسة الثانية وبين فكرة “الأصل المتعدد للأعراق” polygenism التي كانت سائدة في القرن 19، ولكن هذا الربط في رأيي هو ليس صحيحا.
الإنسان المنتصب في آسيا
الإنسان المنتصب ظل يعيش في آسيا لزمن طويل جدا، خاصة في المناطق النائية (شرق آسيا، جنوب شرق آسيا، أستراليا). من غير الواضح ما هو الزمن الذي انقرض فيه الإنسان المنتصب نهائيا من تلك المناطق. أنصار نظرية الأصل المتعدد لا يعتقدون أنه انقرض بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنهم يرون أنه ذاب واندمج مع موجات المهاجرين الجدد القادمين من الغرب.
في ستينات القرن العشرين عثر على موقع أثري اسمه Kow Swamp في ولاية فيكتوريا في جنوب شرق أستراليا. مكتشفو الموقع قالوا أنهم عثروا فيه على جماجم للإنسان المنتصب، والعجيب هو أن الموقع يعود لما قبل 10,000 عام فقط. لو صح هذا الكلام فهو يعني أن الإنسان المنتصب ظل يعيش في أستراليا حتى نهاية العصر الجليدي، ولكن الباحثين عموما لم يقبلوا تصنيف هذه الجماجم على أنها تعود للإنسان المنتصب.
أحدث مستحاثة يتفق كثير من الباحثين على أنها تعود للإنسان المنتصب عثر عليها في جزيرة جاوة في إندونيسيا (تسمى “إنسان سولو” Solo Man). في البداية قيل أن عمر هذه المستحاثة هو 50,000 عام فقط، ولكن لاحقا تم تغيير التاريخ إلى 143,000 عام كحد أدنى. هذا يعني أن الإنسان المنتصب كان ما يزال موجودا في إندونيسيا قبل 150,000 عام تقريبا.
هذه الأدلة تعني أن الإنسان المنتصب عاش لمدة مليوني سنة تقريبا قبل أن ينقرض. خلال هذا العمر المديد لا بد أن الإنسان المنتصب تطور وتكيف. ما يلي من ويكيبيديا حول إنسان سولو:
Though its morphology was, for the most part, typical of Homo erectus, its culture was unusually advanced. This poses many problems to current theories concerning the limitations of Homo erectus behavior in terms of innovation and language. Its cranial capacity ranged between 1013–1251 cm³, placing it amongst the larger-brained members of the Homo genus.
إنسان سولو رغم كونه من الإنسان المنتصب شكليا إلا أنه كان متطورا ثقافيا ودماغه كان كبيرا ويقع ضمن مجال دماغ الإنسان الحكيم.
هذا مجرد مثال من الأمثلة العديدة التي تدعم نظرية الأصل المتعدد للبشر. عندما نجد مستحاثة للإنسان المنتصب في سياق أثري مشابه لسياق الإنسان الحكيم فهذا يدل على أن الإنسان المنتصب في أواخر عهده كان يندمج مع الإنسان الحكيم، أي أن ما كان يحصل هو اندماج أو convergence وليس استبدالا replacement.
الإنسان العامل في أفريقيا
الإنسان العامل عاش في أفريقيا حتى 1,4 مليون سنة قبل الوقت الحالي، وبعد ذلك لا أحد يعلم ما الذي حصل له لأن مستحاثاته انقطعت ولا توجد مستحاثات أخرى توضح ما حصل.
حسب علمي لا توجد مستحاثات بشرية من أفريقيا تعود للفترة الممتدة بين 1,4 مليون سنة و300,000 سنة قبل الوقت الحالي. هذا يعني أن هناك فجوة طولها مليون عام تقريبا لا ندري ما الذي حصل خلالها للبشر في أفريقيا.
الإنسان العامل من الناحية الشكلية أو المورفولوجية هو مثل الإنسان المنتصب، ولكن هناك فروقات طفيفة بينهما. مثلا عظام جمجمة الإنسان العامل هي أرق من عظام جمجمة الإنسان المنتصب. أيضا الإنسان العامل كان يصنع أدوات أفضل من التي يصنعها الإنسان المنتصب.
إعادة بناء لـ Turkana Boy (الإنسان العامل)
أقدم عصر أثري (أركيولوجي archeological) هو كما قلنا العصر الحجري القديم Old Stone Age أو العصر الباليوليثي Paleolithic (كلمة palaiόs παλαιός باليونانية تعني “قديم”، وكلمة líthos λίθος تعني “حجر”). هذا العصر بدأ تقريبا مع بداية العصر الجليدي الأخير قبل 2,5 مليون عام. هذا العصر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- العصر الباليوليثي الأسفل Lower Paleolithic
- العصر الباليوليثي الأوسط Middle Paleolithic
- العصر الباليوليثي الأعلى Upper Paleolithic
العصر الباليوليثي الأسفل استمر حتى 300,000 عام قبل الوقت الحالي، أي أنه استمر لأكثر من مليوني عام. الأثريون يسمون الحقبة الأولى من هذا العصر باسم الصناعة الأُلدُوية Oldowan Industry (نسبة إلى موقع Olduvai في شمال تنزانيا). الصناعة الألدوية هي أول صناعة ظهرت في العالم. هي عبارة عن أحجار من الصوان قام صانعوها بضربها ببعضها فنتج عن ذلك قطع مكسرة ذات حواف حادة يمكن استخدامها في النهش والنبش والنكش، ولكنها ليست مفيدة جدا للصيد. الباحثون يربطون هذه الأدوات البدائية بالجيل البشري الأول، أي الإنسان الماهر وإنسان رودولف (اللذان كانا يعتاشان من نهش الجيف ونكش الفطور والجذور من باطن الأرض)، ومن الممكن أيضا أن القرود الجنوبية الجسيمة كانت تستخدم مثل هذه الأدوات، ولكن ليس بنفس مهارة الإنسان، لأن دماغ الإنسان أكبر (وبالتالي هو أمهر في استخدام الأدوات). أيضا نحن نعرف من العصور اللاحقة أن البشر طوروا صناعة الأدوات على نحو كبير، وبالتالي هذه المسألة هي من اختصاصهم.
أداة ألدوية
الحقبة التالية للصناعة الألدوية هي الصناعة الأشولية Acheulean Industry (نسبة إلى بلدة سان أشول Saint-Acheul في شمال فرنسا). هذه الأدوات ظهرت قبل حوالي 1,5 مليون سنة واستمرت حتى 300,000 سنة قبل الآن، بمعنى أنها استمرت تقريبا لمدة مليون ونصف مليون سنة. الفترة الأشولية مع الفترة الألدوية تسميان كلتاهما باسم العصر الباليوليثي الأسفل Lower Paleolithic. الأدوات الأشولية كانت عبارة عن فؤوس من الحجر، وبالتالي هي كانت أنفع للصيد من الأدوات الألدوية.
أداة أشولية
الباحثون يربطون الصناعة الأشولية بالإنسان العامل (الأفريقي) دون الإنسان المنتصب (الآسيوي)، لأن هذه الصناعة ظهرت في أفريقيا بعد هجرة الإنسان المنتصب. هذه الصناعة انتشرت لاحقا إلى غرب آسيا وأوروبا ولكنها لم تصل أبدا إلى شرق وجنوب شرق آسيا، ما يعني أن الجيل الأول من المهاجرين إلى آسيا لم يكونوا يعرفون هذه الأدوات.
هذا يجعلني أتساءل عن نوعية هؤلاء المهاجرين الباكرين. قبل حوالي 20 سنة اكتشفت مستحاثة للإنسان المنتصب في جورجيا في القوقاز. هذه المستحاثة مهمة لأن عمرها 1,8 مليون سنة وهي تقع في غرب آسيا بالقرب من أفريقيا، ما يعني أنها تعبر عن الموجة الأولى من المهاجرين إلى خارج أفريقيا. اللافت هو أن هذه المستحاثة بدائية جدا والباحثون الآن يقولون أنها تعبر عن مرحلة انتقالية ما بين الإنسان الماهر والإنسان المنتصب. هذا يعني أن المهاجرين الأوائل إلى آسيا كانوا ما يزالون يشبهون الإنسان الماهر. هذا يفسر تخلفهم وافتقادهم للأدوات المتطورة. هذا يوحي لي بأن هؤلاء المهاجرين كانوا ما يزالون يعتاشون من نبش القمامة ولم تكن لهم علاقة بالصيد ولا بالطبخ والنفخ ونحو ذلك من الأمور التي تنسب للإنسان المنتصب.
جمجمة الإنسان المنتصب في جورجيا
بعض الناس يصورون الإنسان المنتصب على أنه صياد مغوار يشعل النار ويشق عباب البحار. هذه الصفات ظهرت لاحقا ولم تكن موجودة لدى الجيل الأول من المهاجرين إلى آسيا. الجيل الأول كان أشبه بالقرود وهو خرج من أفريقيا بسبب التحسن المناخي في الصحراء الكبرى قبل مليوني عام. القدرة على الصيد والطبخ والإبحار (وربما الكلام أيضا كما يزعم البعض) هي أمور ظهرت في أزمنة تالية لزمن الهجرة الأولى نحو آسيا، وهي ظهرت أولا في أفريقيا وانتشرت من هناك. بما أن الصناعة الأشولية بدأت في أفريقيا فهذا يوحي بأن الصيد بدأ أو تطور في أفريقيا، لأن الصيد صعب دون الأدوات الأشولية.
الصيد بالمناسبة ليس شيئا خاصا بالبشر. بعض الباحثين رصدوا في أفريقيا جماعات من الشمبانزي تتعاون سوية لصيد حيوانات صغيرة (القرود مثلا). على ما يبدو فإن غريزة الصيد هي شيء موجود لدى كل أفراد عائلة القرود الكبيرة (وربما القرود الصغيرة أيضا، لا أدري بصراحة).
إذا كانت غريزة الصيد ميزة عامة لكل عائلة القرود الكبيرة فهذا يوحي بأنها غريزة قديمة جدا تعود إلى ما قبل تفرع هذه العائلة. إذن من الممكن أن البشر الأوائل كانوا يمارسون الصيد أيضا، ولكن بشكل محدود، لأن أدواتهم وإمكاناتهم لم تكن تسمح لهم بصيد الحيوانات الكبيرة. هم ربما كانوا يصيدون الفئران والأرانب ونحو ذلك (ولكن ليس الغزلان مثلا).
بعض الباحثين يربطون بين نمو دماغ الإنسان وبين ممارسته للصيد. الصيد يتطلب قدرة على استخدام الأدوات تفوق القدرة اللازمة لنهش الجيف ونبش الأراضي. لو فرضنا أن الإنسان العامل في أفريقيا ركز على الصيد فلا بد أن هذا شجع نمو دماغه.
لو نظرنا حاليا إلى قشرة المخ عند الإنسان (المعاصر) فسنجد أن القسم المسؤول عن تحريك الأيدي هو كبير جدا. هذا يدل على الأهمية التاريخية للمهارة اليدوية بالنسبة للإنسان.
الصيد يوفر للإنسان كميات كبيرة من البروتين، وهذا عامل إضافي يشجع على نمو الدماغ والجسم عموما.
هناك ميزة إضافية للصيد إلى جانب موضوع المهارة اليدوية: الصيد هو نشاط تعاوني يشترك فيه مجموعة من الأفراد (كما يظهر مثلا من مثال الشمبانزي الذي ذكرته بالأعلى). لو فرضنا أن الإنسان العامل ركز على الصيد فهذا يفسر نمو الجانب التعاوني والاجتماعي لديه. هذا الجانب هو مرتبط أيضا بمهارات التواصل والتعبير والكلام.
بعض الباحثين يرون أن بداية ظهور الحياة الاجتماعية المعقدة لدى الإنسان كانت ربما في زمن الصناعة الأشولية والإنسان العامل. صيد الحيوانات الكبيرة هو مسألة صعبة وبحاجة لتعاون عدد من الأفراد. الإنسان العامل عندما كان يخرج للصيد كان يخرج في مجموعات تضم عدة أفراد. هؤلاء الأفراد كانوا بحاجة للتواصل فيما بينهم حتى يحققوا نتائج أفضل في الصيد، وهذه الحاجة للتواصل شكلت دافعا تطوريا أدى إلى نمو مهارات التواصل الاجتماعي لديهم بشكل تدريجي.
بعد الصيد الرجال كانوا بحاجة لتقاسم الحيوان الذي صادوه. هم كانوا يضطرون لسحبه إلى قاعدتهم أو معسكرهم لكي يتمكنوا هناك من تقطيعه وتقاسمه وإطعام أطفالهم ونسائهم. هذا الأمر أدى لنشوء نواة القبيلة أو المجتمع. البشر كانوا مضطرين للتواصل فيما بينهم لكي يتفقوا على كيفية تقاسم الغنائم وكيفية إدارة شؤون قبيلتهم أو مجتمعهم. هذه الحاجة للتواصل شكلت دافعا تطوريا نمّى مهارات التواصل لديهم.
هناك أيضا أسباب أخرى يذكرها الباحثون أدت إلى نمو مهارات التواصل والعلاقات العاطفية المعقدة بين البشر. أحد هذه الأسباب مثلا هو أن نمو دماغ الإنسان جعل رأسه تكبر، وهذا ما أدى إلى تقليل فترة حمل أمه به لكي تتمكن من ولادته دون عملية قيصرية (إذا بقي طويلا في الرحم فإن رأسه لن تمر عبر ممر الولادة). القرود رؤوسها صغيرة، ولهذا هي تمكث في أرحام أمهاتها لفترات طويلة، وهي تولد ناضجة ولا تحتاج لرعاية طويلة بعد الولادة. الجنس البشري (خاصة أنواعه المتأخرة) يمتاز برؤوس كبيرة، وبالتالي المرأة البشرية صارت مضطرة لأن تلد الطفل بسرعة وقبل أن ينضج بشكل جيد، وهذا يجعل أطفال البشر بحاجة لرعاية أكبر بعد الولادة. امرأة الإنسان العامل صارت تضطر لإمضاء فترة طويلة بعد الولادة في رعاية طفلها، وخلال هذه الفترة هي بحاجة لمن يساعدها ويزودها وطفلها بالغذاء. من هنا ظهرت الحاجة للعلاقة بين الذكر والأنثى التي تسمى بـالزواج.
أنا تحدثت في مقال سابق عن مفهوم الزواج وقلت أن هذا المفهوم لم يكن في الأصل مرتبطا بالعفة أو التقييد الجنسي للمرأة. حاليا الناس يعتبرون الزواج مرادفا للعفة، بمعنى أن مفهوم الزواج لدى الناس هو تقييد المرأة جنسيا برجل معين. هذا المفهوم هو مفهوم حديث. في كثير من المجتمعات (البدائية) المرأة المتزوجة هي ليست مقيدة جنسيا ويمكنها أن تمارس الجنس مع أشخاص آخرين غير زوجها (وطبعا العكس صحيح). أنا أشرت في ذلك المقال إلى نكاح الاستبضاع الذي كان ممارسا لدى العرب في الجاهلية. هذا النوع من النكاح هو من بقايا العصور القديمة قبل ظهور مفاهيم العفة والتقييد الجنسي.
الزواج في الأصل لم تكن له علاقة بالتقييد الجنسي أو منع اختلاط الأنساب. الزواج في أصله هو مجرد استمرار لظاهرة حيوانية يسميها الباحثون pair bonding. هذه الظاهرة هي مرتبطة بالتناسل. الإناث في كثير من الأنواع الحيوانية يحتجن للرعاية أو لاهتمام خاص من الذكر في فترة الإخصاب أو الحمل أو الولادة. هذا هو أصل مفهوم الزواج. هو مرتبط بحفظ النوع. ذكور البشر كانوا مضطرين للزواج من الإناث لكي يستمر التناسل ولكي لا يفنى النوع البشري.
حسب علمي فإن الأنثى البشرية تحتاج لعناية تفوق ما تحتاجه أية أنثى أخرى. لهذا السبب أهمية الزواج لدى البشر تعاظمت وفاقت ما هو موجود لدى الكائنات الأخرى. هذا الأمر ربما كانت له علاقة بتطور العواطف والمشاعر لدى البشر.
تعاظم أهمية الزواج لدى البشر أدى لتقليل أهمية “الانتخاب الجنسي” sexual selection و”ثنائية الشكل الجنسية” sexual dimorphism.
الانتخاب الجنسي هو مفهوم شرحه داروين. هو فرع من مفهوم الانتخاب الطبيعي natural selection. المقصود بالانتخاب الجنسي هو أن الذكر الأصلح للإنجاب يحصل على فرص أكبر للتزاوج مع الإناث.
في عالم القرود مفهوم الانتخاب الجنسي يطبق على نحو صارم للغاية. مثلا في قبيلة الغوريلات هناك في العادة ذكر وحيد يحتكر إناث القبيلة لنفسه ويمنع الذكور الآخرين من التزاوج معهن. بما أن هذا الذكر هو أقوى من بقية الذكور فهو الوحيد الذي يحق له التزاوج مع الإناث.
ثنائية الشكل الجنسية sexual dimorphism هي مرتبطة بما سبق. المقصود هو الاختلاف في الشكل بين الذكور والإناث. هذه الظاهرة توجد بوضوح لدى الغوريلات. أنثى الغوريلا تختلف في الشكل كثيرا عن ذكر الغوريلا. الأنثى هي أصغر حجما بكثير وهي تفتقد للأنياب الكبيرة التي يملكها الذكر.
هذه الظواهر خفت لدى البشر بسبب تعاظم أهمية الزواج.
بما أن التنافس على الإناث خف وأصبح أقل أهمية فهذا أدى لتغيرات شكلية في الذكور. مثلا الأنياب الضخمة التي تميز ذكور القرود لم تعد موجودة لدى البشر. حسب الباحثين فإن الوظيفة الأساسية لهذه الأنياب هي تخويف الذكور الآخرين. بما أن التنافس على الإناث بين ذكور البشر أصبح قليلا فلم تعد هناك أهمية لهذه الأنياب المخيفة، ولم تعد هناك أهمية لضخامة حجم الذكور. حاليا ثنائية الشكل الجنسية ما تزال موجودة لدى البشر ولكنها خفيفة جدا ولا تقارن بما هو موجود لدى الغوريلات مثلا.
ذكور البشر يحتاجون للتعاون مع بعضهم لكي يحققوا نتائج أفضل في الصيد، ومشكلة الإناث لم تعد مشكلة مهمة بسبب تطبيق الزواج والاهتمام به. بالتالي لم تعد هناك حاجة للعدائية الزائدة بين الذكور. على العكس هذه العدائية صارت مضرة لأنها تعيق الجهد الجماعي.
لهذا السبب أشكال الذكور تغيرت تدريجيا نحو أشكال غير مخيفة. الذكور صاروا يريدون أن يكسبوا ثقة بعضهم وليس أن يخيفوا بعضهم.
قضية الثقة هي مرتبطة أيضا بتطور الكلام عند البشر، ولكن هذا الموضوع سأتحدث عنه في وقت لاحق.
هذه بعض الاعتبارات التي أدت إلى تطور الإنسان العامل بشكل تدريجي حتى وصل إلى شكل شبيه بالشكل البشري المعروف لنا. الانتقال من العمل في نبش القمامة إلى الصيد كان خطوة هامة. لهذا السبب بؤرة تطور البشر كانت في أفريقيا حيث ظهرت الأدوات الأشولية المناسبة للصيد. من الممكن أن بيئة أفريقيا كانت مناسبة للصيد أكثر من بيئة آسيا وهذا ربما يكون السبب الذي جعل الأفارقة يتطورون على نحو أسرع من الآسيويين (هذه الفكرة الأخيرة هي مجرد تخمين من عندي وأنا لست واثقا من صحتها).
في المقال القادم سوف أتحدث عن الجيل البشري التالي للإنسان العامل والإنسان المنتصب.
كلام جميل هاني..
لا ندري مالذي حصل خلال المليون سنة التي لا يوجد فيها معلومات، وهذا بحد ذاته أمر يدعو للبحث.. تخيل، مليون سنة فقط لا نعرف عنها شيء..
أعتقد أنه مليون سنة كافية لتطوير الكائن الحي بالمجالات التالية: اجتماعياً، فكرياً، حتى على مستوى الجينات.. الانسان يختلف عن الحيوان بشيء (غير العقل) أن أنزيمات المعدة والأمعاء غير قادرة على تفتيت اللحم النيء، والحيوان قادر على ذلك وحتى أنه قادر على أكل الخضار نيئة كالذرة، ولو أن انسان اليوم اقتات على اللحم النيء فهذا سيسرع بموته، بالتالي فهذه المدة الطويلة من الزمن قد تكون فترة كافية لتغيير جينات الانسان لتجعله مميزاً حتى بموضوع أكل الطعام المطبوخ..
بالنسبة للفرق بين الانسان الآسيوي والانسان الأفريقي (المهاجر والعامل).. أليس اتخاذ قرار الهجرة بحد ذاته والقيام بالهجرة هو أمر بحاجة لعقل وتفكير؟ ثم إن القيام بالهجرة لم يكن فردياً، على الأغلب فإن آلاف من البشر يومها قرروا الانتقال معاً.. إن كانت الأسود قادرة على العيش سورياً وتشكيل مجتمع وتراتبية وتصيد بشكل جماعي فمالذي يمنع أن يكون الانسان الأولي بهذا الذكاء، رغم أن الأسود أقل ذكاء بكثير.. الغراب قد يستخدم الحجر لثقب البيض أيضاً..
لم يذكر لنا أحد سبب للهجرة التي قام بهاالانسان، وذكرت أن السبب قد يكون التغير المناخي، ماذا لو كان السبب هو الهروب من الوحوش الضارية الموجودة في أفريقيا والبحث عن كان أكثر أمناً مثل الجبال… وأعتقد أنك ستتحدث عن هذا الموضوع عندما ستأتي للحديث عن الانسان الأحدث وهناك أمثلة شاهدة في حلبون بالقرب من دمشق عن مغارات من صنع الانسان في قلب الجبال عبارة عنم فتحات بسيطة في الجبل يمكنها أن تأوي شخصين أو عائلة صغيرة..
أهلا بك…
أولا أنا أعتذر منك ومن بقية القراء لأنني رجعت لقائمة المستحاثات الموجودة في ويكيبيديا وتبين لي أن الفجوة التي ذكرتها غير صحيحة… هناك مستحاثة (أو اثنتان) تعود للفترة التي قلت أن فيها فجوة… أنا حاليا أتحقق من هذا الموضوع… المشكلة أن المصادر المختلفة تقول أشياء مختلفة…
عموما الموضوع لم ينته وهناك ملاحظات عديدة سأوضحها لاحقا… أنا بالمناسبة لم أزعم يوما أن الكلام الذي أكتبه هو مرجع علمي… أنا فقط ألخص معلومات قرأتها… أنا لا أزعم أبدا أن كلامي هو الحق المطلق أو أي شيء من ذلك…
الهجرة لا علاقة لها بالعقل والتفكير… هناك في علم البيولوجيا شيء اسمه هجرة الحيوانات… هناك طيور تهاجر وأسماك تهاجر وثدييات تهاجر… لا يوجد رابط بين الهجرة والتفكير… نظرية “مضخة الصحراء الكبرى” لا تتعلق بالبشر فقط ولكنها تستخدم أيضا لتفسير هجرة أنواع من الحيوانات من أفريقيا إلى آسيا…
بالنسبة لعدد البشر المهاجرين فأنا لا أدري…. ولكنني ما كنت لأقول “آلاف” لأن هذا عدد كبير…
بالنسبة للذكاء عند الأسود فأنا أرى أن الأفضل هو المقارنة مع القرود لأن الإنسان هو أقرب بيولوجيا للقرود وليس للأسود… القرود عموما هي أذكى من الأسود (حسب ما أعلم)… الإنسان المنتصب كان حتما أذكى من الأسود… وهو على الأغلب كان أذكى من غالبية أنواع القرود إن لم يكن أذكاها على الإطلاق… المفترض على ما أظن هو أنه كان أذكى كائن في زمانه…
بالنسبة لقضية الوحوش الضارية فهذه قضية قديمة تسبق ظهور الإنسان بزمن طويل جدا… الوحوش الضارية كانت في فترة من الفترات تهيمن على العالم (عصر الديناصورات)… الثدييات ظهرت كرد فعل على هيمنة الوحوش الضارية… الرئيسيات (القرود) هي متكيفة منذ البداية للحياة في ظل وجود الوحوش الضارية… قضية الوحوش الضارية هي قضية قديمة جدا لا علاقة لها بتطور الإنسان ولا هجرته… هذه القضية تبحث في موضوع تطور الثدييات وتطور الرئيسيات وليس في موضوع تطور الإنسان…
لو أتيح لي الوقت في المستقبل (البعيد) فربما أتحدث عن تطور الثدييات وتطور الرئيسيات وتطور القرود الكبيرة….
شكرا يعطيك العافية