يعتقد بعض المحللين أن الظهور الاستعراضي لسيف الإسلام القذافي في طرابلس ليلة الاثنين لم يكن إلا قنبلة دخانية هدفها تشتيت الأنظار عن عملية هروب معمر القذافي ورموز نظامه من طرابلس، وهي رواية تبدو منطقية في ظل الانهيار السريع جدا وغير المتوقع لمنطقة باب العزيزية.
القذافي كان يملك آلاف المقاتلين في طرابلس، ولهذا السبب كان الجميع يتوقعون معركة طويلة ودموية في المدينة، ولكن المفاجأة هي أن كتائب القذافي اختفت من طرابلس مع دخول المتمردين ولم يبق في المدينة إلا عدد محدود من المقاتلين الذين استسلم معظمهم بدون قتال.
هذا الانهيار الغريب والمشبوه لنظام القذافي هو لغز محير، ولهذا السبب تتروى دول الناتو في إعلان انتصارها، فباراك أوباما مثلا وصف الوضع في ليبيا بأنه وضع “مائع”، مما يعكس أنه تعلم الدرس من تجربة سلفه جورج بوش الذي تسرع كثيرا في إعلان الانتصار في العراق بعد الإطاحة بصدام.
السيناريو الذي تروج له قناة الجزيرة ومحللوها الفطاحل (من قبيل “صفوت الزيات” المتحمس جدا لانتصارات الناتو الباهرة في ليبيا ويريد أن يدرسها في الكليات العسكرية) يقول أن القذافي استنزف قواته في معارك البريقة وغيرها وأن ما تبقى له من قوات في طرابلس انهار معنويا ونفسيا بعد السقوط المفاجئ لبلدة الزاوية. هناك أيضا تقارير مؤكدة تقول أن قطر ودول أخرى من الناتو كثفت جدا من نقل شحنات الأسلحة إلى المتمردين في غرب ليبيا في الفترة الأخيرة. أيضا موقع دبكا فايل الصهيوني (والذي يتمتع بمصداقية لا بأس بها في الشأن الليبي) يؤكد أن هناك قوات خاصة فرنسية وبريطانية وأردنية وقطرية قادت العملية البرية لاقتحام طرابلس، وهناك مصادر روسية أكدت هذا الأمر أيضا.
بغض النظر عن سبب الانهيار المفاجئ لقوات القذافي في طرابلس تبقى الحقيقة هي أن القذافي والمقاتلين الموالين له (وهم بعشرات الآلاف) لم يتبخروا وهم ما زالوا موجودين في ليبيا، وكثير منهم ما زال يحتفظ بسلاحه وعتاده.
كثير من المحللين يرون أن القذافي لم يستسلم ولكنه انسحب مع أنصاره إلى منطقة فزان في جنوب غرب ليبيا. هذه المنقطة الصحراوية الشاسعة هي موطن قبيلة القذافي وقبائل أخرى موالية له، ولا شك أن القذافي يملك هناك مخازن عديدة للأسلحة والأموال. القذافي سابقا كان يخزن أسلحة دمار شامل في هذه المنطقة، وهناك اعتقاد بأنه ما زال يحتفظ ببعض أسلحة الدمار الشامل مخبأة هناك.
باختصار لا يوجد ما يدل على انتهاء الحرب فعليا في ليبيا، ولهذا السبب فإن الناتو مدد عملياته في ليبيا لثلاثة أشهر أخرى وأعلن أن المهمة لم تنته بعد، ولكن من المستبعد أن يتابع الناتو عمليات القصف بنفس الوتيرة السابقة لثلاثة أشهر أخرى (اللهم إلا إذا كانت قطر تريد أن تستنزف المزيد من أموالها في هذه الحرب المائعة التي لا يعرف أحد كيف ستنتهي).
الصراع المتوقع في المرحلة المقبلة لن يكون بين القذافي وحلف الناتو فقط، بل سيكون هناك صراع آخر بين الثوار (تنظيم القاعدة) وحلف الناتو (المجلس الانتقالي). ما يقال عن أن “المجلس الانتقالي” يمثل ثوار ليبيا هو هراء بحت، فالمجلس الانتقالي لا يمثل إلا دول الناتو فقط. أحداث الأسابيع الأخيرة (ومنها قضية مقتل القائد العسكري للمجلس الانتقالي) أثبتت وجود شرخ كبير جدا بين المتمردين وبين المجلس الانتقالي.
القذافي كان يحاول منذ البداية أن يثير الفرقة بين المتمردين وبين المجلس الانتقالي، وربما يساعد اختفاؤه الآن على تحقيق هذا الهدف. خطة القذافي واضحة وهو أعلنها في رسائله الصوتية. القذافي يريد أن يتحالف مع المتمردين ضد المجلس الانتقالي، وهو لن يحصر الصراع في ليبيا بل يريد أن يستغل المتمردين لتنفيذ هجمات انتحارية في دول الناتو ذاتها.
ما كان يجمع المتمردين (تنظيم القاعدة) والمجلس الانتقالي (حلف الناتو) هو الرغبة في الإطاحة بالقذافي. الآن وقد اختفى القذافي ظهرت فورا بوادر الانشقاق بين الطرفين والتي وصلت إلى حد تهديد رئيس المجلس الانتقالي بالأمس بتقديم استقالته.
لا أتوقع شخصيا أن يتم الوصول إلى تفاهم بين المجلس الانتقالي وبين المتمردين، لأن المتمردين في أغلبهم ينتمون لفكر القاعدة وهذا الفكر لا يقبل بالحلول الوسط، وبالتالي أتوقع أن تشهد الأيام المقبلة معارك بين المتمردين وبين حلف الناتو. هذا الأمر إن تحقق سيفتح الباب أمام التحالف بين القذافي والمتمردين ضد الناتو، وهو السيناريو الأفضل لأنه سيعني هزيمة مؤكدة للناتو في ليبيا.
خطة الناتو في ليبيا مبنية على فرضية تقول بأنه بعد الإطاحة بالقذافي سيتم عزل المتمردين والتخلص منهم، وبذلك يخلو الجو للناتو. هذه الفرضية في رأيي هي فرضية ساذجة وتذكرنا بنظرية الغزو الأميركي للعراق والتي ثبت فشلها لاحقا، بل هي حتى أسوأ منها بكثير.
البعثيون في العراق لم يكونوا يملكون قاعدة شعبية واسعة إلا في صفوف السنة، ولكنهم مع ذلك نجحوا في خلخلة المشروع الأميركي بتحالفهم مع تنظيم القاعدة الذي كان أيضا لا يملك شعبية خارج صفوف السنة. الوضع في ليبيا مختلف حيث أن القذافي يملك شعبية لا بأس بها في عموم ليبيا وإذا أضفنا إليه تنظيم القاعدة نكون حصلنا على قوة شعبية كبيرة تفوق قوة حكومة الناتو المنتظرة، وبالتالي فالسيناريو الأرجح في ليبيا ليس السيناريو العراقي وإنما السيناريو الأفغاني أو الفيتنامي.
القذافي إن تمركز جيدا في منطقة فزان وتحالف مع القاعدة في ليبيا والصحراء الكبرى ومنطقة الساحل في جنوب الصحراء فهو سيشكل قوة ضاربة كبيرة تخلخل كل مخطط الناتو، خاصة وأنه سيقوم بضرب أنابيب النفط، مما يعني أنه سيقطع أنفاس الناتو الذي لا يستطيع الاستمرار أكثر في تحمل الخسائر المالية. والسيناريو الأسوأ بالنسبة للناتو هو إن تمكن القذافي من إرسال انتحاريي القاعدة على متن قوارب إلى إيطاليا ومنها إلى أوروبا، مما سيشكل كابوسا آخر يضاف على كابوس تدفق المهاجرين غير الشرعيين.
هذه الصورة هي الأكثر واقعية بالنسبة للوضع في ليبيا، أما الصورة التي ترسمها قناة الجزيرة فهي في رأيي صورة خيالية شبيهة بالصورة التي كانت الولايات المتحدة ترسمها لعراق ما بعد صدام.
الأزمة الكردية تشتعل في تركيا من جديد
تصاعد في الفترة الأخيرة العنف المتبادل بين حكومة أردوغان وبين الأكراد، مما دفع كثيرا من المحللين الأتراك لاتهام سورية بإشعال الوضع، وهو اتهام منطقي. يبدو أن الأزمة الكردية في تركيا تتجه لمزيد من التصعيد قريبا، وهذا أمر إيجابي لأنه سيضعف من قدرة تركيا على التدخل في الشأن السوري.
روسيا تدخل على خط دعم سورية بقوة
كما كان متوقعا، تقوم روسيا في الأيام الأخيرة بشن حملة إعلامية قوية دعما لسورية، سواء عبر التصريحات الرسمية أو عبر الإعلام الروسي الرسمي (والذي يتفوق على الإعلام السوري الرسمي في الدفاع عن سورية). هذه الحملة الروسية والتي جاءت بعد الحملة الإيرانية هي تمهيد للمعركة المرتقبة في مجلس الأمن، والتي من الواضح أن روسيا ستتخذ موقفا متصلبا فيها.