اللغات الألطائية والطورانية

مفهوم اللغات الألطائية Altaic languages هو مفهوم فضفاض نوعا ما. قصة هذا المفهوم هي مذكورة بالتفصيل في ويكيبيديا. هذا المفهوم ظهر في القرن 19 وكان المقصود به في البداية جميع اللغات الآسيوية اللصقية agglutinative التي توجد فيها ظاهرة تناغم أصوات العلة vowel harmony.

اللغات التي توجد فيها ظاهرة تناغم أصوات العلة هي ما يلي:

  • اللغات الأورالية Uralic (محكية في سيبيريا وأوروبا الشرقية وإسكندنافيا)
  • اللغات التركية Turkic (في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية وأذربيجان والأناضول)
  • اللغات المنغولية Mongolic (في منغوليا وجنوب سيبيريا)
  • اللغات الطنغوسية Tungusic (في منشوريا وشرق سيبيريا)

حسب ويكيبيديا فإن مخترع كلمة “ألطائية” Altaic هو الباحث اللغوي الفنلندي Matthias Castrén الذي استخدم هذه الكلمة لأول مرة في عام 1844. الكلمة مشتقة من اسم سلسلة جبال ألطاي Altai Mountains التي تقع في وسط القارة الآسيوية وتشكل الحد الفاصل ما بين سهول منغوليا شرقا وسهول آسيا الوسطى غربا.

هذه الخريطة تبين موقع جبال ألطاي بين منغوليا شرقا وآسيا الوسطى غربا وسيبريا شمالا

هذه الخريطة تبين موقع جبال ألطاي بين منغوليا شرقا وآسيا الوسطى غربا وسيبيريا شمالا

لاحقا اقترح باحثون آخرون توسيع العائلة الألطائية بإضافة اللغتين الكورية واليابانية إليها، وبهذا صارت العائلة المفترضة تغطي كل القسم الشمالي من قارة آسيا (وأيضا القسم الشمالي من أوروبا الشرقية).

انقر بزر الفأرة الأيمن واختر view image لكي ترى الصورة بالحجم الكبير، أو انسخ رابط الصورة وافتحه في صفحة أخرى من المتصفح

في تلك الفترة (أواسط القرن 19) كان الباحثون الأوروبيون ما يزالون واقعين تحت صدمة اكتشاف العائلة اللغوية الهندو-أوروبية Indo‑European.

الرحالة الأوروبيون لاحظوا منذ قرون عديدة أوجه شبه بين اللغات الهندية (والإيرانية) وبين اللغات الأوروبية، ولكن الدراسة العلمية الجدية لهذه الفكرة لم تبدأ إلا في القرن 19. دراسة هذه الفكرة كانت سبب ظهور علم اللغويات المقارن comparative linguistics.

كتب علم اللغويات المقارن المتعلقة باللغات الهندو-أوروبية كثيرا ما تنقل النص التالي الذي يعود إلى كلمة ألقاها باحث بريطاني في نهاية القرن 18:

The Sanscrit language, whatever be its antiquity, is of a wonderful structure; more perfect than the Greek, more copious than the Latin, and more exquisitely refined than either, yet bearing to both of them a stronger affinity, both in the roots of verbs and the forms of grammar, than could possibly have been produced by accident; so strong indeed, that no philologer could examine them all three, without believing them to have sprung from some common source, which, perhaps, no longer exists; there is a similar reason, though not quite so forcible, for supposing that both the Gothic and the Celtic, though blended with a very different idiom, had the same origin with the Sanscrit; and the old Persian might be added to the same family.

ما يلي ترجمة للكلام:

اللغة السنسكريتية -مهما كان قدمها- هي رائعة التركيب. هي أكمل من اليونانية وأغزر من اللاتينية، وأجمل وأنقى من كليهما، ولكنها في نفس الوقت تحمل شبها من كليهما –في جذور الأفعال وفي أبنية القواعد– أقوى مما يمكن أن يكون قد نشأ بمحض الصدفة. هذا الشبه هو قوي إلى درجة أن أي باحث لغوي لا يمكنه أن يتفحص هذه اللغات الثلاثة دون أن يعتقد أنها نبعت من أصل مشترك. هذا الأصل المشترك هو ربما لم يعد موجودا الآن. هناك سبب مشابه –رغم أنه ليس بنفس القوة– لافتراض أن اللغتين القوطية Gothic والقلطية Celtic –رغم أنهما مختلطتان بلغة مختلفة جدا– تعودان لنفس أصل اللغة السنسكريتية، واللغة الفارسية القديمة يمكن أن تضاف أيضا إلى نفس العائلة.

هذا الكلام قاله الباحث اللغوي البريطاني William Jones في عام 1786. هذا الكلام يعبر عن بدايات اكتشاف العائلة اللغوية الهندو-أوروبية (في السابق كانت تسمى أيضا الهندو-جرمانية Indo-Germanic).

اللغة السنسكريتية هي لغة الهند القديمة التي تحظى في الهند بمنزلة شبيهة بمنزلة اللغة العربية الفصيحة لدى العرب. معظم اللغات المحكية في الهند حاليا هي متحدرة من اللغة السنسكريتية. كل الكتابات والمؤلفات الهندية القديمة هي باللغة السنسكريتية.

Map_Indo_European_Languagesأقدم توزع معروف لللغات الهندو-أوروبية

اكتشاف العائلة اللغوية الهندو-أوروبية أثر على أوروبا بشكل بالغ جدا خلال القرن 19. هذا الاكتشاف أدى إلى ثورة في البحث العلمي المتعلق بأصول الشعوب والأعراق والحضارات والأديان إلخ. هناك كم كبير من النظريات التي ظهرت خلال القرن 19 والتي حاول أصحابها أن يفسروا التاريخ ونشوء الحضارات والأمم في ضوء اكتشاف العائلة الهندو-أوروبية.

خلال خمسينات القرن 19 نشر الباحث الألماني الشهير Max Müller أبحاثا صنف فيها لغات القارة الآسيوية ضمن ثلاث عائلات كبرى:

  • العائلة السامية Semitic (تضم اللغة العبرية واللغات التي تمت لها بصلة قرابة كالآرامية والعربية والحبشية)
  • العائلة الآرية Arian (هي نفسها العائلة الهندو-أوروبية)
  • العائلة الطورانية Turanian

كلمة Turanian هي مأخوذة من الكلمة الفارسية “توران” التي كانت تشير قديما إلى بلاد “ما وراء النهر” Transoxiana (النهر المقصود هو نهر جيحون Oxus الذي ينبع من جبال پامیر Pamir في جنوب آسيا الوسطى ويصب في بحر آرال Aral في غرب آسيا الوسطى).

صورة من ويكيبيديا تظهر عليها بلاد ما وراء النهر Transoxiana التي كانت تقع في القسم الجنوبي الأوسط من آسيا الوسطى. القسم الجنوبي الغربي من آسيا الوسطى كان يسمى خوارزم Chorasmia. إلى الجنوب من هاتين المنطقتين كانت تقع خراسان (التي هي الجزء الشمالي الشرقي من الهضبة الإيرانية وليست جزءا من آسيا الوسطى). إلى الشرق من بلاد ما وراء النهر يقع حوض تاريم Tarim Basin الذي يمثل القسم الجنوبي الشرقي من آسيا الوسطى ويسكنه حاليا الأتراك الأويغور. إلى الشمال من بلاد ما وراء النهر وخوارزم يقع سهل واسع هو سهل القيرغيز أو سهل الكزخ. هذا السهل يتمادى شرقا مع صحراء جنغاريا Dzungaria التي تقع عند السفوح الغربية-الجنوبية لجبال ألطاي وتمثل أقصى امتداد نحو الشرق لمنطقة آسيا الوسطى (إلى الشرق من جنغاريا تقع صحراء غوبي Gobi التي تشكل القسم الجنوبي من منغوليا).

صورة من ويكيبيديا (باللغة الألمانية) تظهر عليها بلاد ما وراء النهر Transoxiana التي كانت تقع في القسم الجنوبي الأوسط من آسيا الوسطى. القسم الجنوبي الغربي من آسيا الوسطى كان يسمى خوارزم Chorasmia. إلى الجنوب من هاتين المنطقتين كانت تقع خراسان (التي هي الجزء الشمالي الشرقي من الهضبة الإيرانية وليست جزءا من آسيا الوسطى). إلى الشرق من بلاد ما وراء النهر يقع حوض تاريم Tarim Basin الذي يمثل القسم الجنوبي الشرقي من آسيا الوسطى ويسكنه حاليا الأتراك الأويغور. إلى الشمال من بلاد ما وراء النهر وخوارزم يقع سهل واسع هو سهل القيرغيز أو سهل الكزخ. هذا السهل يتمادى شرقا مع صحراء جنغاريا Dzungaria التي تقع عند السفوح الغربية-الجنوبية لجبال ألطاي وتمثل أقصى امتداد نحو الشرق لمنطقة آسيا الوسطى (إلى الشرق من جنغاريا تقع صحراء غوبي Gobi التي تشكل القسم الجنوبي من منغوليا).

ما يلي خريطة للقسم الشرقي من آسيا الوسطى الذي يقع حاليا ضمن الصين ويسمى شين جيانغ Xinjiang (سابقا كان يسمى تركستان الشرقية Eastern Turkistan وهو يضم كلا من جنغاريا وحوض تاريم):

Central Asia east

في العصر الإسلامي كلمة “تورانيين” كانت تعني الأتراك، لأن غالبية سكان آسيا الوسطى في العصر الإسلامي كانوا من الأتراك، ولكن قبل العصر الإسلامي (وفي العصر الإسلامي الباكر أيضا) كان سكان آسيا الوسطى من الشعوب الإيرانية (يتحدثون لغات “إيرانية شرقية” Eastern Iranian).

كلمة “توران” هي مشتقة من “تور”. هذه الكلمة وردت في ملحمة الشاهنامه للفردوسي كاسم لملك أسطوري كان يحكم بلاد ما وراء النهر.

الشاهنامه فيها تقسيم ثلاثي للعالم يشبه التقسيم التوراتي والتقسيم اليوناني (اللذين تحدثت عنهما سابقا). حسب الشاهنامه فإن الملك فَرِيدُون قسم العالم إلى ثلاثة أقسام: قسم غربي (الروم) أعطاه لابنه سَلْم، وقسم أوسط (إيران) أعطاه لابنه إيرَج، وقسم شرقي (تُوران) اعطاه لابنه تُور.

لاحقا نشأت حرب وعداوة بين إيران وتوران. الباحثون يرون أن الحرب بين إيران وتوران الموصوفة في الشاهنامه هي تعبير عن حروب قديمة وقعت بين الإيرانيين وبين القبائل البدوية الساكنة في آسيا الوسطى (التي كانت تتحدث لغات إيرانية).

هناك باحثون يقولون أن الجذر “تور” ورد أيضا في كتاب الأبستاق Avesta، الذي هو الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية Zoroastrianism (ديانة إيران قبل الإسلام). الجذر “تور” في الأبستاق استخدم لوصف قبائل معادية للزرادشتيين. الديانة الزرادشتية كما هو معروف نشأت في منطقة خراسان (التي كانت تسمى قديما Aryan، ولاحقا هذه التسمية تحرفت إلى “إيران” وأصبحت تسمية عامة لكل الهضبة الإيرانية).

الخلاصة هي أن كلمة “تور” هي كلمة إيرانية قديمة كانت تستخدم لوصف قبائل معادية لسكان خراسان. هذه الكلمة كانت تطلق تحديدا على قبائل إيرانية اللغة تسكن في آسيا الوسطى.

المرء ليس بحاجة لفطنة كبيرة حتى يشك في وجود علاقة بين الجذر الإيراني “تور” -Tūr وبين كلمة “تُرك” Turk (اسم الأتراك). كلمة Turk ليس لها أصل في اللغات التركية. هي ربما كلمة إيرانية أو هندو-أوروبية الأصل. الترك الأصليون كانوا ربما إيرانيي اللغة (أو ربما كانوا يتحدثون اللغة الطخارية Tocharian التي هي أيضا لغة هندو-أوروبية كانت محكية قديما في شرق آسيا الوسطى). في زمن ما تمدد متحدثو اللغة التركية المعروفة حاليا من شمال منغوليا نحو الترك الهندو-أوروبيين، وبهذا تغيرت لغة الترك وأصبحت لغتهم هي اللغة المنغولية المعروفة حاليا (هذه النظرية تفسر الاختلاف الشكلي والجيني بين غالبية الأتراك الحاليين وبين إخوانهم المنغوليين. غالبية الأتراك الحاليين لهم ملامح وجينات إيرانية أو هندو-أوروبية).

كلمة “ترك” ربما تكون وردت لدى كتاب رومان من القرن الأول الميلادي (إفلينيوس الأكبر ذكر قبائل اسمها Turcae كانت تعيش بالقرب من بحر آزوف شمال البحر الأسود)، ولكن أقدم ذكر أكيد لكلمة “ترك” يعود إلى القرن الميلادي السادس. في ذلك الوقت ظهرت دولة منغولية كبيرة تسمى بالإنكليزية Göktürk (اسمها الصحيح هو Kök Türük).

خريطة من ويكيبيديا تبين أقدم انتشار معروف للـ Göktürk

دولة Kök Türük هي ليست أول دولة منغولية في التاريخ. هناك دول منغولية كثيرة سبقت هذه الدولة وورد ذكرها في الكتابات الصينية وحتى الأوروبية، ولكن هذه الدولة هي أول دولة حملت اسم Türük. كلمة Türük ليس لها معنى في اللغات التركية. في رأيي أن هذه الكلمة ربما تكون مشتقة من الجذر الأجنبي –Tur الذي ورد في الكتابات الإيرانية، وأما اللاحقة ük– فهي ربما تكون أجنبية أو تركية. اللاحقة ik/–uk– هي معروفة في اللغات التركية وهي شائعة الاستخدام (مثلا في konuk وsoluk وkırık إلخ).

عودة إلى الموضوع الأصلي. في الأعلى ذكرنا أن Max Müller تحدث عما سماه العائلة اللغوية الطورانية Turanian. كلمة Turan في كتابات القرن 19 تعني “آسيا الوسطى”، وهذا هو المعنى الذي قصده Müller عندما صاغ كلمة Turanian.

العائلة الطورانية هي تطوير وتوسيع لفكرة العائلة الألطائية. Max Müller اعتبر أن كل القبائل غير المتحضرة في قارة آسيا لها أصل مشترك، والدليل هو أن كل هذه القبائل تتحدث لغات لصقية متشابهة قواعديا. لهذا السبب هو صنف معظم لغات آسيا غير السامية وغير الآرية ضمن العائلة الطورانية. هو قسم هذه العائلة إلى قسمين: قسم طوراني شمالي هو العائلة الألطائية، وقسم جنوبي هو اللغات الدرافيدية Dravidian (اللغات الهندية غير الآرية المحكية حاليا في جنوب الهند).

صورة من ويكيبيديا تبين توزع اللغات في الهند. اللغات الدرافيدية تظهر باللون الأزرق.

صورة من ويكيبيديا تبين توزع اللغات في الهند. اللغات الدرافيدية تظهر باللون الأزرق.

Müller اعتبر أيضا أن اللغات القوقازية هي متفرعة من العائلة الطورانية (لأن اللغات القوقازية هي لصقية).

مفهوم الطورانية لم يكن مجرد مفهوم لغوي بل كان مفهوما عرقيا أيضا، لأن دراسة اللغات في القرن 19 كانت مرتبطة بدراسة الأعراق. بعض الباحثين الأوروبيين تحدثوا عما سموه “العرق الطوراني” Turanoid race. العرق الطوراني هو “عرق انتقالي” بين العرق القوقازاني Caucasoid (يسمى أيضا العرق الأوروباني Europoid أو العرق الأبيض) وبين العرق المنغولاني Mongoloid. أصول العرق المنغولاني تعود إلى شرق آسيا. عندما امتزج هذا العرق مع العرق القوقازاني فإن النتيجة كانت العرق الطوراني الهجين.

بالنسبة لكثير من الغربيين فإن الاختلاط العرقي كان شيئا سيئا جدا. الغربيون يطلقون على الاختلاط العرقي مسمى miscegenation. في بعض الدول الغربية كانت هناك قوانين تمنع الاختلاط العرقي (هذه القوانين ظلت موجودة في الولايات الأميركية الجنوبية حتى ستينات القرن العشرين). بعض الغربيين كانوا يرون أن العرق القوقازاني أو الأوروباني لديه ميزات أفضل من غيره، والاختلاط مع الأعراق الأخرى يؤدي إلى ضياع هذه الميزات وتبديدها. لهذا السبب هم كانوا ينظرون نظرة عدائية للاختلاط العرقي وكانوا يعتبرون الأعراق الهجينة أعراقا منحطة (العرق السامي هو أحد هذه الأعراق الهجينة المنحطة).

خلال النصف الثاني من القرن 19 حصلت تغيرات سياسية مهمة في العالم، أهمها ربما هو نشوء دولة ألمانيا (التي لم تكن موجودة قبل 1871). نشوء الدولة الألمانية أثر في السلطنة العثمانية من عدة نواح. العثمانيون بدؤوا يميلون إلى التقارب مع ألمانيا والابتعاد عن البريطانيين والفرنسيين حلفائهم التقليديين. أيضا النخب العثمانية بدأت تستورد الأفكار القومية والعرقية من أوروبا (خاصة من ألمانيا)، وهذا أدى إلى بروز النزعات القومية في السلطنة العثمانية.

Max Müller مخترع الفكرة الطورانية

الأتراك استوردوا كتابات Max Müller وأمثاله وبنوا على أساسها الفكر السياسي الذي يسمى بالطورانية Turanism. الفكر الطوراني كان يدعو لمفهوم يسمى Türklük (له نفس معنى كلمة “عروبة” ولكن بتبديل جذر الكلمة إلى “ترك”). الأتراك بدؤوا يهتمون بتاريخ أجدادهم في آسيا الوسطى وبدؤوا يقرؤون عن فتوحات الشعوب الطورانية القديمة كالهون Huns والمغول والتتار إلخ.

ولكن ما هي حقيقة العائلة الطورانية والعرق الطوراني؟

هذه المفاهيم سقطت من التداول العلمي منذ زمن طويل.

باحثو القرن 19 كانوا كما قلنا متأثرين بالفكرة الهندو-أوروبية. بعضهم حاول أن يربط العائلة اللغوية الهندو-أوروبية بالعرق القوقازاني. هم حاولوا أيضا أن يربطوا الحضارة والمدنية بهذه العائلة وهذا العرق.

بعدما تم ربط العائلة الهندو-أوروبية بالعرق القوقازاني برزت الحاجة إلى عائلة لغوية أخرى لكي يتم ربطها بالعرق الآسيوي الذي كان يعيش بالقرب من الهندو-أوروبيين ولم يكن يتحدث لغتهم. من هنا أتت فكرة العائلة اللغوية الطورانية.

في خمسينات القرن العشرين نشر الباحث اللغوي G. J. Ramstedt كتابا كبيرا حول اللغات الألطائية أسماه Einführung in die altaische Sprachwissenschaft (“مقدمة في علم اللغات الألطائية”). في هذا الكتاب هو فصل اللغات الأورالية عن اللغات الألطائية، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يعد هناك أحد يعتبر اللغات الأورالية فرعا من العائلة الألطائية.

حاليا غالبية الباحثين اللغويين لا يعترفون بفكرة العائلة الألطائية من الأساس، لأن التشابه في المفردات بين فروع هذه العائلة هو قليل.

اللغات التركية والمنغولية والطنغوسية تتشابه في القواعد grammar، ولكنها لا تتشابه كثيرا في المفردات lexicon. عند مقارنة مفردات اللغات التركية مع مفردات اللغات المنغولية يتبين أن هناك بعض التشابه، وعند مقارنة مفردات اللغات المنغولية مع مفردات اللغات الطنغوسية يتبين أن هناك بعض التشابه، ولكن عند مقارنة مفردات اللغات التركية مع مفردات اللغات الطنغوسية يتبين أن التشابه قليل. هذه الظاهرة في نظر البعض تثبت أن التشابه بين هذه العائلات الثلاث هو ليس بسبب وجود أصل مشترك (ليس بسبب وجود علاقة تكوينية genetic)، ولكنه بسبب الانتشار الثقافي cultural diffusion.

أنا تحدثت في السابق عن معنى مصطلح الانتشار الثقافي. مفهوم الثقافة culture يدرس في علم الأنثروبولوجيا anthropology (علم الإنسان). الأنثروبولوجيون يقسمون الثقافة إلى ثقافة مادية material culture وثقافة غير مادية. الثقافة المادية هي الأشياء التي يبحث عنها المنقبون الأثريون (الأدوات والمساكن وطريقة الحصول على الغذاء وتحضيره للأكل إلخ)، أما الثقافة غير المادية فبعض الباحثين يقسمونها إلى ثلاثة أصناف:

  • الثقافة الاجتماعية social culture (نظام العائلة والعمل والحكم والسياسة)
  • الثقافة الفكرية ideological culture (اللغة والدين والعلوم والمعارف والآراء والنظريات)
  • الفنون art

كل هذه الأشياء تسمى ثقافة culture. الثقافة هي خاصية ملازمة للبشر المعاصرين وهي تميزهم عن الحيوانات وعن الكائنات البشرية البدائية التي كانت تعيش قبل مئات آلاف السنين hominids. الناس الذين يتشاركون في الثقافة ينتمون إلى مجموعة إثنية واحدة ethnicity (مأخوذة من كلمة ethnos اليونانية التي تعني “شعب”).

الإثنية ethnicity هي مفهوم أنثربولوجي لا علاقة له بالسياسة، وأما القومية nationality فهي مفهوم سياسي. أنا لاحظت أن قليلا من الكتاب العرب يفهمون الفرق بين الإثنية والقومية. أغلب الكتاب العرب يظنون أن الإثنية هي مرادف للقومية، وهذا خطأ. القومية الواحدة يمكن أن تضم عدة إثنيات، والإثنية الواحدة يمكن أن تضم عدة قوميات. هذه المفاهيم هي مختلفة عن بعضها. القومية أو الوطنية تعني وجود شعور مشترك بالانتماء السياسي أو وجود هوية سياسية مشتركة، وأما الإثنية فهي مفهوم منفصل عن السياسة.

الثقافة لها عدة خصائص. من خصائص الثقافة أنها قابلة للتعلم والنقل والتقليد. الشعوب في كثير من الأحيان تقتبس الثقافة من بعضها. من خصائص الثقافة أيضا أنها قابلة للامتزاج مع الثقافات الأخرى، وهذه ظاهرة مهمة جدا في تاريخ البشرية.

حاليا لا توجد في العالم أية ثقافة نقية، مثلما أنه لا توجد أعراق نقية ولا لغات نقية (ولا أديان نقية ولا أفكار نقية). كل ثقافات العالم فيها اختلاط وتأثر من الثقافات الأخرى (مثلما أن الأعراق فيها اختلاط وتأثر من الأعراق الأخرى). البشر تاريخيا كانوا يمتزجون على الدوام. الامتزاج يشمل التكوين (الجينات) ويشمل أيضا الثقافة (سواء بشكلها المادي أم غير المادي).

مفهوم الانتشار الثقافي cultural diffusion هو مرتبط بما سبق. الانتشار الثقافي يشبه الانتشار الجزيئي الذي يدرسه علم الكيمياء. إذا وضعنا شعبين (إثنيتين) مختلفين بجوار بعضهما فإن الثقافة سوف تنتشر diffuse بين هذين الشعبين. في البداية الفرق الثقافي بين الشعبين سيكون كبيرا، ولكن مع مرور الزمن سوف ينخفض هذا الفرق تدريجيا (بسبب الانتشار) إلى أن يصبح الشعبان في النهاية شبيهين جدا ببعضهما (أو شعبا واحدا).

الأمثلة على هذه الظاهرة هي كثيرة. من الأمثلة التاريخية البارزة العلاقة بين الإيرانيين والعرب. تاريخيا الإيرانيون والعرب كانوا شعبين مختلفين جدا. الإيرانيون لهم أصل جغرافي مختلف عن العرب (أصلهم القديم يعود إلى آسيا الوسطى)، ولغتهم هي مختلفة (هندو-أوروبية)، ودينهم كان مختلفا، وعرقهم مختلف، وعاداتهم وطباعهم مختلفة. في البداية كانت هناك اختلافات كبيرة بين الإيرانيين والعرب. ولكن حاليا هذه الاختلافات هي أقل بكثير مما كانت عليه في السابق. حاليا الإيرانيون لهم تقريبا نفس دين وأفكار وعادات العرب، واللغة الإيرانية تستخدم الكثير جدا من المفردات العربية (نسبة الكلمات عربية الأصل في اللغة الفارسية المعاصرة لا تقل عن 40%). أيضا اللغة العربية واللهجات العربية تستخدم الكثير من الكلمات إيرانية الأصل. حتى من الناحية العرقية لم يعد هناك فرق كبير بين الإيرانيين والعرب. قديما كانت أشكال الإيرانيين تختلف عن أشكال العرب (الكتاب المسلمون ذكروا ذلك)، ولكن حاليا أشكال الإيرانيين لا تختلف كثيرا عن أشكال العراقيين والسوريين. حتى الدراسات الجينية التي أجريت مؤخرا لم تظهر فروقات كبيرة بين الإيرانيين وجيرانهم العرب.

مثال آخر هو العلاقة بين الإنكليز والفرنسيين. تاريخيا الإنكليز لهم أصل مختلف جدا عن أصل الفرنسيين. الثقافة الفرنسية هي إلى حد كبير ثقافة لاتينية (رومانية) تعود أصولها إلى إيطاليا، أما الثقافة الإنكليزية فهي جرمانية الأصل (تعود جذورها إلى هولندا وشمال ألمانيا). خلال الألف وخمسمئة عام الماضية حصل امتزاج ثقافي كبير بين الفرنسيين والإنكليز، ولهذا السبب فإن الثقافة الإنكليزية حاليا هي شبيهة جدا بالثقافة الفرنسية (مثلا نسبة الكلمات فرنسية الأصل في اللغة الإنكليزية هي تقريبا 50%).

لو جاء شخص لا يعرف شيئا عن تاريخ اللغة الفارسية وقارن هذه اللغة مع اللغة العربية فهو ربما سيظن أن اللغة الفارسية هي من حيث الأصل أقرب إلى اللغة العربية من اللغة الإنكليزية، لأن نسبة التشابه في المفردات بين اللغتين الفارسية والعربية هي كبيرة، ولكن طبعا هذا الكلام خاطئ. لغة الفرس كانت قبل آلاف السنين شبيهة جدا بلغة الإنكليز ومختلفة جدا عن لغة العرب، ولكن لغة الفرس تغيرت وأصبحت شبيهة بلغة العرب بسبب التجاور والانتشار الثقافي.

إذن التشابه بين لغتين أو ثقافتين لا يعني بالضرورة أن هاتين اللغتين أو الثقافتين تنبعان من أصل مشترك. هذا مبدأ هام في علم اللغويات المقارن. الباحثون اللغويون وضعوا خلال أواخر القرن 19 وبدايات القرن 20 قواعد صارمة لعلم اللغويات المقارن حتى يتجنبوا الخلط بين التشابهات الناتجة عن وجود أصل مشترك (علاقة تكوينية genetic) وبين التشابهات الناتجة عن الانتشار أو أسباب أخرى (كالمصادفة مثلا).

المصادفة هي عامل مهم في التشابهات المشاهدة بين اللغات، ولكن بعض الناس لا يدركون ذلك. مثلا أنا سمعت أن العقيد الراحل معمر القذافي ربط بين اسم الأديب الإنكليزي Shakespeare وبين عبارة “الشيخ زبير” في اللغة العربية. في رأي القذافي أن اسم الأديب الإنكليزي هو أصلا “الشيخ زبير” ولكن الاسم تحرف في الإنكليزية إلى Shakespeare. هذا الطرح هو مثال على ظاهرة يسميها الباحثون الغربيون pseudoetymology (الأصل اللغوي الزائف) أو folk etymology (الأصل اللغوي الشعبي). هذه الظاهرة هي شائعة في تاريخ البشر. البشر كثيرا ما يختلقون تفسيرات لغوية لا علاقة لها بالعلم والمنطق. في كتب المؤلفين المسلمين هناك الكثير من هذه الأصول اللغوية الزائفة أو الشعبية (على سبيل المثال، الكتاب المسلمون ذكروا عدة روايات تفسر اسم مدينة دمشق، وهذه الروايات هي كلها أصول لغوية زائفة. نفس الأمر ينطبق على الروايات التي تفسر اسم مدينة حلب. مثلا هناك رواية مشهورة لدى أهل حلب تقول أن المدينة سميت بهذا الاسم لأن إبراهيم الخليل حلبَ فيها بقرة شهباء. هذه الرواية هي مثال على الأصل اللغوي الزائف أو الشعبي).

بالنسبة للأتراك فنحن لا نعلم الكثير عن تاريخهم القديم. في الحقيقة لا أحد يعلم شيئا يقينيا عن تاريخ الأتراك قبل القرن الميلادي السادس (عندما ظهرت مملكة Göktürk). نحن لا نعلم أين كان الأتراك وما هي هجراتهم وتنقلاتهم قبل أن يظهروا في آسيا الوسطى في القرن الميلادي السادس. ولكن لو فرضنا (على سبيل التخيل) أن الأتراك كانوا في الأصل يعيشون بعيدا عن المنغوليين ثم جاؤوا إلى منغوليا وسكنوا بجوار المنغوليين لآلاف السنين فهذا قد يكون سبب التشابهات المشاهدة بين لغتهم وبين اللغة المنغولية.

الانتشار اللغوي لا ينحصر فقط في المفردات. هناك أدلة تاريخية كثيرة تثبت أن قواعد النحو يمكن أن تنتقل بالانتشار، وأيضا التغيرات والتبدلات الصوتية يمكن أن تنتقل بالانتشار (حتى بين لغتين لا تنتميان لنفس العائلة اللغوية). مثلا من يقارن بين اللغات الأوروبية المعاصرة سوف يشاهد بينها الكثير من التشابهات النحوية والصوتية. مثلا صيغ الأزمنة الفعلية verb tenses هي متشابهة في معظم هذه اللغات. التشابه يظهر على نحو فاقع وغريب بين اللغتين الألمانية والفرنسية رغم أن هاتين اللغتين تنتميان لعائلتين لغويتين مختلفتين انفصلتا عن بعضهما قبل أكثر من 3000 عام على الأقل (الأولى تنتمي للعائلة الجرمانية Germanic والثانية للعائلة الإيطاليقية Italic). مثلا في اللغة الفرنسية إذا أردنا أن نصوغ التصريف الفعلي التام perfect فإننا نستخدم participe passé مع الفعل avoir أو être (الفعل الثاني يستخدم مع الأفعال المتعلقة بالحركة أو التغيّر). نفس الأسلوب تماما هو مشاهد في اللغة الألمانية. إذا أردنا أن نصوغ التصريف التام في اللغة الألمانية فإننا نستخدم (Partizip II (Partizip Perfekt مع الفعل haben أو sein (الفعل الثاني يستخدم مع الأفعال المتعلقة بالحركة أو التغيّر).

في اللغة الفرنسية إذا أردنا أن نحترم شخصا فإننا نخاطبه بالضمير المجموع vous، وهذا مشاهد أيضا في العديد من اللغات الأوروبية الأخرى. في شمال فرنسا الحرف r يلفظ بصوت شبيه بالغين، وهذا مشاهد أيضا في ألمانيا.

التشابهات العديدة بين اللغات الأوروبية لا يمكن أن تكون ظهرت بالصدفة، وهي أيضا لا تعود إلى الأصل المشترك. صحيح أن اللغتين الفرنسية والألمانية كلتاهما تنتميان للعائلة الهندو-أوروبية ولكن اللغة الألمانية تنتمي للفرع الجرماني بخلاف اللغة الفرنسية المتحدرة من اللغة اللاتينية (التي تنتمي للفرع الإيطاليقي). اللغة الجرمانية البدائية Proto‑Germanic انفصلت عن اللغة الإيطاليقية البدائية Proto‑Italic قبل بداية عصر الحديد على الأقل، أي قبل عام 1200 قبل الميلاد على الأقل. هذا زمن بعيد وهو يسبق ظهور الخصائص المشتركة التي ذكرتها في الأعلى. هذه الخصائص ظهرت بعد انفصال اللغات الجرمانية عن اللغات الإيطاليقية، ولكنها انتقلت بين هذه اللغات عبر الانتشار.

الباحثون اللغويون يسمون انتشار الظواهر اللغوية ضمن منطقة معينة باسم “الانتشار المناطقي” areal spread أو الانتشار الموجي wave. المقصود بالانتشار الموجي هو أن الخاصية اللغوية تظهر في منطقة معينة ثم تنتشر من هناك على شكل موجة نحو المناطق المحيطة وبغض النظر عن نوعية اللغات الموجودة في المناطق المحيطة.

الباحثون اللغويون في القرن 19 لم يكونوا يعيرون اهتماما كبيرا لفكرة الانتشار الموجي أو المناطقي، وهذا كان خطأ كبيرا أوصلهم إلى العديد من النتائج الخاطئة. خلال القرن العشرين أدرك الباحثون أهمية الانتشار الموجي في تاريخ اللغات، ولهذا السبب تغيرت الكثير من الأفكار والمقاربات المتعلقة بتاريخ اللغات.

إحدى الأفكار التي تغيرت هي فكرة العائلة الألطائية. غالبية الباحثين اللغويين حاليا لا يرون أدلة كافية تثبت أن التشابه الموجود بين اللغات الألطائية هو بسبب علاقة تكوينية. من الوارد أن هذه التشابهات هي بسبب التجاور والانتشار المناطقي الذي استمر لآلاف السنين. هذا الطرح يفسر قلة التشابه المشاهد بين اللغات التركية والطنغوسية.

اللغات الطنغوسية هي لغة الطنغوس Tungus الذين هم شعب يعيش إلى الشرق والشمال من منغوليا، أي في منشوريا وشرق سيبيريا. موطنهم الأصلي هو على الأغلب منشوريا Manchuria، أي أنهم كانوا يعيشون إلى الشرق من المنغوليين. الأتراك تاريخيا كانوا يعيشون إلى الغرب من المنغوليين. بالتالي لم يكن هناك اتصال جغرافي مباشر بين الأتراك والطنغوس. هذا في رأي البعض هو سبب قلة التشابه بين اللغات التركية والطنغوسية.

من ينكرون العائلة الألطائية (أو غيرها من العائلات اللغوية الكبيرة) لا ينكرون احتمال وجود أصل مشترك لمكونات هذه العائلة، ولكنهم يقولون أن إثبات وجود هذا الأصل المشترك هو أمر غير ممكن عمليا، وبالتالي افتراض وجود هذا الأصل المشترك هو ليس نهجا علميا، لأن العلم المعاصر لا يقبل الفرضيات التي لا يسندها دليل ملموس. أي أنهم لا يعترضون على مبدأ وجود أصل مشترك، ولكنهم يقولون أن البحث في هذا الأصل المشترك هو نهج غير علمي لأن الأدلة المتوفرة غير كافية لإثبات وجوده من الأساس.

رغم أن فكرة العائلة الألطائية هي غير مقبولة لدى كثير من الباحثين إلا أن هذا المصطلح ما زال مستخدما على نطاق واسع. الكتب والمراجع تميز عادة ما بين العائلة الألطائية بالمعنى الضيق (الذي لا يشمل اللغتين الكورية واليابانية) وما بين المفهوم الواسع للعائلة الألطائية Macro‑Altaic الذي يشمل اللغتين الكورية واليابانية أو إحداهما. بالنسبة لي أنا عندما أستخدم مصطلح اللغات الألطائية فلا أقصد بالضرورة أنني أعتقد بوجود أصل مشترك لهذه اللغات ولكنني فقط أعتبرها مجموعة من اللغات المتجاورة التي تتشارك في العديد من الخصائص.

المصادر

معظم المعلومات المذكورة في هذا المقال موجودة في ويكيبيديا.

رأيان حول “اللغات الألطائية والطورانية

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s