بداية التاريخ: أنظمة الكتابة القديمة (2)

هذا الموضوع يتعلق بالتاريخ القديم وهو موضوع تاريخي بحت لا علاقة له بالسياسة.

لرؤية الرموز الأجنبية المستخدمة في هذا المقال وبقية المقالات حمل ونصب هذا الخط. لمعرفة أصوات الرموز انظر هذا المقال.

تحدثت في مقال سابق عن تاريخ منطقة سومر، التي هي جنوب العراق حاليا، وتحدثت في نفس المقال عن تاريخ منطقتين كانتا تقعان إلى الجنوب من سومر هما أرض البحر وتلمون، وتحدثت في مقال آخر عن الكتابة السومرية وتاريخها. في هذا المقال سوف أتحدث بإيجاز عن تاريخ مناطق أخرى محيطة بسومر وعن أنظمة الكتابة التي استخدمت في تلك المناطق.

عيلام

 

منطقة سومر هي الجزء الجنوبي من أرض ما بين النهرين Mesopotamia، وأرض ما بين النهرين هي الأرض المحصورة بين نهري دجلة والفرات.

ذكرت في مقال سابق أن حدود الخليج العربي قديما كانت تختلف عن الحدود الحالية، وأن منطقة شط العرب والبصرة كانت على الأغلب مغمورة بالماء في الألفية الثالثة قبل الميلاد. الخليج العربي (“بحر شروق الشمس” عند السومريين) كان يحد سومر من جهة الجنوب الشرقي، وساحل الخليج في ذلك الوقت (الذي يعادل الأهوار حاليا) كان يسمى عند السومريين والأكديين باسم “َضفة البحر” أو “أرض البحر” (بالأكدية: kišād tâmtim أو māt tâmtim)، وبادية العراق المتمادية مع أرض البحر كانت تسمى عندهم باسم “السهل” (بالسومرية: EDIN)، وطرحت في ذلك المقال فكرة أن “أرض البحر” عند الأكديين هي نفسها “البحرين” عند العرب، وطرحت فكرة أن الشعب المعروف تاريخيا باسم الكلدان كان يسكن في الأصل هذه المنطقة وأن كلمة “كلدان” مأخوذة من كلمة kišād الأكدية التي تعني “ضفة”، وأن الكلدان سكان أرض البحر هم نفسهم Aḫlamû الذين ورد ذكرهم في رسائل حاكم تلمون البابلي التي تعود للقرن 14 قبل الميلاد، وقلت أن هذا دليل غير مباشر على وجود الآراميين في منطقة بادية العراق في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد.

الآن سوف أتحدث باختصار عن حدود سومر من جهة الشرق. المنطقة التي تمتد شرق نهر دجلة هي منطقة سهلية تنتهي عند سفوح جبال زاغروس. حاليا جبال زاغروس تعتبر موئلا لمتحدثي اللغات الإيرانية، وتحديدا اللغات الإيرانية الغربية. الإيرانيون وصلوا إلى جبال زاغروس في حدود عام 1500 قبل الميلاد، وقبل ذلك هم كانوا يعيشون على الأغلب في منطقة آسيا الوسطى. قبل مجيء الإيرانيين إلى إيران كانت هناك مجموعة أخرى من الشعوب تعيش فيها، وهذه الشعوب وردت بعض المعلومات عنها في كتابات ما بين النهرين القديمة.

جبال زاغروس تمثل الحد الغربي للهضبة الإيرانية

الأكديون كانوا يطلقون على جبال زاغروس مسمى Elammatum (لاحقا Elamtu)، أما السومريون فكانوا يسمونها NIMki التي تعني “الأرض العالية،” ولاحقا صاروا يسمونها أيضا Elammaki. الباحثون ربطوا بين كلمة Elamtu وكلمة עֵילָם (ʕêlām) التي وردت في التوراة كاسم لمملكة وشعب، وهذه الكلمة التوراتية هي مصدر كلمة “عيلام” العربية.

المنطقة السهلية الممتدة بين سومر وجبال زاغروس هي المنطقة التي تسمى الآن الأهواز أو خوزستان. هذه المنطقة تقع جغرافيا خارج بلاد ما بين النهرين (لأنها تقع شرق دجلة)، ولكنها تاريخيا وحضاريا كانت على صلة وثيقة ببلاد ما بين النهرين. طبيعة هذه المنطقة تشبه طبيعة سومر حيث أنها منطقة سهلية تخترقها أنهار نابعة من جبال زاغروس (أهم هذه الأنهار القارون والكرخة). الحضارة في هذه المنطقة بدأت قديما، وفي هذه المنطقة تم اكتشاف ألواح مسمارية بدائية من نمط protowriting تعود لعصر جمدة نصر السومري (31002900 قبل الميلاد). لغة هذه الألواح مجهولة (مثلما أن لغة الألواح السومرية البدائية مجهولة أيضا، رغم أن الباحثين يفترضون أنها سومرية). الباحثون يسمون نظام الكتابة المستخدم في هذه الألواح باسم العيلامية البدائية ProtoElamite، وهي تسمية مبنية على أساس جغرافي، نظرا لأن هناك كتابات مماثلة لهذه الكتابة تم العثور عليها في جبال زاغروس، ونظرا لأن منطقة الأهواز كان يسكنها في العصور اللاحقة شعب يتحدث لغة تعرف بالعيلامية.

الألواح العيلامية البدائية تشبه في أسلوبها الألواح السومرية البدائية ولكن نظام الكتابة المستخدم فيها ليس هو نفسه النظام السومري، مما يدل على أن مخترعي هذا النظام تأثروا بالسومريين (أو العكس). بعض الباحثين يرون أن نظام الكتابة العيلامي البدائي أقدم من النظام السومري البدائي، ولكن تاريخ الألواح السومرية البدائية هو أقدم من تاريخ الألواح العيلامية البدائية.

الخلاصة هي أن الكتابة المسمارية البدائية protocuneiform ظهرت في كل من سومر والأهواز في نفس الوقت تقريبا، ولكن النظام المستخدم في كلتا المنطقتين كان مختلفا. النظام الأهوازي (ProtoElamite) انقرض في حدود عام 2900 قبل الميلاد، أما النظام السومري فتطور وتحول إلى الكتابة المسمارية التقليدية التي اقتبسها الأكديون وغيرهم (والتي وصفتها في مقال سابق)، حتى سكان الأهواز اقتبسوا النظام السومري المطور وصاروا يكتبون به لغتهم، ومن دراسة هذه اللغة (التي تسمى العيلامية Elamite) تبين للباحثين أنها ليست سومرية ولا سامية وإنما هي لغة خاصة يعتقد الباحثون أن أصلها يعود إلى جبال زاغروس.

اللغة العيلامية هي لغة لصقية agglutinative كاللغة السومرية والكثير من اللغات الآسيوية الأخرى. الباحثون يرون أن سكان إيران القدماء قبل وصول العرق الإيراني كانوا يتحدثون مجموعة من اللغات اللصقية الشبيهة باللغة العيلامية. هذه اللغات كانت موجودة بكثرة في جبال زاغروس، وفي الكتابات الأكدية وردت أسماء الكثير من الشعوب التي كانت تسكن جبال زاغروس قديما. هذه الشعوب كانت طوال التاريخ القديم تنزل من الجبال نحو السهول التي تقع شرق دجلة. هم نزلوا وسكنوا منطقة الأهواز في عصر باكر، وكثير من الباحثين يرجحون أن الألواح العيلامية البدائية هي من صنع هذه الشعوب، وهذا يفسر استخدامهم لنظام كتابة مختلف عن النظام السومري البدائي (رغم أنه شبيه به).

السومريون والأكديون في الألفية الثالثة قبل الميلاد كانوا يشيرون للأهواز وجبال زاغروس باسم Elammatum أو Elamtu، أما متحدثو اللغة العيلامية أنفسهم فهم في البداية لم يستخدموا هذه الكلمة في كتاباتهم ولكنهم في القرن 18 قبل الميلاد صاروا يشيرون لبلادهم باسم Hatamti، ومن غير المعروف ما إذا كانت هذه الكلمة مشتقة من كلمة Elammatum الأكدية أم العكس. هناك نظرية ترى أن أصل كلمة Elammatum هو من عبارة alāitum mātum التي تعني بالأكدية “الأرض العالية”، ومن هذه الكلمة أتت كلمة Hatamti العيلامية، وهناك نظرية أخرى ترى أن أصل كلمة Hatamti هو من كلمة عيلامية مفترضة هي *Haltamti التي تعني “أرض النبلاء” (مركبة بطريقة اللصق من hal “أرض” و tamt “سيد نبيل”)، ومن هذه الكلمة جاءت كلمة Elammatum الأكدية.

خلاصة ما سبق هي أن منطقة جبال زاغروس كانت مسكونة قديما بشعوب تتحدث لغات لصقية غير سومرية، وهذه الشعوب سكنت منطقة الأهواز منذ بداية التاريخ وكانت على صلة وثيقة بالسومريين، وهي كانت تستخدم نظام الكتابة المسماري منذ بداية ظهوره ومن قبل أن يكتمل تطوره.

أهم مدن العيلاميين في الأهواز كانت مدينة سوس التي تقع على نهر الكرخة (حاليا تسمى شوش، واسمها اليوناني Sousa). في هذه المدينة عثر على معظم الألواح العيلامية البدائية. منطقة الأهواز في التاريخ القديم كانت تنسب إلى هذه المدينة فتسمى في الكتابات المسمارية باسم Šušan وفي الكتابات اليونانية لاحقا Sousiana. من مناطق العيلاميين الأخرى منطقة Anšan‎، وهي ربما نفس منطقة فارس الإيرانية، وعاصمتها اكتشفت حديثا وهي تقع شمال غرب شيراز. ملوك العيلاميين كانوا يطلق على أنفسهم لقب “ملك سوس و Anšan“. من مناطق العيلاميين أيضا منطقتا Awan و Šimaški، وهاتان المنطقتان كانتا تقعان في الجبال المحيطة بالأهواز من الشمال والشمال الشرقي، وهناك أيضا منطقة Ḫamazi التي كانت ربما تشكل النهاية الشمالية لعيلام قبل المرتفعات التي يسكنها حاليا الأكراد.

Aratta

 

منطقة Aratta هي منطقة ذات أهمية في التراث السومري. هذه المنطقة ورد ذكرها في عدد من القصص السومرية المتعلقة بملوك مدينة Uruk الأوائل، وتحديدا الملك Enmerkar (باني مدينة Uruk) وخلفه Lugalbanda. القصص السومرية تقول أن Enmerkar أراد السيطرة على منطقة بعيدة تسمى Aratta لكي يحصل منها على الأحجار الثمينة والذهب والفضة واللازورد، وذلك لكي يستخدم هذه المواد في تزيين معبد Enki في مدينة Eridu ومعبدInanna في مدينة Uruk. إحدى القصص تقول أن الإلهة Inanna طلبت من Enmerkar أن يرسل رسولا إلى Aratta يطلب من ملكها الخضوع وتقديم الجواهر والمعادن، وهذا الرسول لكي يصل إلى Aratta البعيدة كان عليه أن يصعد وينزل جبال Zubi وأن يعبر سوس و Anšan وسبع جبال أخرى قبل أن يصل إلى Aratta.

الباحثون حاروا في تحديد موقع Aratta. في البداية ربط البعض بين كلمة Aratta وبين اسم جبل أراراط في الهضبة الأرمنية، وبناء على هذا الربط وعلى بعض التفسيرات المغلوطة للنصوص السومرية طرح هؤلاء نظرية تقول أن Aratta تقع في أرمينيا، وهذه النظرية لاقت رواجا عند أصحاب النزعة الشمالية الذين رأوا فيها رابطا بين السومريين وبين الشمال. هؤلاء يعتبرون أن السومريين كانوا أصلا يسكنون الأناضول أو سفوح جبال طوروس رغم أنهم لا يملكون أي دليل على هذه النظرية (كل ما لديهم هو مجرد فرضيات وكلام نظري حسب ما أعلم)، وبالنسبة لهم قصص Aratta الواردة في التراث السومري هي دليل على وجود علاقات قديمة مهمة بين السومريين وبين أرمينيا، وهذا يعزز الفكرة القائلة بأن السومريين كانوا يسكنون شمالا.

فيما بعد تم اكتشاف آثار مدينة Anšan بالقرب من شيراز في إيران، وتبين وقتها أن Aratta لا يمكن أن تكون في أرمينيا. القصة السومرية تقول أن الطريق من Uruk إلى Aratta يمر عبر سوس (الأهواز) ثم Anšan (فارس في إيران) ثم مجموعة من الجبال وصولا إلى Aratta. إذن Aratta المقصودة تقع شرق فارس إلى الجنوب الشرقي من سومر.

بعض الباحثين رأوا أن قصة Aratta تشير إلى طريق الحرير القديم الذي كان يمتد عبر شمال إيران إلى خراسان ومنها إلى مرتفعات الهيمالايا. هذا الطريق كان يستخدم في تجارة الأحجار الثمينة وبالتالي ربما يكون هو المقصود من القصة، ولكن أنا لدي رأي آخر وهو أن المقصود من قصة Aratta هو ربما طريق بري قديم كان يربط بين سومر وحضارة وادي السند.

حضارة وادي السند (تسمى أيضا حضارة Harappa نسبة إلى موقع Harappa الأثري في البنجاب في باكستان) هي إحدى الحضارات المهمة في العالم القديم إلى جانب حضارة ما بين النهرين والحضارة المصرية. هذه الحضارة كانت تملك نظاما للكتابة يطلق عليه Indus script أو Harappan script. هذا النظام يعتمد على رموز صورية شبيهة نوعا ما بالرموز الهيروغليفية المصرية، ولكن رغم مرور أكثر من 130 سنة على بدء اكتشاف كتابات وادي السند إلا الباحثين لم يتمكنوا حتى الآن من قراءتها، وهذا ما دفع بعض الباحثين للتشكيك في كونها تمثل كتابة حقيقية. غالبية الباحثين يرون أنها تمثل كتابة حقيقية، وهم يرون من تحليل بنية النصوص أنها تمثل لغة لصقية.

لغات الهند الأصلية قبل الغزو الآري في عام 1500 قبل الميلاد كانت لغات لصقية يطلق عليها اسم اللغات الدرافيدية Dravidian. بقايا هذه اللغات ما زالت موجودة حتى اليوم في جنوب الهند وسريلانكا، وكثير من الباحثين يرون أن لغة وادي السند القديمة هي مرتبطة بهذه اللغات.

حضارة وادي السند والحضارة السومرية

السومريون كانت لديهم علاقات تجارية مع حضارة وادي السند (التي كانوا يسمونها Meluḫḫa)، وهذا الأمر مثبت بالأدلة الأثرية. الطريق التجاري بين سومر ووادي السند (باكستان) كان يمر عبر تلمون و Makan (عمان). من الممكن أنه كان هناك أيضا طريق بري يمر من الأهواز إلى فارس ومنها إلى وادي السند. أنا لم أقرأ حول هذا الموضوع ولكنني أذكر أنني قرأت نظرية تقول أن السومريين هاجروا من وادي السند إلى سومر عبر طريق بري يمتد على الساحل الشمالي للخليج العربي. هذا الطريق هو ربما نفسه المقصود في قصة Aratta، رغم أنني لا أظن أن السومريين هاجروا عبره إلى سومر لأن التراث السومري يدل على أن السومريين كانوا يعيشون قبل مجيئهم إلى سومر في شرق الجزيرة العربية.

قصة Aratta تدل في كل الأحوال على وجود روابط بين السومريين القدماء وبين حضارة أخرى تقع في جهة الشرق، وأهم حضارة إلى الشرق من سومر في العالم القديم هي حضارة وادي السند. الروابط التجارية بين السومريين ووادي السند معروفة، وهناك أيضا روابط لغوية محتملة.

هناك عدد من الباحثين الذين يعتقدون بوجود أصل مشترك بين اللغة العيلامية واللغات الدرافيدية، وهم يقترحون وجود عائلة لغوية يسمونها ElamoDravidian تضم اللغة العيلامية ولغات الهند الدرافيدية. هذه النظرية ترى أن سكان شبه القارة الهندية والهضبة الإيرانية كانوا قديما يتحدثون لغات لصقية ذات أصل واحد. عندما ظهرت الحضارة والكتابة في سومر انتقلت شرقا نحو العيلاميين ومنهم نحو وادي السند.

هذه النظرية تعجبني وأنا أضفت إليها في المرة السابقة ما يلي: السومريون في الأصل كانوا ينتمون لهذه العائلة، ولكنهم انفصلوا عنها باكرا ووصلوا عن طريق عمان إلى شرق الجزيرة العربية (تلمون)، وعاشوا هناك كصيادي سمك وآكلي تمور. أثناء معيشتهم في تلك المنطقة ظهرت في منطقة سومر الحضارة العبيدية (التي هي أول حضارة إنسانية) والسومريون تأثروا بهذه الحضارة وتبادلوا معها البضائع والمنتجات، ثم بدؤوا يستوطنون في المدن السومرية ويعملون في الزراعة، واستمر هذا الأمر إلى أن أصبحت منطقة سومر سومرية اللغة، وذلك قبل اختراع الكتابة في عام 3500 قبل الميلاد، وفي الألفية الثالثة قبل الميلاد بدأ الساميون يصلون من جهة الغرب وحلوا تدريجيا محل السومريين في شرق الجزيرة العربية.

طبعا سيقول قائل كيف تمكن السومريون القادمون من بيئة فقيرة من الهيمنة على بيئة العبيديين الغنية؟ هذا السؤال يطرحه المستشرقون دوما، والرد عليه هو كما يلي: كيف تمكن الآراميون القادمون من الصحراء من الهيمنة على بلاد ما بين النهرين الغنية؟ وكيف تمكن العرب القادمون من الصحراء من الهمينة على بلاد ما بين النهرين الغنية؟

منطقة سومر صغيرة المساحة، أما مساحة الجزيرة العربية فهي كبيرة جدا وسواحلها طويلة، وسكانها يستطيعون الهيمنة على سومر كما هيمن العرب على العراق وقبل العرب الآراميين. الآراميون الكلدان الذين دخلوا إلى العراق في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد أتوا من سواحل الخليج العربي وبادية العراق، وهذه هي نفس المناطق التي أقول أن السومريين أتوا منها.

مدينة السومريين الأولى هي مدينة Eridu التي تقع على أطرف بادية العراق. هذه المدينة كانت تقع على ساحل الخليج وسكانها الأوائل كانوا صيادي سمك. هذه المدينة كانت مستوطنة للسومريين على أطراف الحضارة العبيدية. هي تشبه مدينة البصرة العربية التي كانت مستوطنة للعرب على أطراف العراق، وتشبه أرض البحر التي كانت مستوطنة للكلدان على أطراف بلاد بابل.

الخليج العربي في رأيي كانت تحيط به عائلة تسمى SumeroElamoDravidian (هذا المصطلح اختراع من عندي). هذه العائلة كانت تحيط بالخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب، وهي كانت تتحدث مجموعة من اللغات اللصقية. فيما بعد السومريون سكنوا سومر واخترعوا الكتابة، ومنهم انتقل هذا الاختراع إلى العيلاميين ومن العيلاميين إلى وادي السند.

العيلاميون كانوا يسكنون جبال زاغروس من جنوبها (Anšan = فارس) وصولا إلى حدود المنطقة الكردية حاليا، أي نفس المنطقة التي سكنها فيما بعد الإيرانيون الفرس واللوريون. العيلاميون كانوا مجموعة من الشعوب التي تتحدث عددا من اللهجات أو اللغات المتقاربة، ولكنهم كانوا يملكون لغة رسمية موحدة هي اللغة المسماة بالعيلامية، وأصل هذه اللغة يعود ربما إلى سوس في الأهواز.

إلى الشمال من عيلام تقع المرتفعات الكردية حاليا، التي هي استمرار لجبال زاغروس نحو الشمال والغرب باتجاه القسم الجنوبي من الهضبة الأرمنية. المرتفعات الكردية في الألفية الثالثة قبل الميلاد كانت تضم منطقة تسمى في الكتابات المسمارية باسم Gutium. هذه المنطقة كانت تقع ربما إلى الشمال مباشرة من عيلام، أي ربما في المحافظة الإيرانية المسماة حاليا كردستان وبعض المناطق إلى الجنوب من بحيرة أرميا. هذه المنطقة تعتبر في الكتابات المسمارية منطقة مستقلة عن عيلام، ولغتها كذلك تعتبر مستقلة عن اللغة العيلامية واللغة الخُرِّية المحكية شمالا في المرتفعات الأرمنية. سكان هذه المنطقة (يسمون Guti) اجتاحوا بلاد ما بين النهرين في القرن 22 قبل الميلاد وتسببوا في انهيار الإمبراطورية الأكدية، وتسببوا كذلك في إفساد الزراعة والحياة العامة، وهم يوصفون في الكتابات المسمارية بانهم همج وبرابرة. هم لم يخلفوا أي كتابات ولكن الكتاب الأكديين ذكروا أسماء ملوكهم الذين حكموا ما بين النهرين لبعض الوقت، وهذه الأسماء تؤكد أن لغتهم كانت تختلف عن العيلامية والخرّية.

إلى الشرق من Guti كان يعيش شعب آخر يدعى Marḫaši. هذا الشعب ورد اسمه في كتابات سومرية تعدد المناطق التي فتحها أحد ملوك مدينة Adab السومرية. كلمة Marḫaši وردت في التعداد بين عيلام وGutium، وهذا يعني أنها كانت تقع ربما إلى الشرق من عيلام و Gutium. أما إلى الغرب من Gutium فكانت تقع Lullubum، وهي منطقة تعادل ربما محافظة السليمانية في العراق حاليا. هذه المنطقة ضمها الأكديون إلى إمبراطوريتهم، وهناك نصب أكدي شهير يجسد انتصار الملك الأكدي NarāmSîn على Lullubum.

انتصار نرام سين على Lullubi

الأكديون والسومريون كانوا يستخدمون على ما يبدو مصطلح “جبال Lullubi” في الإشارة إلى المرتفعات الكردية المطلة على آشور، وفي العصور المتأخرة صاروا يشيرون إلى هذه المنطقة باسم Zamua، وهذه الكلمة ربما تكون مرتبطة بكلمة “جبال Zubi” التي وردت في إحدى الأساطير السومرية الباكرة.

خلاصة ما سبق هي أن القسم الجنوبي من جبال زاغروس (الذي يسكنه حاليا فرس ولوريون) كان يسمى عند السومريين والأكديين باسم عيلام، وسكان عيلام نزلوا منذ زمن باكر إلى الأهواز واستوطنوها، أما الامتداد الشمالي لجبال زاغروس (الذي يسكنه حاليا أكراد) فكان يحوي Guti و Lullubi، وهؤلاء كانوا يتحدثون لغات تختلف عن العيلامية ولكنها كانت ربما على صلة قرابة باللغة الخُرِّية المحكية شمالا.

الـ Guti اجتاحوا ما بين النهرين في القرن 22 قبل الميلاد وأسقطوا الإمبراطورية الأكدية، ولكن حكمهم لم يدم إلا لعقود قليلة، وبعد ذلك قامت في سومر المملكة السومرية المسماة مملكة Ur الثالثة. هذه المملكة سقطت في حدود عام 2000 قبل الميلاد على يد العيلاميين الذين اجتاحوا سومر لأول مرة منطلقين من مدينة سوس، ولكن وجودهم في سومر لم يدم إلا لسنوات قليلة، وبعد ذلك حكمت سومر الممالك الأمورية التي توحدت في القرن 18 قبل الميلاد تحت قيادة حمورابي ملك بابل وكونت الإمبراطورية البابلية القديمة. هذه الإمبراطورية انتهت في القرن 16 قبل الميلاد على يد المملكة الحتية الأناضولية، وبعد أن دمر الحتيون بابل نزل شعب جديد من الجبال وحكم جنوب العراق هو الشعب المعروف باسم الكَسِّيين Kassû. الكسّيون حكموا بابل لأربعة قرون ولكن فترة حكمهم كانت راكدة ولم يخلفوا إلا القليل من الكتابات، وبالنسبة للغتهم فالمعروف عنها قليل ولكنها لم تكن عيلامية وإنما أقرب للغة الخُرِّية الشمالية، ونهاية حكمهم كانت على يد العيلاميين الذين غزوا بابل في القرن 12 قبل الميلاد وأنهوا حكم الكسيين، وبعد ذلك عاشت بابل مرحلة من الفوضى استمرت لقرنين من الزمان قبل أن تقع تحت حكم الإمبراطورية الآشورية الحديثة في نهاية القرن العاشر قبل الميلاد.

مما سبق يتبين دور شعوب إيران القديمة في تاريخ ما بين النهرين والمنطقة. هو عموما كان دورا سلبيا وتخريبيا. إيران قديما كانت مسكونة بمجموعة كبيرة من الشعوب التي تتحدث لغات لصقية. القسم الجنوبي من هذه الشعوب (المعروف بالعيلاميين) كان متحضرا. هذا القسم كان على علاقة لغوية بحضارة وادي السند في باكستان وكان يسكن الأهواز والجبال المحيطة بها وفارس وربما أيضا منطقة سيستان في جنوب شرق إيران. إلى جانب هذا القسم العيلامي كانت هناك مجموعة أخرى من الشعوب تسكن في شمال غرب إيران وربما أيضا في الشمال وفي القسم المسمى بالمركزي (المثلث الممتد بين طهران وأصفهان وهمدان). هذه الشعوب كانت “بربرية” وكانت على علاقة لغوية ربما بالخُرِّيين سكان أرمينيا في ذلك الزمان.

في حدود عام 1500 قبل الميلاد بدأ العرق المسمى IndoAryan (أو IndoIranian) يقتحم الهضبة الإيرانية من جهة آسيا الوسطى في الشمال الشرقي. هذا العرق هو فرع من أمة أكبر تسمى IndoEuropeans (أو IndoGermans). الموطن الأصلي لهذه الأمة غير معروف ولكن كثيرا من الباحثين حاليا يرون أنه سهل البحر الأسود (المنطقة الفسيحة الممتدة بين شمال البحر الأسود وشمال بحر قزوين)، ومن هذه المنطقة يعتقد أن الهندوآريين اتجهوا شرقا نحو سهول آسيا الوسطى التي أصبحت موطنا لهم، وفي منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد اندفع قسم منهم نحو الهضبة الإيرانية وقسم آخر نحو السند والهند. كلمة “إيران” هي تحريف لـ Aryan، والإيرانيون بالمناسبة يسمون دولتهم بهذا الاسم منذ القدم وأما كلمة “فارس” كتسمية لإيران فهي يونانية الأصل والإيرانيون لم يستخدموها أبدا في تاريخهم.

انتشار اللغات الهندو-أوروبية

الإيرانيون (الآريون) الذين دخلوا إلى الهضبة الإيرانية انتشروا في البداية في القسم الشمالي (غير العيلامي)، ومن غير المعروف ما الذي حل بالسكان الأصليين ولكن من الوارد أنهم خضعوا لسلطة القبائل الإيرانية، وبعضهم ربما تم تهجيره. القبائل الإيرانية ظهرت في الكتابات الآشورية لأول مرة في القرن التاسع قبل الميلاد. في ذلك الوقت كان هناك تحالف قبلي إيراني في شمال غرب إيران تحت مسمى Māda (هكذا ورد الاسم في الكتابات المسمارية والعبرية والآرامية والعربية القديمة، بما في ذلك الكتابات الفارسية القديمة). هذا التحالف خضع لسلطة الآشوريين وأصبح الآشوريين يستخدمون الماديين في حروبهم ضد البابليين والعيلاميين، وفيما بعد عندما ضعف الآشوريون في القرن السابع قبل الميلاد استغل الإيرانيون ذلك فتحالفوا مع البابليين وانقضوا على آشور ودمروها، وهكذا قامت الدولة الإيرانية المادية (Median Empire) التي هي أول دولة إيرانية في التاريخ، وحاكمها الأول اسمه Cyaxarēs باليونانية. هذه الدولة تمددت في كل أنحاء الهضبة الإيرانية من أفغانستان إلى أذربيجان (باستثناء بلوشستان في الجنوب الشرقي) وسيطرت على كل مناطق عيلام باستثناء الأهواز (التي هي لا تقع في الهضبة الإيرانية جغرافيا).

الإمبراطورية المادية (الميدية)

الكتاب اليونانيون كتبوا اسم الماديين على الشكل التالي Mēdoi، ومن هذه الكلمة جاءت كلمة Medes الأوروبية، ومن الكلمة الأوروبية جاءت كلمة “ميديين” التي يستخدمها الكتاب العرب حاليا، ولكن اسم الميديين في كل الكتابات القديمة (بما في ذلك العربية) هو ماديين (Mād-). سبب الكتابة اليونانية لا أعرفه ولكن هيرودوت قال في كتابه أن اسم الماديين أصلا كان Arioi (آريين) وأنهم غيروا اسمهم إلى Mēdoi لأن ميديا الكولخيدية (Mēdeiēs tēs Kolchidos) جاءت إليهم من أثينا وغيرت لهم اسمهم هم والفرس، وزعم أن هذه الرواية يرويها الماديون أنفسهم. طبعا هذه الرواية الخرافية ليست هي أصل كلمة Mēdoi.

الدولة المادية كانت كبيرة جدا في المساحة (تشمل الهضبة الإيرانية والهضبة الأرمنية) ولكنها كانت دولة متخلفة على ما يبدو لأنها لم تترك أي كتابات. كل المعلومات المتوفرة عن الماديين وتاريخهم ولغتهم وديانتهم مأخوذة من مصادر أجنبية، وأحد هذه المصادر هو كتاب هيرودوت.

في ظل حكم الماديين انتقل الإيرانيون الفرس إلى منطقة Anšan في جنوب غرب إيران، وكانوا قبل ذلك يعيشون في شمال غرب إيران كما يظهر من الكتابات الآشورية. بعد أن سكن الفرس هذه المنطقة صارت تعرف باسمهم (بالفارسية القديمة: Pārsa، باليونانية: Persís، بالعربية: فارس). في عام 553 قبل الميلاد تمرد رجل فارسي اسمه قورش (Cyrus the Great) على الملك المادي وخلعه وأسس الدولة الفارسية الأخمينية التي هي أول دولة فارسية في التاريخ وثاني دولة إيرانية.

الدولة الأخمينية كانت تختلف عن الدولة المادية من نواح عديدة. هي أولا كانت أفضل حضاريا لأنها نشأت في منطقة عيلام التاريخية، وهذا انعكس على طباع حكامها الذين خلفوا كتابات مسمارية مكتوبة بثلاث لغات: الفارسية والعيلامية والبابلية. أيضا هم أنشؤوا دواوين وجهازا إداريا متطورا للدولة، ونجحوا بفضل حنكتهم السياسية والإدارية في إنشاء أكبر إمبراطورية في التاريخ حتى ذلك الوقت. هذه الإمبراطورية كانت تمتد من أفغانستان ووادي السند إلى مصر والأناضول. سر نجاحهم في حكم كل هذه الشعوب هو أنهم كانوا يعتمدون بشكل كبير على اللامركزية الإدارية.

الكتابات المسمارية التي خلفتها هذه الدولة كانت تهدف إلى التباهي والمحافظة على التقاليد العيلامية والبابلية، ولكن على أرض الواقع سكان هذه الدولة كانوا يستخدمون اللغة الآرامية في كل تعاملاتهم، وحتى الأجهزة الرسمية لهذه الدولة كانت تستخدم اللغة الآرامية. اللغة الآرامية في ذلك الوقت كانت اللغة الرسمية من أفغانستان وباكستان حتى مصر، أي في معظم العالم. اللغة الآرامية التي كانت الدولة الأخمينية تستخدمها في المعاملات الإدارية تسمى الآرامية الرسمية Official Aramaic أو الآرامية الإمبراطورية Imperial Aramaic، وهناك الكثير من الكتابات الموجودة بهذه اللغة.

الدولة الأخمينية انهارت على يد الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد. الإسكندر احتل كل الإمبراطورية الأخمينية بلا استثناء، وبعد وفاته تقسمت هذه الإمبراطورية إلى مجموعة من الدويلات الهيلينية (اليونانية)، وإيران كانت من ضمن الدولة السلوقية التي مركزها سورية. في القرن الرابع قبل الميلاد تمرد الفارثيون أو الأرشكيون في غرب خراسان في شرق إيران وأسسوا الدولة الفارثية أو الأرشكية أو الفهلوية، وهذه هي الدولة الإيرانية الثالثة، وهي كانت دولة ضعيفة نسبيا مقارنة بسابقتها ولاحقتها. هذه الدولة استمرت حتى القرن الثالث الميلادي إلى أن تمرد عليها رجل فارسي اسمه أردشير وأسس الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي استمرت إلى أن أطاح بها العرب في القرن السابع.

الدولة الساسانية، آخر دولة إيرانية قبل الإسلام

الدولة الفارثية والساسانية كلتاهما كانتا تستخدمان نظام كتابة يسمى الخط الفهلوي (Pahlavi)، وهو مشتق من الكتابة الآرامية التي كانت مستخدمة في إيران وغيرها منذ زمن الآشوريين. أيضا الخط الهندي البراهمي مشتق من الخط الآرامي، وكذلك الخط العبري والخط العربي المستخدم حاليا.

الفرس بعد أن سكنوا عيلام تمايزت لغتهم إلى قسمين، قسم جنوبي هو المعروف اليوم بالفارسية، وقسم شمالي يسمى اليوم باللورية. أما الأهواز فهي ظلت محافظة على لغة خاصة بها حتى العصر العباسي كما تدل على ذلك كتابات الكتاب المسلمين الذين ذكروا وجود لغة في خوزستان تسمى بالخوزية لا يفهمها أحد سوى سكان خوزستان، ومن غير المعروف ما إذا كانت هذه اللغة إيرانية أم أنها من بقايا اللغات العيلامية القديمة. حاليا حسب علمي لم يعد هناك أي أثر للغات اللصقية القديمة في إيران وكل الهضبة الإيرانية تتحدث لغات إيرانية، واللغات الإيرانية امتدت خارج حدود الهضبة الإيرانية إلى الهضبة الأرمنية وشمال سورية (اللغة الكردية).

اللغات الإيرانية اليوم
اللغات الإيرانية اليوم

مصادر

  • D. T. Potts, The Archaeology of Elam: Formation and Transformation of an Ancient Iranian State
  • The Cambridge Ancient History
  • The Cambridge Encyclopedia of the World’s Ancient Languages
  • Rebecca Hasselbach, Sargonic Akkadian: A Historical and Comparative Study of the Syllabic Texts
  • Daniel A. Foxvog, Introduction to Sumerian Grammar
  • Encyclopaedia of Islam
  • Geoffrey W. Bromiley, International Standard Bible Encyclopedia
  • Wikipedia, the free encyclopedia
  • Encyclopædia Britannica
  • Microsoft Encarta

رأيان حول “بداية التاريخ: أنظمة الكتابة القديمة (2)

  1. مقال موسع و ذو معلومات جليلة ، لكن ما يثير دهشتي و بعلم ان ورد فصل كامل حول العيلاميين في التوراة و حول نسبهم الى الساميين حضرتك تحاول ان تلصغهم بالفرس و اللر و اللر part هم بالاصل من سكان الجبال و من اصل اري و التوراة يذكر في فصل سفر الاستير ان العيلاميين يعود اصلهم الى عيلام بن سام بن نوح و يمكن لك ان تراجع هذا الموضوع و حول تسمية الاهواز بالحاء الفارسية و الحاء العبرية عليك ايضا مراجعتها ، في التوراة يذكر اسم المدينة و المنطقه خوز سطان و عند الفرس خوزستان بالطاء الفارسية و حوز سلطان بالحاء العربية و الطاء العربية عند سكان المنطقة من بقايا العيلاميين الذين تحولت لغتهم الى العربية و بالهجة تسمى احوازية و تسمى المنطقة المجاورة الى مدينة الاحواز و القريبة الى ميسان الحويزة ايضا و هي مدينة مصغرة لمدينة الاحواز و عاصمة مملكة المشعشعيين و لها اثار تعود ايضا الى عصر العيلاميين

أضف تعليق