الجزء الأول: الديمقراطية الأميركية
استمعت قبل بضعة أيام إلى العميد المتقاعد أمين حطيط على قناة المنار وهو يتحدث عن العقيد معمر القذافي، وكان مما قاله العميد حطيط في معرض ذمه للقذافي ما يلي “لقد أخذ القذافي مقولة الوحدة العربية وظل يلوكها ويتحدث بها بدون طعمة حتى جعلها مسخرة ومثارا للاستهزاء لدى الناس.”
بإمكاني أن أصوغ مثل هذه العبارة عن الولايات المتحدة الاميركية التي أخذت شعار الديمقراطية والحرية وظلت تلوكه وتتحدث به بدون طعمة حتى جعلته مجرد مطلح غوغائي مبتذل خالي من أي مضمون.
لا شك أن الثقافة الأميركية تبالغ جدا في تقديس مفهوم الحرية والديمقراطية، ولقد وصل هذا التقديس إلى حد التقديس الديني لدى قطاعات من المجتمع الأميركي التي يمثلها الرئيس جورج بوش الابن، والذي أخذ شعار الديمقراطية والحرية وشن حملة صليبية على العالم العربي تحت هذا الشعار المقدس، تماما كما شن أسلافه حملة صليبية تحت شعار تحرير الأراضي المقدسة. جورج بوش كشخص كان ينطلق من اعتبار ديني في تقديسه للحرية والديمقراطية، وهذا طبعا لا ينفي وجود مصالح استراتيجية وطنية أميركية في مشروع “نشر الديمقراطية” في الشرق الأوسط الذي استمر حتى عام 2008.
معظم ثقافات العالم الأخرى تستغرب التقديس الأميركي المبتذل لشعار الحرية والديمقراطية، ولا يخرج عن هذا الأمر كثير من الأوروبيين الذين كانوا وما زالوا يستهزئون من رفع أميركا لهذا الشعار وإعطائه هالة أيديولوجية مقدسة لا تتفق مع سياق هذا المصطلح ومعناه التاريخي الذي هو أقل شأنا بكثير مما تلبسه إياه الثقافة الشعبية الأميركية.
لا شك أن جذور هذه الثقافة إلى تعود إلى نشوء الكيان الأميركي السياسي في أواخر القرن الثامن عشر، حيث أن المستوطنين الأميركان كانوا بحاجة إلى شعار وطني محلي يبررون به انفصالهم عن التاج البريطاني، ولما لم تكن لديهم أية هوية وطنية حقيقية تميزهم عن نظرائهم على الضفة الأخرى من الأطلسي فإنهم لجؤوا إلى رفع شعار الحرية كونه الشيء الوحيد الذي يملكونه لتبرير استقلالهم، وقاموا مذ ذاك الوقت بالنفخ في هذا الشعار والمغالاة في تقديسه في محاولة منهم لترسيخ هوية وطنية أميركية مميزة عن الهوية البريطانية والأوروبية.
مع بروز الأيديولوجية الشيوعية كـ”تهديد” للولايات المتحدة ازدادت الحاجة أكثر وأكثر لشعار الحرية والديمقراطية، حيث أن أميركا والغرب الليبرالي لم يكونوا يملكون أيديولوجية يواجهون بها الأيدلوجية الشيوعية، ولذلك قاموا بالنفخ في شعار الحرية والديمقراطية والإسفاف في ذلك في محاولة منهم لإلباس هذا الشعار الإنساني ثوب الأيديولوجية السياسية التي يمكن أن تواجه الأيديولوجية الشيوعية، وكانت بريطانيا قد قامت بنفس الأمر خلال الحرب العالمية الثانية في مواجهة الأيديولوجية الفاشية.
بعد انهيار الكتلة الشيوعية وعولمة الإعلام بفضل تطور وسائل الاتصال بدأ الانتشار الرهيب لـ”أيديولوجية الحرية” الأميركية في العالم. الإعلام الأميركي وأفلام هوليوود نجحت في بث هذه الأيديولوجية في عقول الأجيال الجديدة في مختلف أنحاء العالم. إن أيديولوجية الحرية الأميركية ليست في الواقع أيديولوجية بقدر ما هي نزع للأيديولوجية de-ideologization بهدف تحقيق المصلحة القومية الأميركية في العالم. ما يهم الولايات المتحدة هو القضاء على كل الأيديولوجيات التي يمكن أن تشكل تهديدا لها في العالم، فهي بعد أن نجحت في القضاء على الأيديولوجيات الاشتراكية تحاول الآن القضاء على ما تبقى من الأيديولوجيات الوطنية أو القومية، وتحديدا ما يهم الولايات المتحدة الآن هو القضاء على الفكر القومي في الصين وروسيا كون هذين البلدين ما زالا عصيين نسبيا على التبعية لأميركا مقارنة بغيرهما.
بعد أحداث أيلول 2001 حاولت الولايات المتحدة تطبيق نفس السياسة مع “الأيديولوجية الإسلامية،” حيث أرادت أن تغزو العالم الإسلامي فكريا وتقضي على “الإرهاب الإسلامي” بالقضاء على أساسه الفكري في مهده ومنبعه، وهذه طبعا مقاربة سطحية سخيفة قائمة على افتراضات وأوهام تاريخية متعلقة بمنطقة الشرق الاوسط يصر المحافظون واليمينيون في الولايات المتحدة على التمسك بها حتى الآن.
لكي نقوم بمقاربة علمية لمسألة الليبرالية الأميركية لا بد أن نميز أولا بين ما هو أيديولوجية وما هو ليس بأيديولوجية. الليبرالية السياسية بمعناها المجرد ليست أيديولوجية وإنما هي مجرد غريزة وحق من حقوق الإنسان. كل الناس يحبون الحرية ويريدونها سواء كانوا اشتراكيين أو قوميين أو إسلاميين، ولا يوجد تعارض بين الليبرالية بمعناها المجرد وبين الاشتراكية أو القومية أو الإسلام السياسي. من الممكن تصميم نظام اشتراكي ديمقراطي (ألمانيا وإيطاليا مثلا) أو نظام قومي ديمقراطي (كثير من دول العالم) أو نظام إسلامي ديمقراطي (تركيا)، وبالتالي فإن رفع الليبرالية في وجه تلك الأيديولوجيات كبديل ومنافس لها هو مجرد عبث و”زعبرة” فكرية وسياسية.
الولايات المتحدة نفسها هي دولة قومية بامتياز، وهي رغم رفعها لشعار الحرية والديمقراطية العالمية إلا أنها تبني كل سياساتها على أساس قومي بحت، فلا أعرف في التاريخ مثالا قامت فيه الولايات المتحدة باتخاذ قرار يضر بمصلحتها القومية في سبيل حرية شعب آخر. أميركا ترفع شعار الديمقراطية في وجه الأمم الأخرى لكي تخترقها وتحقق مصالحها القومية الخاصة. عندما رفعت أميركا شعار الديمقراطية في وجه الاتحاد السوفييتي فهي لم تكن معنية بحرية شعب الاتحاد السوفييتي بقدر ما كانت معنية بإسقاط الكيان السوفييتي نفسه، ولو كانت الديمقراطية في الاتحاد السوفييتي لا تخدم مصالح أميركا لما كانت روجت لها من الأساس.
إن المملكة العربية السعودية هي من أكبر حلفاء الولايات المتحدة في العالم، فلماذا لم ترفع الولايات المتحدة شعار الديمقراطية في وجه الحكم السعودي؟ الجواب هو لأن الديمقراطية في السعودية لا تحقق مصالح الولايات المتحدة كونها ستأتي بالمتطرفين المعادين لها.
الديمقراطية الأميركية ما هي إلا شعار للاستهلاك السياسي ومعناه يتغير بتغير مصلحة الولايات المتحدة في البلد المستهدف.
فإذن يجب أن نميز بين نوعين من الليبرالية:
- الليبرالية المجردة: وهي غريزة إنسانية وحق من حقوق الإنسان العالمية.
- الليبرالية الأميركية: وهي شعار القومية الأميركية وهدفها هو تحقيق مصالح الولايات المتحدة القومية.
هذا التمييز مهم جدا في عالمنا العربي المعاصر الذي شاع فيه الجهل والخواء الفكري والسياسي، حيث اختلطت المفاهيم لدينا بين من يدعي الليبرالية وهو في الحقيقة يروج للقومية الأميركية وليس الليبرالية. من الأمثلة على ذلك من يعارضون الوحدة العربية تحت ذريعة الليبرالية. أنا لا أفهم ما هو التناقض بين الوحدة العربية وبين الليبرالية؟ وهل معارضة الوحدة العربية هي تحقيق لمصلحة العالم العربي أم لمصلحة أميركا؟