الفيلم السوداني الممل

الفيلم الذي نراه الآن في السودان هو فيلم ممل لأنه تكرر في كثير من البلدان العربية من قبل.

عمر البشير ظن أنه بالتنازل والاستسلام لمطالب أميركا فإنها سترضى عنه وعن نظامه، ولكن بعد تقسيم السودان سرعان ما تبين أن أميركا ما زالت تعمل على إسقاط نظام البشير والتآمر عليه.

أميركا لا يمكن أن تقبل بنظام البشير لأنه نظام معاد لإسرائيل يحكم دولة كبيرة ومهمة، ولهذا السبب هي استمرت في التآمر عليه والسعي لإسقاطه حتى بعد قبوله بتقسيم السودان.

الآن البشير استيقظ فجأة وقرر العودة عن قبوله بالتقسيم، ولكن كما توقعت في تدوينة سابقة فإن أميركا سرعان ما تدخلت بشكل علني وأرسلت سفنها إلى سواحل السودان لتهديد البشير.

قبل التقسيم أميركا وإسرائيل كانتا تدعمان المتمردين بالسر، أما الآن فأميركا لا تجد حرجا في إرسال سفنها بشكل علني إلى سواحل السودان لتهديد البشير، لأن المتمردين الآن صاروا دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة. هذه هي الثمرة الأولى من ثمار التقسيم الذي قبل به البشير.

 أما الثمرة الثانية فهي تدخل مجلس الأمن الذي صار الآن حرا في فرض العقوبات على السودان كما يشاء تحت حجة أن المتمردين هم دولة مستقلة ذات سيادة.

والثمرة الثالثة لقبول البشير بالتقسيم هي أن العملاء الخليجيين صاروا الآن أحرارا في اتخاذ موقف علني معاد للسودان. قناة الجزيرة القطرية الآن تتخذ موقفا معاديا للسودان ومؤيدا لجنوب السودان. هذا الموقف أقل ما يقال فيه هو أنه موقف إسرائيلي. أمير قطر لا يدعم جنوب السودان حبا بسكان الجنوب الفقراء وإنما حبا بإسرائيل وبغضا بنظام البشير. قبل التقسيم كان دعم المتمردين أمرا معيبا، أما الآن فصار دعمهم مبررا على أساس أنهم دولة مستقلة وأمير قطر رجل يحترم القانون الدولي.

أنا لا أستبعد أن يكون أمير قطر العميل يدعم المتمردين الجنوبيين الآن بالمال والسلاح. هذا أمر محتمل جدا بالنظر إلى الحماسة الكبيرة التي تعامل بها أمير قطر مع دولة الجنوب وبالنظر إلى التغطية المعادية للسودان التي تقوم بها قناته الآن.

أمير قطر دعم المتمردين في ليبيا وسورية وبالتالي من شبه المؤكد أنه يدعم المتمردين في السودان أيضا.

الهدف النهائي لكل ما يجري في السودان الآن هو إسقاط نظام البشير واستبداله بنظام آخر أو مجموعة من الأنظمة الصديقة لإسرائيل. هذا هو جوهر كل ما يجري في السودان. القضية لم تكن يوما قضية حقوق ومظالم. لو كانت لدى الجنوبيين مظالم فحلها لا يكون بتزويدهم بالسلاح وتحريضهم على التمرد والانفصال. هذا الأمر لا يخدم الجنوبيين ولا الشماليين وإنما هو مجرد مؤامرة على الجميع شبيهة بالمؤامرة التي تمت في ليبيا وتتم الآن في سورية.

الدول الاستعمارية تطبق هذه الحيلة منذ مئات السنين. أميركا بالذات لها باع طويل في هذه الحيلة وهي طبقتها في ولاية تكساس مثلا. ولاية تكساس كانت في الأصل جزءا من المكسيك، ولكن أميركا قامت في عشرينات وثلاثينات القرن 19 بتحريض المستوطنين الناطقين بالإنكليزية في تكساس على التمرد والمطالبة بالانفصال وصارت تدعمهم بالمال والسلاح، وهو ما أدى إلى تدهور العلاقات بين أميركا والمكسيك. المكسيك في ذلك الوقت لم تكن راغبة في خوض حرب مع أميركا بسبب الفارق في ميزان القوى، ولهذا السبب قبل المكسيكيون بحل وسط هو اعتبار تكساس دولة مستقلة بشرط ألا تقدم أميركا على ضمها إليها، وهكذا ولدت “جمهورية تكساس” Republic of Texas في عام 1836.

فور ولادة الدولة الانفصالية قامت أميركا بتحريضها على احتلال أراض حدودية تابعة للمكسيك، وهذا ما أدى إلى عودة القتال بين متمردي تكساس وبين المكسيك، وطبعا المتمردون كانوا يحظون بدعم أميركي كامل.

استمر القتال بين المتمردين وبين المكسيك واستمر التدخل الأميركي في تكساس  إلى أن قامت أميركا في عام 1845 بضم تكساس تحت حجة أن ذلك جاء بطلب منها، وطبعا المكسيك رفضت الاعتراف بهذا الضم ولكنها في نفس الوقت تجنبت إعلان الحرب على أميركا لأنها كانت تدرك الفارق في ميزان القوى ووجود مطامع توسعية لدى أميركا لا تتوقف عند حدود تكساس.

الأميركان لم يعجبهم الموقف المكسيكي الضعيف لأنهم كانوا يأملون بخوض حرب ضد المكسيك تمكنهم من ضم المزيد من الأراضي، ولهذا السبب أرسلوا جيشا في عام 1846 للتحرش بالمكسيك تحت حجة أنها تحتل أراض حدودية تابعة لتكساس، وطبعا المكسيكيون اضطروا للتصدي للغزو الأميركي، وهكذا انتهز الكونغرس الأميركي الفرصة وأعلن في عام 1846 الحرب الشاملة على المكسيك (هذه الحرب يسميها الأميركان باسم الحرب المكسيكية Mexican War). الحرب المكسيكية كانت عبارة عن عملية غزو أميركي استعماري للمكسيك. هدف الأميركان من هذه الحرب كان إجبار المكسيكيين على التخلي عن مساحات شاسعة من أراضيهم الشمالية، ولكن المكسيكيين رفضوا ذلك وظلوا يقاومون الغزو الأميركي بشجاعة وبسالة، فاضطرت القوات الأميركية للتقدم نحو العاصمة مكسيكو سيتي وخاضت في الطريق إليها سلسلة من المعارك الشرسة، وفي النهاية دخل الأميركان عاصمة المكسيك في عام 1847 وأجبروا المكسيكيين على توقيع اتفاقية تنازلوا بموجبها عن نصف مساحة المكسيك لأميركا (ولايات تكساس، نيو مكسيكو، أريزونا، كاليفورنيا، كولورادو، يوتاه، ونيفادا).

الأراضي جنوب الخط الأحمر هي الأراضي التي استولت عليها الولايات المتحدة الأميركية في عام 1845 من الولايات المتحدة المكسيكية حديثة الاستقلال عن إسبانيا

 

هذا السيناريو الاستعماري تكرر كثيرا في العصور القديمة، وهو نفس السيناريو الذي حصل مع العراق (قضية الكويت وكردستان) ومع ليبيا (بنغازي) وما زال يحصل الآن في السودان.

طبعا أميركا أرادت تطبيق نفس السيناريو مع سورية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عندما كانت تسعى لاستدراج سورية إلى مواجهة غير متكافئة في لبنان، ولكن حافظ الأسد تجنب المواجهة وقتها قائلا مقولته الشهيرة “لن يجرونا إلى حرب في المكان والزمان غير المناسبين”، وفي عام 2005 كررت أميركا نفس المحاولة عندما أشعلت “ثورة الأرز” وأرادت من خلالها استدراج سورية إلى مواجهة غير متكافئة، ولكن بشار الأسد تجنب المواجهة المباشرة مجددا، وطبعا حرب العام 2006 كانت جزءا من هذا المخطط.

أكبر خطأ يرتكبه أي شخص هو الوثوق بأميركا والسماح لها بالحصول على موطئ قدم على أراضيه. امتلاك أميركا لموطئ قدم في أي دولة معادية لها يعني بداية الزوال لتلك الدولة، وللأسف السودان الآن يسير على طريق الزوال لأنه سمح لأميركا وإسرائيل والخليجيين بالحصول على موطئ قدم رسمي في جنوبه.

العراق الآن يحاول إزالة مواطئ القدم الأميركية والإسرائيلية والخليجية من أراضيه، ولكن تبقى مشكلة كردستان القنبلة الموقوتة الحقيقية التي تخطط أميركا لاستغلالها للتخلص من العراق وتقسيمه، وطبعا مخطط إسقاط سورية هو أيضا جزء من مخطط تقسيم العراق.

في سورية أميركا عجزت عن إيجاد موطئ قدم حتى الآن ولذلك هي تلجئ إلى خيار حرب الاستنزاف كونه الخيار الوحيد المتاح. طبعا هم يراهنون على انتخابات العام 2013 في لبنان التي يتصورون أنهم من خلالها سوف يعيدون السيطرة على لبنان ويستغلونه كمنصة انطلاق نحو سورية، أي أنهم يراهنون مجددا على لبنان كمنصة لاستهداف سورية، وهذا ما يعيد طرح مشكلة الخاصرة الرخوة والتهديد القادم من لبنان.

إذا كان اللبنانيون المسيحيون حريصين على استقلال بلدهم فالأحرى بهم أن يصوتوا لميشيل عون وسليمان فرنجية، أما التصويت للحريري وجعجع وبقية فريق فيلتمان فهذا بصراحة سوف يقنع السوريين بأن لبنان دولة لا تستحق الاستقلال وأنها مجرد مطية أبدية للقوى المعادية لسورية وليست دولة ذات سيادة حقيقية.

رأيان حول “الفيلم السوداني الممل

  1. المشكلة ياعزيزي ان القذافي كان الداعم والمحرض لاستقلال الجنوب السوداني وان البشير لا يفقه في السياسة الاحمل العصا والاستعراض.ها هم احتلوا هليجيج النفطية وهو يتوعد ويرقص .اما الحال في لبنان فهو اتعس فقوى 14 اار ترص صفوفها واعلامها وتحضر بدعم خليجي للانتخابات فيما قوى الممانعة مشغولة بكثرة الكلام من غير معنى ولولا الجهاز العسكري في المقاومة وهو الامل لكنا في اضرب الاحوال.سوريا لم تتعلم وما زالت تعتمد على افسد واسوأ الناس ولم تتعلم من دعمها للحريريين وجنبلاط الذين انقلبوا عليها فهي تتعاون مع ابشع سماسرة في البلدين .الله وحده هو المنقذ.

    • أنا لا أفهم في الوضع الداخلي اللبناني… ولكنني بشكل عام لا أعتقد أن الانتخابات في لبنان تعتمد على الكفاءة بل هي تعتمد على عوامل مثل المال والتحريض الطائفي وقانون الانتخابات…

      بالنسبة لقانون الانتخابات فمسألته لم تحسم بعد… وبالنسبة للمال إن رفعت العقوبات عن إيران قريبا فهذا سوف يحل المشكلة… ومن يدري ربما يدفع العراق هذه المرة… إنتاج العراق النفطي ارتفع وصار يقترب من 6 ملايين برميل يوميا حسب ما قرأت…

      أما التحريض الطائفي فهي المعضلة التي لا حل لها… ولكن ميقاتي اللعين طرح نفسه خلال الأشهر الماضية على أنه سني متعصب… وبالتالي إن كان الاعتماد عليه في الانتخابات فهو قد يربح ويصبح رئيس الحكومة من جديد…

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s